Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أحلام القيامة
أحلام القيامة
أحلام القيامة
Ebook346 pages2 hours

أحلام القيامة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كأنه يوم القيامة.. بدا المشهد مهيبًا ومقبضًا على نحو رهيب ويتناقض بشكل صارخ مع هدوء ملعب الجولف المترامي في مدينة "الجونة" الساحلية المتاخمة للبحر الأحمر. وكشفت أحشاء المسطح الأخضر عن عشرات الحفر الضخمة التي تناثرت بشكل متقارب وهندسي وظهرت من كل حفرة جثة متعفنة. انضرب طوق أمني ضخم حول الملعب الملحق بكمباوند فاخر، وازدحم الملعب في تلك الظهيرة الصيفية شديدة الحرارة بمئات من عناصر الشرطة والمباحث ورجال الطب الشرعي، وتم إيداع جميع العاملين في الكمباوند في قاعة تُستخدم كملعب لكرة السلة. بدا الجميع مذعورين وغير مستوعبين لما يحدث خارج القاعة، وفهموا فقط أنهم محتجزون في انتظار تحقيق معهم على يد محققين هروعوا في الصباح من القاهرة بصحبة ضباط آخرين من قوات أمن الغردقة. تجول في الملعب وسط الجثث شخصٌ نحيلٌ متوسط الطول يرتدي بذلة كاملة زرقاء اللون، بدا من تحتها سلاحه المعلق بحزامه. عدل وضع نظارته الشمسية على وجهه الحليق، وأمسك بجهاز اللاسلكي المتطور وانخرط في محادثة مع شخص نافذ قائلًا، في لهجة حازمة حاول أن تُخفي توتره: -              "معاك الرائد حسن شاكر، يا باشا.. تمام يا باشا.. تم العثور على جميع الجثث، معاليك.."

 

Languageالعربية
PublisherKotobna Inc
Release dateDec 11, 2020
ISBN9781393936114
أحلام القيامة

Related to أحلام القيامة

Related ebooks

Related categories

Reviews for أحلام القيامة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أحلام القيامة - محمد جمال

    (1)

    كأنه يوم القيامة..

    بدا المشهد مهيبًا ومقبضًا على نحو رهيب ويتناقض بشكل صارخ مع هدوء ملعب الجولف المترامي في مدينة الجونة الساحلية المتاخمة للبحر الأحمر. وكشفت أحشاء المسطح الأخضر عن عشرات الحفر الضخمة التي تناثرت بشكل متقارب وهندسي وظهرت من كل حفرة جثة متعفنة.

    انضرب طوق أمني ضخم حول الملعب الملحق بكمباوند فاخر، وازدحم الملعب في تلك الظهيرة الصيفية شديدة الحرارة بمئات من عناصر الشرطة والمباحث ورجال الطب الشرعي، وتم إيداع جميع العاملين في الكمباوند في قاعة تُستخدم كملعب لكرة السلة. بدا الجميع مذعورين وغير مستوعبين لما يحدث خارج القاعة، وفهموا فقط أنهم محتجزون في انتظار تحقيق معهم على يد محققين هروعوا في الصباح من القاهرة بصحبة ضباط آخرين من قوات أمن الغردقة.

    تجول في الملعب وسط الجثث شخصٌ نحيلٌ متوسط الطول يرتدي بذلة كاملة زرقاء اللون، بدا من تحتها سلاحه المعلق بحزامه. عدل وضع نظارته الشمسية على وجهه الحليق، وأمسك بجهاز اللاسلكي المتطور وانخرط في محادثة مع شخص نافذ قائلًا، في لهجة حازمة حاول أن تُخفي توتره:

    -        معاك الرائد حسن شاكر، يا باشا.. تمام يا باشا.. تم العثور على جميع الجثث، معاليك..

    استمع لمحدثه من الناحية الأخرى قبل أن يمضي ببطء من جثة إلى جثة، وبيده الأخرى التي لا تحمل الووكي توكي أمسك منديلًا قماشيًّا كان يمسح به قطرات العرق التي تفصدت على جبينه الأسمر حينًا، ثم يضعه على أنفه حينًا آخر؛ متّقيًا الرائحة النتنة النفاذة التي ملأت المكان.

    في ذلك المكان، كانت عشرات من سيارات الإسعاف تنتظر ومحركاتها تعمل في تأهب، بجانب سيارات أخرى من قوات الدفاع المدني التي تجهزت لأسوأ الظروف، ما بين عربات إطفاء وسيارات تحمل خبراء في التعامل مع المتفجرات.

    اقترب الرجل النحيل الممشوق من حفرة يقف بجانبها اثنان من أخصائيي الطب الشرعي يرتديان معاطف بلاستيكية بيضاء شفافة، وأكياسًا مشابهة تحيط بأحذيتهما، وكمامات وجه، ويعملان على فحص الجثة التي تم إخراجها للتو. انحنى المحقق لاصقًا المنديل أكثر بأنفه وهو يقاوم شعورًا مُلِحًّا بالغثيان، فلم يكن قد رأى من قبلُ هذا العدد الكبير من الجثث في مكان واحد.

    بجانب الجثة، وضع الفريق رقمًا مثبتًا إلى الأرض هو الرقم 45. كان الجثمان لرجل في منتصف الأربعينات من العمر يرتدي سروالًا أسود مغطى بالرمال التي كانت تحتضنه منذ لحظات في باطن الملعب، وبدا نصفه العلوي العاري منتفخًا للغاية. وعلى جلده الذي حال لونه إلى اللون الأسود، ظهر قطع جراحي طويل محاك بخيط طبي.

    ابتعد الرجل قليلًا وتحدث إلى الجهاز الذي يحمله في يده اليمنى:

    -        المختفون الـ 53 كلهم موجودون، معاليك.. وكلهم يحملون العلامة الجراحية نفسها، معاليك..

    وبدا أنه سيقول ملحوظة أخرى للباشا الموجود في الناحية الأخرى عندما اقتربت منه عربة جولف بيضاء يهدر محركها الكهربائي في صوت خفيض مكتوم، وعلى متنها زميل له يرتدي بذلة رمادية فاتحة وتخفي ملامحه نظارة شمسية سوداء كبيرة، وكان يقود السيارة بنفسه ولم يَدَعْ أحد العاملين بحقل الجولف يتجول به كما هي العادة.

    أشار للرجل النحيل ذي البذلة الزرقاء دون أن يتكلم، فمضى الأول بسرعة وامتطى السيارة برشاقة جالسًا بجانبه في المقعد الأمامي للمركبة الأخيرة، التي انطلق بها ذو البذلة الرمادية على الفور تجاه بقعة بعيدة وراء تبّة رملية مرتفعة قليلًا.

    أوقف ذو البذلة الرمادية السيارة وترجّل منها مشيرًا لزميله الرائد حسن إلى بقعة محددة يلتفّ حولها خمسة من فريق العمل ومنهم مصور كان يلتقط الصور لجثمان مسجى على الأرض وتغطيه طبقة ناعمة من الرمال البيضاء. لم تكن هناك حفرة تلك المرة، فقط رجل شبه عارٍ يرتدي أسمالًا برتقالية اللون، وقد غطى جسدَه نوعٌ غريبٌ وشاحبٌ من الطلاء، وعلى صدره تدلت مسبحة حمراء طويلة.

    اقترب الرائد حسن من الجثة واستمع للحظة إلى جهاز الووكي توكي قبل أن يقول:

    -        ثواني معاليك.. وجدنا جثة أخرى..

    -        معاليك، أقوم بفحص الجثة حاليًّا.. ثواني، يا باشا..

    وقبل أن يقترب أكثر من الجثة، ناوله ذو البذلة الرمادية قفازات طبية وكمامة صغيرة، ارتداها بسرعة تليق بشخص يعي ما يفعله جيدًا وقام بذلك عشرات المرات. كان الرجل الممدد والساكن أمامه ذا جسد طويل رياضي، ويظهر من مناطق جسده التي لم يغطها الطلاء أن الشمس لوحت جلده بشدة. وأما رأسه، فقد تدلى منها شعر طويل أشعث، وكانت له لحية أيضًا طويلة مشعثة. بدا كشحاذ، لكن وجهه الذي يشي بملامح شاب في منتصف الثلاثينات عليه علامات وسامة وسكينة غامضة، وعيناه مغمضتان في ألم.

    وضع الووكي توكي في جيب سترته ومال على الجثمان كأنه يبحث عن علامة ما. وبإصبعي السبابة والإبهام، فتح جفني الرجل المسجى ليظهر بؤبؤ عين ملون بزرقة صافية وكأن سماء الجونة الصافية في ذلك اليوم انعكست على مرآة. نظر إلى ذي البذلة الرمادية الذي أومأ برأسه متفقًا مع الاستنتاج الذي دار في ذهن ذي البذلة الزرقاء، فأخرج الووكي توكي وضغط زر الإرسال ليبلغ شيئًا ما، لكنه قبل أن ينطق اهتز الجثمان الذي يرقد أمامه! سعل الشاب المسجى بشدة، فخرجت من فمه زخة من اللعاب المخلوط بالرمل.

    فتح الشاب عينيه ببطء قبل أن يغلقهما ثانيةً في ألم من وهج ضوء الشمس المبهر الذي انهمر داخل حدقتيه بقسوة، وتحركت ذراعاه غريزيًّا ليمسك بكتف ذي البذلة الزرقاء كأنه يستنجد به. نظر الأخير إلى باطن الذراع التي أمسكت به، وكان هناك جرح غائر لم يُخفِ الصليب الأزرق المحفور على باطن رسغ الشاب، وحول باقي وشم الصليب بدا دم متخثر كثيف.

    ابتعد المحقق قليلًا وأشار لزميله ليأتي بسيارة إسعاف على وجه السرعة، لكن الشاب عاد وتشبث به في ضعف ورفع رأسه كأنه يرغب في أن يقول شيئًا. اقترب المحقق من شفتي الشاب بأذنه ليستمع إلى كلمات همس بها الشاب في بطء، قبل أن يفلت المحققَ ويرقد مرة أخرى على الأرض.

    ابتعد المحقق وضغط زر اتصال الووكي توكي مرة أخرى قائلًا:

    -        الجثمان الجديد يخص رجل الأعمال نبيل المصري، معاليك..

    ثم صمت قليلًا محاولًا تمالك انفعاله بينما ينقل لمرؤوسه خبرًا يعلم أنه سيقلب الأمور في القاهرة رأسًا على عقب:

    -        وهو على قيد الحياة، يا باشا..

    راقب عربة الإسعاف التي هرعت بسرعة، والمسعفين وهم يقفزون منها ليُثبّتوا نبيل المصري على حمالة وأحدهم يضع قناع أكسجين على أنفه وشفتيه.

    وفي الأعلى كانت طائرة درون بيضاء تحلق ببطء وتلتقط صورًا لكل ما يحدث وتبثها بشكل حي إلى أجهزة الأمن في القاهرة. ومن السماء كان المنظر مذهلًا؛ فالحفر التي تم الكشف عنها توزعت بانتظام دقيق في شكل أيقوني أشبه بجذوة نيران يتوزع لهيبها في كل الأنحاء، أو أشبه تحديدًا بزهرة مورقة متفتحة ومشرعة نحو السماء، زهرة معروفة جيدًا في صميم التاريخ المصري باسم زهرة اللوتس.

    C:\Users\m.gamal\Desktop\lotus.png

    (2)

    بدأ صوت خافت في التصاعد تدريجيًّا داخل عقل نبيل المصري، نغمات صافية ورائقة تحمل لحنًا من موسيقى الجاز التي يعشقها رجل الأعمال الشاب. وللحظات بدت النغمات غامضة لنبيل وغير محددة المصدر، فترك وعيه يستيقظ ببطء وهو يشعر بأن اللحن أشبه بسجادة ناعمة ودافئة كثيفة الوبر. غمره الدفء وهو يشعر أنه يسبح داخله ويلتصق به في شعور حميمي أشبه بشعور وليد داخل رحم أمه المريح.

    وخلال الثواني التالية، اكتشف نبيل أن اللحن يعود إلى أغنية فيروز المعنونة بـ الله كبير، وشاهد صورة لفيروز وهي ترتدي عباءة وارفة وشعرها يطير في الهواء وهي تمسك بيدها عصا قصيرة أشبه بعصا السحرة وتلوح بها ببطء كأنها تقود أوركسترا وتكرر الله كبير في أداءٍ صوفيٍّ. وأخيرًا اختفت صورة فيروز عندما أدرك نبيل أنه لا يزال يرقد في فراشه الوثير داخل منزله بمدينة الشيخ زايد بغرب القاهرة، وأن الصوت آتٍ من منبه الموبايل الخاص به، الموضوع بجانب الفراش على الكومود.

    الله كبير..

    نهض نبيل من الفراش وتناول جهاز الريموت، وضغط زرًّا لتنزاح ستائر النافذة الكبيرة في حجرة نومه، وانساب نور الصباح ليسقط على وجهه الحليق. ترك الموبايل قليلًا يمضي في اللحن الذي اختاره ليكون النغمة التي يستيقظ عليها في الصباح. قام عن الفراش إلى الحمام الصغير الملحق بغرفة النوم، وأفرغ مثانته المليئة من الليلة السابقة، وغسل وجهه بزخات وافرة من المياه قبل أن يجفف نفسه وهو ينظر إلى مرآة الحمام.

    تأمل وجهه الأسمر النحيل المائل إلى الاستطالة، وتحسس ذقنه التي يتركها دومًا نابتة قليلًا والتي تعطيه مظهرًا أنيقًا، ونظر بعينيه الواسعتين الزرقاوَيْنِ إلى جسده الرشيق الطويل، ثم أخرج ماكينة حلاقة الذقن الكهربائية ودار بها على ذقنه ليهذبها قليلًا، وليتأكد أنها بالطول الذي يرغب فيه. ابتسم لنفسه وهو يراقب شعيرات رمادية تتناثر هنا وهناك على جانبي وجهه وفي شعره المجعد الذي يتركه دائمًا متوسط الطول.

    ثم التقط منشفة صغيرة ورجع إلى الغرفة تاركًا موسيقى المنبه تعمل كما هي، وانتقل إلى غرفة الملابس المجاورة التي يقترب حجمها من حجم غرفة نومه الكبيرة. وبين دواليب الحلات الفاخرة والقمصان الرسمية والتي شيرتات الكاجوال، امتدت يده إلى خزانة الأحذية، فالتقط منها حذاءً رياضيًّا ارتداه على عجل وغادر الغرفة إلى الطابق الأسفل من فيلته؛ حيث حجرة الأجهزة الرياضية التي تشبه جيم صغيرًا والتي يقضي فيها 45 دقيقة يوميًّا كل صباح.

    أشعل ثلاث شاشات معلقة على الحائط أمام جهاز الجري الكهربائي، ثم قام بتمرينات سريعة لاحماء عضلات الساقين والفخذين قبل أن يعتلي الجهاز متجولًا ببصره بين ثلاث قنوات تلفزيونية اقتصادية تعرض أخبار سوق الأسهم العربية والعالمية. استمر في المشي السريع لدقائق وعينه لا تغادر الشاشات وذهنه يرتب الكثير من المعلومات التي ستساهم في قرارات حاسمة سيتخذها خلال يومه، ثم ضغط بإصبعه على زر زيادة السرعة وبدأ في الركض السريع.

    انتبه إلى أن إحدى الشاشات أتت على ذكر إمبراطوريته الاقتصادية التي يمتكلها والتي ورثها عن عائلته الثرية. ذكر المذيع خبرًا عن احتمال استحواذ مجموعة المصري على شركة إيطالية ناشئة تعمل في مجال الهندسة الوراثية وتعديل الشفرة الجينية. مسح عرقه بالمنشفة، ورفع الصوت قليلًا وأيضًا زاد سرعة آلة الجري.

    كان يركض بقوة وقدماه تكادان تلمسان سير الجري؛ كان يشعر بالعنفوان والتحرر وبأنه يكاد يطير.

    ثم اختفى صوت الشاشات تمامًا وملأ سمعه صوت ركضه العنيف فقط، وعلى الشاشات اختفت أيضًا صور القنوات الفضائية الاقتصادية وظهرت ثلاث صور أخرى؛ الأولى للبابا شنودة، والثانية لبوذا في وضع القرفصاء، والثالثة في الوسط كانت لفيروز في ردائها المخملي وعصاها السحرية وملامحها الملائكية.

    أظلمت الغرفة، ووجد آلة الجري تطير به خارج الفيلا..

    لم يشعر بأي غرابة والآلة تمضي بسرعة الصاروخ كطائرة نفاثة محلقة فوق الطريق الرئيسي بمدينة الشيخ زايد، ومنه إلى محور 23 يوليو الذي يربط غرب القاهرة بوسطها. لم يتوقف عن الركض وكأن قدميه هما اللتان تمنحان آلة الجري قدرتها الخارقة على الطيران. ومن أعلى نظر إلى المحور الذي بدا شبه خالٍ في ذلك الوقت من الصباح الباكر. نظر إلى اللافتات الإعلانية العملاقة التي حملت أيضًا صور البابا شنودة مبتسمًا، وبوذا صامتًا، وفيروز الغائبة في شرودٍ صوفيٍّ عميقٍ.

    مضت به الآلة المسحورة إلى كوبري أكتوبر من الزمالك حتى رمسيس مرورًا بميدان عبد المنعم رياض، ثم توقفت عند الوصلة المعلقة في العباسية.

    كان الصباح مغبشًا بشبورة مائية خفيفة، ووجد الآلة تقف في الفضاء وتوقفت قدماه عن الركض، وشعر بنفسه يهبط دون إرادة منه إلى شارع رمسيس والوصلات الحديدية التي تحمل كوبري أكتوبر في الأعلى جاثمة على المشهد في الفضاء كأنها تحمل كوكب الأرض بأكمله.

    لامست قدماه الأسفل بجوار بائع متجول يدفع عربة لبيع عصير البرتقال الطازج. ناوله الفتى الصغير الذي يرتدي جلبابًا بلديًّا كوبًا زجاجيًّا كبيرًا مليئًا عن آخره بالعصير، فتناوله نبيل ببساطة ومسح عرقه بالمنشفة التي لم تغادر كتفه قط، وارتشف العصير في عطش نهم.

    ثم ارتعد الفضاء بصوت عالٍ والكابلات الحديدية التي تحمل الكوبري تنفك عن جسم الجسر كأنها أسلاك مطاطية غليظة قطعها قاطع غامض، فراحت تنثني وتتلوّى في كل اتجاه.

    ارتشف نبيل باقي العصير في جرعة واحدة وهو يراقب المشهد أمامه. بدأ الكوبري في التصدع والانهيار في مشهد مهيب وعاصفة من الرماد تتصاعد إثر الانهيار العظيم.

    بحث بعينيه في فزع عن الفتى بائع العصير، ثم ركض ناحيته لينقذه من كتلة إسمنتية ضخمة كانت في طريقها لتهوي من جسد الكوبري لتسحق جسده الضئيل.

    احتضن الفتى ودفعه بعيدًا عن مسار الكارثة الهابطة من السماء.

    الله كبير

    اختفى كل شيء مرة أخرى، وهذه المرة استيقظ نبيل ليجد نفسه لا يزال في فراشه. امتدت يده للموبايل لتطفئ المنبه ولينهض في وثبة واحدة متجهًا إلى حمام غرفة النوم وذهنه يعصفه الحلم الذي يراوده تقريبًا كل ليلة منذ عدة أيام.

    (3)

    وُلِد نبيل المصري عام 1980، في اليوم نفسه الذي تولى فيه محمد حسني مبارك سدة الحكم بعد اغتيال الرئيس السادات في 6 أكتوبر 1979 في حادث المنصة الشهير في أثناء احتفاله بالذكرى السادسة لمعركة أكتوبر. ويمكن القول بأن نبيل من أولئك الذين وُلِدوا وفي فمهم معلقة ذهب؛ فأسرته تتمتع بثراء ونفوذ واسعين اكتسبتهما عبر عقود طويلة من العمل في مجالات التطوير العقاري ومشروعات الغزل وصناعة الأدوية، بجانب صلتهم القوية بأعمدة الكنيسة الأرثودكسية وكونهم من كبار المتبرعين للمجتمع الكنسي، وأيضًا لدعمهم المستمر لحزب الوفد؛ فاثنان من أعمامهم انتموا للحزب ومثلوا الحزب كأعضاء في مجلس النواب لمدد طويلة.

    كان لنبيل طوال حياته أسلوبه الخاص، وبقدر المستطاع كان يسعى لأن يضع بصمته الخاصة على كل شيء حوله، وأن يتمتع باستقلالية القرار. لم يحدث قط أن اصطدم في أثناء ذلك بإرادة أعمامه أو إخوته الثلاثة، ليس لأنه من أتباع المذهب الـ مسالم Pacifist، ولكنه شخص برامجاتي وعملي ويجيد المناورة الذكية، وخصوصًا مع عقليته المتقدة التي غذاها تعليم جيد في الجامعة الأمريكية المصرية، أتبعه بالحصول على شهادة ماجستير في إدارة الأعمال حصل عليه من جامعة بريطانية، ثم إصراره على العمل خمس سنوات متواصلة في شركة اتصالات عملاقة في بريطانيا قبل أن يعود إلى مصر محملًا بخبرات طازجة وجديدة تناسب عالم الأعمال في القرن الواحد والعشرين.

    -        أنت من عشاق البدايات الجديدة، يا سيد نبيل!

    في استوديو قناة NeoEgypt، جلس نبيل في ضيافة مذيع برنامج التوك شو الليلي الخاص بالقناة، القناة نفسها التي يمتلكها نبيل ضمن ذراع إعلامية لمجموعة شركاته، تتضمن أيضًا جريدة يومية وموقع أخبار إلكترونيًّا يحملان الاسم نفسه.

    رد نبيل فورًا كأنه يتوقع السؤال، أو كأن الإجابة طازجة وجاهزة في مخيلته:

    -        بالطبع أعشق البدايات الجديدة.. ماذا يكون الإنسان دون قدرته على إحداث تغيير في واقعه وواقع مجتمعه.. سَمِّها بدايات جديدة، سَمِّها تحديثات، سَمِّها تحولًا استراتيجيًّا.. المهم أن أُحدِث تغييرًا وأن أصنع فارقًا يشعر به أكبر قدر من البشر..

    يقاطعه المذيع

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1