Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الغاردينيا المضمحلّة
الغاردينيا المضمحلّة
الغاردينيا المضمحلّة
Ebook876 pages6 hours

الغاردينيا المضمحلّة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لَم يمرَّ على البشرية حينٌ مِن الدهر لَم تكُن تعاني مِن غير الزمان وتواتر الأحزان؛ لنشوب حروب زُهِقَت فيها الأرواح. في هذا الكتاب نروي قصة امرأة تُدعَى (إيلينور ماكميلان) مِن زمن القرن العشرين، سلكَت حياة هادئة في ربوع جزيرة الأمير إدوارد بالمملكة الكندية في كنف شقيقها وأسرته، تكابد وحشتها بمساندة مَن احتاجَ للعون مِن كبير وصغير، ذكرًا كان أم أنثى، شيخًا كان أم صغيرًا، فلبَّت نداءً تصدَّرَ الصحف في عام ١٩١٦ يناشد بنصرة إنجلترا مِن بعد شنِّها الحرب على الإمبراطورية الألمانية لنصرة فرنسا المحتلَّة في حرب سُمِّيَت بـــ"الحرب العالمية العظمى" لتوتُّر الأوضاع في شتَّى البلدان حول العالم. حروب مدمِّرة على كافة الأصعدة.. فقدَّمَت (ماكميلان) يدَ العون كعادَتها لمَن احتاج إليها بالانضمام لكتيبة الفيلق الطبي للجيش الكندي كممرِّضة محترفة أدَّت واجبها على أرض فرنسا بروح إنسانية وعطاء متفانٍ، متقلدة بقلادة الإنسانية.
Languageالعربية
Release dateFeb 28, 2022
ISBN9789948831662
الغاردينيا المضمحلّة
Author

هانا ريد

هانا ريد؛ روائية ذات مخيلة خصبة.. تعشق الطبيعة والفنون والتاريخ، اكتشفت موهبتها في سنٍّ صغيرة، فقصَّتِ القصص حتى شغفت بالورق والقلم، فخطَّت أولى قصصها على الورق إلى جانب الواجبات المدرسية في سن الثالثة عشرة، فاتَّخَذَت بعد ذلك النمط التاريخي في مجال تأليف الرواية، وبنَيلها إعجاب جمهورها المتواضع مِن الأقارب تعزز طموحها فحبَّذَت النشر. تميل لكتابة الدراما الحالكة، وتجيد سرد الإثارة والتشويق.

Related to الغاردينيا المضمحلّة

Related ebooks

Related categories

Reviews for الغاردينيا المضمحلّة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الغاردينيا المضمحلّة - هانا ريد

    الغاردينيا المضمحلّة

    هانا ريد

    Austin Macauley Publishers

    الغاردينيا المضمحلّة

    هانا ريد

    الإهداء

    حقوق النشر©

    شكر وتقدير

    تتمَّات

    الخاتمة

    جمود

    هانا ريد

    هانا ريد؛ روائية ذات مخيلة خصبة.. تعشق الطبيعة والفنون والتاريخ، اكتشفت موهبتها في سنٍّ صغيرة، فقصَّتِ القصص حتى شغفت بالورق والقلم، فخطَّت أولى قصصها على الورق إلى جانب الواجبات المدرسية في سن الثالثة عشرة، فاتَّخَذَت بعد ذلك النمط التاريخي في مجال تأليف الرواية، وبنَيلها إعجاب جمهورها المتواضع مِن الأقارب تعزز طموحها فحبَّذَت النشر.

    تميل لكتابة الدراما الحالكة، وتجيد سرد الإثارة والتشويق.

    الإهداء

    أتشرَّف بإهداء هذا الكتاب لكلِّ روح قدَّمتِ التضحية أو خاطرَت بحياتها بِاسْم الإنسانية والوطن.

    حقوق النشر©

    هانا ريد 2022

    تمتلك هانا ريد الحق كمؤلفة لهذا العمل، وفقًا للقانون الاتحادي رقم (7) لدولة الإمارات العربية المتحدة، لسنة 2002 م، في شأن حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

    جميع الحقوق محفوظة

    لا يحق إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب، أو تخزينه، أو نقله، أو نسخه بأي وسيلة ممكنة؛ سواء كانت إلكترونية، أو ميكانيكية، أو نسخة تصويرية، أو تسجيلية، أو غير ذلك دون الحصول على إذن مسبق من الناشرين.

    أي شخص يرتكب أي فعل غير مصرح به في سياق المذكور أعلاه، قد يكون عرضة للمقاضاة القانونية والمطالبات المدنية بالتعويض عن الأضرار.

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948831655 (غلاف ورقي)

    الرقم الدولي الموحد للكتاب 9789948831662 (كتاب إلكتروني)

    رقم الطلب:MC-10-01-8881857

    التصنيف العمري:E

    تم تصنيف وتحديد الفئة العمرية التي تلائم محتوى الكتب وفقًا لنظام التصنيف العمري الصادر عن المجلس الوطني للإعلام.

    الطبعة الأولى 2022

    أوستن ماكولي للنشر م. م. ح

    مدينة الشارقة للنشر

    صندوق بريد [519201]

    الشارقة، الإمارات العربية المتحدة

    www.austinmacauley.ae

    202 95 655 971+

    شكر وتقدير

    أقدِّم جزيل الشكر والامتنان لكلِّ فردٍ عملَ وساهمَ في نشر وتوزيع هذا الكتاب، وشكر خاص لكافَّة القُّرَّاء.

    ﴿إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.

    [لقمان: 34]

    كان يومًا حارَّ الطقس.. يومًا مِن آخِر أشهر موسم الصيف، وكان آب سيِّدها حيث تكون حرارة الطقس في أوجها.

    في عام مِن أعوام القرن العشرين المبكِّرة، تلك الأعوام التي شهدَت نهضة تطوُّر عالمية ساحقة مهَّد لها القرن الذي سبقه (التاسع عشر) فغيَّرَت تلك الأعوام مظاهر كافة المجالات التي تمَحوَرَت حول حياة البشريَّة في إطار التطوُّر والتقدُّم في شتَّى بلاد العالم، فهلَّتِ الاختراعات مِن قِبَل جيلٍ صاعد كان له ضلعٌ في تبديل صور الحياة التي عهدها الإنسان مذ العصور الوسطى وما سبقها، فغرَّه التقدُّم الحضاريُّ، وأطلقَ له العنان عازمًا على تحقيق ما عجزَ عن تحقيقه السابقون، فتبلوَرَ القرن العشرون بحلَّة لَم يعهدها الإنسان مسبقًا على معظم الأصعدة.. الصناعية، الطبية، الزراعية، الرياضيَّة، الدفاعية، الإعلامية، بل وشملَت موضة الملبوسات كذلك، فغدَت ثياب النساء على سبيل المثال خفيفة الوزن، نحيلة ومهلهلة في مطلع ذلك القرن حينما استمرَّت موضة ارتداء القبَّعات التي لَم تقلَّ شأنًا مع مرِّ العصور، بل وأصبحت البعض مِن النساء يتنافسن بعظم حجمها وزينتها، كما ازداد عدد أوراق الصحف لنشر الأنباء العالمية السياسية وتلك المحليَّة لانتشار أعمدة الإبراق مذ عهد ولادة الطاقة الكهربائية إلى جانب شبكة الاتصالات، فتيسَّرَت الأنباء المهمة وخاصةً في تلك الحقبة التي كانت فيها الأخبار العالمية متوتِّرة آنذاك والتي كانت تتداول في أوروبا تحديدًا، ناهيك عن ذِكر ازدهار عالم الفن الذي انتقل مِن المسرح إلى صناعة الأفلام الصامتة التي اكتسحَت أبرز مدن أوروبا وشرق الولايات، وباتت تعرض الأعمال في صالات خاصة للمشاهدين آنذاك، فذاع صِيت أبرز أسماء الفنانين الذين ظهروا على تلك الشاشات الكبيرة، أمثال تشارلي شابلن، وماري بيكفورد لتجسيد أدوار البطولة في الأفلام الصامتة التي لاقت رواجًا كبيرًا، وحقَّقَت إيرادات ضخمة، فتصدَّرَت صورهم بعض الصحف.

    وفي حين كانت الحياة الصاخبة حليفة المدن المزدهرة بتمدُّنها وأنوارها في ذلك العهد، فقد حافظَتِ الحياة الريفية على هدوئها وسكونها وتواضع معيشتها لا سيِّما حياة الفلاحين والمزارعين البسيطة والتي لَم تطلها أعمدة الطاقة الكهربائية بعد لصعوبة تطبيق المشروع المكلَّف كما زعمَتِ الجهات المختصَّة في ظلِّ تشييد المزيد مِن السِّكَك الحديدية التي اعتلَتِ المرتفعات، وامتدَّت جسورها بين الجبال، فما كان أمام الفلاحين سِوَى متابعة أعمال المهندس الكهربائي والميكانيكي المخترع (نيكولا تيسلا) الأمريكي الصربيّ الأصل الذي كرَّس وقته بالعمل على بناء مولِّدات كهربائية مطوَّرة، عاقدين الأمل على أن يتمكَّن مِن بناء مولِّد يعمل على توليد الطاقة في كل مزرعة على حدة طلبًا لتيسير بعض المهام الصعبة على المزارعين، وإزالة قدرٍ مِن الأعباء الثقيلة عن كاهلهم.

    تعلَّقَت شمس ذلك اليوم مِن عام 1910 عاليًا في كبد السماء، تسطع بلهيب شعاعها على الأراضي الزراعية والحقول التي زخرَت بمحاصيلها اللذيذة والمنعشة في ذلك الموسم كالمعتاد، فبِيعَت بمتاجر الأسواق وعلى الطرقات عبر بقاع أرض جزيرة الأمير إدوارد التابعة للمملكة الكندية التي تميَّزَت برمال أرضها الحمراء، وتراءت المناظر الخلَّابة لقاطني المنازل الساحليَّة، حيث حلَّقَتِ العشرات مِن طيور النورس، فزادت بجمال الغروب لدى انحدار قرص الشمس هنيهة نحو الأفق في كل مساء في تلك المنطقة.

    وقفَت إيلينور ذات الـثمانية والثلاثين عامًا مِن العُمر، تنشر الغسيل على حبل رُبِطَ طرفاه بينَ وتدَين دُقَّا في الأرض في باحة خلفية لمنزل ذي دَورَين قبع على أرض قرية (نارو كريك) فيما تمسَّحَت قطة مشعرة بيضاء بأذيال فستانها الطويل، متواضع التفصيل، نيلِيّ اللون، وكان مناسبًا للون بشرتها البيضاء بوجنتيها الزهريَّتين وشعرها الداكن الذي اعتادت جدله ولفَّه لكعكة مرتخية نوعًا ما، فمنحَتها منظرًا شاعريًّا عكسَت شخصيَّة إيلينور العاطفية رغم أنَّها لَم توفَّق في أن تحظى بشريك حياة في حياتها.

    وقد كانت شابة هادئة، تعشق الأدب وقراءة الروايات، وتجد المتعة والسكينة في فنِّ التطريز والحياكة أثناء ترنُّحها على كرسيِّها الهزَّاز بجوار نافذة حجرتها في الطابق الأول، إلى جانب تفانيها بالاعتناء بنبتة داخليَّة، حملَت أزهار غاردينيا بيضاء رقيقة، عشقَت عبيرها، تحمل ملامح هادئة جميلة امتزجَت بملامح الكياسة والوقار رغم تقدُّمها في العمر الذي زحفَت ملامحه على سماتها.

    لَم تكن حياة إيلينور مماثلة للتي قضَتها في مدينتهم في أوتاوا، جنوب البلاد؛ فقد سلكَت حياة مختلفة في ظلِّ والدتها بعد وفاة والدها، وكانت قد التحقَت بصفوف التمريض عن عمر ناهز الثمانية والعشرين فور سَنِّ قرار تدريب المهنة في فصول خاصة في المشفيات الكندية عامة، وكان ذلك في عام 1900 وقد اتَّبَعَتِ الفصول نظام المدارس الداخليَّة الصارم، فكانت تلك التجربة الأولى لها بالانفصال عن سكنها وذويها.

    وبعد تلقِّيها شهادة أهَّلَتها للعمل بذات المشفى، لَم تتمكَّن مِن ممارستها المهنة سِوَى أربعة أعوام متوالية فقط، وكانت في غاية السعادة في تلك الفترة المنصرمة مِن عمرها لتحقيق ذاتها وتحصيلها مدخولها الخاص، فملأَت حجرتها بالعشرات مِن الكتب العلميَّة وتلك الأدبية منها، حتى أصيبت والدتها بمرض مستعصٍ، فتدهورَت صحَّتها، فأرغمَت إيلي على تعطيل مزاولتها مهنتها؛ كي توليها كامل الرعاية والاهتمام مشفقةً عليها، فنُقِلَت لحجرة والدتها لتكون لجوارها، إلا إنَّ الأخرى لَم تتعافَ، وبقيَت طريحة الفراش حتى تداعت صحتها هنيهة، وفارقَت الحياة، فلَم تعد إيلينور لمزاولة عملها بعد تلك الفاجعة المؤلمة لشدة حزنها لفراق والدتها العزيزة، وتوقَّفت عجلات حياتها.

    قضت إيلينور مِن تعليق الغسيل، فرفعَتِ السَّلة، وحجبَت عينَيها وهي تحاول النظر عاليًا للسماء حيث الشمس وبعض قطع الغيوم المتناثرة عبر السماء، والتي لَم تكن منذرة بالأمطار على الإطلاق، فقالت بصوتها الحاني الرخيم، تُحدِّث القطة لدى هبوب ريح سريعة بالجوار، فتراقصَت أغصان أزهار الخشخاش زعفرانية اللون الرقيقة النابتة عشوائيًّا حول شجرة تفاح ضخمة، استمدَّتِ الضِّياء مِن خلال أغصان تلك الشجرة:

    "ليتَها تمطر لتخفِّض درجة الحرارة، ولكن لا بأس، فستنعطف الشمس قليلًا في السماء قريبًا لدى حلول أيلول، فتنكسر حرارتها قليلًا.. ثمَّ أحدَرَت بصرها للقطَّة، وأردفَت بابتسام: ووقتها ستضعين حملكِ عزيزتي داليا".

    لقد كانت إيلينور التي أطلقَت ذلك الاسم (داليا) على تلك الهرَّة البيضاء والوحيدة التي لَم تبارح المزرعة كما فعلتِ الأخريات فور بلوغهن والذكور منهم، فسُرَّت بصحبتها في العراء حيث الأزهار التي توليها اهتمامًا بالغًا؛ لتمتِّع ناظريها برونقها ورقَّتها وألوانها، فكانت إمَّا تتركها بين الأغصان لتتباهى الأزهار بألوان بتلاتها اللافتة في نور الشمس الشعشاع، أو تقطفها بحرص بالغ فتزيِّن إناءً بها تتركه على منضدة في حجرتها أو على مائدة الطعام في الردهة.

    - ألَم يعد إيليوت مِن البستان بعد؟ قالت شابة أخرى شقراء الشعر، كانت زيَّنت جبينها غرَّة ملساء طويلة، سرحَت لجانب واحد، فدسَّت أطرافها خلف أذنها، ووقفَت عندها بقامتها القصيرة نوعًا ما، حيث لَم تتجاوز خمسة أقدام وأربعة بوصات بعد أن دفعَت بابًا جانبيًّا للمنزل أطلَّ على حقل زاخر بالنباتات المثقلة بمحاصيلها الغنيَّة.

    وكانت كونستنس زوجة شقيق إيلينور، فأجابتها وهي تثني ركبتيها لتمسد ظهر الهرَّة بلطف:

    - كلا، لَم يحن موعد عودته بعد كوني.. هل بعثتِ به لأمرٍ ما أنتِ بانتظاره؟ يمكنني الإتيان به لكِ إن رغبتِ بذلك.

    فقالت كوني وهي تغيب للداخل:

    - كلا، أشكركِ.

    لَم تكوِّن إيلينور علاقة متينة بكونستنس، ولَم يكن فارق السنِّ الكبير الذي كان بينهما السبب مطلقًا، إنَّما كان لعدم وجود توافق فكري بين الشَّابتين، وتناقض بين ميول الشخصيَّتين وصفاتهما، فحافظتا على مسافاتهما فيما بينهما تحت سقف واحد، تعملان جنبًا لجنب بالقيام بأعباء المنزل في ظلِّ احترام متبادل سِوَى بعض الزَّلات التي كانت تصدر عن كونستنس، فكانت تتغاضى عنها إيلينور بعقلانيَّتها وكونها الأكبر سنًّا والأحكم، وتتجنَّب الإتيان بذكرها لأخيها الوحيد، إيليوت الذي صغرها سنًّا بخمسة أعوام.

    كانت إيلينور عمَّة لأربعة مِن الأبناء، تحبُّهم كثيرًا، فكانت تجمعهم حولها في كلِّ أمسية قبل عودة والدهم مِن العمل، فتحكي لهم القصص والطرائف حتى يحين موعد العشاء، فقالت لابن أخيها الأكبر جوليان، وكان يبلغ أربعة أعوامٍ آنذاك، في حين جلسَت أخته الأصغر منه بالجوار تلعب بدميتها:

    - هل أحدِّثك عن بحَّار عظيم اكتشفَ الوجه الآخر مِن الأرض فجاء بكنوزها؟

    - وااو! عبَّر جوليان عن دهشته، فيما نظرَت والدته نحوهما وهي تعدُّ الفطير للعَشاء، وأردف: هل أبحرَ بالبحر؟

    - بكل تأكيد عزيزي. .قالت عمَّته بابتسام وهي تنزل صغيرًا لا زال يحبو مِن حضنها لرغبته بالنزول والحبو لأخته ليتفقَّد دميتها، فارتكز الفتى جوليان على ركبتيه، وأسند ساعدَيه على ساقيها قائلًا:

    - اسردي عليَّ قصَّته.

    فمسَّدَت خصلات شعره كستنائي اللون كلون شعر أبيه، وقالت في حين استرقَت والدته السمع والبصر نحوهما بين كل حين مِن زاوية المطبخ المفتوح على ردهة المنزل:

    - كان يُدعَى فاسكو دا غاما، وكان مِن البرتغال (دولة أوروبية)، وقد أبحرَ في يوم مِن الأيام ورفاقه في البحر في سفينة عظيمة محمَّلة بالمؤن مِن الطعام والشراب في رحلة استكشاف، واستمروا في الإبحار حتى تراءت لهم أرضٌ يابسة، فوجد عليها سكَّانًا لَم يفقه لغتهم، فقيل له بعد ذلك إنَّه كان على أرض في إفريقيا، وهي قارَّة أخرى فصَلَ بحرٌ شاسع فيما بينهما، فلَم يكونوا هؤلاء يشبهونهم في صورهم ولا يتحدَّثون بلغة لسانهم، فسُرَّ باكتشافه تلك الأرض، وتابع بإبحاره لأيَّام طويلة وليالٍ أطول، وكان يرسو بسفينته كلَّما تراءت له أرضٌ يابسة، وهكذا حتى وصل لأرض بعيدة جدًّا زخرَت بكنوزها الطيِّبة مِن المعادن الثمينة ومنكّهات الطعام القيِّمة، فازداد سرورًا، ودوَّن في مذكِّراته أنه قد بلغ أرضًا سمِّيت بالهند، وبذلك تمكَّن البحَّار المستكشف مِن تحديد الطريق بين أوروبا وإفريقيا وآسيا، حيث الهند للتجارة.

    ومِن بعد عودته قام الإمبراطور الحاكم آنذاك (مانويل الأوَّل) بمكافأته على اكتشافاته العظيمة، فقلَّده بلقب أمير البحر، وعيَّن مرتَّبًا هائلًا له ولذرِّيته مِن بعده؛ كي لا يحتاج لأحد أبدًا.. وكان مَن جاء بالقرفة والفلفل الأسود لشعوبنا، فصار طعامنا أشهى.

    قالت كونستنس التي أكَلَتها الغيرة لمعرفة شقيقة زوجها الكثير بما تعلَّق بالتاريخ الدفين وهي تفتح فرن الأتون لتستخرج قالب اليخنة باللحمة التي انتشرَت رائحتها الفاتحة للشهيَّة في أرجاء الردهة، فزجَّت قالب الفطير مكانه، ورَفَعت قالب اليخنة إلى خانة عليا للأتون تحافظ على حرارة الطعام حتى حين:

    - لماذا تملئين رأس الفتى بمغامرات البحَّارين؟ فقد ولَّى عصر الفتوحات ذاك، والذي كان الهدف مِن السعي وراءها هو التوسُّع والاستعمار والقرصنة، وأظنُّ بأنَّ المراكب قد رست مذ أقدم العصور، وقُضِيَ الأمر، وبِتنا نتكاثر على أراضٍ لَم تكن قط لنا، ووجبَ علينا صبُّ سعيِنا في إناء واحد وهو الحفاظ على أراضينا بالعمل فيها كي نقتات منها وإلَّا متنا جوعًا.

    فقال الفتى:

    - ولكنَّها قصص مشوِّقة ماما.

    فيما قالت إيلينور التي ذهلَت لنبرة زوجة أخيها وحديثها الذي نمَّ عن غيرة ملحوظة:

    - التاريخ حافل ومليء بالقصص الرائعة كونس...

    فقاطعَتها كونستنس قائلة وهي تجمع الخضار في سلطانية على عجل فقد اعتراها شيء مِن الاستياء:

    - هيَّا انهض جوليان، واغسل يديك، وقبل ذلك تخلَّص مِن ثيابك المتَّسخة تلك؛ فوالدك على وشك العودة، وسترافق والدك للعمل في البستان بدءًا مِن يوم غد؛ كي تتعلَّم التركيز على صلب الحياة وليس الماضي.

    فتأفَّف الفتى ناهضًا، فيما أجلسَت كونستنس نفسها على مقعد حول مائدة المطبخ، والتقطَتِ السكِّين وحبة طماطم لتعدَّ سلَطة، فملأَت إيلينور صدرها بالروائح المسيِّلة للُّعاب، وأحنَت بصرها، وازدردَت الكلمات التي كادت أن تجريها على لسانها كعادتها في سبيل التغاضي عن أفعال زوجة أخيها، فابتسَمَت في وجه الصغير الذي جاءها مجدَّدًا، وحاولَ الوقوف على ساقها وقد ظهرَت بين شفتيه بعض الفقاقيع الصغيرة، فمسحَتها بمنديل لها.

    قالت كونستنس التي نظرَت نحوها، ورأتها تداعب الصغير:

    - إيلي.. هل يمكنني الحصول على عونك هنا بإعداد المائدة لُطفًا؟

    فأومأَت إيلينور، وقالت وهي ترفع الصغير لتتركه في مهد له في الردهة كي لا يبتعد بحبوِه أثناء انشغالهما عنه، في حين قطَّعت كوني حبَّات الفجل والغيظ يعتريها:

    - مؤكد.

    ******

    كان المنزل يعجُّ بأفراده الستة في كل مساء حول مائدة الطعام، ومِن ضمنهم الصغير ذو العام الواحد، كثير البكاء، فكان يسبِّب الانفعال لوالدته صغيرة السنِّ وقليلة الخبرة رغم تعدِّد أبنائها، فقد كانت كونستنس تبلغ الثالثة والعشرين مِن العمر، وانحدرَت مِن عائلة ريفية مزارعة، وقد ارتبط بها شقيق إيلينور بعد نشأة علاقة ودٍّ دامت لسبعة أشهر، وكانت وقتذاك الشابة الفاتنة بعينيها الزرقاوين الواسعتين ولَم تكن تبلغ الـثامنة عشرة مِن العمر، في حين كبرها إيليوت بعشرة أعوام، وكان شغوفًا بها جدًّا وكثير اللقاء بها، فتزوَّجها ريثما تحسَّنَ وضعه الماديُّ بعد وفاة والدته التي ورث وأخته عنها الأرض والمنزل، فباع كلَّ شيء بعد نَيله موافقة أخته الكبرى، ونُقِلا لأرض مستقلة على جزيرة الأمير إدوارد، ليسلكا حياة جديدة بعيدة عن الشجون وجدران الأحزان.

    وقع منزلهما فيها على أرض شاسعة بجانب الطريق حيث حقلهم للخضروات، وجاورهم عبر مجرى مائي صغير منزل آل وايلد الذي لَم يحتكَّ أفراده بهم سريعًا، وأخذَتِ العائلتان وقتًا حتى بلغتا التعارف فيما بينهما، كما ابتاع إيليوت بستانًا لأشجار الكمثرى كمصدر للرزق والقوت، وعمل به.

    انزعجَت كوني مِن بكاء الطفل المتعسِّر والذي لَم يرغب بتناول البطاطس المهروسة بالحليب، فتأفَّفَت وتذمَّرت فيما راقبها كلٌّ مِن إيلينور وزوجها الذي اقترح عليها أن تتركه في المهد لعلَّه يشعر بالإعياء فيخلد للنوم، فقالت وهي ترفع الطفل، وتضعه على ساقها الأخرى:

    - كلا، سيزداد بكاءً، فلا يسَعني حتى تناول الطعام.

    - فلستِ تتناولين طعامكِ الآن.. قال زوجها والتهَمَ قطعة لحمٍ بنهمٍ، في حين نظرَت إيلينور بين زوجة أخيها والطفل والرغبة بطلب الطفل منها تنتابها، إلا إنَّها خشيَت أن تثير أعصاب كوني، حيث كانت أعصابها على شفيرها.

    فتذمَّرتِ الأخرى:

    - ماذا أفعل؟! ما الذي يشكو منه؟! لمَ لا يهدأ؟!

    فكادت إيلينور أن تتحدَّث، ولكنها فوجِئت بها تنفجر بابنتها تضرب يدها التي كانت تمتصُّ أناملها لغمسها بالصلصة، وقالت: أخرِجي يدك مِن فمك، ألَم تتعلَّمي شيئًا مِن آداب المائدة؟

    ذهل زوجها، ونظر لابنته التي بادلَته النظرات بوجه حزين وعينين تترقرقان بالدمع، فابتلعَ استياءَه، ومسحَ على رأس ابنته لتهدأ، فنهضَت كوني قائلةً باستياء ونبرة باكية:

    - يكفي.. لا أستطيع، لَم أعد أحتمل.

    وغابت لحجرتها تاركةً الطفل في مهده، فتعالَت صرخاته باكيًا، والتفتَ الأخوَان كلٌّ منهما للآخر، فقالت إيلينور:

    - المعذرة أخي، قد يكون مِن المفترض منِّي أن آخذ الصغي...

    فقاطعها قائلًا بهدوئه المعهود لطبيعته الليِّنة:

    - قطعًا أختاه، فالاعتناء بالأطفال مسؤوليَّتنا نحن.

    واعتذر إليها لينهض تاركًا الملعقة مِن يده في طبقه وابنه يرقبه:

    - المعذرة أختاه، سأ... وأشار بيده.

    فأحنَت بصرها كي لا يُحرَج منها، وأومأَت قائلة:

    - بالطبع.

    وغاب وراء زوجته في حجرتهما، فنهضَت إيلينور لتهدِّئ الصغير.

    - لَم أعد أحتمل الوضع إيليوت؛ فقد فاق طاقتي.. قالت كوني لزوجها الذي ضمَّ رأسها لصدره يسألها الخطب، وأردفَت قائلة: كنتُ في غاية السعادة لدى عقدِنا القِران، وحلمتُ بالإنجاب، وأنتَ على علم بذلك، ولكن لَم أكن أعلم أن الأمر غاية في الصعوبة، لَم أظنَّ الزواج هكذا أبدًا.. لا راحة.. لا عاطفة سِوَى التعب والإرهاق طوال النهار، الساعة تِلوَ الأخرى، وما إن تنتبه للوقت إلا بقرص الشمس قد آل للمغيب، فيحلّ المساء، ونخلد للنوم لشدة إعيائنا.

    شعرَ إيليوت بتأنيب الضمير، وقال حائرًا يمسِّد شعر محبوبة قلبه التي ذرفَت الدمع على صدره:

    - إنني.. إنني أبذل قصارى جهدي عزيزتي.. وطلبَ منها أن تهدأ، فقالت وهي تمسح دمع عينيها المرير بمنديلها بصوتها الباكي مقطِّعًا أحشاء زوجها:

    - أختك تساعدني، فلستُ أنكر ذلك، ولكن.. ولكنِّي أصاب بالإرهاق أحيانًا، وأودُّ لو تُنيب عنِّي، ولكني أخجل مِن سؤالها، وفي بعض الأحيان تلحظني متعبة، ولكنَّها تتركني وتمضي لحجرتها، أو تعود لعمل كانت مشغولة به.

    فوعدها بالتصرُّف قريبًا في سبيل إزاحة قدرٍ مِن أعبائها بالإتيان بعاملة تساعدها في ساعات النهار فقط، فهدأَت قليلًا، ورَفَعت بصرها إليه تبحث عن جديَّة ما سلف في عينيه الحنونتين:

    - أحقًّا لتفعل شيئًا كهذا لي إيليوت؟

    - بالطبع حبيبتي، فأنا أهواكِ، وأكره رؤية الدمع في عينيك.

    باح إيليوت بمشاعره القلبيَّة لها رغم أنَّها كانت كثيرًا ما تسبِّب له الانزعاج بكثرة تذمُّرها، وتطاولها عليه بالحديث دون مراعاة مقامه كربِّ الأسرة في المنزل، فكان كثيرًا ما ينعزل لبستانه هربًا منها على مرأى مِن أخته الذي يصاب بالحرج لدى رؤيتها تنظر نحوه في العراء ظانًّا بأنَّها قد سمعَت كلَّ ما أسلفَته زوجته في حقِّه.

    وكان لكونستنس ما وعدَها به زوجها، وأقبلَت العاملة (هايدي) عليهم ذات يوم، فانهالت عليها كونستنس بالمهام: أزيلي تلك الأطباق والكؤوس، ونظِّفي الأرفف جيِّدًا ومِن ثمَّ افرشيها بقطع القماش تلك بعد غسلها ونشرها لتجفَّ، وثمَّة غسيل، والأرضية متَّسخة، ولا ترمي بالماء قريبًا مِن المنزل بل خذيه بعيدًا...".

    فباشَرَتِ العاملة عملها مِن فورها، وأدَّت أعمالها بمجهود ملحوظ رغم تقدُّمها في السنِّ، فاعتنَت بالمنزل والأطفال وكأنَّها في منزلها.

    كانت قليلة الكلام وذات نظافة وترتيب، فشعرَت إيلينور بالارتياح لها والشفقة عليها في آنٍ واحد، فحبَّذَت التعرُّف عليها، فجاذبَتها أطراف الحديث في كلِّ يوم، وكانت تكرمها بقِطَع نقود إضافية منها قبل انصرافها بعد قضائها الساعات الستِّ التي اتَّفقَت وكونستنس عليها، فاستراحت كونستنس في تلك الفترة، واستعادت هدوءها ورونقها، حيث اعتنَت بمظهرها، وأخذَت تستضيف بعض صديقاتها في منزلها، فكانت تقضي مع إحداهن وقتًا طويلًا حول مائدة الشاي والكعك والفاكهة، وتتسرَّب ضحكاتها العالية لمسامع إيلينور عاكسةً سعادتها وتنفُّسها الصعداء، في حين اهتمَّت إيلينور بأمورها الخاصة، فاعتنَت بحجرتها بنفسها، وغسلَت ثيابها، كما لَم تتنحَّ عن مساهمتها بقيامها ببعض الأعمال المنزلية اليسيرة التي لَم تمانعها قط، بل وتجد المتعة في تأديتها، كتنظيف الشرفات مِن الغبار وهي تدندن معزوفة سمعَتها ذات مرة في منزل السيدة دوف عازفة البيانو البارعة والذي جاور منزلهم منزل آل وايلد عبر فرع نُهَير اعتلاه جسير شاعريّ منحنٍ، حيث اجتمعَت في ذلك اليوم بصديقتين لها، وكانت إيلينور ثالثتهنَّ كما اعتادت السيدة دعوتهنَّ لاحتساء الشاي يوم الإثنين مِن كل أسبوع، وإطرافهن بعدد مِن المعزوفات اللاتي كنَّ يرغبن بسماعها مجدَّدًا لعذوبتها، إلا إنَّها لَم تعزف لهنَّ في ذلك، وقد دعتهنَّ لتشغِّل لهن مشغِّل أسطوانات ابتاعَه زوجها، فسعِدن به كثيرًا، وتفحَّصن المشغِّل الذي نُقِشَ اسم مخترعه على صندوقه الخشبي (أديسون)، وبدا تمامًا كما رأينَه في زوايا الإعلانات التي كانت تنشرها الصحف آنذاك، وكان قديم الطراز.

    - إنه قديم.. قالت السيدة دوف، وأردفت: ولكنَّه يفي بالغرض، وقد ابتاعه زوجي لبلوغ قيمته ما استطاع توفيره بعد العديد مِن التوسُّلات والعناقات والقبلات.

    فضحكتِ الصديقات، وترنَّحن على ألحان الموسيقى التي حاولَت إيلينور الاستماع لكلماتها فأعجبَتها، فسألَت إيلي صديقتها:

    - ما اسم الأغنية باربرا؟

    فالتقطَتِ السيدة دوف الأسطوانة، وقالت وهي تناولها إيَّاها:

    - في نور القمر الفضّي لـ (بيلي موراي والرِّفاق).

    فقلبَت إيلي الأسطوانة المعدنية بين أناملها، ونظرَت لصورة طُبِعَت على علبة الأسطوانة، وتفحَّصَت ملامح المطرب الذي التُقِطَت له تلك الصورة وهو ضاحك السنِّ، فابتسمَت ورَفَعت حاجبَيها مفكِّرة: إنه بشوش الطلَّة، ويبثُّ السرور في صوته وصوره."

    ومنذ تلك اللحظة وهي تدندن اللحن، وتغنِّي بعض العبارات التي حفظَتها عن ظهر قلبها، فحرَّكت المكنسة في تلك الأمسية على إيقاع الأغنية.

    لَم تكن إيلينور متزمِّتة الطباع كما قد تبثُّه سماتها وطباعها مِن انطباع على مَن يلتقيها لأول مرة، فقد كان لإيلينور لحظاتها مِن خفّة الظلِّ والفكاهة، إلا إنَّها أدلَت بالقدر المعقول مِن جانبها ذاك حفاظًا على حُسن صورتها، وإلا بدت سخيفة في نظر معارفها ومثيرة للسخرية إلا حَول صغار أخيها، فقد مارسَت خفَّة ظلِّها معهم، فكانت تكثر مداعبتهم واللعب معهم.

    وفي يوم مِن الأيَّام، وفيما كانت إيلينور مستريحة في كرسيِّها الهزَّاز بمحاذاة نافذة حجرتها الجنوبية، حيث تغمر الشمس الحجرة بنورها الوهَّاج طيلة ساعات النهار تعمل على تطريزة بين يديها، وهي هوايتها التي تحبُّ مزاولتها والتي تعكس مخيّلتها وعشقها للطبيعة الآسرة على قِطَع مِن الأقمشة، فتحوِّلها لأغطية وسائد منقوشة برسومات فنيَّة استوحَتها مِن الطبيعة وأزهارها ووريقاتها وأغصانها.

    كانت مستغرقة في عملها في جوٍّ ساكن وهادئ، قطعَه نداء صغير حمامة بين كل حينٍ جاثمًا بين أغصان شجرة التفاح، فتسرَّبَت ذكرى علاقتها الوحيدة التي نشأَت بينها وبين شابٍّ إلى ذهنها، حملَت له مشاعر الودِّ في قلبها في زمن بعيد في مدينتهم التي قطنوها سابقًا، وكانت تبلغ آنذاك خمسة وعشرين عامًا مِن العمر حينما كان موضوع العنوسة أمرًا أشغلَ ذهنها ووالدتها التي خشيَت أن تمضي عن الدنيا وابنتها لَم تكُن في كنف رجل بعد تكوِّن معه أسرة، فيصونها وتسعد بحياتها معه.

    كان لتلك الذكريات مِن المتعة ما جعلها تبتسم حتى تبدَّلَت ملامحها للجمود لتذكُّرها الألم الذي تلَى تلك الذكريات السعيدة.

    كانت سعيدة بتعرُّفها على تايرون الذي عمل مزارعًا في مزرعة كبيرة للقمح، التقت به في حفل بهيج أقيم في المدينة لحصاد الموسم، وقد رأت فيه الشاب الحنون بنبرة صوته ونظرات عينيه، وكانت تخجل منه فتحني رأسها لوسامته كلَّما التفَت إليها.

    كان متَّزنًا في نظرها وهادئًا، وأحبَّ إضحاكها رغم الحقيقة المرَّة التي أطلعها بها، وكانت مسؤوليَّته إزاء الاعتناء بعائلته بعد ممات والده، فكان يشقى بالإتيان بالقوت لهم؛ كي يمكِّن إخوته الصغار مِن الذهاب للمدرسة وتوفير كل ما يلزم المنزل وأفراده وعلاج والدته طريحة الفراش، فكانت إيلينور تشفق عليه كثيرًا، وتحتضنه إليها، فيسرق منها القبلات التي كانت تتعطَّش إليها في غيابه حتى يتجدَّد لقاؤهما مجدَّدًا، كما كانت له خير عون بمدِّه مِن مال أبيها الذي ورثَته عنه، فكانت تسعد لسعده.

    - ما كنتُ لأقبل منكِ هذا المال إيلي لولا حاجَتِي الماسَّة إليه.

    قال لها في نهار لطيف النسمة، التقيا فيه حيث أشجار البتولا العالية بمحاذاة ضفاف نهر جارٍ، فقالت له:

    - لا تؤتِ بذِكر ذلك.

    فأمعنَ فيها، فأحنت بصرها بابتسامة ضئيلة حياءً، ثم قال:

    - أتعرفين إيلي؟ لولا ظروفي لأصبحتِ تعيشين بجواري.

    ازدادت خجلًا، فرفعَ ذقنها، ولثم شفتَيها.

    كانت تلك الذكريات مِن أجمل ذكرياتها التي حملها الماضي بين طياته، وقد تذوَّقَت فيه إيلينور نكهة الهيام والأشواق وأحلام اليقظة المشوبة بالعاطفة الجيَّاشة التي غمرَتها لأشهر طويلة حتى التقَت بفتًى صغير.. كانت تلمحه ينظر ناحيتهما أثناء عودته مِن المدرسة لمنزله لأكثر مِن مرَّة حتى أوقع الريبة في خلدها بمجيئها في إحدى المرَّات التي مضى عنها فيها تايرون باكرًا، فمكثَت لبعض الوقت تتأمَّل سطح مياه النهر المتلألئ في أشعة الشمس المائلة، وألقى الصبيُّ التحية وسألها:

    - سيدتي.. هل يقرب لك ذلك الشخص؟

    - أيُّ شخص؟

    - الذي أراه برفقتكِ أحيانًا.

    قالت له بابتسام ورقَّة:

    - كلا، لا يقرب لي، لمَ تسأل؟ هل تعرفه؟

    فقال الفتى وكان يبلغ اثنَي عشر عامًا مِن العمر:

    - أنصحكِ بالابتعاد عنه سيدتي؛ إنه سيئ السُّمعة.

    فذهلَت إيلينور بما سمعَته، فحدَّثَتِ الفتى قائلة بلطفٍ بشيء مِن الحزم:

    - ما اسمك يا فتى؟

    - ويليام سيدتي.

    فقالت:

    - ويليام.. لا يجوز لك التحدُّث بالسوء عن ظهر غيب الناس، فإن تعرَّضَ لك ذات مرة أو وبَّخَك لأمرٍ ما فلا يعني ذلك بأنه سيِّئ الطبع.

    فاعتذر إليها الفتى، ومضى في حال سبيله، فندمت لعدم اتِّخاذها حديث الفتى على محمل الجدِّ آنذاك، حيث بان لها بعد ذلك أنَّ تايرون لَم يكُن سِوَى رجل محتال ومخادع، أوهمها بقصصه المكذوبة، وكان الدليل هو اعتقاله لسرقة سيِّد عمله، ومحاولته الهرب وزملائه بالسرقة أثناء عبورهم إحدى بحيرات لورينتيان العظمى الواقعة بين المملكة والولايات المتحدة كما أطلَعها نائب مأمور المدينة لدى سؤالها عن جُنَحه التي ارتكبها لتسرُّب حديث الناس إليها بأنَّ الشاب تايرون قد وقع في شرِّ أعماله أخيرًا، ونال ما استحقَّه بعد طول غيابه عنها، فأحزنها الأمر كثيرًا على نحو عميق، حيث بانت حقيقته لها، لَم يهتم لأمرها قط، بل رغب بالأموال التي كانت بحوزتها، فتطرَّق لها عن طريق الموَدَّة بمَكرِه؛ كي ينالها شيئًا فشيئًا، فشعرَت بالألم يمزِّقها لسقوطها ضحية قضية احتيال، فأجرى الأمر دمعها طويلًا، وحبَّذَت تجنُّب العلاقات السرِّية، وفضَّلَت تلك التي تنظَّم مِن قِبَل الأصحاب والمعارف والأهل، إلا إنَّها لَم تقع يومًا.

    لَم تكن سِوَى أسابيع حتى افتضح أمرها أمام أخيها الذي انفجر بها غاضبًا لتهوُّرها بمالها حينما جاءها طالبًا إيَّاها بمدِّه ببعض المال؛ كي يتسنَّى له شراء عدد مِن الدواب ليستعين بها في مهمَّة حرثِ أرضٍ ابتاعها بماله:

    - أفقَدتِ صوابكِ إيلينور؟!

    وخطا عبر أرضية حجرتها ذهابًا وإيابًا محاولًا تمالك نفسه، وكان يبلغ عشرين عامًا آنذاك، وأردفَ قائلًا:

    - كيف سقطتِ رهينة كلامه المعسول؟!

    فازدردَت دمعها بصمت تسترق النظر نحو الباب خشية أن يتسرَّب الأمر لوالدتها، فقال:

    - هل بلغتِ مبلغ اليأس؟

    فرمقَته بنظرات حادَّة بعينين ترقرقَت فيهما الدموع، فاعترى أخاها الخشية قليلًا لغضبها؛ حيث تمتَّعَت إيلينور بعينين واسعتين بقزحيَّتين زرقاوَي اللون، فقال بنبرة هادئة نوعًا ما متحاشيًا نظراتها إليه:

    - انسي الأمر، هلَّا فعلتِ؟ انسي أنِّي طلبتُ منكِ المال يومًا، ولكن إيلي.. كوني أكثر حرصًا على نفسك أختاه أرجوكِ.. وقال مغادرًا حجرتها: متأسِّف.

    شعرَت حينذاك إيلينور بالانزعاج لتلك الذكريات الأليمة، فألقَت نظرة عبر نافذتها، واستنشقَتِ النَّسيمَ الدافئ، فتركَت تطريزتها على عتبة النافذة، حيث احتفظَت بنبتَتها المفضَّلة (الغاردينيا) ذات البتلات الرقيقة البيضاء، عبقة العبير، وتفقَّدت تربتها، فجاءت بمرشٍّ يدوي قديم ذي خرطوم ورمَّانة مليئة بالماء، وبخَّت وريقاتها قليلًا حاجبة الأزهار بأناملها؛ حيث إنَّ الماء يحوِّل لون بتلات الأزهار للَّون البنِّي، وحملَتها بعيدًا عن النور المباشر، وتركتها على منضدة سريرها، ونزلَت لتعدَّ لنفسها فنجانًا مِن القهوة، وأخذَته للعراء لتتمشَّى قليلًا بين مزروعات الحقل، تتفقَّدها وتلملِم مِن محاصيلها بعض الخضروات لإعدادها على العَشاء، فجالت بين محاصيل الباذنجان والقثَّاء بسلَّة المحاصيل المعلَّقة بساعدها تحتسي القهوة مِن كوب فخَّاري منقوش، وتنحني بين كلِّ حين لتلتقط شيئًا مِن خيرات الطبيعة في أشعة شمس مائلة، فملأَتها بقرون الباميا التي يحبُّها شقيقها لتعدَّها له للعَشاء.

    وفيما هي مستغرقة في التفكير أدلت بكوب القهوة لتحتسي ما تبقَّى منها، فاكتشفَت أنها قد قضت، ولَم يبقَ منها سِوَى الترسُّبات التي التصقَت بشفتَيها، فابتسمَت لسخرية الموقف وأزالتها، وعادت للمنزل فجاءتها هايدي العاملة وسألَتها إن كانت ترغب بشيء قبل مغادرتها بعد نصف الساعة، فابتسمَت ومدَّت لها كوب القهوة، وطلبَت منها سكب الشاي لها وإتيانها ببعض الكعك، فقالت العاملة:

    - المعذرة سيدتي العزيزة، فقد رميتُ الكعك القديم؛ فقد كان قاسيًا وقديمًا، وأعددتُ غيره، ولكنَّه لَم يزل في فرن الأتون.

    لَم تمانع إيلي الشاي فقط، وأجلسَت نفسها على جذع شجرة أطيح بها مسبقًا كانت تحجب النور مِن النفاذ عبر نوافذ الحجرات في الدور الأول حيث حجرتها، وجعلَتِ السلة في حضنها لتستخرج حبيبات الباقلاء مِن قرونه بإزالة غلافه، فيما جالت ببصرها في أنحاء الطبيعة الخلابة مِن حولها ومسامعها تلتقط تغاريد شتَّى أنواع الطيور، كالحمام وعصافير الدخلة ونقنقة الدجاج، فملأَت صدرها بالنسيم الدافئ، وتسمَّرَت عيناها بأزهار الخشخاش ذهبية اللون لسقوط أشعة الشمس عليها فتوقَّدَتِ الأزهار، فرقبَت ترنُّحها إثر هبوب نسمة عليلة، فغابت في عالم الشرود حيث جال في خلدها أن تزور أرملة شابَّة مِن أصل صربيّ قطنَت في كوخ وابنها الصغير بين أشجار البتولا الشاهقة وأشجار القيقب في غرب الغابة المجاورة، وقد تعرَّفَت عليها مِن تناقل سيرتها على ألسن النساء اللاتي قُلن إنَّها مشعوذة، فيما لَم تكن تجيد أمرًا سِوَى قراءة الفنجان، فكانت المسكينة شبه منبوذة، ولَم يزرها أحد سِوَى بعض معارف زوجها الذي قُتِلَ إثر صراع وقعَ بين الرجال في المزرعة التي عمل بها بتلقِّيه طعنة مباشرة في قلبه أودَت بحياته في بضع دقائق معدودة، أوصى خلالها والألم يبرحه بأسرته متمكِّنًا مِن ترديد كلمة واحدة فقط: أسرتي.. أسرتي، فاستدارت عيناه الزرقاوان عاليًا لسرعة تلاشيه بجفنين أصابتهما الرعشة، وابيضَّت مقلتاه على مرأى مِن أحد أصدقائه، وارتخى بين يديه لافظًا آخر أنفاسه، فهزَّه صديقه مردِّدًا اسمه يناديه: آيفري.. آيفري! فهاج صارخًا بمَن أجرم به: قتلتَه أيها النذل! وأبرحَه ضربًا.. فكانوا يعطفون عليها بما تيسَّرَ مِن المُؤَن والمال، فازدادت الشبهات مِن حولها، فقيل عنها إنها تزاول البغي مقابل زهيد المال.

    وقد لاحظَت إيلينور اضطراب الشابة النحيلة لدى زيارتها إليها في أوَّل مرة، وكانت الأرملة الصغيرة منشغلة بنزع ريش دجاجة لتعدَّها للعَشاء لنفاد البقول مِن المنزل، فاستقامت فور رؤيتها إيلي بيدَين تشدُّ بهما على مريلتها، وبصر تأرجَحَ بين الزائرة الغريبة مجهولة النوايا وبين ابنها الذي وقف عنده يلعب بحقل متواضع جاور الكوخ خشية مِن تصرُّف المرأة المقبلة، فابتسمَت إيلينور لخشية الأرملة بابتسامة عذبة، وألقَت التحيَّة بلطف وهدوء، فشعرَت بالشابَّة تلتمس الطمأنينة، ورحَّبَت بها، وأدخلَتها كوخهما المتواضع، وعرَّفَت بنفسها قائلة بالإنجليزية بلكنة مميزة وهي تسكب لضيفتها شايًا بالأعشاب:

    - المعذرة لعدم توفُّر الشاي المعتاد في منزلي؛ فأنا لا أنزل للسوق كثيرًا.

    - إنَّ لها رائحةً زكية.. قالت إيلي، فابتسمَتِ الشَّابَّة بتردُّد، وهمسَت بكلمة الشكر وهي تدلي لها بالكوب بيدَين ترتجفان، فذهلَت إيلي، وأمسكَت بالطبق بثبات بابتسام تشكرها، والشعور بالأسى ينتابها على حال الأرملة الصغيرة المرير التي قالت وهي تجلس على مقعد حول المائدة الصغيرة، تضمُّ يديها لحضنها باضطراب ملحوظ:

    - أُدعَى مالينا.. مالينا كوردويل بعد الزواج، وقبل ذلك كنتُ مالينا برانكوفيتش.

    فابتسمَت إيلينور في وجه الشابة، وأمعنَت بملامحها الجميلة رغم هزلها، فشعرَتِ الشابة بنظرات إيلي، فرتَّبَت خصلات شعرها المبعثَرة التي تدلَّت على جانبي وجهها، فسارعِت إيلي بالاعتذار:

    - لَم أكن...أنا متأسفة؛ فقد ذهلتِ بملامحك الجميلة فحسب.

    فابتسمَتِ الشابة، وأحنَت رأسها قائلة بخجل:

    - أشكركِ.

    فأثنت إيلي على جمالها بخفة ظل؛ كي تمنح الشابة قدرًا مِن الارتياح:

    - لا بدَّ أنَّ تلك العينين الخضراوَين كانتا ما ألهمتا كوردويل بالزواج منكِ.

    فضحكَت الشابة برقة، وقالت بشيء مِن الأسى:

    - تعود معرفتنا ببعضنا لنحو ثلاثة أعوام، فهو بريطاني الأصل، وأنا مِن صربيا، التقينا على جزيرة أنتيغوا في الميناء الإنجليزي، حيث عمل والدي كصيَّاد سمك، وكان آيفري خاصَّتي صيَّادًا بنفسه، رغب بحياة بسيطة وهادئة، فسافر بي بعد الزواج لهذه الجزيرة بحرًا في سفينة.

    فقالت إيلي:

    - لا بدَّ أنَّ السفر بحرًا كان شيِّقًا.

    أجابتها مالينا:

    - نوعًا ما، كان رهيبًا في بعض الأحيان لتمايل السفينة وتلاطم الأمواج.

    لَم تعش مالينا قصة حب مع زوجها قبل أن تصبح في عهدته بصورة رسمية، ومبادلة أطراف الحديث كان كل ما دار بينهما لبضع دقائق، فقد كان يلمحها برفقة ذويها على مقربة مِن قاربه ببضعة أمتار، حيث اعتاد الاستعانة بقيلولة في أمسية كل يوم في أشعة الشمس بإدلاء قبعة القشِّ على وجهه بأزرار قميص مفتوحةـ إلا إنَّه لَم يعر تواجدها اهتمامًا رغم فتنتها التي تمَحوَرت بين ذراعيها حتى لمحها في أمسية كانت لاهبة لازدياد الرطوبة التي خيَّمَت على الأرجاء الساحلية مِن أسفل قبعته أثناء استلقائه في قاربه، مسندًا رأسه بساعده، راميًا ساقًا وذراعًا على أحد طرفي القارب.

    كانت تتأمَّله ظنًّا منها أنه كان مستغرقًا في غفوته، فشدَّه الأمر، وتعجَّب له، فرفع قبَّعته قليلا ليتيقَّن إن كانت تقصده بنظراتها أم كانت مسهبة في تفكير ما.. وما إن التقَت عيناها بعينيه حتى سارعَت بغضِّ بصرها عنه والحياء الشديد يتملَّكها، فضربَت مرفقها في حافة قاربهم، حيث جلسَت برفقة ذويها، فآلمها الموضع ودعكَته، فيما تسمَّر الشابُّ لثوانٍ متسائلًا: هل كانت...؟ فأمعَن ببدنه الهزيل الندي واللامع تحت أشعة الشمس اللاهبة، ولوضعيته المثيرة فتلفَّظَ بكلمة نابية، واعتدلَ في جلوسه، فاسترقَ النظر نحوها، فوجدها تدير ظهرها وتخاطب والدتها التي جلسَت بجوارها تعمل على حرفة يدوية ما، فابتسمَ مفكِّرًا بجرأتها، وهزَّ رأسه نفيًا، فالتقطَ مطرته ليطفئ ظمأَه.

    تطرَّق لمخاطبتها في صبيحة باردة نوعًا، وكانت رطبة، فوجدَها تجلس بمفردها تصنِّف قطعًا صغيرة مِن الأصداف في مركب والدها المرسو على الشاطئ، وكان ذلك حينما تراءَى لها ظلٌّ لأحد ما حجبَ نور الشمس، فسمعَت صوتًا يلقي عليها التحية، فرَفَعت بصرها نحو الجسم الذي وقف على مقربة، إلا إنَّها لَم تتمكَّن مِن الرؤية بوضوح لسقوط أشعة الشمس في عينيها، ففوجِئت بقبعة تجثو على رأسها، فرأته بوضوح يقف بطوله لجوار المركب، فتورَّدَت وجنتاها على الفور، ولزمَتِ الصَّمت.

    تمتَّعَ آيفري الذي كان يبلغ الثمانية والعشرين مِن العمر آنذاك بوسامة لافتة بخصلات شعر شقراء عسلية، تمايلَت والنسيم على جبينه وعينان حادَّتان زرقاء اللون، زيَّنهما حاجبان رفيعان جذابان وابتسامة نمت عن شقاوة وفطنة أثارت حياء تلك الفتاة التي وجد في سماتها براءة طاغية بشعرها الأصهب المفرق لنزولها في مياه البحر في تلك الصبيحة لتستحمَّ بثيابها، فثني ركبتيه وهو يمعن النظر بها، بدَت صغيرة في السنِّ بكتفيها النحيلين بخلاف ما نمت عنه فتنتها التي أضرمَت في لبِّه اللهيب، فقدّر عمرها بسبعة عشر عامًا، فسألها:

    - كيف حال مرفقكِ؟ منوِّهًا لاصطيادها تنظر نحوه في تلك الأمسية بابتسامة شقية، فاكتفَت بالابتسام بنظرة سريعة وهي تشكل زهرة بمجموعة الصدف التي جمعَتها في ذلك الصباح الباكر، فراقَه ردُّها، فسألها عن ذويها طامعًا بسماع صوتها، فأجابَته بلكنة مميزة بصوت نديٍّ ناعم بتوجُّههم للسوق في المدينة، فقال وهو يلتفت حوله ليرصد أي شخص بثَّ في نفسه الريبة:

    - وتركوكِ بمفردك؟

    فأجابته بأنهم كانوا سيعودون بعد قليل، فعاد يمعن بها فسألها:

    - ما اسمكِ؟

    - مالينا.

    فسألها مِن أين كانت، فقالت له إنهم مِن صربيا، فقال وهو يمعن بالأفق البحري والأمواج المترادفة:

    - عبرَ اسم هذا البلد عليَّ، ولكني لَم أعرف أنهم تميَّزوا ببناتهم الفاتنات. فنظرَت إليه بتلك النظرة الموجزة بابتسام مجدَّدًا، وابتسمَ فجلس على طرف المركب، وعاد يمعن بها وبما كانت تصنع بتلك الصدف، فقال بنبرة مغرية مداعبًا:

    - أعجبني فستانك!

    وكان ذا فتحة رقبة واسعة كشفَت أكثر ممَّا لزم للعيان، وتميَّز برباط ضمَّ منطقة الصدر حيث كمنَت فتنة الفتاة، فلَم يتلقَّ ردًا، كما لَم تمكِّنه قبَّعته مِن رؤية تعابيرها، فمال برأسه ليسترق النظر هنيهة، فلمحَته فضحكَت، فدغدغَت مسامعه، واعتدل في جلسته بابتسامة عريضة لسروره، فجال ببصره عبر الأنحاء التي دبَّت فيها الحياة بورود الصيادين، فمنهم مَن سعى بإنزال مراكبهم للمياه الهادئة، ومنهم مَن خاطب زميله بصوت عالٍ، فقال لها وهو ينهض:

    - سأرقبكِ مِن موقعي حتى يعود والداكِ.

    فأومأَت له، ومدَّت له قبَّعته، فانحنَى وأدخَلَ رأسه فيها؛ ليبدو الأمر وكأنها ألبسَته إيَّاها بابتسامته الشقية، فتمكَّنَ مِن رؤية سماتها الباسمة بوضوح بتورُّد وجنتيها الجليّ، والتقطَ بريق عينيها الخضراوين، فتسمَّرَت عيناه بها في حين لَم تمتاز مالينا بسمات فاتنة كمعظم الفتيات، فلَم تمتلك وجنتين دافئتين، أو أهدابًا طويلة، أو تقاطيع وجه حادَّة جذَّابة، أو عينَين ساحرتَين، فقد كانت

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1