Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين
دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين
دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين
Ebook1,331 pages9 hours

دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

(اخْتِراق – تَغَلغُل – سَيطرة – فَساد – إِفساد – شُذوذ)

 

هذا الكتاب يهدف إلى:

 

 كَشْف الطُّرق والأساليب الّتي استخدمها اليهود في التّغلغُل داخل المذاهب الفِكريّة المُعاصرة والسّيطرة عليها.

 

كيف استطاعوا أن يُغيّروا الأُسْس والمبادئ الّتي قامت عليها؟

 

كيف نَجَحوا في حَرْفِ بُوصلتِها؟

 

كيف استخدموا لِأجل ذلك الإعلام، الاقتصاد، السّياسة، الفنّ والأَدب؟

 

 فاستغلّوا المؤسّسات الحقوقيّة والدّستور والقوانين وشَوّهوا التّاريخ والتّراث وغيره.

 

كيف اخْتَرقوا المُجتمعات بِمعرفة نِقاط ضَعْفِها فاستغلّوها، ونِقاط قوّتها فدمّروها؛ لتحقيق أهدافهم ...؟

Languageالعربية
PublisherRAHAF Mohamed
Release dateJun 17, 2022
ISBN9798201134372
دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين

Related to دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين

Related ebooks

Related categories

Reviews for دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين - RAHAF Mohamed

    دَوْر اليهود

    في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة

    في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين.

    Role of the Jews in the Contemporary

    Intellectual Doctrines

    in the 19th and 20th Centuries.

    كتاب في الأصل رسالة دكتوراه

    تأليف: د. رهف محمد حسن حنيدق

    إشراف: أ. د: نسيم شحدة ياسين.

    قسم العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة

    الجامعة الإسلامية فلسطين.

    2022مـ

    دَوْر اليهود في المذاهبِ الفِكْريّةِ المُعاصِرة

    في القرنين التّاسع عشر والعشرين الميلاديّين.

    Role of the Jews in the Contemporary Intellectual

    Doctrines in the 19th and 20th Centuries. 

    تأليف: د. رهف محمد حسن حنيدق.

    إشراف: أ. د: نسيم شحدة ياسين.

    النّسخة الرقمية العربيّة 2022 مـ

    إصدارت: طوقان للنشر الرقمي.

    لوحة الغلاف: طوقان للنشر الرقمي.

    الحقوق محفوظة للمؤلفة وأي استعمال غير قانوني يعرض صاحبه

    للمساءلة ضمن القانون الترقيم الدولي. ISBN:978-9950-412-03-3

    عناوين المؤلفة :

    Email: hnidg1973@gmail.com

    Whatsapp: +970598260096

    C:\Users\FOR LAPTOP\Desktop\دار طوقان للنشر الرقمي\ملفات تحت النشر ثم التعاقد\د رهف حنيدق رسالة دكتوراه كتاب\الردمك.png

    أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدمت بها المؤلفة لنيل درجة الدكتوراة من قسم العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة في الجامعة الإسلامية فلسطين.

    الإهداء

    إلى شهداء فلسطين الأبرار رحمهم الله...

    إلى أسرانا في سجون الاحتلال؛ فرَّج الله كربهم، وأطلق سراحهم...

    إلى أمتي العربية والإسلامية بشكلٍ عامٍ، وإلى شعبي العظيم بشكلٍ خاصٍ...

    إلى من ألبسني ثوب العلم ببركة أنفاسه؛ أبي أطال الله في عمره.

    إلى من خضتُ دروب العلم بفيض تراتيل دعائها؛ والدتي أدامها الله..

    إلى سكن الحياة؛ فهو عوني وسندي في مسيرتي؛ زوجي حفظه الله..

    إلى عزوتي وسندي عل مر الأعوام عمي أحمد أكرمه الله...

    إلى أمي بعد أمي زوجة عمي حماها الله...

    إلى عنوان الإخاء، وجذوة الإخلاص؛ إخوتي وفقهم الله...

    إلى بذرة المستقبل ومخاض علمي؛ ذريَّتي وأحفادي رعاهم الله

    إلى مشاعل النور ونبراس الهدى؛ أساتذتي أكرمهم الله

    إلى كل عالم أو متعلم..

    إليهم جميعًا أهدي هذا البحث؛ راجيةً من الله  أن يكون خالصًا لوجهه الكريم...

    شكر خاص

    يقولون إنَّ الصداقة تولد عندما يقول لك أحدهم: أنا معك ولن أتخلى عنك، هذا ما قاله لي الدكتور الرائع وليد محمد سلامة الدقس عندما وجدت نفسي على مفترق طرق أقف حائرة، لا أستطيع الاستمرار، ولا حتى العودة للوراء؛ فرسالة الدكتوراه كانت في بداياتها المتعثرة، وبحاجة إلى من يقول لي فقط استمري وأنا معك، فكان نعم الأخ الصادق الصدوق والناصح الأمين؛ فهو لم يدخرا جهدًا في توجيهي لما فيه الصواب في دقيق المسائل وجليلها، سواء كان منهجًا، أو مادةً، أو أسلوبًا،

    أو تنظيمًا؛ فوجدت منه كل تعاون، وتوجيه، ورحابة صدر، وتواضع جم؛ فكان لي خير موجِّه، وخير مدرِّب، وخير ناصح؛ فأفاداني إفادات جميلة ونافعة ومبتكرة، كما كان لآرائه الصائبة الأثر العظيم في تقويم هذه الرسالة وإخراجها على هذه الصورة؛ فالشكر له موصول غير مقطوع، وجزاه الله عني خير الجزاء، وبارك الله له في صحته وعلمه، وبوأه من الجنة مقعدًا.

    فَهرسُ المَوضوعات

    الإهداء

    شكر خاص

    فَهرسُ المَوضوعات

    مقدمة

    الباب الأول  دور اليهود في المذاهب الفكرية المعاصرة في القرن التاسع عشر الميلادي

    الفصل الأول الفلسفة الوضعية

    الفصل الثاني المذهب الحسي

    الفصل الثالث الفلسفة الواقعية

    الفصل الرابع الماركسية

    الفصل الخامس العلمانية

    الفصل السادس الإنسانية

    الفصل السابع المذهب الفوضوي (الفوضوية)  Anarchist doctrine ظهر (عام 1860م)

    الفصل الثامن المذهب الذرائعي (البرجماتي)  أو (البرجماتية)

    الفصل التاسع الحداثة الأدبية

    أ- إدغار آلان بو (1809- 1849م):

    *

    الباب الثاني دور اليهود في المذاهب الفكرية المعاصرة  في القرن العشرين

    الفصل الأول السريالية  Surrealism (ظهرت عام 1917م)

    الفصل الثاني الوجودية

    الفصل الثالث المذهب العبثي (العبثية)

    الفصل الرابع البنيوية

    الفصل الخامس المذهب التفكيكي التقويضي  (ما بعد البنيوية)

    الفصل السادس الفلسفة الوضعية المنطقية

    الفصل السابع فلسفة أدب ما بعد الحداثة

    الخاتمة

    المصادر والمراجع

    مقدمة

    اليهود وراء كل جريمة، حقيقة لم تعد خافية إلا على فريق مُضلل مخدوع،

    أو من له مصالح معهم، فقد استطاع اليهود أولًا ثم من بعدهم الصهيونية ثانيًا أن يخدعوا العالم ويسيطروا عليه بما امتلكوه من دهاء وخُبث وخسة، وبما يملكونه من موارد مادية وإعلامية هائلة، وفي هذا الكتاب سأتكلم بإذن الله عن نشأة المذاهب الفكرية المعاصرة، وكيف اُخترقت من قبل اليهود الصهاينة؟ وما هي الأساليب المتنوعة التي تم استخدامها من قبلهم لاختراق هذه المذاهب؟ وكيف سقطت؟ وسنتعرف على كيفية تفكيرهم، وما هي أنواع التفكير الذي يديرونه في كل وقت وزمان، وسنتعرف أيضاً على نفسياتهم المريضة، وسأعرض معظم طرق الفساد التي مارسها اليهود عبر تاريخهم الطويل خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وسأتكلم عن الفساد وأنواعه، وسأتحدث عن نشر ثقافة الشذوذ بكل أنواعه وطرقه وأساليبه في زمن التكنولوجيا. وسأحاول أن أقرأ أفكارهم من خلال الإعلام المخترق، والصحف والمقالات والروايات الأدبية والفن، من خلال قراءة ما بين السطور، فنحن بحاجة إلى ثورة فكرية نقدية تنير العقول وتحفظ ما تبقى من كرامة للإنسان وأخلاقه، وتحرير العباد من الاحتلال والاستغلال وسأكشف كيف استطاع اليهود إثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار، كثورات الربيع العربي وإشعال الفتن الطائفية، واختراق الدستور لجميع البلاد ذات القرار النافذ، وتهيئة دول العالم جميعاً لقبول هذه القرارات، والطعن في الدين والتشكيك بكل ما هو مقدس، متتبعة أقوالهم وتصريحاتهم وأفعالهم من خلال المقولة التي تقول: (من فمك أُدينك)، وغير ذلك من الأساليب الدنيئة والقذرة لعلنا ننجح أن نحصن أنفسنا من كيدهم، ونحمي ديارنا وديار المسلمين، فنحن من بعثة رسولنا محمد  وإلى يومنا هذا واليهود يحاربوننا.

    د. رهف محمد حسن حنيدق

    تمهيد:

    كانت أوروبا تُعاني من سيطرة الكنيسة عقودًا طويلة؛ مما أدى إلى انتشار الخرافة والجهل، فكانت هناك رغبة جامحة للانفلات من قبضة رجال الدين ومن مظاهر الطغيان الكنسي، رافق ذلك حركة علمية نتجت عن اتصال الغرب بالعالم الإسلامي خاصة الأندلس، مع ظهور مفكرين ومجددين ثاروا على الأوضاع السائدة ففضحوا سلوكيات رجال الكنيسة، وما يمارسونه من ظلم سياسي واقتصادي وأخلاقي، فطالبوا وقادوا ثورات التغيير؛ فكانت الثورة الفرنسية حيث رفعت الجماهير الفرنسية شعار واحد هو الخبز، والخبز وحده، وهي تتجه لهدم سجن الباستيل رمز العبودية والاستبداد، لكن تمَّ تلقين الجماهير الثائرة شعارات أخرى، قامت بترديدها دون وعيٍّ بأبعادها ولا أهدافها، فَرُفعت شعارات: الحرية والإخاء والمساواة، ولتسقط الرجعية، ويعترف اليهود أنهم هم من رفعوا هذه الشعارات ([1])، وكان الهدف الأساس من هذه الشعارات هو حرف الثورة عن مطالبها الأساسية، فالليهود هدف عام تسعى إليه منذ الأزل؛ وهو إقامة إمبراطورية عالمية، يحكمها ملك من نسل داوود عليه السلام، يكون إمبراطورًا على العالم كله، ولتحقيق هذا الهدف سلك اليهود لذلك جميع الوسائل لإحكام القبضة للسيطرة على حكومات العالم، ومن هذه الوسائل: تحطيم القيود الأخلاقية، والتقاليد الموروثة، وكسر الحواجز النفسية والاجتماعية، وإذابة الفوارق الدينية، وتُعد الجمعيات السرية هي أول تطبيق عملي لتحقيق الحُلم اليهودي، ومن أهم هذه الجمعيات السرية:

    1- الماسونية: منظمة يهودية دولية، تعرف بالبنائين الأحرار، وهي ذات شعارات ومبادئ، بعضها منشور متداول، والبعض يحيط به الابهام والسرية، إلا بالنسبة لأعضائها، وللخاصة منهم، فضلًا عن الرمزية التي تحيط بطقوسها"([2]). وللماسونية أهداف منها:

    أ- تأسيس جمهورية ديمقراطية عالمية خفيَّة يحكمها اليهود. 

    ب- إسقاط الحكومات الشرعية، التي لا تمتثل لأهدافها وطلباتها؛ لذلك كانت سببًا في هدم الخلافة العثمانية، وإسقاط الحكومة الإنكليزية 1915م.

    ج- محاربة الأخلاق: الحركة الماسونية ليس لها ضوابط أخلاقية، فهي تتوسل بالجنس، والنساء، والخمر، والحفلات الماجنة؛ للإيقاع بالأشخاص، واجتذابهم إلى صفوفها؛ ولقد قال يوكا الماسوني في نشرة سرية: ليس من بأسٍ بأن نضحِّي بالفتيات في سبيل الوطن القومي، وماذا عسى أن نفعل مع قوم يؤثرون البنات، ويتهافتون عليهن، وينقادون لهن؟(

    [3])

    د- العمل على محاربة الأديان، وتقسيم البشرية إلى أمم متصارعة، متنابذة؛ كي تسهل السيطرة عليها، وعلى ثرواتها.

    ه- السيطرة على المنظمات الدولية؛ كهيئة الأمم المتحدة، واليونسكو، وصندوق النقد الدولي، والتجارة العالمية، إلخ..

    و- قيام دولة إسرائيل الكبرى، وتتويج ملك لليهود في القدس، يكون من نسل داوود عليه السلام، ثم التحكم في العالم، وتسخيره لشعب الله المختار، فهذا هو الهدف الرئيس والنهائي(

    [4]).

    2- جمعية كروز = الوردة الصليب: هي منظمة سرية باطنية تأسست عام 1664م، من قبل راهب ألماني يُدعى (كريستيان روسينكريوز)، اتَّخذت جمعية كروز الصليب المسيحي رمزًا لها، من أهدافها: الدعوة إلى التآخي بين الناس، وتغيير العادات الشخصية والأفكار والمشاعر؛ ليصل الإنسان إلى معرفة ذاته، والتركيز على طبيعة الروح الحقيقية، كما يسَّرت دراسة المنهج الفلسفي، وتحرير الناس من هذا العالم باتِّباع قواعد ومبادئ من أهمها الأخوية؛ لأنَّ الإنسانية تتشارك في نفس الهدف النهائي، ويُعتقد أنَّ هذه الجمعية أثَّرت في الجمعيات السِّرية التي نشأت فيما بعد(

    [5]).

    3- جمعية المتنورين أو المستنيرين: هي منظمة سرية باطنية، متأثرة بالماسونية، وهي من أخطر الجمعيات السِّرية التي تدير العالم، نشأت في ولاية بافاريا الألمانية عام 1776م، على يد آدم ايزهاوبت، تضم هذه الجمعية النخبة داخل النخبة، أي أنها تغلغلت في النخبة الماسونية وأخذت السلطة منها، ومعظم قادة الثورة الأمريكية أعضاء فيها مثل: جورج واشنطن، جورج بوش الأب، باراك أوباما...، رموزها: العين المهيمنة، والهرم الموجود على الدولار الأمريكي. هدفها هو: إجراء تغيير جذري للعالم، عن طريق تدمير السلطة في الأنظمة الملكية، التي كانت تعيق تقدم المجتمع والأفكار.

    4- جمعية الجمجمة والعظام: هي الجمعية الأكثر سريَّة في العالم، تُعرف بجمعية إخوة الموت، أو باسم المحفل (322)، تأسست في عام 1832م، في حرم جامعة يال الأميركية، وقد أسَّسها (وليام راسل هانتنجتون)، وهو من أسرة ثرية، امتلكت إمبراطورية تجارة الأفيون في أمريكا، أما بقية أعضائها فهم من عائلات ثرية جدًا، يطلق على أفراد هذه المنظمة السرية لقب الرجال العظميين، وكان من بينهم وما يزالون نجومًا في عالم السياسة، والاقتصاد، والإعلام حتى يومنا هذا. رموزها: هي عبارة عن جُمجمة، ومن تحتها عظمتان بشريتان متقاطعتان، من أهم أهدافها: خلق نظام عالمي جديد يقلص الحريات الفردية، ويحصر القوة المطلقة في يد مجموعة صغيرة من العائلات الثَّرية، وقد استطاعت إيصال ثلاثة من أفرادها إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهم: وليام هووارد تافت، وبوش الأب وبوش الأبن، وواحد إلى رئاسة وكالة المخابرات المركزية، وضمت إليها ممثلين مشهورين، ورجال أعمال يتحكمون بالاقتصاد العالمي.

    5- النادي البوهيمي: هي جمعية أخوية سرِّية تأسست عام 1872م، يتكون أعضاؤها من الرجال فقط، تضمُّ أغنى رجال العالم، وأكثرهم تأثيرًا ونفوذًا، أمثال: ريتشارد نيكسون، وأيزنهاور، وروزفلت، وبوش الأب وبوش الأبن، وهوفر، وفورد، وريغان. رموزه: البومة، أهدافه: أشهر ما تم التوافق عليه داخل البستان هو مشروع مانهاتن النووي عام 1942م، والذي قاد في النهاية إلى تصنيع القنبلة النووية، بالإضافة إلى إبرام الصفقات والاتفاقات والسياسات في العالم(

    [6]).

    تعد هذه الجمعيات الخمسة هي إحدى أكبر وأخطر الجمعيات السرية التي أنشأها اليهود، ولكن هل اكتفى اليهود بذلك؟ لا ... بل قامت بنشر المذاهب الفكرية التي قامت ضد الكنيسة ورجال الكنيسة؛ فما من طريقة أسهل من ركوب موجات التغيير التي تنادي بالقضاء على الاستبداد والظلم والفقر، والترويج لها، واستغلالها، ونشرها، وتطويعها، وتطويع منتسبيها من الشعوب، من خلال عقلية يهودية صهيونية؛ لتحقيق الغاية الكبرى، وهي: الدولة العالمية اليهودية.

    وسنأتي في هذا الكتاب على دور اليهود في المذاهب الفكرية المعاصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين وكيفية اختراق وتغلغل واستغلال اليهود لهذه المذاهب الفكرية، ومحاولة السيطرة عليها وتجنيدها لخدمتها.

    الباب الأول

    دور اليهود في المذاهب الفكرية المعاصرة

    في القرن التاسع عشر الميلادي

    الفصل الأول: الفلسفة الوضعية 

    الفصل الثاني: المذهب الحسي 

    الفصل الثالث: الفلسفة الواقعية

    الفصل الرابع: الماركسية

    الفصل الخامس: العلمانية

    الفصل السادس: الإنسانية

    الفصل السابع: المذهب الفوضوي (الفوضوية)

    الفصل الثامن: المذهب البرجماتي (البرجماتية)

    الفصل التاسع: الحداثة الأدبية

    الفصل الأول

    الفلسفة الوضعية

    positivism philosophy

    (1825- 1895م)

    ––––––––

    أن الوضعية هي نظام كامل للاستبداد الروحي والزمني، لكن على الرغم من ذلك فقد استطاعت الفلسفة الكونتية التأثير على عدد كبير من المفكرين والأدباء، وأن تصبح الفلسفة الرسمية في ظل حكم الإمبراطورية الثانية في فرنسا

    جون ستيورات ميل

    الفلسفة الوضعية

    أولًا: الفلسفة الوضعية: مفهومها، تعريفها، ومبادئها

    1- مفهوم الوضعية:

    أ- الوضعي من الأشياء ما وضعه اللّه تعالى، أو ما وضعه الخلق؛ قيل: إن حقائق العقل قسمان: قسم يسمَّى بالحقائق الأبدية، وهي مطلقة وضرورية، أي: أن معارضتها تُفضي إلى التناقض، وقسم يمكننا أن نسميه بالحقائق الوضعية؛ لأنها قوانين أراد اللّه أن يهبها للطبيعة، ونحن ندرك هذه القوانين بالتجربة أي: بطريقة بَعدية، أو بالعقل أي: بطريقة قبلية([7]).

    ب- الوضعي مقابل الطبيعي: الوضعي ما كان مِنْ وَضْع البشر، عكسه شرعيٌّ أو طبيعيٌّ، والعصر الوَضْعيُّ هو: العصر التَّجريبيُّ أو الاختباريُّ([8])، والقانون الوضعي هو مقابل للقانون الطبيعي، والدين الوضعي هو مقابل الدين الطبيعي([9]).

    ج- الوضعي مرادف للحقيقي والتجريبي والثابت الصادق، ويقابله التأملي والخيالي والوهمي والكاذب؛ يقول أوجست كونت: إن لفظ الوضعي يدل على الحقيقي المقابل للوهمي، وقيل: إن العلم الوضعي لا يبحث عن العلل الأولى للأشياء، ولا عن غايتها النهائية، بل يبحث عن الظواهر الواقعية، ويعمل على ربطها بعضها ببعض بعلاقات مباشرة([10]).

    واستنادًا المعنى المُراد من الوضعي وفق الدراسة هو: الشيء الحقيقي الثابت، الموجود في الواقع، والذي يمكن أن نثبته بالحسِّ والتجربةِ.

    2- تعريف الفلسفة الوضعية ومبادئها

    أ- تعريف الفلسفة الوضعية: هي الرأي القائل بأن المعرفة اليقينية هي معرفة الظواهر التي تقوم على الوقائع التجريبية، ولاسيَّما تلك التي يتيحها العلم، وينطوي المذهب عادة على إنكار وجود معرفة نهائية أي: معرفة تتجاوز التجربة، ولاسيما العلل النهائية([11]).

    وقيل: الفلسفة الوضعية هي رفض مطلق للميتافيزيقيا([12]) بحذافيرها، واعتبار الفلسفة علمًا كليًا، والتجربة وحدها أصل كل معرفة، وموضوع كل علم([13]).

    وبناءً على ما سبق فإنَّ الفلسفة الوضعية هي: فلسفة ملحدة، لا تؤمن بالميتافيزيقيا ولا بالغيبيات، تقوم على الوقائع التجريبية التي ينتجها العلم التجريبي القائم على التجربة الحسية.

    ب- مبادئ المذهب الوضعي عند أوجست كونت: صاغ الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت مبادئ وأفكار المذهب الوضعي، بحيث إن:

    * الفلسفة في رأي كونت هي أساس الأخلاق، والسياسة، والدين؛ فليست الفلسفة غاية في ذاتها، وإنما وسيلة للوصول إلى غاية لا يمكن إدراكها بوسيلة أخرى.

    * يرى كونت أن كل محاولة لإعادة تنظيم الدين والسياسة والأخلاق لا يمكن أن تكون عبثًا؛ لذلك سيبذل جهده ليعيد تنظيم العقائد الموحى بها، والتي أصابها الركود بعقيدة تقوم على البرهان([14]).

    * نشأ (كونت) في مجتمع العقائد فيه تنطوي على تفسير ديني وميتافيزيقيللكون والإنسان، وكان القساوسة والفلاسفة هم الذين يُدرسون هذا التفسير للناس، لكن باعتقاده أن هذا التفسير لم يعد يُقنع العقل الإنساني؛ لذلك حدَّد (كونت) المشكلة بالعبارة الآتية: استخدام طريقة عقلية لتقرير مجموعة من الحقائق التي تمس الإنسان والمجتمع والعالم التي يُسلم بها الناس كافة([15])؛ لذلك نراه رفض كل تفسير ديني ميتافيزيقي.

    * يعتقد (كونت) أنَّ الفكر الإنساني لا يدرك سوى الظواهر الواقعية المحسوسة، وما بينها من علاقات أو قوانين؛ لذلك هو لا يبحث عن العلة الأولى، أو غايات الأشياء وجواهرها، بل عن العلاقات التي توجد بينها؛ لذا فإن معرفة هذه القوانين والعلاقات هي التي تكفل لنا السيطرة على الطبيعة، وتوجيهها في صالح الإنسانية"([16]).

    وعلى المستوى النظري نرى أن الفلسفة الوضعية ظهرت وتبلورت على يد أوجست كونت، فهو واضع أسسها ومبادئها وأفكارها وديانتها، وأنَّ العالم والوجود قائم على قوانين، وغاية العلم هي معرفة هذه القوانين، وإيجاد العلاقات فيما بينها للسيطرة على الطبيعة، وتسخيرها لخدمة الإنسانية، بعيدًا عن الفلسفة اللاهوتية([17]) والميتافيزيقية.

    ثانيًا: نبذة تاريخية عن نشأة الفلسفة الوضعية وأهم مؤسسيها

    1- نشأة الفلسفة الوضعية

    أ- جذور الفلسفة الوضعية: إنَّ للفلسفة الوضعية جذورًا ضاربةً في أغوار التراث الفكري؛ فقد شاع في العالم اليوناني القديم اتجاهان هما: الذريون([18]) والسفسطائيون([19])، وإليهما تمتد جذور الوضعية؛ فديمقريطس([20]) يقول في مذهبه الذي وضعه: إنَّ الكون يتكون من عدد لا يتناهى من الذرات، وهي متشابهة، متجانسة، أبدية، متحركة بذاتها، وهي الجزء الذي لا يتجزأ، حلًا وسطًا بين الثبات والتغير، فجميع التغيرات التي تحدث في الطبيعة يمكن إرجاعها إلى عمليات الالتحام والانفصال الدائم للذرات، وانتهى إلى القول: إن في الكون حقائق أولية ثلاثًا، وهي: الذَّرات، والفراغ، والحركة؛ أما السفسطائيون فقد رفضوا البحث الميتافيزيقي، وأقاموا كل دراساتهم على التجربة، فجمعوا أكبر قدر من المعرفة عن كل شؤون الحياة من خلال المنهج الواقعي الاستقرائي([21])، بل امتدت تجاربهم ومنهجهم ليستخدم في حل المشاكل اليومية والاجتماعية([22]).

    بدأ كونت بوضع الأسس النظرية للإصلاح الاجتماعي بالاعتماد على علم الاجتماع، حيث كان الإصلاح غاية فلسفته، وإنَّ صلاح المجتمع لا يمكن تحقيقه إلا إذا صلحت الأخلاق، وهذا ما حصل إثر الثورة الفرنسية التي أطاحت بالنظام الاجتماعي القديم، ووجَّهت ضربة قاصمة إلى الديانة المسيحية التي أصبحت عاجزة عن متابعة خُطا العلم؛ لذلك كان لا بد من البحث عن أساس آخر، وليس هذا الأساس سوى العلم الوضعي([23]).

    يرى (كونت) أن التوفيق بين ضربين من التفكير (الوضعي واللاهوتي) أثبت فشله، فإن عقل الإنسان يتَّجه لدراسة ومعرفة الظواهر الحقيقية معرفة مباشرة ومطلقة، والعقل الإنساني لم يزود الإنسان إلا بمعرفة شديدة التواضع ونسبية جدًا؛ لذلك يلجأ الإنسان إلى الخيال، وعندما نصل إلى مرحلة أن جميع الظواهر تخضع إلى قوانين، سيختفي تدريجيًا التفكير الميتافيزيقي؛ لأنَّ القوانين ستكون مألوفة مهما تكن طبيعة الظواهر([24]).

    أما جوزيف دومستر([25])، فيرى أن لا سبيل إلى نجاة مجتمعنا إلا بالعودة إلى طريقة التفكير اللاهوتي، وهو يهاجم التفكير الفلسفي الجديد في منابعه ومصادره (أي يهاجم المذهب الوضعي)، ويرى أن استرداد البابا لسلطته الروحية سيضع حدًا للفوضى العقلية والخُلقية، وأنَّ المذهب الكاثوليكي سيرد إلى العقول وحدتها، وهي أسمى حاجة نصبو إليها، وبالتالي فإنَّ دومستر يطالب بالعودة إلى القرن الرابع عشر الميلادي؛ ويرى (كونت) أنَّ هذا الحلَّ يستحيل تطبيقه، فلا يمكن العودة للوراء، فكيف نمحو اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة، وألَّا نكترث للاكتشافات العلمية التي أفْضَت إلى انهيار مجتمع العصور الوسطى؛ فهذا المنهج وهذه الطريقة غير صائبة وغير صحيحة؛ إذن الحل الثالث والأخير هو طريقة التفكير الوضعية، وليس هناك ما يحول دون تحقيق هذا التفكير، وتظهر الصعوبة فقط في تعميم التفكير الوضعي، وهذا هو الكشف الكبير الذي قام به كونت؛ لذلك أنشأ علم الطبيعة الاجتماعية([26]).

    يؤمن (كونت) أن الفلسفة الوضعية قادرة على احتلال مكان الفلسفة اللاهوتية والميتافيزيقية، وإن علم الاجتماع قد جاء لتحقيق الوحدة الأساسية في المذهب الكامل للفلسفة الحديثة.

    يقول (كونت) في صياغة القانون في رسالته المُسماة (خطة البحوث العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع سنة 1823م): بناءً على طبيعة العقل الإنساني نفسها، لا بدَّ لكل فرع من فروع معلوماتنا من المرور في تطورها بثلاث حالات نظرية مختلفة متتابعة: الحالة اللاهوتية أو الخرافية، والحالة الميتافيزيقية أو المجردة، وأخيرًا الحالة العلمية أو الوضعية. ومن هنا تنشأ ثلاثة أنواع من الفلسفة او المذاهب الفكرية العامة، وتتنافى هذه المذاهب مع بعضها البعض؛ فالفلسفة اللاهوتية نقطة ضرورية للذكاء الإنساني، وأما الفلسفة الوضعية فهي المرحلة النهائية الثابتة، وأما الميتافيزيقية فقد قُدِّر لها أن تستخدم فقط كمرحلة انتقال([27]).

    ومما سبق نجد أن الفلسفة الوضعية نشأت وتبلورت على يد أوجست كونت، وإن نقطة انطلاقه كانت نتيجة التناقضات الداخلية لمجتمعه الأوروبي بين الفكر اللاهوتي وبين الفكر العلمي؛ فـ(أوجست كونت) أوجد منظومة من الأفكار العلمية التي ترأس النظام الاجتماعي بدلًا عن المنظومة الفكرية اللاهوتية التي ترأست النظام الاجتماعي في العصور الوسطى؛ فبدأ كتاباته بوضع الأسس النظرية للإصلاح الاجتماعي بالاعتماد على علم الاجتماع، ثم وضع أُسس وفلسفة التفكير العلمي؛ فكتب في الفلك والفيزياء والكيمياء، وحاول تعميم طريقة التفكير العلمي، ودعا إلى التحرر نهائيًا من التفكير اللاهوتي الميتافيزيقي، ورفض كل دعوات جوزيف دومستر التي تدعو إلى العودة لسلطة الكنيسة والبابا الروحية، والحد من جماح العقل، فالإنسان قادر على إيجاد حلول لكلِّ ما يعترضه من أزمات ومشاكل، والزمن يسير إلى الأمام ولا يعود للخلف، وانتهى بتقرير أُسس السياسة والدين؛ فوضع علم السياسة الوضعية والديانة الإنسانية.

    ونرى أن كلًا من دومستر وكونت قد بالغا في أفكارهما ودعواتهما، فـ (دومستر) أراد أن تعود للكنيسة طغيانها، ولرجال الدين سطوتهم، الذين حاربوا العقل والعلم والعلماء، فقتلوهم وحرقوهم؛ بينما (كونت) طالب بالتحرر نهائيًا من التفكير اللاهوتي الميتافيزيقي، والاعتماد على الحواس، واعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة، ولأن ذلك الأمر ينافي الفطرة البشرية، وأنه يجب أن تكون للإنسان قيم أخلاقية ومُثل يعود إليها؛ تكون معيارًا لتصرفاته وتصرفات المجتمع؛ فسنرى خلال المباحث القادمة كيف أنه حاول أن يوجد دينًا جديدًا يقرِّب به بين فلسفته والكنيسة.

    2- أهم مؤسسي الفلسفة الوضعية

    أ- أوجست كونت (1798- 1857): 

    * حياته: وُلِدَ بمدينة مونبيليه بجنوب فرنسا، في الخامسة عشرة من عمره ترك الآداب، والتحق بشعبة الرياضة البحتة([28])؛ وفي سنة 1817م قابل سان سيمون([29]) أحد دعاة المذهب الاشتراكي في القرن التاسع عشر، والذي اشتهر بآرائه ودفاعه عن العمال([30]).

    * فلسفته: اكتملت الأسس الفلسفية للمذهب الوضعي لدى أوجست كونت في عام 1826م، فبدأ بإعطاء محاضرات في الفلسفة الوضعية في منزله، وكان جميع الحاضرين من الطبقة المثقفة، ونجحت محاضرته الأولى والثانية نجاحًا كبيرًا، وعندما جاء المعجبون به لاستماع محاضرته الثالثة فوجئوا بمغادرته لباريس، ويرجع ذلك إلى ما انتابه من خبل في عقله إثر المجهود الشاق الذي بذله في إعداد محاضراته. وفي عام 1829م عاد إلى نشاطه وعلمه؛ فعُين معيدًا لمادة التحليل والميكانيكا، وقد حاول كثيرًا الحصول على كرسي الأستاذية بمدرسة الهندسة؛ إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، فقضى حياته في إلقاء دروسه في الفلسفة الوضعية في مسكنه بشارع سان جاك على مقربة من السوربون؛ وفي سنة 1841م بدأ محاضراته في الجزء التاريخي للفلسفة الاجتماعية([31]).

    * زواجه: بفضل مؤلفاته واجتهاداته استطاع أن يكفل لزوجته مستوى من المعيشة لا بأس به، إلا أن ذلك لم يرضِ زوجته فغادرت منزله بلا عودة عام 1842م؛ ثم توالت المحن على كونت؛ ففقد وظيفته كممتحن في مدرسة الهندسة، كما استغنى المعهد العلمي عن خدماته، ولم ينقذه من الموت جوعًا إلا تبرع بعض أغنياء الإنجليز([32]).

    في أكتوبر 1844م التقي كونت بإحدى تلميذاته (كلوتيد دي فو)([33])؛ فاعترف لها بما يكنّه لها من عواطف، ولكنها لم تستطع أن تبادله العواطف؛ وتحولت العلاقة بينهما إلى نوع من الامتزاج الفكري، إذ كان (كونت) يعبد هذه المرأة ويقدسها، وتأججت هذه العاطفة بعد موتها، فكان للمرأة مكانٌ في كتاباته، وظهر ذلك جليًا في الديانة الوضعية، وعاش كونت بعد وفاة كلوتيد حياة زهد وتقشف، ونذر حياته للآخرين، وفي أيامه الأخيرة وجَّه هَمَّه إلى التوفيق بين أنصار الكاثوليكية وأنصار المذهب الوضعي، لكن قرحة المعدة التي كان يشكو منها منذ زمن طويل تفاقمت، فلم يستطع تحقيق آماله، وفي ليلة 5 ديسمبر لعام1857م انتابته أزمة حادة أوْدَت بحياته([34]).

    * مؤلفاته: من أهم مؤلفاته: دروس في الفلسفة الوضعية، تتكون من ستة أجزاء، كتبها ما بين عامي (1830م – 1842م)؛ النظرة العامة للوضعية، نُشر عام 1848م؛ تعاليم الدين الوضعي، نشر عام 1852م؛ نظام الحكم الوضعي، وهو أربع مجلدات؛ الوضعية سؤال وجواب، نُشر عام 1852م؛ المذهب الذاتي، نشر عام 1856م؛ وغيرهم كثير([35]).

    ب- الكونت كلود هنري سان سيمون (1760-1825م):

    * حياته: فيلسوف واقتصادي فرنسي، وُلِدَ في باريس وتوفي فيها، وهو مصلح اجتماعي، وأحد مُؤسِّسي الاشتراكية المسيحية، نادى بالإخوَّة بين البشر، وبضرورة التنظيم العلمي للصناعة والمجتمع، عاش سان سيمون في نظام إقطاعي سليلًا لأسرة أرستقراطية، ويحمل لقبًا اجتماعيًا هو الكونت الذي تخلَّى عنه انسجامًا مع قناعاته، وكان ضابطًا برتبة ملازم أول، لمَّا كانت فرنسا تخوض حربًا ضد الإنجليز في شمال القارة الأمريكية، وقد نضج فكره خلال الثورة الفرنسية، وعمل في التجارة فترة من الزمن، وكوَّن ثروة لا بأس بها بدَّدها في فترة وجيزة بسخاء؛ وفي عهد حكومة المديرين([36]) عاد سان سيمون إلى مقاعد الدراسة، ودرس الطب والبوليتكنيك([37]).

    * فلسفته: كان سان سيمون يطمح إلى إقامة سلطة روحية فوق الحكومات، تتمثل في العلم الذي يجب أن يتحول إلى دين يحل محل الكاثوليكية؛ فالديانة عند سيمون هي أداة مدنية لحكم المُستنير لغيرِ المُستنير، والدين هو ظاهرة اجتماعية إنسانية، وليس حالة ثابتة بقدر ما هو حالة تطورية، فهو يمرُّ بمرحلة طفولة، ثم مرحلة قوة ونشاط، ثم مرحلة انهيار؛ فمرحلة الانهيار تكون خطرًا، ومرحلة الطفولة ليست كافية، كما أنَّ السياسة هي علم الإنتاج، والحرية هي نبذ التميز العرقي والثقافي والسياسي([38]). إنَّ الوضعية الجديدة التي مارسها (سان سيمون) تهدف إلى استبعاد الدين من الحياة الاجتماعية، والقضاء على التميزات الطبقية، والاجتماعية، والمسيحية في شكلها التقليدي عن طريق الأفكار الوضعية التي تقوم على أساس العلم والإنتاج؛ فانتشار الأفكار الوضعية سيساعد ويُشجِّع على انتشار الصناعة التي هي الشرط الأساس والوحيد لقيام مجتمع وضعي، ومعرفة وضعية([39]).

    * مؤلفاته: بدأ طموحه في الكتابة؛ فأصدر أول كتبه عام 1803م بعنوان: رسائل من ساكن في جنيف إلى معاصريه، انتقد به الثورة، وفي عام 1814م نشر كتابه إعادة تنظيم المجتمع الأوربي دعا فيه إلى قيام نظام برلماني في كل دولة، على شاكلة ما كان قائمًا في بريطانيا العظمى. وفي عام 1823م عانى من إحباطٍ شديدٍ؛ فحاول الانتحار بعيار ناري؛ ما أدى إلى فقدان إحدى عينيه، وبين عامي 1823م – 1824م نشر في أربعة مجلدات كتابه عقيدة الصناعيين بمشاركة (أوجست كونت)، نادى فيه إلى تحسين الطبقة العاملة الأكثر عددًا والأشد فقرًا، ولكنه لم يستطع أن يطور أفكاره الاشتراكية؛ لأنه توفي بعد عام واحد من نشر كتابه الأخير([40]).

    كما أنَّه في سنيِّه الأخيرة أراد أن يؤسس مسيحية جديدة قائمة على محبة الإنسانية، واعتبار الحياة الأرضية غاية لذاتها، لا وسيلة لحياة مقبلة غير منظورة، فكان له عدد صغير من الأتباع في حياته وبعد مماته([41]).

    ––––––––

    ج- برتراند راسل (1872- 1970م):

    * حياته: وُلد برتراند راسل في تريليش مونموثشاير ببريطانيا، لعائلةٍ أرستقراطية، وهو فيلسوف وعالم منطق ورياضيات مشهور، حاز على جائزة نوبل الفخرية في الآداب عام 1950م، كان ناشطًا معروفًا ضد الحرب، وحرض على العصيان المدني في حملة تطالب بنزع السلاح النووي.

    * فلسفته: رفض (برتراند راسل) فكرة الإله، وآمن أن مصيره ومصير كل شيء إلى الفناء([42])؛ وبعد اشتعال الحرب العالمية الأولى، أدهش العالم بشجاعته الفائقة ومحبته وعطفه على الإنسانية، وبدت له مطامح الإمبراطورية البريطانية لا تستحق حياة الشباب الذين شهدهم يسيرون في زهوٍ إلى ميدان القتال ليقتلوا ويموتوا، وراح يبحث في أسباب المجازر البشرية، واعتقد أنَّ الداء يكمن في الملكية الخاصة، وأنَّ الدواء هو الشيوعية([43]).

    لقد أفرط (برتراند راسل) في التفاؤل، وصبَّ في فلسفته الاجتماعية تصوفًا وغموضًا وعاطفة تجنبها في آرائه الدينية والميتافيزيقية، انهارت كل أحلامه عندما سافر إلى روسيا المجتمع الاشتراكي الذي حلم به يومًا، أثار سخَطَه كَبْتُ حرية الكلام والصحافة، وجهلُ الشعب الروسي وأميته. وعندما ذهب إلى الصين، وعمل فيها محاضرًا في جامعاتها لمدة عام؛ أدرك أن أوروبا ليست سوى تجربة كاذبة أمام قارة أعظم منها وأقدم، وربما أعمق ثقافة، وذابت فلسفته وانحلَّت، فقال: لقد أدركت أنه ليس للجنس الأبيض تلك الأهمية التي كنت أعتقد، فلو أبادت أوروبا وأمريكا نفسها في الحرب فهذا لا يعني فناء الجنس البشري... فالصين أعظم أمة رأيتها إطلاقًا من عدة وجوه...([44]).

    * مؤلفاته ووفاته: تزوج برتراند راسل أربع مرات، ثلاثة من زيجاته انتهت بالطلاق، أنجب ثلاثة أطفال، توفي في ديسمبر علم 1970م إثر إصابته بالأنفلونزا في منزله في ويلز، عن عمر يناهز 100 عامٍ، وحُرق جسده بعد ثلاثة أيام، ونُثر رماده فوق جبال ويلز في وقت لاحق من العام نفسه، بعد أن ترك 100 مؤلف له([45]).

    ومما لا شك فيه لقد رفض رواد الفلسفة الوضعية الحكوماتِ الدينيةَ التي أذاقت شعوبها سوء العذاب، فكانت ردة فعلهم عنيفة بأن رفضوا الدين كله، دون أن يميزوا صحيحه من سقيمه؛ فالدين المسيحي رغم وجود الخرافات والأساطير فيه، إلا أنه وحي من السماء تمَّ تحريفه، وكان أولى بهم أن ينقحوا هذا الدين مما علق به من شوائب، بدلًا من إنكاره إنكارًا كليًا، فالإنكار لم يجلب سوى مزيدًا من الضياع والتيه، والأمراض النفسية؛ لذلك كان إلحاد الغرب إلحادًا مدمرًا، قائم على الأنانية والاستبداد والظلم والتدمير والاحتلال، ولم يجلب للبشرية سوى مزيد من الشقاء، وقيل قديمًا: من لم يكنْ له إلهٌ، فليجعل له إلهًا؛ لذلك شتَّان بين إلحاد أوروبا وإلحاد الصين، وهذا الذي لفت نظر برتراند راسل، فقد رأى للصينيين حضارة أروع من حضارة أوروبا، ورأى إنسانًا يستحق الاحترام والتقدير، له قيم ومبادئ وتاريخ، يختلف عن الإنسان الغربي الأناني، الذي لم يجلب للعالم سوى مزيدًا من الدمار. ولأن معرفة الخالق أمر فطري؛ فنرى أوجست كونت يتراجع عن نظريته وقانون الحالات الثلاث في نهاية حياته، ويحاول أن يوفِّق بين فلسفته الوضعية والدين الكاثوليكي؛ أمَّا سان ريمون فقد دفعته فلسفته الوضعية إلى اليأس والإحباط والانتحار، وعندما نجى من الانتحار بأعجوبة تخلَّى عن فلسفته الوضعية ليتبنَّى دين الإنسانية، ووجد سعادته وأمانه واستقراره في حبه للحياة، وخدمة الناس والإحسان إليهم، وتلك هي الفطرة؛ أمَّا برتراند راسل فاعتنق الوضعية أولًا، ثم الشيوعية وتبنَّاها، ودافع عنها، إلَّا أنه عندما رآها واقعًا ممارسًا في الاتحاد السوفيتي تخلَّى عنها، واعتبر نفسه مخدوعًا بالحضارة الأوربية، وبتفوق العرق الأبيض، فتخلَّى هو الآخر عن فلسفته كما فعل سابقوه.

    لقد فشلت الفلسفة الوضعية في مهدها، وأثبتت فشلها بدليل تخلي أصحابها عنها، وحتى الذين تبنوها من العرب أمثال: زكي نجيب محمود([46]) الذي يُعد رائد الوضعية في الوطن العربي؛ فقد تخلى عنها، وعاد إلى التراث العربي قارئًا وباحثًا ومنقبًا عن الهوية العربية، داعيًا إلى الاعتزاز بديننا وتراثنا وأسلافنا، حاثًّا على النبوغ في علوم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والطب، والفلك؛ ليخرج المسلمون من مأساتهم الحالية([47])؛ لذلك نستطيع القول إنَّ كلَّ من تنكَّر للفطرة، وحاول محوها سقط، واندحر، واضمحل.

    ثالثًا: الأفكار والعقائد التي قامت عليها الفلسفة الوضعية

    1- موقف الفلسفة الوضعية من الميتافيزيقيا:  شنَّت الفلسفة الوضعية متمثلة بمؤسسها أوجست كونت في نهاية القرن التاسع عشر حملة عنيفة على الميتافيزيقيا، حيث شرح فيه قانون الحالات الثلاث، وقد أنكر (أوجست كونت) الإله بناءً على هذا القانون، واعتبر أن التفكير الوضعي هو الملاذ الأول والأخير لتقدم الفكر الإنساني([48]).

    لقد اعتبرت الفلسفة الوضعية أن الميتافيزيقيا من مخلفات الماضي التي يجب أنْ لا يُلتفت إليها، وأن المجتمعات ستبقى في حالةٍ من التخلف والانحطاط ما دامت تؤمن باللاهوت والميتافيزيقيا، ولم تعترف بغير الواقع المحسوس الذي يعالجه المنهج العلمي؛ لذلك ترى الفلسفة الوضعية أن التفكير البشري قد مرَّ بثلاثة أطوار، وهي: الطور اللاهوتي، الطور الميتافيزيقي، الطور الوضعي([49]).

    أ- الطور اللاهوتي أو الديني أو الخرافي([50]): وهو بداية التفكير الإنساني، فالإنسان في أول الأمر ينظر إلى الأمر من وجهة نظر لاهوتية، ويفسِّر جميع المسائل تفسيرًا إلهيًا، ويعتقد بوجود إله ما وراء جميع المسائل التي لا يستطيع فهمها([51]).

    ب- الطور الميتافيزيقي أو المجرد: لا تستخدم الفلسفة الوضعية كلمة ميتافيزيقيا في معناها المألوف عادة، فليس هناك علم الوجود، أو علم الجوهر، أو علم المبادئ الأولى هو المقصود بطريقة مباشرة، بل المقصود نوع خاص من تفسير الظواهر التي توقفنا عليها التجارب. مثال: الروح والكهرباء لا يمكن رؤيتها، أو معرفة كهنتها، ولكننا نرى آثارها، فأي تفسير للروح أو الكهرباء لم تثبت صحته، ولم يُبرهن عليه بالقوانين والمعادلات الرياضية، فبالتالي أي تفسير لهما فهو تفسير ميتافيزيقي مجرد([52])؛ وتمثل الميتافيزيقيا شباب الذات الإنسانية، بعدما خرجت من طفولتها، ولم تصل بعد إلى رجولتها([53])، وهكذا فإنه من غير الممكن أن يتم الانتقال من الفلسفة اللاهوتية إلى الفلسفة الوضعية دفعة واحدة على الإطلاق([54])؛ إذ إنَّ الفرق بين الطور اللاهوتي والطور الميتافيزيقي أنَّ المجرد يحلُّ محلَّ المشخص، ويحل الاستدلال محل الخيال، أما الملاحظة فثانوية فيها جميعًا، والحالة الميتافيزيقية قفزة انتقال، وأداة انحلال، وهي نقد عظيم ولكنه ضروري"([55]).

    ج- الطور الوضعي أو العلمي: هنا تصل الإنسانية إلى مرحلة النضج، كما يصل الإنسان إلى مرحلة الرجولة والكمال، ففي هذه المرحلة يتراجع الذهن الإنساني عن البحث عن الأصل ومصير العالم، ومعرفة الأسباب الخاصة للظواهر، ويرفض الحصول على مفاهيم مطلقة، بل يُثابر على الاكتشاف بواسطة المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة والبرهان، ويبحث عن قوانينها الفاعلة، أي عن علاقاتها الثابتة للتعاقب والتشابه([56]).

    وأخيرًا يزعم كونت في فلسفته الوضعية أنَّ قانون الحالات الثلاث هو قانون ثبتت صحته، وهو حتمي وضروري([57])؛ فاللاهوتي خرافي، خيالي، أسطوري، مثالي؛ والإنسان لاهوتيٌّ في طفولته، وميتافيزيقيٌّ في صباه، وعالم طبيعة في مرحلة نضجه([58]).

    وبناءً على قانون الحالات الثلاث، ترى الفلسفة الوضعية أن البشرية نشأت نشأة بدائية، ثم تدرجت نحو العلم والمعرفة والتقدم، من خلال مراحل ثلاث: لاهوتية، ثم ميتافيزيقية، ثم وضعية؛ لذلك رفضت كلَّ ما هو لاهوتي وميتافيزيقي، واستبعدت وحاربت كلَّ تفكير ديني ينسب الأشياء والتأثيرات إلى إرادة الله _عزَّ وجلَّ_، فلا إله، ولا دين، ولا مطلق، بل هناك قوانين فاعلة يجب البحث عنها من خلال التجربة والبرهان، فإذا عرفنا العلاقة بين هذه القوانين؛ وصلنا إلى الحقيقة والمعرفة المطلقة؛ وتعتبر الفلسفة الوضعية أنَّ كل مرحلة من مراحل هذا القانون منتهية بحلول المرحلة التي تليها.

    وبناءً لما سبق نجد أن أوجست كونت قال بذلك في بداية حياته، ولكنه ريثما تراجع عن ذلك كما سنرى لاحقًا؛ فالإنسان بفطرته مفطورٌ على معرفة الخالق، وما صدر عنه من تعليلات ما هو إلا نتيجة الظروف السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد من سيطرة الكنيسة ورجالاتها، والعناد الذي كان يُبديه القساوسة ضدَّ أي معرفة تظهر على يد أي شخص لم يكن من الباباوات، ومحاربتهم للعلم والعلماء.

    2- موقف الفلسفة الوضعية من الإله والوحي

    أ- موقف الفلسفة الوضعية من الألوهية: يقوم المذهب الوضعي على رفض الميتافيزيقيا، وإنكار الحقائق المطلقة؛ فكلُّ شيء لدى الفلسفة الوضعية نسبي، يقول أوجست كونت: إن المعاني المطلقة تبدو لي مستحيلة جدًا([59])، ويقول أيضًا: ليس هناك شيء مطلق في هذا العالم، بل كل شيء نسبي([60])؛ ومع ذلك يعتقد أن هناك حقيقة عليا تتوقف عليها كل الحقائق، وأطلق كونت على هذه الحقيقة اسم الإنسانية، وبالتالي فهو ترك وجهة النظر الميتافيزيقية إلى وجهة النظر الوضعية.

    ترى الفلسفة الوضعية أنَّ المجتمع يحتاج إلى مجموعة من العقائد التي يتفق عليها جميع أفراد المجتمع، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا ألغينا جميع الأديان القائمة، وصهرناها في دين جديد هو الدين الوضعي، ويدور هذا الدين الوضعي حول عبادة الإنسانية كفكرة؛ فالإنسانية فكرة تحلُّ محلَّ فكرة الله، ورسم كونت لهذه الديانة طقوسًا، ودعا إليها جميع أفراد الجنس البشري ليتجهوا إليها بالعبادة والتقديس؛ لأنها الكائن الأعظم، وهي الصفة التي يتميز بها الإنسان عن الحيوان؛ لقوى الذكاء والحاسة الخلقية التي تنطوي عليها الطبيعة الإنسانية، وبالتالي الإنسانية هي الصورة المثالية المجسمة لتلك القوى، وبهذا المعنى تصبح موضوعًا للحب والعبادة، ولمَّا كان الأفراد الذين ينضمون تحت لوائها لا يشتركون إلا في الجزء الخيِّر من كيانهم؛ فبالتالي يجب تخليد ذكرى العظماء الذين أسْدَوا الجميل للإنسانية، وهذه الفكرة هي إحدى الأفكار الدينية التي تحدَّدت بدقة في مبادئ الفلسفة الوضعية منذ وقتٍ مبكرٍ([61]).

    لقد استبدلت الوضعية الديانة المسيحية بالديانة الإنسانية، وأهم ما يميز هذا الدين أنه لا يقوم على الإيمان بالله، بل الإله المعبود في هذا الدين هو إله محسوس مشاهد، فهي لا تقبل بوجود إله خارق مبدع نظَّم هذا الكون وأولاه عنايته وحكمته، بل لا تدع أي مناسبة دون أن تسخر من الإعجاب الغيبي الذي يبديه هؤلاء الذين يؤمنون بالغيب، بل تعتقد أن الطبيعة قد فعلت ما في طاقاتها من أجل الأفضل؛ لذلك نرى أصحاب الوضعية يؤمنون بمبدأ الحتمية الذي يمثل أساس العلم، فيقول كونت: إنَّ جميع الظواهر سواء كانت عضوية أم غير عضوية، طبيعية أم خلقية، فردية أم اجتماعية، تخضع على نحو مستمر لقوانين لا تقبل التغيير مطلقًا([62]).

    ب- موقف الفلسفة الوضعية من الوحي: يرى أصحاب الفلسفة الوضعية أنَّ الدين من وضع الإنسان، وهو ظاهرة اجتماعية لا تختلف عن غيرها من الظواهر؛ فحسب قانون الحالات الثلاثة الذي تم اختراعه فإنَّ الدين أول ما ظهر في صورة خرافية وثنية، ثم بدأ بالارتقاء والتطور حتى توصل الإنسان إلى دين التوحيد.

    ممَّا سبق يتَّضح أن الوضعية ترفض الغيب مطلقًا، وترفض أي معرفة تأتي عن طريق الوحي، فهي لا تؤمن بوجود الإله فكيف ستؤمن بوجود الوحي؟

    يعتقد أصحاب الفلسفة الوضعية أنَّ العلم سيقضي على جميع التفسيرات الدينية والميتافيزيقية عن أصل الإنسان، وسبب وجوده، وعن الكون وما فيه، وأن العلم وحده سيقدِّم تفسيرات لكل هذه المسائل، يقول كونت: كلما تقدم الإنسان في الدراسة الوضعية؛ ترك بالتدريج التفسيرات اللاهوتية الميتافيزيقية، فلم نعد بحاجة إلى افتراض أسباب الظواهر، بل يكفي البحث في قوانين هذه الظواهر، وستختفي طريقة التفكير الميتافيزيقي([63])، ويقول أيضًا: ينبغي أن ننصرف عن محاولتنا استكشاف علل العالم الطبيعي فيما وراء هذا العالم، وذلك في سبيل المنهج العلمي الذي يربط وقائع الملاحظة بعضها ببعض([64]).

    وبما لا يدع مجالًا للشك فقد رفضت الفلسفة الوضعية الله، والوحي، والغيب؛ لأن الديانة المسيحية المُحرَّفة فشلت في أن تكون ديانة كونية صالحة لكل زمان ومكان، فهي ديانة خاصة بالمسيحيين، لم تستطع أن تقدم للبشرية السعادة التي كانت تحلم بها؛ لذلك قام الوضعيون وغيرهم بنقدها ونقضها؛ ليبحثوا عن دين جديد يحل محلها، صالح لجميع الأمم والبشر بلا استثناء، فكانت الفلسفة الوضعية التي ادَّعى أصحابها أنها تكفي لفهم قوانين الكون الفيزيائية، وتكفي لاختراع كل ما هو صالح للبشر على وجه الأرض، كما أنّها تكفي لتحسين معيشة الناس، فبالعلم نطور الآلات، ونقضي على الأمراض، ونخترق الفضاء، ونحول حياة الناس إلى جنة على الأرض، وعلى الرغم من كل ذلك إلا أنهم اكتشفوا _ولو متأخرًا_ أنهم لن يستغنوا عن الإله، وأنهم مهما بلغوا من التقدم العلمي والتكنولوجي فهناك شيء مُلحْ في دواخلهم يدعوهم إلى الإيمان بالإله أو الكائن الأعظم كما يسمونه؛ إنها فطرة الله التي فطر الله عليها عباده، فمهما اغترَّ الإنسان بنفسه وقوته وقدرته، فيجب عليه أن يعترف بحاجته إلى الله، وحاجته إلى قيم ومُثل متعالية على كل البشر، ودين ينظم للإنسانية مسارها؛ وهذا ما سنجده في المطلبين القادمين.

    3- موقف الفلسفة الوضعية من الأخلاق: يرفض أصحاب الفلسفة الوضعية المذهب النفعي([65])؛ لأنَّ هذا المذهب ينكر الميول الغيرية([66])؛ لأنه يقصر العلاقات الاجتماعية على الاتفاقات الخسيسة التي تهدف إلى تحقيق المآرب الخاصة، كما أنهم يرفضون مذهب الواجب([67])؛ لأنه يعتمد على أسس لاهوتية ميتافيزيقية، وهو ما يرفضه أصحاب الوضعية بالمطلق، لكنهم يُعجبون بالأخلاق المسيحية في العصور الوسطى، وفي رأيهم فإنَّ جميع فروع الأخلاق قد اقتبست ما فيها من مزايا عظيمة من المسيحية([68])، واستبدلتها بمناهج التفكير العلمي؛ فوضعت القوانين التي تفسر الظواهر الأخلاقية؛ من أجل الاستفادة منها في دنيانا الحاضرة؛ لذلك امتازت الأخلاق عندهم بعدة سمات من أبرزها:

    أ- الأخلاق حقيقية: وليست خيالية، تقوم على الملاحظة، ويمكن دراستها على أسس العلم الوضعي الذي يضع القوانين التي تنظم انفعالات الإنسان وعواطفه ورغباته، وهي أقرب إلى علم النفس الأخلاقي، ولا تستحق أن تكون موضوعًا لعلم خاص، فهي تتوقف على علم الاجتماع([69]).

    ب- الأخلاق نسبية: تستمد نسبتها من نسبية المعرفة، فلا مطلق في الفلسفة الوضعية؛ إذ يرى أصحابها أن العقل البشري كثيرًا ما تمكن من العيش على حقائق نسبية، وسيأتي الوقت الذي يصبح فيه مثل هذا الحل مقبولًا بالنسبة إلى الأخلاق([70]).

    ج- الأخلاق متطورة: فكما المعرفة متطورة، كذلك الأخلاق متطورة بتطور العوامل الاجتماعية؛ فالمعرفة والأخلاق كلاهما يمر بأطوار متعاقبة، يُفترض مع كل طور أن يتخلص من أشياء، ويحتفظ بأجزاء مع تعديلها وفقًا للوضع الجديد، ويبرهنون على ذلك بأن البشرية تخلصت من أخلاق كثيرة وحشية عاشت عليها في الزمن القديم([71]).

    تقوم الفلسفة الوضعية في الأخلاق على أن الإنسان يجب عليه أن يعمل ما استطاع لكي تتغلب غرائز المودة بين الناس على دوافع الأثرة، وتتغلب النزعة الاجتماعية على النزعة الفردية؛ فلقد أثبت علم الحياة أن غرائز الأثرة([72]) تكون بطبيعة الحال أقوى من غرائز الإيثار([73]).

    إن أصحاب الفلسفة الوضعية لا يرون أن من واجبهم البحث فيما وراء هذه الحياة؛ فالتأمل في السعادة الدنيوية كافٍ عن سواه، إذن فلتقتصر جهودهم على البحث عن السعادة الراهنة هنا في هذه الحياة، أما الآخرة فإنها كلمة لا تدخل في ميدان بحثهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالميتافيزيقيا، وذهبوا إلى أنَّ المقياس الذي يُقاس به السلوك والأعمال هو المنفعة؛ شرط أن يُفهم من هذه الكلمة معنى محدد، وهي التي تخلع على الأعمال وأنماط السلوك أحكامًا متباينة؛ فتجعل بعضها خيرًا، وبعضها شرًا أو سيئًا، تلك المنفعة التي عن طريقها تتحقق السعادة، وما هي السعادة التي يبحثون عنها؟ إنها السعادة التي تجلب أعظم قدر من اللذة، وأقل قدر من الألم([74]).

    وعليه يرى أصحاب المدرسة الوضعيَّة أنَّ الأخلاق يجب أن تقوم على العلم الوضعي، واختصروها في السعادة الدنيوية المؤقتة، واللَّذة الآنية، ونسوا أن إنكار لذة وسعادة أخروية سيجعلهم يبحثون عن كل ما يُسعدهم ويُمتِّعهم، ولو على حساب الآخرين، وأنَّ لذةً دون ضوابط تعني ركضًا وراء شهوات دون توقُّف، وقد يصل الأمر بهم إلى اضطرابات نفسية، أو شذوذ، أو ممارسة جرائم بحق الإنسانية؛ بهدف البحث عن التغيير، والرغبة في تجريب ما لم يُجرب، وسنرى في فصول الدراسة المتلاحقة النتائج وبعض الإحصاءات الناتجة عن غياب القيم والأخلاق من حياة المجتمعات والأفراد، وماذا جلب إطلاق سقف الحريات للغرب من مآسٍ نتيجة ذلك، كما أن غياب عقيدة الأجر والثواب من حياة الأفراد تجعلهم يتهاونون، أو يقصِّرون، أو يمتنعون عن فعل الخير.

    لقد أدرك فلاسفة الوضعية أنَّ سر السعادة في خدمة الإنسانية والبشرية؛ لذلك جعلوا من ينفع الناس في مرتبة الأنبياء والعظماء، وأنهم يستحقون أن تُخلَّد ذكراهم؛ إذن سر السعادة ليست في الحصول على أكبر لذة مع أقل ألم كما ادَّعوا، لا.. بل سرُّ السعادة في إسعاد الخلق، وتقديم يد العون والمساعدة لهم، وهذا ما جاءت به الأديان السماوية كلها بلا استثناء، فقد جاء في الكتاب المقدس: لا تنتقم ولا تحقد على أحد أبناء شعبك، ولكن تحب قريبك كما تحب نفسك، فأنا الرب([75])، وجاء أيضًا: لا تخرج من أفواهكم كلمة فاسدة، بل الكلام الصالح للبنيان الذي تدعو إليه الحاجة، كي يعطي السامعين نعمة([76])، أما دين الإسلام الحنيف فقد حثنا على الإحسان للخلق؛ لأن سر السعادة في ذلك، قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿الرحمن ٦٠﴾ وقال أيضًا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴿الكهف ٣٠﴾.

    4- ديانة الإنسانية: ما من فكر جاء إلا وكان ممزوجًا بين الحق والباطل، بين المعرفة والكذب، بين الخير والشر، بين العلم والجهل، وبين الإيمان والكفر، وأخذ كل شيء دون تفنيده وتفكيكه، ومعرفة الملابسات التي قيلت فيه سيكون بعيدًا عن الإنصاف والحق والواقع؛ فأصحاب المذهب الوضعي رفضوا كل الغيبيات وأنكروها بلا استثناء؛ فدَعَوا إلى العلم، وإطلاق حرية التفكير، وعدم تقييد الأفكار، والسَّماح بالخوض في كل شيءٍ، مهما كان له من القدسية؛ فنادوا بالإيمان بالحواس، وما يصدر عنها، وإلى ضرورة البحث، وإجراء التجارب، واكتشاف القوانين التي تُسيِّر الطبيعة، ونستطيع القول إنَّهم استطاعوا أن يُحرزوا التقدم، والتفوق العلمي، والحضاري، وأن يخوضوا غمار الحجب والكون؛ فكانت اكتشافاتهم عظيمة، ولكنهم ريثما اصطدموا بفطرتهم البشرية، وحاجتهم إلى معرفة الخالق؛ فذهبوا يبحثون عن دين جديد يضعونه للبشرية حتى لا تتهاوى في ظلام المادة البحتة، فكان دين الإنسانية الذي حاولوا فيه التخلص من الطغيان الكنسي الذي مارسته الكنيسة وقساوستها في العصور الوسطى؛ فالله هو الكائن الأعظم في ديانة الإنسانية، وهو نقطة التقاء ملكات الذكاء عند الناس، أما دين الإنسانية فهي نقطة التقاء الإرادات الطيبة([77])، ومن المستحيل على الإنسان أن يتنكر للإنسانية دون أن يقضي على وجوده، فهي تمثل ماضيًا طويلًا حافلًا بالجهود العقلية والخلقية، وتلك هي الصفة الجوهرية للحياة؛ فاستمرار الروابط من خصائص الإنسانية، وتتألف الإنسانية من الأموات أكثر من الأحياء([78])؛ فجميع الناس يُولدون بالضرورة أطفالًا للإنسانية، ولكنهم لا يصبحون جميعًا خدامًا لها، وكثير منهم يظل عالة على الإنسانية، وهؤلاء العالة لا يمكن أن يكونوا جزءًا من الكائن الأعظم، أمَّا من استطاعوا أن يعلوا على غرائزهم، ويتفوق ذكاؤهم على ميولهم العاطفية، والغيرية على الأنانية؛ فهؤلاء هم رُسُل الإنسانية وأنبياؤها، وستخلدهم الإنسانية لأنهم عاشوا من أجلها، وسيندمجون بالكائن الأعظم ولا ينفصلون عنه، ويرتفعون حينئذٍ عن جميع القوانين الطبيعية، وعن قوانين الزمان والمكان، وربما يُبعثون مرة أخرى في نفوس كائنات متعددة في آنٍ واحدٍ، مثلهم مثل الفكرة التي يخلقها أحد الشعراء أو العلماء أو الفنانين؛ فتُلهم عددًا كبيرًا من الأحياء في جميع أنحاء المعمورة، فهؤلاء ينعمون بالخلود الذاتي؛ أما مُنتجي الأقذار والشرور فهؤلاء لا يدخلون في الإنسانية إلا بصفة عابرة، والموت بالنسبة لهم نهاية بدون عودة([79]).

    أما الذي يربط بين أفراد الإنسانية فهي المحبة، وخاصة المحبة بين الرجل والمرأة، حيث تنبعث المحبة من النفس أولًا، ثم تنمو وتكبر؛ فتتحول من فكرة إلى فعل، وتنشأ المحبة وفقًا للقانون الطبيعي من العلاقات الجنسية، وتتسع شيئًا فشيئًا، وتعمُّ مع بقائها واقعية، وهناك أربع مراحل تمر بها المحبة كي تتحقق في تمام صورتها وأعظم قوتها عندهم، والمراحل هي: صلة الفرد بالفرد، وبالأسرة، وبالوطن، وبالإنسانية، فإذا اجتزنا هذه المراحل، وأحببنا الإنسانية حبًا شديد السمو والواقعية، عندها فقط يعيش فينا الكائن الأعظم، ويسيطر علينا ويحكمنا؛ فيرتفع الإيثار على الآثرة، ويصبح حبنا لإخواننا بعد أن نتصل  بالله (الكائن الأعظم) عمليًا لا نظريًا، وتلقائيًا لا مفروضًا؛ لأن الله هو الذي يؤلف بين القلوب([80]).

    ومما لا شك فيه لقد حاربت الوضعية الدين، ورفضته بحجة عدم إيمانها بالغيبيات، وإنكارها لما هو خارج الحس، ومع ذلك وقعت في التناقض، حيث صنعت دينًا جديدًا، بناءً على عواطف ومشاعر تنكَّرت وتملَّصت منها، بل حاربتها بدعوى أنَّها لا تؤمن إلا بما تأتي به الحواس ويثبته العقل؛ فالفلسفة الوضعية قائمةٌ على العقل والمنهج العلمي، وديانة الإنسانية قائمة على العاطفة والقلب، وسبب ذلك هو حبُّ مؤسس الوضعية (أوجست كونت) لِـ (كلوتيد دي فو)، تلك المرأة التي غيَّرت حياته كلها، وهنا نرى لأوجست كونت منهجين ومذهبين متعارضين، لا يمكن الجمع بينهما عقلًا؛ فدين الإنسانية الذي اخترعه (كونت) ودعا إليه ما هو إلا ثمرة عاطفة متأججة وخيال جامح، فبعد أن كان يضع التجربة والعقل في المرتبة الأولى ها هو يُنَحِّيه ويُهمشه؛ لتتصدر العواطف، ليعود إلى الحالة اللاهوتية التي حاول الهروب والتملص منها، وليعترف بحاجة البشرية إلى دين يضبطها، وإلى أنبياء ورسل يكونون قدوةً ومثالًا يُحتذى به.

    رابعًا: دور اليهود في الفلسفة الوضعية

    1- الفلاسفة اليهود: إنَّ اصطلاح الفلسفة اليهودية هو اصطلاحٌ موجودٌ، مَثَلُهُ كمثل اصطلاح الفلسفة اليونانية أو الفلسفة الإسلامية، وهذا يعني أنَّ لليهود فلسفة وفلاسفة، إلا أنَّ الفيلسوف اليهودي هو الذي يصدر عن اليهود كعقيدة، وعلى الرغم من أنَّ هناك فلاسفة يهود فلسفاتهم كفلسفات الأمم، إلا أنَّ هؤلاء يصدق عليهم قول المؤرخ النمساوي إسحق دويتشر: اليهودي يظل يهوديًا جدًا على نحو ما، أو يظل فيه شيء من جوهر الحياة اليهودية والفكر اليهودي([81])، وسنرى في المباحث اللاحقة أن اليهود ليس لهم اتجاهات روحانية، بل هم معنيون بالماديات، والأخلاق عندهم أوامر صادرة من سيد إلى مَسود، وديانتهم لا مكان فيها للخلود، ولا يمكن أن يكون لهم ديانة؛ بل يمكن وصفها بأنها عقيدة سياسية قومية، وربما هذا يفسر سبب التصاق اليهود دومًا بالمذاهب الفكرية الجديدة، ويحاولون تفسير اليهودية في ضوئها؛ فعلى سبيل المثال رأوا في ربط (أوجست كانت) الأخلاق بالدين، وقوله بالواجب، وهي مقولة دينية، وليس بالسعادة أو بالخير (تبشيري)، وهما مقولتان فلسفيتان إغريقيتان، عودة إلى التوراة. ولقد عملت الاستنارة اليهودية([82]) التي عُرِفَت فيما بعد باسم اليهودية الليبرالية([83]) بمحاولة صياغة اليهودية بنفس الصياغة الكانطية([84])، من أجل جعلها ديانة مقبولة عقليًا وعالميًا (إقناع العالم بديانتهم)، ولقد انتقد الفلاسفة اليهود الشريعةَ اليهوديةَ؛ لأنها باعدت بين الله والإنسان، بأن جعلت الله فوق الإنسان، وبذلك يستحيل التواصل بين الإنسان والله، وتتحول المحبة بينهما إلى عبودية يزكيها الخوف من الله، وتكون الطاعة هي معيار الإيمان، والثواب هو جزاؤها، وبذلك تكون اليهودية ديانة عبيد وعصاة، والأخلاق فيها زواجر ونواهٍ؛ لذلك نرى المفكرين اليهود خاصةً الذين تربوا في دائرة الثقافة الإسلامية أكثر دراية بالتوراة وبالتراث، يبنون فلسفتهم النقدية على العقل المادي وحده؛ فيرَون أنَّ ما جاء في الكتب المقدسة عندهم ما هو إلا تحريفٌ، وخبطٌ، وترهاتٌ، وتناقضات محال أن تكون مُنْزَلة من عند الله([85])، أمثال: الميموني، يهوذا اللاوي، إسحق البلج، إبراهيم بن مسلم، موسى الفاربوني، موسى بن ميمون، هليل بن شموئيل، وسليمان الكاهن وغيرهم.

    أقامَ الفلاسفة اليهود فلسفتهم ومذاهبهم بسبب وقوعهم في متناقضين، وهما: أن يكون منبوذًا، ومع ذلك من شعب الله المختار، فالمجتمع عندما يعتبر اليهود أقلية دنيا لا تستحق الانتماء إليه، ومن ثم يرميهم بالدونية، فإن اليهودي سيدافع عن نفسه؛ فيتوهم في صورة اعتقاد جازم أنه أكثر تفوقًا من بقية المجتمع، وأن المجتمع ينبذه لأنه متفوق عليه؛ أما سيكولوجية الفلسفة اليهودية تكمن في اعتقاد الفيلسوف اليهودي الجازم بأنه موضع الاضطهاد من الآخرين؛ لأنه أعظم من الآخرين، وإلا لما اضطهدوه كل هذا الاضطهاد؛ فالمفكر اليهودي يشعر بميول عدوانية تجاه الثقافة السائدة للغالبية من غير اليهود؛ فيعمل على تشويه هذه الثقافة بكلِّ ما تتضمنه من معانٍ، وأيدولوجيات، ومناحي تفكير، وديانات، وأخلاق، وإيذاء الأغلبية من غير سبب معقول، كما أن المفكر أو الفيلسوف اليهودي يحاول أن يدافع عن نفسه ضد مشاعر العدوانية التي يتوهمها؛ فيعطي لنفسه الحق في أن يضطهد المجتمع الذي يعيش فيه وثقافته([86]).

    وخلاصة القول إنَّ غالبية الفلاسفة اليهود مهما التصقوا بالمذاهب الفلسفية، واعترضوا على كتبهم المقدسة وانتقصوها؛ إلا أنهم لا يتخلَّون عن يهوديتهم، ولا عن نظرتهم الفوقية لأنفسهم بأنهم شعب الله المختار، ولا عن ماديتهم الخالصة، حتى ولو حصلوا على جوائز نوبل في الأدب والسلام؛ فستظل عنصريتهم هي من تحكمهم وتوجِّههم.

    2- أثر اليهود في الفلسفة الوضعية: عندما ظهرت الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر على يد (أوجست كونت)، لم تستطع اليهودية الماسونية أن تؤثر بها؛ لأنها كانت أضعف من أن تفعل ذلك، ولم تكن تجرؤ عن الإعلان عن ماديتها أو عقلانيتها، بل كانت في تلك المرحلة حركة إيمانية ربوبية، ولكنها تحوي في داخلها كل معالم التفكير الإلحادي الذي يُسقط الإله، وكانت عقلانية ذات رموز صوفية، تضم أفكارًا عالمية ومحلية، هذه الصيغة الإسفنجية جعلتها فيما بعد تحقق نجاحًا باهرًا، فهي بنت محيطها الحضاري التاريخي والجغرافي، فقد كانت ألمانية في ألمانيا، وإنكليزية في إنكلترا، وفرنسية في فرنسا؛ لذلك كانت تتضامن مع قوى الطبقة الوسطى، وكانت الأداة الكبرى في الحرب ضد الكنيسة، والمطالبة بفصل الدين عن الدولة؛ لذلك ارتبطت بالفلسفة الوضعية التي تجعل العلم الأساس الوحيد للقيم والأخلاق والمنفعة الإنسانية؛ لذلك لوحظ أنَّ عددًا كبيرًا من دعاة الفكر الوضعي في فرنسا، وروسيا، والعالم الثالث هم أعضاء في المحافل الماسونية([87])، ومن هؤلاء:

    أ- ماكس نوردو: هو مفكر يهودي ألماني، وزعيم صهيوني سياسي، اسمه الأصلي سيمون ماكسيميليان سودفيلد، وُلد في المجر حيث تلقَّى دروسًا في اللغة العبرية على يد أبيه الحاخام الأرثوذكسي السفاردي، ولكن نوردو ريثما ابتعد عن التقاليد اليهودية، وانغمس في الثقافة الألمانية مثل هرتزل؛ وفي عام 1875م، بدأ نوردو في دراسة الطب في جامعة بودابست ثم في باريس؛ وفي عام 1883م، ظهر كتابه أكاذيب حضارتنا التقليدية، حيث حمل على الدين والحضارة باسم العلم والفلسفة الوضعية، وقد اعتبر نوردو نفسه _وهو في ذروة حياته الأدبية_ مواطنًا أوربيًا، لا وطن له، ولا قومية، وقد دعا إلى حل مشاكل أوروبا الاجتماعية بالعنف، وعن طريق تصدير فائضها البشري إلى الشرق، وذلك قبل تبنِّيه العقيدة الصهيونية([88]).

    في عام 1892م، تعرَّف مؤسس الصهيونية هرتزل إلى نوردو، وفاتحه في فكرة الدولة الصهيونية؛ فوافق عليها، ثم أصبح بعدها ساعد هرتزل الأيمن، وقد كان لاعتناق نوردو العقيدة الصهيونية فضل كبير في إظهارها بمظهر تقدُّمي أمام المثقفين اليهود في العالم الغربي؛ كما ألقى نوردو الخطاب الافتتاحي عن وضع اليهود في العالم، وذلك خلال المؤتمر الصهيوني الأول 1897م، واستمر على هذا المنوال حتى المؤتمر العاشر 1911م، ولعب نوردو دورًا بارزًا في صياغة برنامج بازل([89])، كما أيَّد مشروع شرق أفريقيا([90])، وبعد موت هرتزل عُرضت عليه رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية، ولكنه رفض ذلك لأسبابٍ عدةٍ، من بينها: أنه كان متزوجًا من مسيحية، وآثر أن يظل مستشارًا سياسيًا لحلفاء هرتزل؛ ويصف نوردو كتابه دولة اليهود بأنه عمل عظيم ونبوءة، وبأنه كتاب سيحل محل العهد القديم، ويمكن القول إنَّه كان وريث هرتزل الحقيقي، أي: وريث الصهيونية الدبلوماسية، وهو من أهم المساهمين في صياغتها، وقد كان نوردو صهيونيًا دبلوماسيًا متطرفًا([91]).

    لقد تبنَّى نوردو الفِكر الفلسفي الوضعي بعد 67 سنة من نشأتها، واستطاع من خلال مبادئ الفلسفة الوضعية القائمة على العقل مخاطبة وإقناع المجتمع الغربي بأحقية اليهود في فلسطين، بعد أن تبنَّى العقيدة الصهيونية إثر التقائه بهرتزل؛ فلقد استطاع نوردو تقديم الصهيونية للعالم بشكلٍ عصريٍّ وحضاريٍّ وعقلانيٍّ، يتوافق مع مبادئ الفلسفة الوضعية التي انتشرت في ذلك الوقت، من خلال دفاعه عن المجتمع الذي نشأ وترعرع فيه، وخروجه عن الشريعة اليهودية، وانتقادها، ومحاربة طقوسها، واختراع كتاب (دولة اليهود) الذي زعم أنه سيحلُّ محلَّ العهد القديم، كما فعل (أوجست كونت) باختراع ديانة المسيحية، التي زعم أنها ستحلُّ محلَّ الإنجيل.

    لا يختلف نوردو عن غيره من اليهود، ولو لبس وجهًا غير وجهه، فتنكُّره للشريعة اليهودية، وارتداء لباس الفلسفة الوضعية لم يمنعه من مناصرة المشروع الصهيوني القائم على العقيدة اليهودية، والترويج والتنظير والتخطيط له؛ فاليهود هذا شأنهم، وديدنهم التلوُّن، وتغيير الجلد، كما تفعل الحرباء، فهم يناصرون حتى الشيطان لتحقيق مآربهم وأهدافهم، ويسلكون في سبيلها كل طريقٍ ضالٍّ، ومُبتدعٍ، ومُنحرف.

    ب- أوتّو فينينجر (1880-1933م): فيلسوف وعالم نفس نمساوي وُلد في فيينا، ودرس علم النفس وعلوم الأحياء والطبيعة والرياضة والفلسفة، وتبنَّى في بداية حياته الفلسفة الوضعية والمذهب العقلي، إلا أنَّه تخلى عنهما متأثرًا بمثالية كانط وأفلاطون وغيرهم؛ كما تأثَّر بفيلسوف العنصرية هيوستون تشامبرلين، فبعد حصوله على الدكتوراه بعام واحد أي: عام 1903م، كتب فينينجر عمله الكبير الجنس والشخصية، الذي تضمن رؤية فلسفية معادية للمرأة ولليهود؛ فقد اعتبر أن الرجل يضم العناصر الإيجابية، والأخلاقية، والروحية، والفكرية القادرة على الخلق والإبداع، أما المرأة فتضم العناصر المادية، والحسية، واللاأخلاقية، وهي غير قادرة على أية فضيلة، أو إبداع، كما رأى

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1