Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ذات حياة: Novel
ذات حياة: Novel
ذات حياة: Novel
Ebook658 pages5 hours

ذات حياة: Novel

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

أما آن لك أن تقبض على قيد الحياة.. أن تجذب سلاسلَ القيدِ بيدَيك.. أن تخدش وجهَ الحياةِ بسهمِ عينَيكَ،، تاركاً عليها أثرَ وُجودَك، وأن يصرخَ وجدانك مُزلزلاً غرورها: "ويلكِ! لقد أبصرت"…ـ

وبينما يقضي العبيد دفاعاً عن قيودهم.. ستشهدُ دماءُ مِعصمَيك أنك كنتَ الشهيد.ـ
----------------------
هذه الرواية تحكي قصة الصراع الذي خاضه الكاتب في سبيل البحث عن الحقيقة، بعد أن اضطرتهُ الحرب في "الشام" إلى اللجوء إلى "السويد". ليجد نفسه في عالم جديد، في واقع يفرض عليه نظاماً مُختلفاً للحياة، يضعُ في يدَيهِ أغلالاً جميلة منقوش عليها: ابتسم فأنتَ حُر.!ـ

يتحدث الكاتب عن تجربته في الحب، الزواج، الخيانة، الغربة، الوطن وعناوين أُخرى كثيرة تعني بمُجملها: "رحلة حياة". ولا يُغفل الكاتب الحديث عن معاناته مع "تقلبات النفس والفِكر" التي جعلته يعيد النظر إلى ذاته، وإلى الهدف من وجوده في هذه الحياة. ليكون -طوال الرواية- على موعدٍ مع التأمل والتفكر في المعنى والغاية، حين أوصَلَهُ الاستسلام إلى مفترق طرق: إما الرحيل عن عالمٍ يخلو من "المعنى"، وإما البحث بصدق عن "غاية" تستحق أن يَحتَمِلَ -في سبيلها- البقاءَ على قيد هذه الحياة

 

سيُدرك القارئ أن هذه الرواية.. ليست مجرد رواية

Languageالعربية
Publishermzk
Release dateSep 26, 2022
ISBN9798215534182
ذات حياة: Novel

Related to ذات حياة

Related ebooks

Reviews for ذات حياة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ذات حياة - غريب الشام

    ذاتَ حَــيـاة

    رِوايَــة بِـــقـلـم

    غَــــريـــبُ الــشــــــــام

    حقوق الملكية الفكرية

    جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة 2022 ©

    لا يجوز نشر الكتاب أو طباعته دون الحصول على تصريح من المؤلف.

    عزيزي القارئ..

    إن هذا العمل استغرق مني شهوراً عديدة، تكلّفتُ فيها مئاتِ الساعات من حياةٍ لا أمتلكُ غيرها (تماماً مثلك)، لكي أقدمَ لك خُلاصةَ تجربةٍ أدّت بي إلى إعادة النظر في مفهوم الحياة نفسها. 

    في هذا الكتاب.. أنا أضعُ بين يدَيكَ الأسباب والنتائج، ساعاتِ المعاناة ولحظات الفرح، آخذُكَ معي في رحلة اجتماعية وفِكرية وفلسفية كادَت أن تُكلفني حياتي يوماً ما..! لولا أني أدرَكتُ الحقيقة، ونقلتُ لك تجربتي كما عشتُها بكل صدق.  ألا يستحق هذا منكَ الوفاء باحترام الميثاق الأخلاقي بين الكاتب والقارئ..؟

    أحسَبُ أني كنتُ مُخلِصاً في إعطاء القيمة التي يستحقها القارئ نظير شرائه لهذه النسخة. وأنا على يقين بأن القارئ الذي يحترم المجهود والكلمة لن يتجاوز القانون، ولن يُقدِمَ على انتهاك حقوق الطبع والنشر والتأليف. فهي في النهاية حقوق محفوظة للمؤلف بموجب القانون.   والله خير الشاهدين..

    كل الود..

    المؤلف: غريب الشام..

    للتواصل مع المؤلف:

    alsham.ghareeb@gmail.com

    للحصول على الكتاب بصيغة PDF :

    https://payhip.com/b/ezdnJ

    لا تتوقف، وإلا سحقتك آلة الزمن..

    أقــسَـمــتُ مُــذ أدرَكــــــــتُ أنـِّــي فِــي سَـــفـَـــــر. 

    تَـــــاللهِ لا أذَرُ الــــــــحَــــــــــيـــاةَ بِـــــــــــلا أثَـــــــــــــــر

    إهداء...

    إلى كل نفس بشرية ما زالت تبحث عن الحقيقة في متاهة الوجود..

    هذه تجربتي في الحياة.. 

    لعَلّي أختصر على غيري بعض العناء..

    غريب الشام

    جدول المحتويات

    المحطة الأولى

    شُرفة الانتظار

    الصيف على الأبواب..

    المحطة الثانية

    المساواة في الأنانية.. عدل!

    امرأة كانت زوجتي

    جرح جميل..

    المحطة الثالثة

    حلقة النقاش

    حكاية لينا

    المحطة الرابعة

    سائق أرعن..!

    ما أهمية حياتي.. أصلا!

    المحطة الخامسة

    أي أناني هو أنا..؟

    جدل في الأنانية والإيثار

    أسئلةٌ جدلية في ماهية الحياة

    تطرف الأنانية والأنَفَة

    المحطة السادسة

    استراحة غيمة..

    لا بُـدَّ مِن أَثَر..

    ما ذنبُ الأطفال..؟

    مَـن سـرق الـدهشة..؟

    ذكرى طفل لا أذكره..

    حنين..

    المحطة السابعة

    عَدَمِيّ مُخلص..!

    القانون الوضعي المقدس

    المحطة الثامنة

    بين رحلة الحافلة ورحلة الحياة

    نظرات سارة

    غارقٌ في لُجج العدَمية

    مع ملحد (شعبَويّ)

    المحطة التاسعة

    عجوز بشوش

    شابٌّ طفل..

    عندما يرحل العجائز

    شراء الأطفال.. بالتقسيط المُريح

    سقوط الإنسانية في وحل االفردانية

    المحطة العاشرة

    مغادرة الوطن..

    هل الوطن مُقدّسٌ حقاً..؟

    أنا.. وطَني..

    استيقِظ من وهم السعادة..!

    المحطة الحادية عشر

    هلليلويا..!

    لستُ بالخِب، ولا الخِبُّ يخدَعُني..

    عجوزٌ غير بَشوش..!

    الإفراط في العقل والتفريط بالروح

    المحطة الثانية عشر

    عادة ذكورية

    أَما زالت تلك المرأة زوجتي..؟

    عَلامَ العَجَلة..؟

    في غمار الفناء..

    المحطة الثالثة عشر

    ما زلتُ عربيا..

    ظُلمَةُ الوُجود..

    أندلُسِية..!

    الإنسان السلعة

    مثال على البهيمية..!

    المحطة الرابعة عشر

    طفل مخطوف

    سُلطة الوضيع في قانون وضعي

    أيها الحقير..

    وداعاً حبيبتي..

    ألم..! أمل..!

    صباح الموت حبيبي..

    المحطة الخامسة عشر

    الزنزانة

    غربة.. ضياع.. جنون..

    لماذا أتمسكُ بالحياة..؟

    بين أنياب القنوط

    في غرفة التحقيق

    المحطة السادسة عشر

    محطات الوداع

    متاهات الفلسفات

    النظر إلى المتاهة.. من أعلى..!

    العام الأول

    لا أصدقاء بعد اليوم..

    كيف بدأت الفتنة..؟

    يا ليتني عملتُ بنصيحتي..!

    المحطة السابعة عشر

    حسرة أو ندامة

    أيها الحر.. كُن عبداً مُطيعاً..!

    المِرآةُ سُبةُ الأعوَر..

    الآلةُ الإنسان..

    المحطة الثامنة عشر

    الجمال.. خُذلان العدَمِيّ

    وجهكِ جميل، ولكن عقلكِ أجمل..

    هل يختار الخمر أهلَه..؟

    ثم أشرقَت سارة

    كل السعادة.. مشروطة

    أحب الحياة..؟!

    المحطة التاسعة عشر

    بعض الألم أهوَنُ من بعض..

    سارة..! أين سارة..؟

    ليلة الصلح مع الألم..

    ألم الوعي..

    ثم أشرقَت سارة من جديد

    سارة اللغز..

    بِـرَسمِ الشوقِ.. أكرهُها

    وفاء لا بد منه

    المحطة العشرون

    ضريبة الخلود

    دموع عراقية..!

    سارة.. القصة الكاملة

    المحطة الحادية والعشرون

    القُبلةُ الأولى.. اللقاء الأخير..

    سارة.. لغز الرحيل..

    العام الدراسي الثالث.. والأخير

    الإنسان السلعة

    ميزة الخيانة

    غيبوبة العبودية

    متخلف حقير.. أو عبد أجير

    المرأة.. من التهميش إلى الاستبداد

    مخلوق يُشبه الإنسان

    ما أجمل الصورة من بعيد..

    الوجودية.. البحث عن معنى..

    المحطة الثانية والعشرون

    يا موطن الشرق.. يا وصلة العشق

    آلامٌ سَـارّة

    مادة الحياة

    البحث عن الله..

    الموت.. عقدة الفلسفة

    الكِبر.. أولُ رُسُل الكُـفـر

    مَن أعطى الأمر..؟

    البحث عن السبيل..

    -الربوبية

    -البوذية

    -النصرانية

    -الإسلام

    المحطة الأخيرة

    هل انتَهَت الرحلة حقا..؟

    لماذا الكراهية؟

    كِذبةُ العِرق الأسمى..

    اليمين.. اليسار..

    حدود الحرية..

    فات الأوان..

    النجاة.. النجاة..

    كـن مع أهلِ الحق، فإنهم لا يُغلَبون

    جِـسـرُ العُـبـور

    هل تتحقق الأحلام..؟

    حديث مع النفس..

    هل أنا موجود حقا..؟

    ذات حياة.. ذات ألم..

    فُرصتنا الأخيرة..

    المحطة الأولى

    شُرفة الانتظار

    لم تظهر الشمس ذلك اليوم، بعد أن كانت ساطعةً بالأمس. ولَم تزل تتلبد الغيوم منذ الفجر، وكنتُ شاهداً عليها وهي تُلقي أثقالها على الأرض، تتخلص منها على مهل، خيوطاً تنسل من السماء، فتحيكها يد الرياح، لتصنع ثوباً رطباً يليق بقرية تغفو على كتف البحر، هنا حيث ما زلتُ أعيش في السويد..

    كنتُ جالسا أنتظر الحافلة في شرفة الانتظار، أتأمل تساقط المطر، وأُقنع نفسي بأني فعلت الصواب حين ارتدَيتُ السترة المطرية.. فقد سئمت مخادعات الطقس، ولكن حومة الماء التي قابلتني عندما شَرّعت باب البيت كانت أصدق أنباءاً من النشرة الجوية.. فلَم تكتمني خبَرَها.. وأنها زائر ينوي المبيت حتى الغد. 

    اقترب موعد الحافلة، دقائق فقط لتصل، هكذا أخبرني الجدول المُعلق في شرفة الانتظار. كانت جارتي العجوز تجلس إلى جواري، وقد اكتفيتُ بإلقاء تحية مُقتضبة عليها وأنا أرجو ألا يزيد الأمر على ذلك! فاكتفَت هي برد التحية بابتسامة ناعمة تناسب تجاعيد وجهها. 

    لم أكن لأدخل شرفة الانتظار لولا المطر، فالمكان ضيق، كأن مقعد الانتظار الذي يبدو أنه يتسع للجميع.. صُمِّمَ في الحقيقة كنوع من المجاملة! ولكن الطقس الممطر لم يكن يُجامل.. لذلك اضطررت للجلوس عن يمين المقعد، وجارتي العجوز عن يساره، كل منا مشغولٌ بفراغه، زاهداً بمحادثة جاره.

    كان وقعُ المطر على الأجسام لطيفاً، يستدعي النعاسَ طولُ الإنصات إلى إيقاعه الراتب، ومن أمامي تمثّلت لوحة جميلة صنعَتها الأشجار بعد سُباتِ شتاءٍ طويل، كأنما تستيقظ من جديد لترتدي ثوبها الأخضر على عجل. وقعَت عَيني على الشجرة الأقرب في الرصيف المقابل، كانت أوراقها الغضة تستقبل ماء المطر بشغف، تضمه إلى أوعيتها، فإذا تثاقل الشوقُ عليها بذلَت ما فاض منه مُضطرة، ليتساقط دمعاً عذباً على أخواتها، حتى إذا امتلأت جميعاً، أسلَمَت فائض الشوق إلى تربة الأرض، فتتشَربُهُ جذور أُمّهم الشجرة على مهل، كذلك تُحيي به جيلاً جديداً، بعد أن تشيخ هذه الأوراق الفتية وتزِلّ ساقها عن الأغصان.

    فهل تبكي الشجرةُ أوراقها حين تفارقها؟ أم أنها قاسية كالحياة، لا تكترثُ لِـفَقد، ولا تبتهج لخلق جديد!

    جسم أصفر ضخم، حال بيني وبين تلك الشجرة، كانت قد وصلَت الحافلة أخيراً. تمهلتُ حتى تقوم جارتي العجوز لتصعد أولا، ولكنها لم تكن وحدَها تتهَيأُ لركوب الحافلة..! لا أذكر متى جاءت تلك الفتاتان العشرينيتان، كانتا تتبادلان الضحكات فيما بينهما، بينَما تقفان خارج شرفة الانتظار مُبللتان بماء المطر. غطّت كل منهما رأسها بغطاء السترة المطرية، ومن إحداهما تتسلل خصلة شقراء، تذوب على وجنتها كشعاع شمس داعبَتهُ يد المطر.

    حسناً.. سأتأخر قليلاً حتى يصعد الجميع قلتُ في نفسي. ولم يكن ذلك لشدة لباقَتي.. بل كان لشدة نزَقي..! فأنا لا أريد أن أستمع إلى أنفاسِ أحدهم تتردد خلفي تحُثّني على الاستعجال، كل ما أردتُه هو أن أصعد بهدوء، يكفي أنني سأخبر قائد الحافلة عن وجهتي.. ولو استطعت! لكتبت له ذلك على ورقة، فأكفيهِ مؤونة السؤال، وأوفر على نفسي عناء الإجابة. كانت فكرة جميلة لولا تُهمةُ التنطع! لذلك جهزت اسم وجهتي في حنجرتي، ثم ألقيتها على مِسمعَيه واضحة، فلا أضطر لتكرارها.

    من الجميل ألا تكون الحافلة مزدحمة، ولكن الأمر يبدأ هكذا، ثم ما تلبث الجُموع بالصعود تِباعاً. كان من حسن حظي أنني أركب الحافلة مع بداية خط سيرها، وبذلك أستطيع انتقاء المقعد المناسب. كنتُ أُفضّلُ المقاعد الأمامية التي تلي السائق بسطرَين أو ثلاث، حيث تكون بعيدة عن اضطراب العجلات، وغالباً ما يتجاوزها الناس بسرعة، أملاً في الحصول على مقاعد تخلو من شُركاء، ثم إذا لم يجدوا، فالأرجح أنهم لا يتكلفون عناء الرجوع إلى المقاعد المتقدمة، بل يكتفون بإلقاء أجسادهم عند أقرب مساحة فارغة تلتقطها عيونهم.

    كنتُ دائماً عاشقاً للروائح العطرية، لذلك لا أخرج من البيت إلا بعد أن أُغدقَ على نفسي نفحتَين أو ثلاث. لم أعد أستطيع شراء العطور الباهظة الثمن، وتبَيَّنَ لي مع الوقت أن الأمر أبسط من ذلك بكثير، أو ربما تمكنتُ من إقناع نفسي بذلك، خصوصاً مع زيادة مسؤوليات النفَقَة وانتهاء عقد العمل. فصرتُ أكتفي بالعطر أياً كان. 

    والعطر -في ظني- ظاهرةٌ أقرب إلى الخيال منهُ إلى الحقيقة، إنه ترجمة الجمال إلى عبَق.. إلى عبير يبوح عن نفسه كالسحر! إذ تُكذبه العين ويُصدقه القلب. لذلك كانت حاسة الشم من أيسر الطرق للولوج بالنفس إلى حضرة الجمال. وإنه لأمرٌ مدهش حقاً.. أن يُختزل الجمال في زجاجة..! ذلك هو السحر، ذلك هو العطر! 

    وما زلتُ أحصن أنفاسي بمعوذات العطر درءاً لشياطين الروائح المنفرة التي ما زال يحملها البعض بلا خجل، دون محاولة إخفائها أو التخلص من أسبابها.. لذلك كنتُ أحمل معي كمامة معطرة، أزداد بها تحصينا ضد أقدارٍ -قد- تقذف إلى جانبي إحدى الطوام المنتنة التي لا يُمكن احتمالها.

    قد لا نستطيع منع القدر، ولكننا نستطيع التعامل مع ملابساته.

    يُفَضّلُ البعض الجلوس في المقعد إلى جانب الممر الفاصل في المنتصف، تاركين مقعد النافذة شاغرا، ربما لعدم رغبتهم في أن يجلس شخص آخر إلى جوارهم، فهم بذلك يُصرحون بممانعتهم، وربما لِـقِـصَرِ مدد رحلاتهم. وأياً تكن أسبابهم، فلستُ هنا بصدد الحكم عليهم طالما لا تؤدي أسبابهم إلى إيذاء الآخرين، ولأني عندئذٍ سأضطر للسماح لغيري بالحكم علَيّ بحسب منظوره الشخصي. وأنا -رغم نزَقي- أُقدّرُ أن لكل واحد من هؤلاء كيانه الخاص، أفكاره المستقلة.. المُكتسبة والموروثة، لحظاته المفرحة وتجاربه المؤلمة التي أدت به إلى ما هو عليه من آلام نفسية. وهل يخلو أحدنا من تلك الآلام؟ فقد لا نعلم بوجودها، ولكنها موجودة بلا ريب. كلنا مرضى نفسيون، لا تترك لنا الحياةُ سبيلاً للنجاة من ذلك النوع من المرض، فقد ينجو البدن، ولا تنجو النفس. إنه ما تنطوي عليه شخصياتنا، وما يختبئ عميقا جدا في دواخلنا، حتى يكاد الجاهل يُقسم على سلامته. 

    يكفي أن تكون إنساناً لتكون مصاباً بالآلام النفسية، ثم يكفي أن تُنكِرها لتعيش حياةً يُسمونها: (طبيعية).

    لذلك.. أتحرجُ من إلقاء سهامي على غيري، فأنا أعلم تماماً أنني -شخصيا- هدفٌ يُغري بالاستهداف. ولكنني أكتفي باستهداف نفسي بنفسي، ولا مانع عندي من الاعتراف بالألم! بل ربما وجبَ الاعتراف به، لأن معاناة الألم تجبر الإنسان على إدراك كثير من حقائق الأشياء من حوله، وبمعاناة الألم تُفصح الحياة عن نفسها وعن قيمتها الحقيقية.

    أولئك الذين لا يتألمون، لم يعرفوا الحقيقة بعد. وما زالت معاناة الإنسان هي إحدى أنقى منابع الإبداع.

    أنا لا أطلب الألم، ولكنه شيء أصيل في الحياة، كن على قيد الحياة لتتألم، ثم اقبل بالألم كحقيقة لتُدركَ أعمق، عندها ستنعم بالمعرفة. فـحتى لو بقيتَ ساخطاً على الحياة، فإنكَ ستسخَطُ وأنتَ على علم بحقيقة المكان الذي نعيش فيه. تعلم أبعاده.. مبدَأهُ.. ومنتهى خبره. 

    إن أولئك الذين يطلبون السعادة طوال الوقت، يعانون كثيراً من الألم طوال الوقت، غير أنه ألم الجاهل المتكبر على الحقيقة. إذ لا يشعرون أن مجرد تكلفهم الهروب من الألم.. هو من أشد الألم.

    كان عليّ أن أتواضع كثيراً لأتعلم قليلاً، ثم أن أستسلم أكثر.. لأتعلم أكثر.

    كان عليّ أن أقبل آلامي، لأقبل وجودي في الحياة. 

    الصيف على الأبواب..

    أُفضّلُ الجلوس في المقعد إلى جانب النافذة، لأني ببساطة أستطيع أن أرمي ببصري إلى أقصى نقطة منظورةٍ في الأفق، ثم أعود به متى شئت إلى حيث أجلس، لذلك أختار الجهة التي تخلو من ضجيج الصعود والنزول، الجهة الأكثر صمتا والأشد تحفظاً، فـثَمةَ حديث رائق تبوح به الأشياء للنفس الإنسانية كُـلما أجادت حرفة الإنصات.

    كان قد بدأ النهار يطول مع اقتراب الصيف، وما زال الشتاءُ يحاول التغلب على سكرات الرحيل، يكابر حتى آخر نسمة باردة، فلا يتغلب عليه الصيف إلا شهران أو ثلاث.

    مهلا..! هل قلت يتغلب الصيف؟ عذرا، فالصيف في هذه البلاد أشبه بـلِصٍّ جبان، ينتظر غفلة المارد. فإذا أردتُ أن أختصر حال الصيف هنا، فسأقول أنه كبوةُ الشتاء. ولكنه رغم ذلك.. شقي مزعج! لا يرضى إلا أن ينهش الوجوه بلهيب شمسه، تلك التي تدنو من ضحاياها بشراسة، حتى يكاد يشعر الإنسان أنها تخدش بلظى أظافرها رأسه وما كشف من جسده. ويكفي أن يعمل الإنسان تحت تلك الشمس لساعة أو ساعتين، حتى يرجع بِلَونٍ غير الذي غادر به.

    حسنا..! لستُ من عُشاق الصيف، بل ربما قلت أني من مبغضيه، لا يُوافقني على ذلك إلا قلةٌ أسمع عنهم ونادراً ما أراهم. أما الأكثر الأعم، فهم ممن يتشوّفون إلى الصيف ويتشوّقون إلى لظاه، فلا تكاد الشمس تعلن احتلال السماء حتى يتخفف الناس -هنا- من ثيابهم وكأنهم كانوا يحملونها مُكرهين طوال العام، ثم جاء الصيف ليُلقوها عن أجسادهم ويتخلصوا من أثقالها.

    في الصيف.. أينما نظرت ترى الناس يتسابقون إلى كشف أجسادهم، وكلما اقتربتَ من الشواطئ والبحيرات.. ازدادت هذه المظاهر وازدادت المساحات المكشوفة من الجسد، حتى أنهم في بعض أماكن الاصطياف يتنقلون عراةً بلا مواربة، فإذا احتشم أحدهم فإنه لا يزيد عن الاحتفاظ بسرواله الداخلي! ولا تُغادرهم شمس الصيف ولا يغادرونها حتى تلفح أجسادهم بلهيبها، تاركةً لوناً يشبه لون اللحم غير مكتمل السواء، وتبرُزُ من معظم الرجال كروش أتخمتها البيرة قُبحاً. أما النساء.. فما زلتُ أعجَبُ من جُرأة إحداهن على إنزال كل ذلك العذاب بنفسها! فتُفسِد رُواءها بطقوسٍ أقربَ إلى السادية منها إلى الاستمتاع بالشمس.

    مالي ولهم.. ليكونوا ما شاؤوا..! فهكذا هم نشأوا، وهكذا تمضي بهم عاداتهم، وهكذا تَفنى أعمارهم. وما جمالُ الإنسان ورَونقهُ إلا طُعمة تنهَشُها أنيابُ الأيام. لقد تكفل الزمان قديماً بإتلاف البشر، ثم يأتي يومٌ تبوحُ فيه النفس عن حقيقتها في وجوه أصحابها، بعد أن يغادرها رونقُ الشباب وطلاوته.

    يبدو ذلك جلِياً في كبار السن، إذ يحملون في وجوههم كثيراً مما اختمر بأنفسهم في سالف أيامهم. ولأنهم يعلمون أن بقيةَ أيامهم ليست إلا فضولَها، فإنهم -غالباً- لا يُنفقونها في المجاملة، فالصدق أولى... وما أجمل أولئك الذين لا يتكلفون -الجمال- بالمجاملة. لذلك قد تجد عجوزاً أكلت التجاعيد وجهه، ولكن نفسهُ الجميلة تُشرقُ في مُحَيّاه.. والعكس صحيح.

    المحطة الثانية

    المساواة في الأنانية.. عدل!

    في المحطة التالية، صعد إلى الحافلة رجل وامرأة، بدا أنهما زوجان، أو صديقان، -هنا لا يمكنك أكثر من التخمين-. كان الرجل يرتدي سترةً مطريةً أنيقة، بينما كانت المرأة متكشفةً بما لا يتناسب مع أجواء المطر، لقد بللها المطر حتى التصقَت ثيابُها بجسدِها، ينساب شعرها على عاتقها الأيمن ليغطي طرفاً من نحرها، غير أنه لم يكن طويلاً بما يكفي لتسدُلَه على صدرها، كان البلل قد أثقل القماش فالتَصَقَ بثدييها، تاركاً منظراً يصعبُ تجاهله! كأنها لوحةٌ حاول المطر إفسادها فصارت أجمل. ولا أدري -اليوم- إن كنتُ غضضتُ بصَري تَأثّماً.. أم أني خشيتُ أن ينقلب النظرُ إلى تحديق..! فالتحديق نصل ذو حَدّين، تَخدِشُ به العين وتُخدَشُ به. وهو أدعى إلى كَشفِ جرائم العينِ وإن توارَت خلف الصمت. لم أكن أسعى لمثل هذا الإحراج على كل حال.

    بينما أشيح بنظري، تساءلت عن هذا الرجل الذي إلى جوارها، ألم يكن بإمكانه أن يتخلى عن سترته المطرية لامرأتِه..؟ فيحتمل لسعات المطر عوضاً عنها، ويقيها بذلك لسعات الناظرين إلى تضاريس جسدها المبلل..! لقد بدا وكأن الأمر لا يعنيه. 

    لا أدري كيف راودتني فكرةٌ غبية لـلَحظة فقط، فكرة علمتُ أني لن أنفذها، ولكنها خطرت لي، وهي أن أُعير تلك المرأة سترتي المطرية! كانت مجرد فكرةٍ ألقَيتُها من النافذة على الفور، ولكني شعرتُ بنشوة -ما- لمجرد أنها خطرت لي. وكأني أوقظ شيئاً من النخوة التي نشأتُ عليها منذ كنتُ طفلاً صغيراً، فإن بقاء الإنسان مدة طويلةً في هذه البلاد.. يُخدّرُ فيه كثيراً مما نشأ عليه من مشاعر النخوة ومد يد العون للآخرين وإيثارهم على ما في يدَيه، فالاحتفاظ بتلك المشاعر يُعتبر من علامات الضعف التي يتميز بها الإنسان العاطفي المتخلف، وكذلك فإن العملَ بموجبِها يجلبُ على الإنسان كثيراً من الانتقاد والمتاعب، إذ يُعتبر (تدخلاً) في شؤون الآخرين. وقد يبدو أن البعض يُقّدّرُها أحياناً، ولكن ذلك التقدير أشبه بتقدير البالغ للطفل الساذج.

    أذكر أن الباب الكهربائي لأحد المحال التجارية كان معطلاً، فقُمتُ بفتحهِ يدوياً لإحدى العجائز.. حينها صَرَخت في وجهي معتبرةً أن صنيعي ذاكَ إهانة واتهام لها بالعجز! فاكتفَيتُ بإفلات مقبضِ الباب ليهوي مُغلِقاً في وجهها. بينما ظلّت تُعاني وهي تحاول فتحه لمدة طويلة، جعَلَت فيها تتنقل بين كرسي الحركة وبين مقبض الباب.

    إن طبيعة الحياة -هنا- يجبُ أن توقظ في النفس مشاعر الأنانية والفردانية. أما أنا..! فمهما زعمتُ أني أدركٌ هذا.. فلا يُمكنني أن أزعم عدم تلوثي بثقافة تلك المشاعر التي هي ضرورة الاقترابِ من الثقافة الغربية

    لم يكن ذلك الرجل سوى غربي يمارس -بلا إدراك- ثقافته التي نشأ عليها.

    حاولت متأخراً أن ألتقط حركةً أو إيماءةً أستدل بها إن كان هذا الرجل قد دفع ثمن التذكرة عن نفسه وعن رفيقته معاً، أم أنه قام بالدفع عن نفسه فقط. ربما اكتفى بجعل رفيقته تدخل إلى الحافلة قبله، واعتبر أنه بهذا وَفّى حقها عليه!

    دخلا وجلسا معاً في المقعد الذي يلي مقعدي، جلسا خلفي تماما، وكانت المرأةُ إلى جانب النافذة. لم ينبِسا بكلمة واحدة، بدا أن شيئا قد حدث في الساعات الماضية أدى بهما إلى هذا الصمت المطبق.. وهذا المشهد الذي لم أجد له تفسيراً، ثم! لماذا أهتم..؟ لِيَكُن ما يكون، إنهما يسددان بعضاً من تكلفة وجودهما على قيد الحياة، هكذا باختصار.. وأنانية!

    تحركت الحافلة. لم أتمكّن من تجاهل أنفاس تلك المرأة وهي ترتطم على النافذة، بدت لي وكأنها أنفاس ضحيةٍ أنهكتها الحرب، فَراحَت تسترجع أسبابها وجَدواها، كأنها تتساءل: هل كان بالإمكان تجنب هذا كله منذ البداية...؟.

    يا لبُؤس المرأة الحرة في بلاد الحرية..! عليها أن تَلقى ما يَلقاهُ الرجل، لتستحق ما يستحقه الرجل! يتنازل هو عن رجولته، وتتنازل هي عن أنوثتها، فيلتقيان على صعيد واحد. يتساويان في المغانم والمغارم، أو هكذا يُشاع..!

    إن طبيعة الثقافة الغربية تجعل من الرجل مخنثا، ولا أعني التخنث الجنسي -وإن كانوا يسعَونَ إلى إشاعته- ولكن ما أعنيه هنا أن الرجل يُصبح مُخنثاً اجتماعياً. فإذا لم يعد الرجل رجلا، صارت المرأة -بطبيعتها- تسعى للبحث عن أمانها تحت سُلطةٍ ما، ولأن الثقافة الغربية أجبرت الرجل على التحول عن طبيعته والتخلي عن تكاليف رجولته (القوامة)، فهي كذلك أجبرت المرأة على التخلي عن حقوق أنوثتها.. لأنها لا تستطيع أن تواجه الحياة والمجتمع بروح الأنثى فقط، لذلك توجب عليها أن تتنازل عن (طبيعتها) لتصبح شيئا -يُشبه- شكل الأنثى.. ولكنه لا يحمل روح الأنثى.

    إن طبيعة الرجل كانت -وستبقى- دائما تفرض عليه تحمل المسؤولية، ولم يتراخى الرجل في تحمل مسؤوليته إلا في هذه الحقبة البائسة من الدهر. وإن من لوازم تلك المسؤولية أن يمتلك الرجل القوامة، لكي يقوم بدوره كـقائد في بيته، قائمٍ على شؤون أهله، يرعى مصالحهم ويسعى في سبيل أمنهم ما وسعهُ ذلك. أما في بلاد الغرب، فقد مُحِقَ دور الرجل، حتى أصبح -بعد أن كان الجِذع- فرعاً طرياً يسهل طيّهُ وإعادة تشكيله، بل! وكسرهُ في كثير من الأحيان.

    ومع هذا كله، فإن الرجل لم يكن ليستسلم بسهولة، فهو ما زال يحمل في نفسه ما يدل على أنه ذكر ذو سُلطة! لذلك استطاع استغلال دعوات المرأة إلى التحرر من قيود السلطة الذكورية لصالحه. فبالرغم من أن الرجل الغربي تنازل عن مسؤولياته التي طالما وجَبَت عليه، فإنه حوّل قوامته المباشرة إلى سـطـوة غير مباشرة، والسطوة هنا: هي السُلطة تخلو من الرحمة والشفقة، والخاسر في هذه الحالة هي المرأة قبل الرجل بلا ريب. 

    إن الرجل الذي يُدافع عن حقوق المرأة في التحرر من السلطة الذكورية، لا يدافع -في الحقيقة- إلا عن تحرره من قيود مسؤولياته تجاه المرأة والعائلة، فهو ليس بريئاً على الإطلاق من تهمة استغلال المرأة، حتى عندما يزعم أنه ينافحُ عنها لإعطائها حريتها (اللامحدودة). 

    إن الرجل أدهى من ذلك، وتأبى عليه نزعته في قيادة المرأة أن يكون بهذه السذاجة من الاستسلام، حتى لو أنه لم يمارس ذلك بوعي، وحتى لو بدا الأمر وكأن المرأة هي التي تقود المشهد.

    لقد استطاع هذا الرجل الثعلب أن يستغل المرأة المتحررة لأغراضه الخاصة، ممارساً سطوته بدلاً من قوامته، فاستعبدها بقوانين العمل، وأزال عنها حُرمة العبث بها، وحرَمَها من دورها الأساسي في تنشئة أفراد المجتمع، وساوَمَها على حقها في الأمومة، فأخضَعَها لظروفٍ لا تستطيع معها القدرة على اختيار المكوث في بيتها لتربية أبنائها.. دون أن يُلاحقها المجتمع كله مطالباً إياها بالخضوع لسطوة سوق العمل، والذي يفرض عليها أن تكون مُخلصةً في بذل طاقتها في سبيل إرضاء الجميع.. بدلاً من أن تختص جهدها في عائلتها. ومع الوقت.. تلاشَت قيمة الأسرة في هذه المجتمعات، منذ أن ابتلَعَت المرأة الغربية الطُّعم، فأصبَحَت وهي تدافع عن حقها في أن تكون سلعة يتبادلها الرجال على أسرّتهم وفي أماكن لهوهم، ثم هي لا تمتلك مقدار حبة خردل من الحقوق بعد أن يُلقي بها أحدهم ضجِراً منها.. باحثاً عن غيرها.

    وماذا يريد الرجل الذي تخلى عن واجباته أكثر من امرأةً تخلت عن حقوقها؟ 

    لقد ولّى -عن أوروبا- الزمان الذي كان يستحق فيه الرجل أن يأمر فيُطاع، وتَخَنّثَ الرجل إجتماعيا منذ اعتُبرت قوامته تسلطاً على المرأة، ومنذ رضِيَت المرأة بـتسليع نفسها بدعوى التحرر. ثم مع الوقت فقدَت الأسرة قيمتها. لتكون القيمة الأكبر هي الفرد نفسه.

    إن نفس هذه المرأة التي تزعم التحرر، نجدها ترضى أن تكون مُستعبدةً لكل رجل من غير محارمها، فهي الآن حرة في قراراتها، -أو هكذا يبدو الأمر في الظاهر-، ثم تقضي حياتها في البحث عن قيمة الرجل الذي يُشعرها بالأمان! تستنجد -بعفوية- فطرتها، ولكنها خائبة.. إذ أن رِضاها بالتحرر من قوامة الرجل، أفقَدَ الرجال رغبَتَهم في حمايتها وجعلَهُم مخنثين اجتماعيا، فهم يكتفون بالتلذذ بها طالما أنها ما تزال قادرة على تقديم الخدمات.. حسب المعايير المادية الصارمة التي تخلو من كل قيمة للرحمة والتراحم.

    لا ينظر الرجل المخنث إجتماعياً إلى المرأة على أنها شريكة حياة، بل حسبُها أن تكون شريكة فراش. ليس للحب بينهما أي معنى حقيقي. إنها علاقة واهية، تـنقضي بمجرد ملل أحد الطرفين من الآخر.

    أما الزواج في الثقافة الغربية فهو فخ حقيقي! إذ أنه يفرض على الطرفين أن يتقاسَما أملاكهُما في حال حدوث الطلاق! ولذلك فإن أكثر الشريكَين ثراءاً سيكون أشدهما زُهداً بمثل هذا الارتباط، وغالبا ما يكون الرجل هو الأكثر زهداً بالارتباط بالمرأة، فما زال الرجل يحقق دخلاً أعلى من المرأة في الغرب، رغم كل مزاعم المساواة في الحقوق والواجبات.

    لقد تم إعداد الزواج ليكون فخاً يتحاشى الشريكان السقوط فيه، وليس في ذلك إلا تعزيزٌ لقيمة الأنانية بين أفراد المجتمع، ولينظر الرجل إلى المرأة التي تطمح للزواج منه على أنها: مخلوق خبيث يحاول الإيقاع به وسرقة ثرواته. وكذلك تفعل المرأة في حال كانت الأكثر ثراءاً. 

    لذلك كثيراً ما يحدثُ أن يُبرم الطرفان اتفاقاً يقضي بتنازل كل منهما عن حقه في أملاك الآخر في حال حدوث الطلاق، وهنا يتساءل المرء عن قيمة الحب التي يزعم الشريكان أنها القيمة الأساس في اتخاذ قرار الزواج، ناهيك عن قِيَم من مثل المودة والتراحم.

    إن قانون الزواج في أوروبا لم يوضع إلا لِيَحمِل الشريكانِ على النفور منه، وللمتأملِ أن يتخيل عَقداً تكون بنود المحاذير فيه أكثر من بنود الضمان..! إنه عقد الريبة، إذ يكاد يفسخ نفسهُ بمجرد إقراره، كمن يزرع لغماً بيده، ليقومَ فيطأَهُ بقدمه.

    والطريف في الأمر، هو أن المرأة الغربية التي تزعم المساواة، ما زالت تنتظر من الرجل أن يطلبها للزواج..! بمعنى: أن قرار الزواج لا يبدأ من المرأة مهما عاشت في أوهام المساواة. فأكثر ما يُمكنُها القيام به هو أن تُضمر الرجاء وأن توحي برغبتها بالزواج دون أن تجرؤ على التصريح، على أمل أن يتقدم لها هذا الرجل الذي يعبث بها.. قبل أن يُلقيها خارج حساباته، وخارج حدود بيته. 

    فيا لسعادة المرأة (الحرة) في بلاد الحرية..!

    امرأة كانت زوجتي

    ما أصعب أن تتجاوز بي أيامي سن الأربعين وحيداً دون شريكة حياة. ما زلتُ أبحث في دفاتر الأقدار عن امرأةٍ غابت دون سابق إنذار، وأُخرى مضى على انفصالها عني ست سنوات، تلك كانت زوجتي التي دخلتُ بصحبتها إلى السويد، ولكن.. يبدو أننا لم ننجح في إقناع القَدَر بالحفاظ على زواجنا، فآثَرَ أن يقضي بتفريقنا بعد عامٍ واحدٍ -فقط-  من دخولنا السويد. بلى... لقد كان لي زوجة من حرير الشرق، فلم تزَل بها حتى مزقتها مخالب الغرب. 

    وككل النتائج، لا بد من أسباب! كذلك بدأ الأمر رُويداً، وبدعوى العطف والاهتمام، دسوا لها -ولغيرها- سُمَّ عبودية الغرب في شراب الدعوة إلى التحرر من قيود الشرق. حدث أني بعد أسبوع من وصولنا إلى فندق استقبال اللاجئين لمَحتُ في محفظتها بطاقةً بدت لي كبطاقات العمل التي يحملها الناس عادةً للتعريف بأعمالهم. وكنتُ يومها طلبتُ منها أن تعطيني مبلغا من المال الذي أستودعه لديها، بلى.. لقد كنتُ أستودعها قلبي، فكيف لا أستودعها ما دونه.. 

    كانت بعيدةً عن محفظتها، فأرشدتني إلى مكانها وكنتُ الأقرب، فلما حصَلَت المحفظة في يدي، وبينما أسحب الورقة النقدية، ظهرت لي تلك البطاقة مدسوسةً بين الأوراق، أخرجتُها وقرأت ما فيها على عجل، كان مطبوعاً عليها -بِـعدة لغاتٍ- كلماتٌ موجهة إلى النساء المهاجرات، يضعونها لهن في دورات المياه غالبا، كان المكتوب في تلك البطاقات يحمل المعنى التالي:

    {إذا كنتِ لا تشعرين بالأمان مع شريكك أو ولي أمرك، فبإمكانكِ الاتصال بنا على الرقم ..... لتحصلي على الحماية الفورية}.

    كانت تلك البطاقات مطبوعة بعدة لغات، بحيث تكون صالحةً لتقرأها النساء القادمات من مختلف بلدان العالم الإسلامي، وكأنها جُهزت خصيصاً لنساء المسلمين. وهي إشارة مبدئية توضح نيةَ أوروبا تجاه نسائنا، بل تجاه العوائل القادمة من الشرق الأوسط بشكل خاص. لقد علِمَت -أوروبا- من خلال تجربتها أن نجاحهم بإفساد المرأة سيؤدي بسهولة إلى فساد أهم ركن من أركان البيت، فتفقد الأسرة حصانتها، وتصبح نُهبةً لكل طامع. ولكن ما نُسميه نحن تهديماً، يسمونه هم تصحيحاً، وما نصفه نحن ضرَراً، هو عندهم كل الفائدة. فما الذي يحدد أي الفريقين على صواب؟.. إنها المرجعية! ولكن استحالة الاتفاق على مرجعية واحدة، لا بد أن يؤدي إلى استحالة الاتفاق بالجملة، وهذا من أهم أسباب الصراع الذي يخوضه الغرب مع الإسلام".

    لم أتعجب من الكلام المكتوب في تلك البطاقة.. بقدر ما تعجبت من اقتناء زوجتي لها! صرتُ أتساءل في نفسي طوال تلك الليلة.. لماذا تحتفظ بها؟ ما الداعي لذلك؟ لست معها على خلاف، ولا أعلم منها إلا الخير، وأزعُمُ أنها لم ترَ مني إلا الخير، وإن كانت تلك المناكفات التي تحدث بين الحين والآخر، فهي أمرٌ طبيعي يحدث في كل بيت، وهي ملح الحياة الزوجية، وهي ما يُضمّدهُ الصُّلح، ويتجدد بها الحنين بعد الجفوة، وتشتعل بعد زوال أسبابها الأشواق! وهي ضرورة بشرية، لا تخلو منها أسرة، بل قد تفسد الأُسر بسبب انعدام النقاش والتفاعل بين أفرادها! أليست البِركة الخاملة مرتعاً للأسن؟ 

    ثم..! ذلك الحديث عن الأمان الذي يَفترضُ مُرَوِّجوا تلك البطاقات أنها -قد- تفتقده، هل يُعقل أنها تفتقد ذلك الأمانَ معي؟ وأنا الذي لم آلُ على نفسي جُهداً في الحفاظ عليها وعلى راحتها طوال سنين زواجنا الثلاث؟ إنها تعلم يقيناً أني لا أعدل بأمانها واطمئنانها شيئاً، حتى أنها كانت طوال الرحلة شاهدةً على حرصي في الحفاظ على هدوء نفسها، وأذكر كم كنتُ فخوراً بنفسي حين كنتُ أراها محتفظةً بابتسامتها وراحة خاطرها.. بينما كانت نوبات القلق والفزع تغتال الناس أثناء تلك الرحلة، أذكر أنها كانت كلما ساوَرَتها ريبة، أشبكَت ساعِدَها بِعَضُدي، فأقبضُ عليها قبضةً يسيرة، أوحي لها بها: ألا تقلقي ما دمتُ حيا.

    تركتُ تلك البطاقة في مكانها، ولم أراجعها بها، غير أن جرحاً ما نبتَ في قلبي. شيء من الخذلان كان يعتريني كلما رأيت ابتسامتها، لأتساءل في كل مرة.. هل كانت ابتسامة صادقة؟ 

    استغرق الأمر يومان حتى اختفت تلك البطاقة من بين الأوراق النقدية، فقد كنتُ أسترق النظر إلى المحفظة في اليومين اللذين سبقا، أتفقدها كما يتفقد المكلوم جرحه ليطمئن إلى شفائه. 

    بلى! لقد أسعدني عدم وجود البطاقة في اليوم الثالث، فتـشتُ في سلة المهملات لعلي أراها ممزقة ملقاةً هناك، ولكني لم أجد شيئاً، ولا أُنكِرُ أني أحببت الاحتفاظ بفرحتي تلك، بِغضّ النظر عن مصير تلك البطاقة. رُحتُ أُفكر في أنها لا بد حصلت على تلك البطاقة عن طريق الخطأ، ثم لما تنَبّهَت إلى وجودها خشِيَت أن أراها فأُسيء الظن بها! 

    هكذا ببساطة، قررتُ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1