Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الخيال الممكن
الخيال الممكن
الخيال الممكن
Ebook1,213 pages7 hours

الخيال الممكن

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لماذا "الخيال الممكن"؟ قررتُ قبل سنوات أن أدوّن تجربة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ومسيرتها في البناء والتنظيم والتطوير منذ تأسيسها في 12 محرم 1421هـ (17 أبريل 2000م)، وتشرفي بتكليفي كأول أمين عامٍّ لها، مؤسساً للأمانة العامة، ولاحقاً رئيساً لمجلس إدارتها ورئيساً لها حتى 18 ربيع الثاني 1440هـ (27 ديسمبر 2018م). وأردتُ أن أعرض هذه التجربة المتشعبة المسارات بكل ما تحويه من تقاطعات وقضايا تعاملت معها الهيئة في كتاب توثيقي؛ لعل هذا العمل يُقّدم فائدة يمكن أن تسهم في تجارب أخرى مماثلة، بعد ما نراه اليوم من وضع متقدم لصناعة السياحة والتراث الوطني؛ إذ تصل إلى آفاق لم يتخيلها حتى أكثر الناس تفاؤلاً، وقد تحقق ذلك بعد أن استطعنا تجاوز المراحل الصعبة ووضعنا السياحة الوطنية في مسار النمو؛ على قناعة بأن السياحة والتراث الوطني عنصران أساسيان من عناصر التنمية المستقبلية وركائز أساسية للاقتصاد الوطني وفرص العمل للمواطنين، وأداة فعالة لتعزيز معرفة المواطن بوطنه ومواطنيه وحضارته ومقوماته الهائلة التي قلما تجتمع في بلد واحد؛ والكتاب هو بالأساس وفاءً لكل من عمل معنا وشارك في أهم الأحداث والتطورات التي تضمنتها تلك المرحلة المهمة من عمر السياحة الوطنية، ولاحقاً تأسيس مسارات العناية بالتراث الحضاري الوطني.


مؤسسة التراث غير الربحية
Al-Turath non profit Foundation

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateApr 19, 2023
الخيال الممكن

Related to الخيال الممكن

Related ebooks

Reviews for الخيال الممكن

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الخيال الممكن - صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود

    الخَيَال المُمْكِن

    سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود

    الناشر: مؤسسة التراث الخيرية

    إعداد وتصميم وطباعة مؤسسة التراث الخيرية

    المملكة العربية السعودية

    المقدمة

    لماذا الخيال الممكن؟

    قررتُ قبل سنوات أن أدوّن تجربة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ومسيرتها في البناء والتنظيم والتطوير منذ تأسيسها في 12 محرم 1421هـ (17 أبريل 2000م)، ولقد تشرّفتُ بتكليفي كأول أمين عامٍّ لها، مؤسساً للأمانة العامة، ولاحقاً رئيساً لمجلس إدارتها ورئيساً تنفيذياً لها لغاية 18 ربيع الثاني 1440هـ (27 ديسمبر 2018م). وأردتُ أن أعرض هذه التجربة المتشعبة المسارات بكل ما تحويه من تقاطعات وقضايا تعاملت معها الهيئة في كتاب توثيقي، لعل هذا العمل يَقّدم فائدة يمكن أن تسهم في تجارب أخرى مماثلة. والكتاب هو بالأساس وفاءً لكل من عمل معنا وشارك في أهم الأحداث والتطورات التي تضمنتها تلك المرحلة المهمة من عمر الهيئة، والسياحة الوطنية، ولاحقاً تأسيس مسارات العناية بالتراث الحضاري الوطني.

    وخلال كتابة تفاصيل النسخة الأولى من الكتاب كنتُ أبحث عن عنوان مناسب يُعبّر بشكل مُبسط عن مضمون وروح تلك التجربة. فَأعَدتُ قراءة ومراجعة تفاصيل مسودة الكتاب وراجعت الكثير الوثائق والمعلومات والتسجيلات التوثيقية، والتقاطعات المتعددة التي مررنا بها، وشعرتُ أن القصة بمجملها تستحق النشر؛ لكونها تعكس صورة شاملة عن كيف استطعنا كمؤسسة حكومية بدأت من الصفر، بفضل الله وتوفيقه، ثم بالطموح العالي لقيادة الهيئة والمواطنين الذين تم بمشاركتهم بناء هذا الكيان الشامخ، والتعاون البنَّاء والمثمر لشركائنا، وإخلاص وتفاني الكوادر الوطنية داخل الهيئة وخارجها، الذين واجهوا النقد بالأمل، والصعاب بالعمل، وأصروا أن نعمل ونجتهد لنحوّل كافة المبادرات السياحية في المملكة إلى منتج وطني استراتيجي اهم عناصره تمكين المواطن أن يعش وطنه من خلال تجهيز وفتح المواقع لأن تكون مرحبة ومهيأة لاستقباله، وأن نخترق، بما أُتيح لنا من موارد وممكِّنات محدودة جداً، واقعاً صعباً ومعقداً، ونحقق نتائج توقع الكثيرون  أنها صعبة أو حتى مستحيلة التحقيق، وضرب من الخيال. ولقد عملنا لنتجاوز المعوقات قدر الإمكان.

    لقد تذكّرت كلمات تاريخية ومهمة لوالدي (الملك سلمان) يحفظه الله، الرجل والمسؤول الذي تعلّمت منه الكثير طوال حياتي الشخصية والمهنية.

    لقد قال خلال زيارته للهيئة عام 1426هـ (2005م) وعرض الملامح الأولى للخطة الوطنية للتنمية السياحية:

    "الحقيقة أنا أتابع في الصحف أعمال هيئة السياحة، وبعض من يشاهد البرامج أو التصريحات يقول: هذه مبالغ فيها، وفيها خيال، وليست ممكنة، وهذا يذكرني بتجربة هيئة تطوير مدينة الرياض، وكيف أن البعض كان يرى أن الطموح والخطط المستقبلية لتطوير الرياض نسج من الخيال... والآن نريدهم أن يأتوا ويشاهدوا الواقع، فنحمد الله على ذلك، ونطالب بأكثر وأكثر".

    وكانت تلك الكلمات مدخلاً لما أشار إليه لاحقاً -يحفظه الله- حول التجربة التي كنا في الهيئة نمر بها آنذاك، حيث قال:

    "مشاريع الهيئة طموحة فعلاً، ولا يغركم من يقول: هذا ما يمكن، نعم أمام الناس عقبات، وممكن يتجاوزونها، لكن أنا أقول: إن هذا يذكرني بالنجاح، ولا يذكرني بفشل، وهذه هي الحقيقة. ما أوصي به دائماً في هذا، اعمل الممكن، ولا تقل: إما أن ننفذه كاملاً، أو أننا لا ننفذ شيئاً، وهذا خطأ يقع فيه بعض المطورين، والأفضل العمل بمبدأ خذ وطالب، نفذوا ما تستطيعون تنفيذه، بعد ذلك في وقت من الأوقات تشاهدون نفس الدوائر الحكومية أو الجهات المالية وغيرها تساعدكم بنفسها وبشكل طبيعي".

    ومن العبارات المهمة التي اختتم يحفظه الله بها كلمته كانت:

    "لكن النظرة البعيدة لازم أن يكون معها طموح، والطموح المنضبط المعقول، يعني فيه طموح خيال، أجلس وأرسم ورقة، وأقول: هذا يصير، لكن عندما يكون طموحك مربوطاً بالخيال المنضبط بالإبداع المطلوب في العمل، هنا يأتي النجاح بإذن الله".

    شعرتُ هنا أن التاريخ يعيد نفسه؛ فالتخيل المستقبلي والعزم على جعله ممكناً وواقعاً ملموساً يمثلان مجتمعين وسيلة فاعلة أسهمت في تحقيق نقلات نوعية في تطوير، وتنمية العديد من الصناعات والقطاعات الاقتصادية وخلقت تحولات اجتماعية إيجابية جراء ذلك التمكين الاقتصادي، ولأن السياحة صناعة حيوية، ونشاط اجتماعي واقتصادي متجدد ومتعدد الطبقات والشراكات؛ لذا وجدتُ أن توظيف الخيال الإيجابي والتفكير المستقبلي المبني على واقع الإمكانات الهائلة للمملكة (مكانتها، موقعها الجغرافي، مواقعها السياحية الوافرة والغير مفعلة، شواطئها، جبالها، صحرائها، ومن أهم العناصر أهلها المرحبين الكرماء القادرين على العمل والبناء والتحول نحو القطاعات الاقتصادية الكبيرة مثل السياحة، والتي هي بالأساس صناعة السكان منهم واليهم) في مجال عملنا في تطوير السياحة الوطنية والتراث الحضاري سيساعدنا في التركيز والاطلاع عن قرب على الفرص الكبيرة في هذا المجال، مع مراعاة أدق التفاصيل لتحقيق الإنجازات التي يمكن من خلالها النهوض بالسياحة والتراث الحضاري في بلادنا كقطاع اقتصادي واجتماعي منتج وفاعل. وكنا نتخيل كيف يمكن أن يحدث ذلك في بلادنا كما حدث في بلاد أخرى لا تملك ما نملكه من حيث المقومات والإمكانات كمًا ونوعًا.

    لقد أيقنا بأنه لا يمكن أن نعيش حالة الطموح هذه دون أن يكون شركاؤنا قادرين على رؤية ما نراه، وما نسعى لتحقيقه من موقعنا، وهنا ساعدنا التخيّل في أن نكوِّن مع شركائنا صورة مشتركة واضحة عن مستقبل السياحة الوطنية، وأن نسعى للعمل بشراكة بثقة وحيوية، وبتنسيق أفضل، بحيث يرى الجميع إنجازات المستقبل ماثلة أمامهم. لذلك عملنا مع شركائنا وفقاً لعدد من المسارات، وكنا نزودهم أولاً بأول بالمعلومات، ونعرض عليهم أي تطوير أو تغيير؛ لكي نتفق معهم في طريقة النظر إلى تلك الأعمال والمسارات وبشكل غير مسبوق، اصطحبنا شركاءنا من محافظي المحافظات، وأمناء المناطق، ورؤساء البلديات، ومن يعمل في القطاع الخاص في مجالنا للقيام بزيارات ميدانية ورحلات استكشافية متتابعة للعديد من المواقع على المستويين المحلي والعالمي، للاطلاع عن قرب والاستفادة من التجارب الناجحة في توظيف المقومات السياحية والحضارية التي تماثل ما تحظى به المملكة، وهو ما تحقق في تطوير التراث العمراني وتحويله إلى مورد اقتصادي رئيس، وتطوير مناطق الشواطئ والجزر، واستثمارها سياحياً، والمحافظة على البيئة في وقت واحد. وفي أثناء تلك الزيارات والرحلات كنا نسعى إلى أن نعطي شركاءنا الفرصة لتخيّل ما يمكن أن يتحقق في مدنهم ومحافظاتهم وقراهم لو تضامنوا جميعاً مع الهيئة في تحقيق خططها وأهدافها التنموية.

    لقد كان تغيير المنظور الذهني المجتمعي والمؤسساتي من أقوى التحديات التي واجهتني، ففي الوقت الذي كنتُ أعيش حالة انبهار بجمال الطبيعة وثراء التراث في بلادنا حين كانت السياحة والتراث يعيشان حالة غير مرضية بشكل عام ومن بعض من كنا نعول للعمل معهم كشركاء على تحقيق رؤية الدولة. وقد عملنا على تحقيق تلك الرؤية ، وفي أول (10) سنوات من عمر الهيئة تمكنا من إحداث تغيير إيجابي وخلاق (Disruption) للحالة الغير المرضية التي كانت تعيشها صناعة السياحة والتراث الحضاري في المملكة آنذاك، حيث نجحنا في السنوات الخمس الأولى من عمر الهيئة في خلق حالة مستدامة من التحول المجتمعي أسهمت في تصحيح المنظور الذهني الذي كان سائداً لدى معظم المواطنين ومنسوبي قطاعات الدولة الذين عملوا معنا لبناء منظومة متكاملة لتطوير السياحة والتراث الحضاري، ثم عملنا في السنوات الخمس التي تلت تلك المرحلة في إرساء قواعد رصينة للتطوير المؤسسي وتطبيقها بشكل مستدام على مستوى الهيئة وعلى مستوى منظومة الشركاء أسهمت مجتمعة في إنجاز المهام رغم تعدد التحديات والمعوقات التي واجهتنا في حينها، وبعد أن كان يعتقد الكثيرون بأن تطوير صناعة مستدامة تعنى بالسياحة والتراث الحضاري في المملكة أمراً مستحيلاً وخيالاً غير قابل للتحقيق على أرض الواقع، بل يمكنني القول إننا تمكنا من جعل السياحة والمحافظة على التراث الوطني والاستفادة منه حقاً مكتسباً ومطلباً للمواطن والدولة على حد سواء. لذلك، لم أجد عنواناً يصف تجربتنا في تأسيس وبناء قطاع السياحة والتراث الحضاري في المملكة بموضوعية وإنصاف ودقة، أفضل من كلمات والدي في رؤيته المتفاهمة لما يمكن أن تحققه الهيئة آنذاك، وهي التي عبر عنها عنوان هذا الكتاب «الخيال الممكن».

    كذلك، اخترتُ أن تكون صورة الغلاف لهذا الكتاب من فعاليات تمثل بالنسبة لنا في الهيئة تحقيقاً لهدف أساس في إسعاد المواطن في وطنه.

    لقد استطعنا وشركاءنا بتوفيق الله، أن نحوّل ما كان يُعد في ذلك الوقت «غير ممكن» إلى «واقع ممكن» وقابل للاستمرار والنمو والازدهار، كما نرى الآن من خلال ما تقوم به الدولة ضمن استراتيجية رؤية السعودية2030، وقد تطلب عملنا جرأة في اتخاذ القرارات، وصبر بسبب تأخر أو حتى تعثر التمكين والقرارات المطلوبة، وإبداع في إيجاد المبادرات والحلول للمعوقات التي عطلت بناء المنصة الوطنية التي استهدفنا بنائها ليقوم عليها بناء قطاعات السياحة الوطنية والتراث الحضاري، وإصرار على تحقيق ما خططنا لإنجازه مهما كانت التحديات، والأهم كان الدافع لدينا بأن تطوير السياحة والتراث هو مشروع في مسار اقتصاد وثقافة الوطن وليس تحقيق مجد مؤسسي أو شخصي.

    واليوم، وأنا أراجع هذه النسخة المحدثة والمختصرة من الكتاب وقد سلمت مهامي كرئيس للهيئة ومجلس إدارتها، نرى صناعة السياحة والتراث الحضاري الوطني وهي بفضل الله تعالى في وضع متقدم وخططها وطموحاتها تتحقق وترتقي عملاً وتطويراً إلى آفاق لم يتخيلها حتى أكثر الناس تفاؤلاً. وقد تحقق ذلك بعد أن استطعنا تجاوز المراحل الصعبة ووضعنا السياحة الوطنية في مسار النمو، مبنياً على القناعة التي عملنا على إيجادها عبر سنوات صعبةٍ بأن السياحة والتراث الوطني عنصران أساسيان من عناصر التنمية المستقبلية وركائز أساسية للاقتصاد الوطني وفرص العمل للمواطنين، وأداة فعالة لتعزيز معرفة المواطن بوطنه ومواطنيه وحضارته ومقوماته الهائلة التي قلما تجتمع في بلد واحد. وهو الذي كنا نأمله منذ تأسيس الهيئة، وبعد أن تمكنا من تطوير وإطلاق عدد من المسارات المكملة لصناعة السياحة وأهمها مسار التراث الحضاري الوطني، الذي بدأ يتحول -كما توقعت عندما تسلمت الهيئة مسؤوليتها في عام 1424هـ (2003م) - إلى اقتصاد كبير، بعد أن كان الكثير ينتقدون إصرارنا بأن هذه القطاعات يجب أن تتحول إلى صناعات اقتصادية أساسية في بلادنا. فاليوم يشهد الجميع تزايد الاستثمار في السياحة والتراث، وأصبحت الدولة هي التي تقود ذلك وتستعجله بعد أن كان غير مفعل بل معطل إلى حد كبير لسنوات؛ على أساس أن السياحة كانت تُعد قطاعاً ثانوياً وهامشياً، ولذلك لم تحظ بالأولويات والقرارات والتمويل الذي كنا استهدفناه في اطار الاستراتيجية الوطنية للتنمية السياحية المُقرة من الدولة أساسا، وبرنامج خادم الحرمين للتراث الحضاري المُقر أيضاً من مقام خادم الحرمين الشريفين في عام 1435هـ (2014م).

    لقد كنا دائماً نؤكد أن السياحة والتراث الوطني سيتحولان إلى صناعات اقتصادية واعدة ومؤثرة في اقتصادنا وحياتنا ومستقبل الأجيال، وها نحن نرى الدولة تنطلق لاستدراك سنوات كان يمكن خلالها أن يتحقق الكثير من الخير والنمو لهذه القطاعات الاقتصادية الهامة.

    إهداء

    إلى الكبيرين: سلطان بن عبدالعزيز، ونايف بن عبدالعزيز -رحمهما الله-

    رئيسَي مجلس إدارة الهيئة، اللذين تعلمتُ منهما الصبر والإصرار، واللذين قادا الهيئة لتحقيق التحول إلى العمل المؤسسي المتقدم باتجاه تأسيس صناعات اقتصادية كبرى تليق بوطن بحجم ومكانة بلادنا.

    وإلى والدي ومعلمي الملك سلمان يحفظه الله،

    الملهم في فكره القيادي، والرائد في العناية بتراثنا الحضاري الوطني.

    وإلى والدتي سلطانة بنت تركي بن أحمد السديري -رحمها الله-

    التي غرستْ في قلبي وكياني إلى جانب السكينة، والتفاؤل وقت الصعوبات والإحباطات، نبتة التوكل على الله، ثم الوفاء للوطن ومواطنيه.

    وإلى أسرتي الذين كانوا ولا يزالون أول الداعمين لي.

    وإلى كافة من انتسبوا إلى الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني

    الذين تفانوا في خدمة وطنهم.. الذين ساهموا وتحملوا معي مسيرة تأسيس وتطوير السياحة والتراث الوطني بكل ما فيها من مصاعب وتحديات، وواجهوا بثبات عناء البدايات والإحباطات والمثابرة لتجاوز العقبات اللامتناهية.

    وأخيراً إلى كل من وقفوا مع الهيئة، وشدّوا من أزرها، ودعموها بالنقد الهادف، والرأي الصائب، أو حتى أولئك الذين شككوا في نجاحها في مهمتها الصعبة في بداياتها أو انتقدوها أو وقفوا في طريقها، فمنحونا بذلك روح المثابرة، وعزيـمة الإصرار، والذي نرى نتائجه اليوم في بروز السياحة والتراث الحضاري لبلادنا كأهم قطاعات برامج التحول الاقتصادي الوطني الطموح 2030.

    إليهم جميعاً أهدي هذه الخلاصة عرفاناً بفضلهم وجميلهم...

    والحمد لله رب العالمين

    تمهيد

    يتناول هذا الكتاب تجربة شخصية ومؤسسية عن مسيرة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بكافة مراحلها، منذ إعلان تأسيسها عام 1421هـ (2000م)، حين أوكلت إليها مهمة تنظيم وتطوير قطاع كبير، وحيوي، ومتشعب، يستمد رؤيته من المرتكزات والثوابت والمقومات التي قامت عليها المملكة، والقيم الراسخة للمجتمع السعودي، وشمل في مضمونه مسار السياحة والتراث الحضاري الوطني.

    تلخص هدف الهيئة الأساس في الاستفادة من تنوّع وثراء المقومات في بلادنا للنهوض بالسياحة والتراث الحضاري الوطني، بصفته صناعة منظمة ومتكاملة، وتحويلها إلى مورد ثقافي واجتماعي واقتصادي، يسهم في تنويع القاعدة الاقتصادية، وزيادة الدخل، وتوفير فرص واعدة ومنتجة للمواطنين للعمل والاستثمار في شتى مناطقهم ومدنهم وقراهم، وبمختلف مستوياتهم التعليمية والعمرية، إلى جانب الإسهام في تعزيز انتماء المواطن لوطنه، ونحن في المملكة نعتز ونفتخر بتاريخ ومقدسات وتراث أرضنا، ويتعمّق ذلك الاعتزاز والفخر كلما ركزنا على العناية بتراثنا، وزرعناه في قلوب المواطنين.

    أدركتُ منذ كُلِّفْتُ بمسؤولية إنشاء الجهاز التنفيذي للهيئة (الأمانة العامة)، وإدارة الجهود لتطوير السياحة والعناية بالتراث الحضاري الوطني، أنني أمام مشروع استراتيجي مستدام وليس استعراضي وقتي، وأن بناء مؤسسة حكومية رائدة وفاعلة بمثل هذه الأهمية الاقتصادية والاجتماعية، تستجيب لتطلعات الوطن والمواطن، وتعيش مفردات عصرها لتأسيس مسار اقتصادي كبير، يحتاج إلى طول نفس، ولا يحتمل القفز على تتابع المراحل، ولذلك أردتُ أن يكون سيرها كخَبب الجياد بين الركض والهرولة، حتى لا يُفقدنا الاستعجال أو التباطؤ التوازن المهم بين التطوير العصري والقيم الجميلة التي شكلت وحدة أبناء هذا الوطن العظيم. كنت حينها قد خلعتُ للتوّ بزّتي العسكرية، وترجّلتُ من طائرتي، حيث تعوّدتُ أن أرى الأشياء من أعلى (كطيار ورائد فضاء)، وها أنا أجد نفسي مسؤولاً عن إنشاء وتطوير صناعة اقتصادية في بلادي، لا.. بل والنبش في هذه الأرض الواسعة للبحث عن مكنوناتها وتسخيرها لتعزيز حضور التراث الوطني العريق في الذاكرة والحياة في هذا الوطن الرحب، والمساهمة في الحفاظ الهوية الوطنية، هنا فقط شعرتُ بأهمية تمازج رؤية القمم من الأعلى، ورؤية الأشياء عن قرب في تكوين رؤية أكثر شمولية وواقعية.

    أيقنتُ أن هناك حاجة ملحة إلى التفكير بعقلية اقتصادية منفتحة لفهم التحديات ومعالجتها آنذاك، وأن التمسك بالمألوف والتردد في التعامل الإيجابي مع الأوضاع الجديدة والمتغيرات، سيثبط العزائم ويقلل من الإنتاجية، وبناء عليه فلن يمكننا بناء مؤسسة ريادية تستطيع أن تحدث التغيير الإيجابي (positive disruption). فتداخل أنشطة واختصاصات الهيئة التي نص عليها تنظيمها عند التأسيس مع اختصاصات العديد من القطاعات الأخرى في الدولة، كان سبباً في مبادرتنا لتبني مفاهيم وأساليب معاصرة في الشراكة، ورسم التوجهات، وتنفيذ الخطط الاستراتيجية، وفي هيكلة الهيئة، والمسار الاقتصادي الذي أوكلتْ إليها مسؤولية تنظيمه وتطويره، وفي تطوير أساليب العمل والأنظمة الإدارية لتحقيق نتائج ملموسة، وقد تطلب ذلك العمل وفق محورين إداريين متلازمين: مؤسسي ومؤسساتي، بمعنى العمل بذهنية المؤسسة، وحث الآخرين على العمل معنا كمؤسسات بنفس الذهنية. خارج نطاق الإرث الإداري التقليدي.

    بدأتُ منفرداً كأول مسؤول يُعيّن لبناء مشروع السياحة الوطنية، وباشرتُ مع مجموعة صغيرة كوّنتها تدريجياً كنواة للأمانة العامة للهيئة.. كنا نعمل في كل مكان، وكان يجمعني بهم في البداية ذلك الجزء من بيتي الذي طالما شهد الذهاب إلى صلاة الفجر كثيراً بعيون كلَّت وتعبت من السهر المتواصل. عَمِلْنا نحو وضع رؤية وطنية شاملة ورسالة وأهداف، تضمنتها جميعاً فيما بعد الاستراتيجية العامة للسياحة الوطنية، التي أُعيدَ من خلالها التأسيس والتنظيم، وبناء صناعة السياحة والتراث الوطني عبر مبادرات تطويرية ركزت على وضع الأسس الصحيحة لهيكلة الصناعة والمنظومة المسؤولة عن تنظيمها وتنميتها، وتأسيس مسارات نظامية وتنظيمية تنطلق منها التنمية السياحية في المملكة على أسس سليمة، بالإضافة إلى مبادرات تطويرية مستقبلية ومشاريع مبرمجة لتطوير عناصر التراث الحضاري (الآثار، والمتاحف، والحرف، والتراث العمراني)، ومنظومة الفعاليات، ومقدمي الخدمات، وتطوير الكوادر الوطنية، والإسهام في تحسين البنية التحتية والمرافق الخدمية.

    كانت الأعين ترصد وتترقب بكثير من الحذر، البعض جاء وبثّ مخاوفه، وخرج بعد أن بدد الحوارُ الشفافُ تلك المخاوف، وبعضهم خرج بين هذه وتلك. كنتُ حريصاً على ألا نعمل برد الفعل، ولا أن نرد على منتقدينا بحدة مهما كانت انتقاداتهم، وكنتُ أقول، وما أزال، لمن أعمل معهم: نحن نبني جسور الثقة، ويهمنا استقطاب الجميع لرؤانا لنتعلم منهم ومعهم، وليكونوا من بين أهم شركائنا، وليسهموا في البناء معنا. واجتزنا بتوفيق الله عنق الزجاجة لمرحلة التأسيس بكل تحدياتها بمرونة تنظيم الهيئة المؤسسي، وبجهود وطاقات كوادرها المؤهلة من المواطنين المخلصين، وبتفاعل المواطنين الذين تفاءلوا بما كنا نفعله، فأنجزت الهيئةُ مهامها الرئيسة بتوفيق الله ثم بدعم هؤلاء وإيمانهم بدورهم المحوري في عملية البناء والإنجاز، لتكون لدينا قاعدة معلومات، وتجارب، وخبرات، وإطار تنظيمي، وعلاقات مهنية، وشراكات استراتيجية، وتنسيق مركز منظم مع الأجهزة الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص.

    لقد قامتْ تجربتنا في الهيئة على مرتكزات ومبادئ، أهمها الحرص على مصلحة الوطن، والتركيز على المواطن لكونه المعني والأساس لكل ما نقوم به، لإيماني الشخصي، الذي يستند إلى ما تعلمته من والدي، بأن التراث الوطني هو المحور الأساس لتوثيق ارتباط المواطن ببلده؛ وأن على المواطن ألا يكتفي أن يسكن في وطنه، بل عليه أن يعيش ذلك الوطن بتاريخه وتراثه وإرثه الحضاري بكل جوانبه وأبعاده؛ لكي يدرك قيمة وطنه، وقيمة تاريخه ليحافظ عليه ويعمل لخدمة استقراره ويحافظ على مكانته بين الأمم. وقد كانت لدي ولاتزال قناعة كبيرة بأن في قلب كل إنسان مساحة خاصة يعزز من خلالها حبه لوطنه الذي وُلِدَ وترعرع فيه، ويحفزه في ذلك إحساسه بالانتماء إلى تراث حضاري عريق، إلى جانب شعوره بالفخر والاعتزاز برموزه التاريخية والحضارية، فغرس رموز التراث الحضاري في وجدان الإنسان هو غرس للقيمة المعنوية التي تتشكل من خلالها علاقة المواطن بوطنه. وهو أيضاً تأكيد على أن المواطن كان ولا يزال في مقدمة أولويات واهتمامات الدولة، وأن استقراره وتوفير احتياجاته وتعزيز رفاهيته هو الهدف الذي سعت وتسعى إليه دوماً، وهو الشريك الأول والمستهدف في كل تطور أو ازدهار يُنجز.

    لقد مرت تجربتنا في الهيئة بمراحل زمنية مترابطة، أولها بناء الشراكة الفعالة، والعمل دون كلل مع أفراد المجتمع في مواقعهم، والاستثمار في بناء ثقافة السياحة والتراث الحضاري الوطني لدى الجيل الناشئ، وإحداث التحول الفكري لدى الشركاء وفهمهم للقطاعات التي سيصبحون جزءً أساساً من بنائها والاستفادة منها. وقد سبق ذلك كله حرصي على إبراز أهمية الحفاظ على تراثنا الحضاري والعناية بالتراث العمراني الوطني، ولقد طرحت ذلك بشكل معلن لأول مرة خلال تقديمي أول ورقة علمية في مؤتمر رؤساء البلديات في أبها بمنطقة عسير برعاية أميرها آنذاك الأمير خالد الفصيل عام 1408هـ (1988م)، حينما دُعيتُ للمشاركة من قبل معالي وزير الشؤون البلدية والقروية سابقاً الشيخ إبراهيم بن عبدالله العنقري رحمه الله، وعرضتُ فيها أهمية العناية بالتراث والهوية العمرانية، ودعوتُ إلى وضع برنامج للحفاظ على هذا التراث واستلهامه في التنمية الحضرية. ثم تلا ذلك التقرير المفصل الذي رفعتهُ للملك سلمان يحفظه الله (أمير منطقة الرياض رئيس للهيئة العليا لتطوير الرياض آنذاك) في عام 1419هـ (1998م)، وطرحت تكامل الجوانب البيئية، والعمرانية، والتراثية، والاقتصادية في تطوير مدينة الرياض، والتي كان لرؤيته الشاملة والحكيمة الأثر الأكبر في إحداث نقلة كبيرة فيها وتحويلها إلى مدينة عالمية.

    لقد تميزت تجربة الهيئة بكونها أيضاً تجربة تطويرية جريئة للمنهجيات والأدوات المعتادة في العمل الحكومي التنموي، إذ اعتمدتْ منهج التحديث الإداري الشمولي المنفتح على بناء الجسور مع الشركاء والمجتمع. وهذه المبادئ هي ما أُسست عليه هذه الدولة المباركة منذ نشأتها قبل أكثر من ثلاثمائة عام، وقصة توحيد المملكة التي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز -طيب الله ثراه- هي مثال حي على الإصلاح والتطوير الذي انتهجته الدولة، ودليل عملي على قدرة المواطن على قبول التغيير والمشاركة فيه بفاعلية متى ما تجلّتْ أمامه الصورة بكامل أبعادها، ومتى ما شعر أن التغيير يجري ضمن أطر تتوافق مع القيم التي توافق عليها الناس. وقد حاولتُ قدر الإمكان أن أعرض تجربة الهيئة في هذا الكتاب بأسلوب يحاكي الجميع، من منطلق أن الجميع كانوا شركاء لنا في تحقيق ما تم إنجازه، وفي تخطي التحديات والصعوبات.

    يمكنني القول أن العمق الحقيقي لتجربة الهيئة في التأسيس والتطوير يكمن في كونها تجربة تحوّل وطنية بالدرجة الأساس، متعددة الأبعاد: إدارية، واقتصادية، واجتماعية، ولكل بُعد أهمية كبيرة وعلاقة وثيقة بالمرحلة الحالية التي تشهدها المملكة، وتشتمل على مبادرات ذات أهمية استراتيجية وتأثير كبير في مسيرة التنمية الوطنية. ولا تقتصر أهمية التجربة بأبعادها وتفاصيل حيثياتها على ما قطعته الهيئة من أشواط، وما حققته من إنجازات، فهذا حكمٌ نـتركه للمهتمين، وللتاريخ، وإنما في الدروس والعبر التي تحملها في طياتها عن التحديات التي واجهتنا، وكيف تعاملنا معها مؤسسياً، إلى جانب التحديات التي واجهتُها شخصياً، وكيف تعاملتُ معها؛ لكوني المسؤول (كرئيس للهيئة) عن الكيان التنفيذي الذي أُنيطت به مسؤولية هذا المشروع الكبير.

    قد حرصتُ أن يحتوي الكتاب على بعض أهم المواقف الإدارية، والقرارات، والأحداث التي خاضتها الهيئة منذ تأسيسها، وكيف عملنا على الاستفادة من الفرص، ومحاولة إيجادها أحياناً من لا شيء. والغاية من عرض تفاصيل هذه التجربة هو إيضاح الصورة الكاملة عما أردنا أن ننجزه للنهوض بالسياحة والتراث الحضاري الوطني كصناعة متكاملة ومستدامة، ولجعل السياحة الوطنية الخيار الأول للمواطن، وأحد أهم خياراته لفرص العمل والاستثمار، وأن يكون تاريخ وحضارة بلاده حاضرين في وجدانه وحياته، وأن يتحوّل ليكون أول حامٍ لإرثه الحضاري وتراث بلاده العريق.

    ومن المهم أن أُشير إلى أن طبيعة مهام الهيئة منذ تأسيسها تضمنت عدداً كبيراً من الأحداث والقضايا والمهام المتشعبة والمعقدة، التي قد يصعب أحياناً ذكر كل من أسهم فيها (أشخاص أو مؤسسات). لذا، ولتسهيل استيعاب ما مرت به الهيئة والجهود التي استُثمِرتْ لتحقيق ما أنجزته، خصصت صفحة خاصة، ضمن الموقع الخاص بهذا الكتاب، تعرض الوثائق والتقارير التي أمكن نشرها في كتاب عام، والتي تخص القصص والمواقف الرئيسة الواردة في الكتاب، والتداول الإعلامي حول السياحة والتراث الوطني في مناسبات مختلفة. بالإضافة إلى المراجع والكتب المهمة ذات العلاقة بهذا الكتاب، ومنها كتاب «سيرة في التراث العمراني»، وكتاب «من الاندثار إلى الازدهار.. البعد الحضاري الوطني للمملكة العربية السعودية» بنسخته الجديدة.

    إن المحطات الرئيسة التي مرت بها الهيئة وشركاؤها خلال مسيرة النهوض بالسياحة والتراث الحضاري الوطني، والمواقف والظروف التي تعاملت معها، وما اكتنفها من تحديات وصعوبات، وما تحقق لها من نجاحات، أو ما شابها من قصور، وما صاحب ذلك من دروس وعبر، جعلت منها، حسب رأي المتخصصين، أحد النماذج المرجعية (Benchmark) في مجال الإدارة الحكومية المعاصرة، وتجربة جديرة بالدراسة في مجال تأسيس القطاعات الاقتصادية الجديدة، وإدارة المسارات التنموية بفاعليةٍ وتركيز. ويمكن الاستفادة من الدروس التي تضمنتها تجربة الهيئة في تطوير أداء المؤسسات والأجهزة الحكومية، وثقافة العاملين فيها، وفي بناء القطاعات التنموية الجديدة. وقد قمتُ بوصفها وتقديمها في فصول وثنايا الكتاب على أنها ثقافة تنظيمية للهيئة، اعتمدتْ منظومة من القيم المؤسسية المبنية على الشراكة والشفافية، واللامركزية، والانفتاح، والتعلم، والإنجاز، وتطبيق الأطر الإدارية المبتكرة من أجل إدارة النقلات التي حققتها، بعيداً عن ثقافة التنافس على الصلاحيات، والانفراد في اتخاذ القرارات وفي تنفيذها، والاستحواذ على المنجزات، منطلقين من حقيقة أنه كلما كان الجهاز الإداري أكثر انفتاحاً، وحيويةً، وإبداعاً، أصبح ذلك أدعى للنجاح وأكثر انسجاماً مع طبيعة صناعة السياحة والتراث الوطني الديناميكية والمتجددة.

    ختاماً، إن هذا الكتاب يقدم قصة (السياحة والتراث الوطني) كإحدى قصص بناء قطاعات جديدة في المملكة العربية السعودية وهي الدولة التي استمرت تبني وتطور طوال تاريخها، وسيجد من يقرأ التفاصيل التي تعرضها فصول الكتاب والموقع المصاحب، المعلومات الموثقة والأجوبة عن التساؤلات حول ما تمكنت الهيئة بفضل الله من تقديمه منذ تأسيسها وحتى تاريخ تسليمي مهام رئاسة مجلس إدارتها في ربيع الثاني 1440هـ (ديسمبر 2018م)، وما كان بإمكانها تقديمه في مراحل التأسيس الأولى لو تيسر لها الدعم والقرارات الممكنة في وقته، وفي المستقبل في ظل التمكين والتركيز الكبيرين من الدولة في هذا الوقت على السياحة والتراث الوطني؛ لتتحول السياحة في المملكة والعناية بالتراث الحضاري الوطني إلى قطاعات أساسية في حياتنا واقتصادنا ومستقبلنا إن شاء الله تعالى.

    والله الموفق.

    سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود

    1444هـ/ 2023م

    الباب الأول

    التأسيسي والبناء

    التمهيد

    يبدأ هذا الباب بعرض قصص من مدارس حياتي الشخصية، إذ وجدتُ من المفيد لمن يقرأ هذا الكتاب أن يطّلع في بدايته على مدارس الحياة التي كوّنتْ خبراتي الشخصية والمهنية، وأهمها تلك التي تتعلَّق بنشأتي منذ الصغر، بدءًا من الطفولة المبكرة، والتربية الأسرية، والحياة الخاصة، والأسس والمبادئ التي تربيتُ عليها، إضافة إلى مدارس حياتي العملية التي مررتُ بها. 

    وأردتُ أن يكون عرض تلك التجارب الشخصية السابقة مدخلاً مهمّاً يبيّن الروافد التي شكلتْ بمجملها شخصيتي الإدارية التي كانت خلف ترشيحي واستقطابي لمهمَّة قيادة الجهاز الإداري (الهيئة العليا للسياحة) الذي جرى إنشاؤه من الدولة في عام 1421هـ (2000م) وتكليفه بتنظيم صناعة السياحة والمحافظة على التراث الوطني في المملكة، وتطويرهما، وتنميتهما. 

    يعرض هذا الباب - كذلك - المنهجية المتكاملة التي جرى تبنيها لإدارة مشروع البناء الإستراتيجي والمؤسسي الذي أُطلق مع تكليفي رسميّاً، بوصفي أول أمين عام للهيئة، وتعرض فصول هذا الباب القصص والمواقف التي خضتها مع زملائي الذين عملوا معي في بداية التأسيس لبناء شخصية الهيئة الاعتبارية، ولتكون مؤسسة رائدة متميّزة بأسلوب عملها وثقافتها، وأخلاقياتها.

     وتبيّن الفصول - أيضاَ - المعايير التي جرى وضعها وتطبيقها لتحقيق التميّز المؤسسي، والجهود التي بٌّذلت لاستقطاب الكفاءات الوطنية المتميّزة وتوظيفها وتطويرها، إلى جانب الخبرات والكفاءات الدولية، وبناء منظومة القيم المؤسسية، وإطلاق كثير من المبادرات غير المسبوقة في العمل الحكومي لتعزيز الأداء الوظيفي والمؤسسي. 

    يعرض هذا الباب - إضافة إلى ذلك - تجربة الهيئة في احتواء تأخر إقرار الخطة التنفيذية لتفعيل الإستراتيجية العامة لتنمية السياحة الوطنية المعتمدة من الدولة، وخطة العناية المركّزة، وتطوير الأنظمة واللوائح، والتعامل مع الصحافة والإعلام. 

    الفصل الأول: 

    مدارس الحياة: تأسيس القيم وأخلاقيات التعامل

    قبل البدء بعرض التجربة المؤسسية للهيئة في تطوير صناعة السياحة والتراث الوطني لا بدَّ أن أُشيرَ إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن روح التجربة، التي يعرض تفاصيلها هذا الكتاب في ثناياه وفصوله، لم تأتِ من مجهود شخصي، أو مبادرات مؤسسية معتادة، أو دراسات أُعدّتْ من بيوت الخبرة والاستشارات كما يحدث في معظم الأحيان. إنما نشأتْ هذه الروح في مسار أصّلَ لأمورٍ يفخر بها كل إنسان مسلم يعتز بدينه وقيمه الأخلاقية، ويرتبط بها ارتباطًا وثيقًا طوال حياته، وهي تبدأ من نشأته في البيت أولًا وقبل الوصول إلى المدرسة، فالجامعة، ومن ثمَّ المنصب الإداري.

     وفي اعتقادي أنَّ تلك الروح ليستْ هي مجرد قناعات الإنسان وأخلاقياته، وليستْ هي أيضًا تلك التراكمات من التجارب والخبرات الثقافية التي اكتسبها وصارت جزءًا من شخصيته، وإنما هي كل هذه المنظومة ملفوفة بوعاء الضمير الذي يشكّل سياجها الأساسي، إلى جانب دافع المبادرة ليس من أجل الذات، وإنما من أجل الآخرين، وهي منظومة يمكن تمثيلها بمجموعة جداول تصبُّ جميعها في نهر واحد، يشكّل في النهاية المصبّ، أو النهج الإداري الذي يتبنّاه الإنسان في إنجاز مهامه، وتحقيق نجاحاته. وللحق فإنني قد استفدتُ من كل تجارب حياتي: استفدتُ من تجربتي في الطيران القدرة على استنطاق الأفق الواسع، واستفدتُ من العسكرية الحسم فيما يحتاج إلى حسم، والأهم أنني تعلمتُ من تجارب الذين عملتُ معهم أو بالقرب منهم، كبعض قادة الوطن والمسؤولين، إضافةً إلى الالتقاء بقيادات دولية من رؤساء وزعماء أسسوا دولًا وهيئات ومنظمات، وقادوا مبادرات إصلاحية، وتنموية ناجحة. 

    وقبل ذلك كله استفدتُ من تجربة ريادة الفضاء في تأمّل عظمة الخالق، وأن ما ننشغل به أحيانًا من التفاصيل الصغيرة في مجمل شؤون حياتنا، ربما لا يبدو واضحًا، أو ذا قيمة فيما لو ارتفعنا بسلوكنا وعملنا وردود أفعالنا عنه قليلًا. 

    مدرسة الأسرة

    نشأتُ منذ طفولتي بين أهلي، وأنا أتشبّع بأمور تربوية من صميم مجتمعنا السعودي، وأولها الجانب المرتبط بالقيم الدينية، فكما هو الحال مع كل أسرة سعودية كانت القيم الإسلامية دائمًا حاضرة إلى جانب الالتزام بأداء العبادات، والاهتمام بالتعاليم الدينية. وفي اعتقادي أن القيم الإسلامية هي مفصل مهمٌّ في حياة كل طفل، بأن يتربى عليها، وهو يمارس العبادات والفروض في مراحل مبكرة من عمره. لم تكن تُملى علينا تلك الفرائض قسرًا، ولم يكن هنالك أي تعسف في تفاصيل تربيتنا كافة، بل كانت تأتي بطريقة سلسة، وإيجابية، وعبر أنموذج صناعة القدوة الذي يتبناه والديّ.

     كنا نرى التزام أداء الصلوات، والصدق، والأمانة، وقول الحق، واحترام الوقت، وكل الفضائل تتأصل أمامنا سلوكًا عمليّاً نستلهمه تطبيقًا من والدي ووالد الجميع الملك سلمان بن عبدالعزيز - يحفظه الله - ووالدتي سلطانة بنت تركي بن أحمد السديري، رحمها الله. 

    كان والدي، هذا الرجل الذي تستطيع أن تضبط ساعتك على مواعيده، إنسانًا ملتزمًا في كل شيء ولا يزال، وكذلك كانت والدتي، ولك أن تتخيّل كيف ستكون تربيتهما لأبنائهما، لذلك كنتُ أرى آثار تلك التربية - كذلك - في أخلاقيات بقية أفراد الأسرة، ومنهم أخي الأكبر فهد، الذي كان حقيقةً في مقام المُربٍي لي، برغم أنه كان يكبرني بــ (11) شهرًا فقط، وكنا نعيش قريبين من بعضنا، وأدين له، بعد والديّ سلمان وسلطانة، بالكثير في تكوين شخصيتي ونظرتي للحياة، والعمل لخدمة الناس، حتى توفاه الله عام 1422هـ (2001م)، وكذلك أخي أحمد - رحمهما الله جميعًا - الذي كان نبيلًا في خُلُقه وكرم طباعه، وسمو روحه وشجاعته في المبادرة والإبداع، والذي توفي هو الآخر عام 1423هـ (2002م)، في فاجعتين متتاليتين لا زالت غصتهما تستقرُّ ألمــًا في أقصى الوجدان. 

    ولا بدَّ لي أن أعترفَ أنني كنتُ محظوظًا - ولله الحمد - أن نشأتُ في بيت له كل هذا الرصيد من الاعتبارات التربوية، والمحتوى الأسري الذي يحثُّ على التعاون والتكاتف، بدءًا من محور الأسرة المباشرة (والدي ووالدتي وإخوتي)، إلى المحور الأوسع للعائلة، ومنهم جدتي الأميرة حصة بنت أحمد السديري - رحمها الله- وأعمامي، وعماتي، وأخوالي، وخالاتي، وأبناؤهم، وبناتهم. 

    والفضل في ذلك يعود - بعد الله عز وجل- إلى جدتي الوالدة حصة بنت أحمد السديري، تلك المرأة الاستثنائية التي كان لها دور كبير في تربيتنا ونشأتنا، إذ كانت ومجموعة كبيرة من النساء، ومنهنّ والدتي، وبناتها، وأخواتها وأقاربها وكثير من نساء الأسر يجتمعنَ يوميًا في البيت. 

    وهي امرأة استثنائية بحق، نسبةً لقدرتها على استقطاب الجميع بكاريزما شخصيتها الأليفة حدّ الاحتضان، كما لو أنها تمتلك مفاتيح كل شخصية من شخصيات أقاربها، مما يجعلهم يندفعون لحضور مجلسها بحفاوة، ولكون مشاغل آبائنا وأعمامنا في وقت نشأتي آنذاك، وهم رجالات دولة كما هو معلوم أقل نسبيًا مما هي عليه اليوم، فقد كان الجميع يحرص على أن يكون إلى جانبها أيضًا متى ما تهيّأتْ ظروفهم، لا أحد منهم يريد أن يتخلّف عن مواعيدها ما لم يكن هنالك مانع أقوى من رغبته في الحضور، فكنا نجتمع كل يـوم تقريبًا في موعد الغداء اليومي في مزرعتها جنوب الرياض -منطقة المصانع- على ضفاف وادي حنيفة. 

    وخلال الإجازات نذهب إلى الصحراء للصيد بالصقور، ونبقى هناك لفترات طويلة، ويبدو أن هذا كان جزءًا من التربية، فهم لا يريدون أن نعتاد حياة المدن وحسب، لذلك لا بدّ أن تترك الصحراء بقسوتها بصمتها على سحناتنا.

     الصحراء تعلّم الصبر، والقدرة على التحمّل، والمسؤولية، ومواجهة الصعاب، والظروف القاسية، كما كنا نذهب في الصيف حيث العطلة الصيفية الطويلة إلى الطائف مع الأسرة جميعها، لنتمتع بأجوائها الساحرة، ومزارعها، وأوديتها، ونسعد في ربوعها بحياة فيها من الألفة والأنس ما يجعلنا ننتظر موعدها كل عام بلهفة لا نظير لها.

     كانت الطائف ربما بنصف حجمها الآن، لكنها كانت أنيسة، وصدق من أطلق عليها (الطائف المأنوس)، وكانت الحياة فيها في منتهى البساطة من دون وجود أيّ من المؤثرات المستجدّة في عصرنا الراهن، وكنَّا في أغلب الليالي نجتمع بأعمامنا في مزرعة الملك فهد - رحمه الله -، أو في منزل أحد الأعمام، أو الوالد، أو بالقرب من الوالدة ومجموعة نساء الأسرة من العمات، والخالات، وأسرهم الكريمة الذين تميّزوا بأخلاقهم العالية، وتآلفهم الجميل مع الجميع، وبيوتهم المفتوحة المرحبة بكل الناس. 

    من هناك بدأت نشأتي تأخذ مسارها في التعلّم من الكبار، وتركيز الاهتمام في القيم والأخلاقيات الفاضلة المتوارثة عبر الأجيال، التي في رأيي هي أساس هذه الدولة المباركة، ومرتكز استمرارها.

     كل الكبار كانوا آباءً لنا، ومن حقنا عليهم أن يربّونا، ومن حقهم علينا أن نحترمهم، ونوقرهم. على هذا الأساس كانت مصادر تربيتنا مجموعة دوائر: الدائرة الأساس الأب والأم والجدة والأشقاء الأكبر سنًا، ثم الأقارب الذين نلتقيهم يوميّاً، ثم النخبة من الأعمام ورجالات الدولة وعامة المواطنين الذين عاصروا بناء الدولة، وكانوا بالنسبة إلينا مدرسةً في الوطنية، وأعتقد بيقين أنني استفدتُ بشكل مضاعف من هذا الثراء التربوي بحكم قربي المباشر في أثناء تلك الرحلات من جميع أفراد أسرتي والعائلة ككل، فقد كنتُ أنظر إلى قيادات الدولة كيف كانوا يعملون، ويواجهون المصاعب بعزيمة هادئة، وكيف يُديرون تلك التحدّيات التي كانت تواجههم، ويخرجون منها أقوى وأصلب عودًا.

     كان والدي حريصًا على أن نكون أنا وأخوتي قريبين منه، وقد شكّل لي هذا القرب منه ومعه، الجسر الذي ساعدني، وإخوتي المعاصرين لتلك المرحلة (فهد وأحمد، ثم عبدالعزيز لاحقًا وفيصل والأخت حصة فيما بعد) على اختصار كثير من الوقت في التعلّم، والإفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم، والعبور مباشرة لمضامين تلك التجارب، بشكل مكنني من استيعابها ومحاكاتها طوال حياتي الشخصية والعملية، كما تعلمتُ من والدتي -رحمها الله- هدوءها وقت الصعاب، وتلك السكينة وذلك اليقين الذي يحفها أمام مصاعب الحياة، ويدفعها للتعلّق أكثر فأكثر بالله سبحانه، والرضا بقضائه وقدره.

    لذا كانت في نظري، ونظر كثيرين ممن عرفوها، امرأة من طراز نادر، تتمتّع بقدرة فائقة على الجمع بين صفتي اللطف والحنان والعاطفة المتدفّقة، وفي الوقت نفسه صلابة المراس والعزيمة القوية أمام الأحداث وعثرات الحياة. 

    إنَّها المرأة المدرسة التي كان لها أبلغ وأكبر التأثير في كل شيء في حياتي.

    كانت تلك الرحلات الأسرية بالنسبة إليَّ أشبه ما تكون بدورات تربوية مكثفة، أو هي «خلية تعلّم»، وأنا أحبُّ أن أسميها هكذا. تعلمنا (إخوتي وأنا) خلالها كثيرًا من أصول الانفتاح على الناس، وأدبياته، واحترامهم، والتعامل معهم بسجيتنا وطبيعتنا؛ بوصفنا أبناء وطن واحد، فتعلمنا في مراحل مبكرة من العمر أنَّ اختلاطنا بعامة الناس، واندماجنا معهم، لا يجب أن يكون من منطلق التواضع، فنحن منهم وهم منا، فنحن بصفتنا مسلمين مؤمنين بأنَّ الله خلقنا سواسية، وأنَّ لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وبالعمل الطيب في معاملة الناس، وتعلمنا قبل هذا أننا بوصفنا مواطنين، وأبناء لهذه الأسرة التي كافحت مع الجميع من أجل لمّ شمل هذا الوطن، أنّ علينا مسؤولية مضاعفة لخدمة هذا المنجز التاريخي، وردّ الجميل لهذا الوطن الذي قدم لنا كثيرًا، وأننا لا نحمل ألقابًا، بقدر ما نحمل مسؤوليات ينبغي لنا أن نؤديها بالشكل الذي يُرضي الله عنا. 

    واليوم، وبعد خبرة كل هذه السنين في التعاملين الرسمي والشخصي مع الناس، أرى شخصيّاً أنَّ التقاء المسؤول مع الناس، والتعامل معهم بشكل مباشر هو ارتقاء له، وليس تواضعًا منه. 

    وهذا هو نتاج ما تعلمناه من أسرتنا في البيت بأنَّ الناس طيبون، وليسوا بسطاء، وهم من يغنون ويثرون هذه الحياة، ويعطونها نكهتها الأصيلة بطيبتهم. 

    وقد تأثرتُ كثيرًا بهذه الثقافة، حين كنتُ أرى كيف كانت جدتي حصة السديري تتعامل مع الناس، كيف كانت تتلطف مهم، وتكسر كل الحواجز ما بينها وبينهم، وكيف نشأ أبناؤها وبناتها على التعامل اللطيف مع الناس، ومشاركتهم همومهم ومشكلاتهم من دون أن يروا في ذلك عبئًا عليهم، بل كانوا يشعرون بأن جزءًا من واجبهم ومسؤوليتهم أن يهتمّوا ويُشعِروا الآخرين أنهم مهتمون بأعبائهم، وأن يساعدوهم على تجاوز مشكلاتهم. 

    وقد كان الملك المؤسس عبدالعزيز - طيَّب الله ثراه- هو القدوة بالنسبة إلينا جميعًا، فهو لم يأتِ ليجمع شمل الناس وحسب، وإنما جاء ليحافظ على الجانب القيمي الأخلاقي في حياتهم، وأن يصنع بها منهم المجتمع الذي يبدو كالبنيان المرصوص، إذ سعى -رحمه الله- إلى تأصيل تلك السجايا التي يتمتّع بها السعوديون، والرفع من قدرها؛ لتكون حاضرةً في كل مكان في بلادنا، في البادية وفي الحضر، وفي كل سلوكيات هذا المجتمع الذي لا يزال يستمدُّ قيمه من فيض نور الإسلام، ثم من شهامة وعراقة تقاليد أبناء هذا الوطن الذين بدؤوا معه آنذاك ببناء هذه الدولة بكل ما يمتلكونه من مخزون قيمي وأخلاقي كبير. 

    لذلك دائمًا ما كنت أقول: إن «وحدَّة بلادنا ليست وحدَّة جغرافيا وتراب فقط، وإنما هي أساسًا وحدَّة قلوب». كما أردد دائمًا: أن الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه - وبالنظر إلى تصرفاته وطريقته في التعامل مع الناس، والعمل من أجلهم، إنما كان قائدًا جمع الناس حوله وأشركهم في بناء الدولة، وتقدّمهم في مراحل التوحيد - سلمًا وحربًا - وعاصر همومهم، وعاش بينهم، فأحبوه ووثقوا به، لا بصفته زعيمًا وإنما لكونه (مُلْهمًا) موثوقًا؛ لذلك هبّوا معه لبناء هذا الكيان الكبير؛ لأنه لم يكن «حاكمًا» متمسكًا بالسلطة والحكم من أجل الحكم وبأي ثمن!، بل كان - رحمه الله- بانيًا موحدًا لشتات شعب هذه الأرض المباركة، على أساس من العدل والخير للجميع. 

    وهذا ينطبق أيضًا على أبنائه وأسرته الممتدّة، الذين تشربوا هذه المعاني من والدهم المؤسس، فانعكس ذلك إيجابًا على سلوكياتهم، وتصرفاتهم، واستمرُّوا في البناء والإضافة لهذا الصرح العظيم لبنةً لبنة، ليكتمل البناء ويزدهر.

     وقد تجلَّى تميّزه بالجانب القيمي والأخلاقي الذي نبع من الإسلام، والقيم العربية الأصيلة، في أنَّ الأخلاق هي الأساس الذي يسهم في تثبيت أركان الأمم وتمكينها، وهو أهمّ معايير النجاح سواء على مستوى الفرد، أم المؤسسة، أم المجتمع، أم الدولة. ولذلك، كان الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه - يحرص دائمًا على أن يختار الناس الذين يعملون معه لا لخبرتهم فقط، بل أيضًا لقربهم من الناس، وإنسانيتهم، ومدى تمكّنهم من التعامل معهم، ولإيمانهم بالقيم التي رسّخ حياته من أجل أن تسود في وطن الإسلام. 

    وَغَنيٌ عن القول إننا اليوم أصبحنا جميعًا نعي أنَّ كيان هذه البلاد مستمرٌّ - بإذن الله - صلبًا وقويّاً وشامخًا ما دمنا نتمسك بالأخلاق والقيم ذاتها منهجَ حياة. 

    واستلهامًا لهذه الثقافة التي تلقيتها في سنوات حياتي المبكرة، فإنني أركزُ في مسيرة حياتي الشخصية والمهنية في استيعاب الناس، واستيعاب ما عندهم من مخزون، مما يمكّنني من التعلّم والاستفادة منهم، حتى يومي هذا، لعلني لم أقابل شخصًا (مواطنًا في مدينة، أم قرية، أم موظفًا مبتدئًا، أم قياديًا) في الهيئة، أو في غيرها من المؤسسات التي أشرِفُ عليها، أو أعملُ بها إلَّا وتعلمتُ منه أمرًا نافعًا. 

    مدرسة الانتماء الوطني

    تضمنتْ تجربة النشأة والتعلّم الحياتية بالنسبة إليَّ جانبًا أساسيًا آخر، لا تقلُّ أهميته عن أهمية جانب القيم الأخلاقية، وهو الانتماء الوطني، فقد عشت في بيت والدي، ووالدتي - رحمها الله، وقد كانا يؤكدان تعميق مشاعر المواطنة في نفوسنا، ورفع مكانة الوطن في قلوب أبنائهم كافة، وتنشئتهم على هذه العاطفة السامية. 

    كنا نذهب مع والدي في رحلات الصيد التي كانت تستمرُّ أسابيع كثيرة أحيانًا، وكنتُ وأخي فهد نذهب أولًا؛ لأنني كنتُ المسؤول عن تنظيم تلك الرحلات، وكنتُ صاحب معرفة بالبر والصيد، وكان من أبرز مهامي تدريب الطيور (الصقور). 

    لم نتعلّم من تلك الرحلات الصيد، أو تربية الصقور فحسب، بل علمتنا تلك الرحلات أيضًا حياة الرجال والأصول، وأَصّلَت غرس أقدامنا في أرضنا، فكانت متعتنا وأجمل ذكرياتنا في أرضنا وبلدنا، ومن ذلك الوقت أصبح لدي هاجس بأن يجد المواطن نفسه، ومتعته، ومتعة أولاده، وذكرياته قد غُرِسَت منذ طفولته في وطنه، حتى يستطيعَ أن يحققها بعد ذلك في أبوته إن كان أبًا أو أمومته إن كانت أمًا، وكان ولايزال هذا الأمر مهم جدًا بالنسبة إليَّ، وأتمنى ألا تندثر هذه الصلة مع الوطن يومًا ما بسبب التغيّر في أساليب التربية والحياة والتواصل الأسري.

    لقد تربينا في مجتمعنا، وفي بيوتنا على الاعتزاز بالقيم الأساسية، وجعلها مبدأ حياة، واستمر ذلك معي حتى في البناء المؤسسي للهيئة، وغيرها من المؤسسات التي تشرّفتُ بخدمتها، إذ كنتُ دائمًا ولازلتُ أنظرُ في الناس والرجال الذين أقابلهم، وأعمل معهم إلى من يملك هذه الثقافة، وقيم الانتماء الوطني إلى جانب التحلي بالصدق والحصافة.

     هذا الأمر مصيري بالنسبة إليَّ، وأرى أنَّ أي إنسان يحمل هذه الثقافة والقيم لو قُدِّر له أن يجلس في بيته وهو فقير ومُعدم، لن يقبل أن تتسبب التغيّرات في ظروف حياته في تغيير الجانب القيمي عنده؛ ذلك لأنَّ هذا الجانب (القيمي والأخلاقي) باقٍ دون شك ما بقيت الدنيا، وليس له علاقة بوظائف، أو بمناصب، أو بثروة وجاه، أو بأي شيء آخر. 

    لقد تعلّمنا ذلك من البيت، وتحديدًا من آبائنا، وأعمامنا، وأمهاتنا؛ ومن ينظر إلى ما حققه قادة بلادنا العزيزة، ويسأل: كيف استطاع هؤلاء القادة أن يبنوا هذا الوطن، بكل هذا المستوى من الشموخ، وأن يحققوا فيه هذا الازدهار، وهذا الاستقرار؟ لكان الجواب حتمًا على ذلك هو أن من تولّوا أمر هذه البلاد - رحم الله من غادرنا منهم وحفظ من بقي - لم يفعلوا مثل ما فعل آخرون الذين حكموا بمبدأ «فرّق تسُد»، إذ أحدثت تلك الفئات في نظري انفصامًا هائلًا في النسيج الاجتماعي، وتفتيت للقيم السائدة لتلك الشعوب، وفصلت الناس عن الأرض التي ينتمون إليها، وفرغتهم من جانب الأخلاق والقيم، فأصبحوا أناسًا يقفون على رمال متحرّكة، بعد أن كان ذلك النسيج يجمعهم:

    إنما الأمم الأخلاق مـــا بقيت        فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

     (أحمد شوقي) 

    وقبل ذلك كله يجب أن نتذكَّر أنَّ الله عز وجل يقول في محكم كتابه الكريم مخاطبًا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «وإنك لعَلى خُلقٍ عظيم» (القلم: 4)، وهي أعلى صفة وصف بها الله رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يقول في الحديث الشريف: «إنما بُعِثْتُ لأُتمِمَ مكارمَ الأخلاق». ولقد أُعجبت بحفل التكريم الذي أُقيم في صفر 1437هـ (ديسمبر 2015م) في الكويت لسمو الأمير الراحل سعود الفيصل -رحمه الله-، وكان عنوانه «سعود الفيصل... السياسة في حضرة الأخلاق». 

    أستطيع القول: إن تلك المرحلة من حياتي قد مثّلتْ بالنسبة إليَّ مرحلة النهل من معين تلك التجارب التربوية بمكتسباتها ذات الطابع الأخلاقي ، والتي أدّتْ بي لأن أصل إلى جملة من القناعات المرتبطة بموقع الوطن في الوجدان، وأصبحتُ أؤمن أن كل تصرف يصدر مني يجب ألاَّ يقلّ عمّا يليق بهذا الوطن بتاريخه وحضاراته، ويرقى إلى مستواه وثقله بين أوطان الأرض، بل يرقى إلى مستوى الأمور التي تعلمتها من تاريخ المؤسس العظيم وسيرته ومسيرته في تحقيق الوحدَّة الوطنية، وأفراد الأسرة والآخرين كافة من أبناء

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1