Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار
Ebook740 pages6 hours

المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يعد هذا الكتاب بإجماع آراء الباحثين أهم كتاب في تاريخ مصر وجغرافيتها وطبوغرافية عاصمتها في العصر الإسلامي، فهو الكتاب الوحيد الذي وصل الينا ويقدم لنا - اعتمادا على المصادر الأصلية- عرضا شاملا لتاريخ مصر الإسلامية ولتأسيس ونمو عواصم مصر منذ الفتح الإسلامي حتى القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ويعد اليوم مصدرا لا غنى عنه للمشتغلين بدراسة آثار مصر الإسلامية. فيوفر لنا الكتاب قائمة تفصيلية وأوصافا دقيقة بالقصور والجوامع والمدارس والخوانق والحارات والأخطاط والدور والحمامات والقياسر والخانات والأسواق والوكالات التي وجدت في عاصمة مصر خلال تسعة قرون. وترتكز هذه القائمة في الأساس على الملاحظات الشخصية للمقريزي وعلى مصادر لم تصل إلينا، فحفظ لنا المقريزي بذلك نقولا ذات شأن للمؤلفين القدماء الذين فقدت مؤلفاتهم اليوم.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateApr 24, 1902
ISBN9786435722243
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

Read more from المقريزي

Related to المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

Related ebooks

Reviews for المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار - المقريزي

    الغلاف

    المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

    الجزء 6

    المقريزي

    845

    يعد هذا الكتاب بإجماع آراء الباحثين أهم كتاب في تاريخ مصر وجغرافيتها وطبوغرافية عاصمتها في العصر الإسلامي، فهو الكتاب الوحيد الذي وصل الينا ويقدم لنا - اعتمادا على المصادر الأصلية- عرضا شاملا لتاريخ مصر الإسلامية ولتأسيس ونمو عواصم مصر منذ الفتح الإسلامي حتى القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ويعد اليوم مصدرا لا غنى عنه للمشتغلين بدراسة آثار مصر الإسلامية. فيوفر لنا الكتاب قائمة تفصيلية وأوصافا دقيقة بالقصور والجوامع والمدارس والخوانق والحارات والأخطاط والدور والحمامات والقياسر والخانات والأسواق والوكالات التي وجدت في عاصمة مصر خلال تسعة قرون. وترتكز هذه القائمة في الأساس على الملاحظات الشخصية للمقريزي وعلى مصادر لم تصل إلينا، فحفظ لنا المقريزي بذلك نقولا ذات شأن للمؤلفين القدماء الذين فقدت مؤلفاتهم اليوم.

    أحكام السياسة

    اعلم أن الناس في زمننا ، بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام ، يرون أن الأحكام على قسمين : حكم الشرع ، وحكم السياسة . ولهذه الجملة شرح ، فالشريعة هي ما شرّع الله تعالى من الدين وأمر به ، كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البرّ ، واشتُقَّ الشرع من شاطىء البحر ، وذلك أن الموضع الذي على شاطىء البحر تشرع فيه الدواب ، وتسميه العرب الشريعة ، فيقولون للإبل إذا وردت شريعة الماء وشربت : قد شرع فلان إبله ، وشرّعها ، بتشديد الراء إذا أوردها شرية لماء ، والشريعة والشراع والشرعة ، المواضع التي ينحدر الماء فيها . ويقال : شرّع الدين يشرّعُهُ شرعاً بمعنى سنّه . قال الله تعالى : 'شرّع لكم من الدين ما وصى به نوحاً' الشورى 13 ويقال : ساس الأمر سياسة ، بمعنى قام به . وهو سائسٌ من قومٍ ساسةٌ وسوس ، وسوّسه القوم . جعلوه يسوسهم ، والسوس الطبع والخلق ، فيقال : الفصاحة من سوسِهِ الكرمُ من سوسِه ، أي من طبعِهِ . فهذا أصل وضع السياسة في اللغة . ثم رُسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال .والسياسة نوعان : سياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم الفاجر ، فهي من الأحكام الشرعية ، علمها من علمها ، وجهلها من جهلها . وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعدّدة . والنوع الآخر سياسة ظالمة ، فالشريعة تحرّمها وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا ، وإنما هي كلمة مُغْليَّة ، أصلها ياسه ، فحرّفها أهل مصل وزادوا بأولها سيناً فقالوا سياسة ، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية ، وما الأمر فيها إلاّ ما قلت لك .واسمع الان كيف نشت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام . وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق ، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة ، قرّر قواعد وعقوبت أثبتها في كتاب ، سمّاه ياسه ، ومن الناس من يسميه يسق ، والأصل في اسمه ياسه ، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ ، وجعله شريعة لقومه فالتموه بعد حتى قطع الله دابرهم . وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض ، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره ، فصار الياسه حكماً بتَّاً بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه .وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى ، أبو هاشم أحمد بن البرهان ، رحمه الله : أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد ، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن : من زنى قُتِلَ ، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن . ومن لاط قُتِلَ ، ومن تعمَّد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد ، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قُتِل . ومن بال في الماء أو على الرماد قُتِل . ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يُقتل بعد الثالثة . ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قُتِل ومن وجد عبداً هارباً أو أسيراً قد هرب ولم يردّه على من كان في يده قُتِل . وأنْ الحيوان تُكتَّف قوائمه ويشقُّ بطنه ويُمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه . وأنَّ من ذبح حيواناً كذبيحة المسلمين ذُبح . ومن وقع حمله أو قوسه أو شيء من متاعه وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال وكان وراءه أحد ، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه ، فإن لم ينزل ولم يناوله قُتِل . وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مؤنة ولا كلفة ، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القراء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة ، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى ، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى ، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلاً ، ولو أنه أمير ، ومن يناوله أسير . وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه ، بل يُشركه معه ي أكله . وألزمهم أ ، لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه ، ولا يتخطى أحد ناراً ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه ، وأنّ من مرّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم ، وليس لأحد منعه . وألزمهم أن يُدخِلَ أحد منهم يده في الماء ، ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به ، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى ، ومنه أن يُقال لشيء أنه نجس ، وقال : جميع الأشياء طاهرة ، ولم يفرق بين طاهر ونجس . وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب ، ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب ، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه ويُدعى باسمه فقط ، وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه أياه عاقبه . وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرطال من السخرِ والكلفِ في مدّة غيبتهم في القتال ، وجعل على العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقومون بها للسلطان ويؤدونها إليه . وألزمهم عند رأس كلّ سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهنّ لنفسه وأولاده .ورتب لعساكره أمراء وجعلهم أمراء ألوف وأمراء مئين وأمراء عشراوات ، وشرَّع أن أكبر الأمراء إذا أذنب وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه فإنه يُلقي نفسه إلى الأرض بين يدي الرسول وهو ذليل خاضع ، حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة ، ولو كانت بذهاب نفسه . وألزمهم أن لا يتردد الأمراء لغير الملك ، فمن تردد منهم لغير الملك قتل ، ومن تغير عن موضعه الذي يُرسم له بغير إذن قُتِل . وألزم السلطان بقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة ، وجعل حكم الياسه لولده جقتاي بن جنكز خان ، فلما مات التزم من بعده من أولاده وأتباعهم حكم الياسه ، كالتزام أوّل المسلمين حكم القرآن ، وجعلوا ذلك ديناً لم يعرف عن أحد منهم خالفته بوجه .فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق ، وأسروا كثيراً منهم وباعوهم ، تنقلوا في الأقطار ، واشترى الملك الصالح نجم الدين أيوب جماعة منهم سماهم البحرية ، ومنهم منملك ديار مصر ، وأوّلهم المعز أيبك . ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت ، وهُزِم التتار وأسر منهم خلقاً كثيراً صاروا بمصر والشام ، ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام ، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكز خان على منابر مصر والشام والحرمين ، فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل ، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم ، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد مُلئت قلوبهم رعباً من جنكز خان وبنيه ، واتمزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم ، وكانوا إنما ربّوا بدار الإسلام ولقِّنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية ، فجمعوا بين الحق والباطل ، وضموا الجيد إلى الرديء ، وفوّضوا القاضي القضاى كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج ، وناطوبه أمر الأوقاف والأيتام ، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية ، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك ، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكز خان والاقتداء بحكم الياسة ، نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم ، والأخذ على يد قويهم ، وانصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة ، وجعلوا إليه من ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات ، لينفذ ما استقرّت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب ، وكانت من أجلّ القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأراضي ، فشرّعوا في الديوان ما لم يأذن به الله تعالى ، ليصير لهم ذلك سبيلاً إلى أكل مال الله تعالى بغير حقه ، وكان مع ذلك يحتاج الحاجب إلى مراجعة النائب أو السلطان في معظم الأمور .هذا وستر الحياء يومئذ مسدول ، وظلّ العدل صاف ، وجانب الشريعة محترم ، وناموس الحشمة مهاب ، فلا يكاد أحد أن يزيغ عن الحق ، ولا يخرج عن قضية الحياء ، إن لم يكن له وازع من دين ، كان له ناه من عقل . ثم تقلص ظل العدل ، وسفرت أوجه الفجور ، وكشر الجور أنيابه ، وقلت المبالاة وذهب الحياء والحشمة من الناس ، حتى فعل من شاء ما شاء ، وتعدّت منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة الحجاب ، وهتكوا الحرمة ، وتحكموا بالجور تحكماً خفي معه نور الهدى ، وتسلطوا على الناس مقتاً من الله لأهل مصر وعقوبة لهم بما كسبت أيديهم ، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون .وكان أوّل ما حكم الحجاب في الدولة التركية بين الناس بمصر ، أن السلطان الملك الكامل شعبان بن الناصر محمد بن قلاون ، استدعى الأمير شمس الدين آق سنقر الناصريّ ، نائب طرابلس ، ليوليه نيبة السلطنة بديار مصر عوضاً عن الأمير سيف الدين سيف الدين بيغوا ، أميراً حاجباً كبيراً ، يحكم بين الناس ، فخلع عليه في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة ، فحكم بين الناس كما كان نائب السلطنة يحكم ، وجلس بين يديه موقعان من موقعي السلطان لمكتبة الولاة بالأعمال ونحوهم ، فاستمرّ ذلك . ثم رسم في جمادى الآخرة منها أن يكون الأمير رسلان يصل حاجباً مع بيغوا يحكم بالقاهرة على عادة الحجاب ، فلما انقضت دولة الكامل بأخيه الملك المظفر حاجي بن محمد ، استقرّ الأمير سيف الدين أرقطاي نائب السلطنة ، فعاد أمر الحجاب إلى العادة القديمة ، إلى أن كانت ولاية الأمير سيف الدين جرجي الحجابة في أيام السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون ، فرسم له أن يتحدّث في أرباب الديوان ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة ولم تكن عادة الحجاب فيما تقدّم أن يحكموا في الأمور الشرعية ، وكان سبب ذلك ووقوف تجار العجم للسلطان بدار العدل في أثناء سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة ، وذكروا أنهم ما خرجوا من بلادهم إلاّ لكثرة ما ظلمهم التتار وجاروا عليهم ، وأن التجار بالقاهرة اشتروا منهم عدّة بضائع وأكلوا أثمانها ، ثم هم يثبتون على يد القاضي الحنفي أعسارهم ، وهم في سجنه ، وقد أفلس بعضهم فرسم للأمير جرجي بإخراج غرمائهم من السجن وخلاص ما في قبلهم للتجار ، وأنكر على قاضي القضاة جمال الدين عبد الله التركمانيّ الحنفيّ ما عمله ، ومنع من التحدث في أمر التجار والمدينين ، فأخرج جرجي غرماء التجار من السجن وعاقبهم ، حتى أخذ للتجار أموالهم منهم شيئاً بعد شيء ، وتمكن الحاجب من حينئذ من التحكم على الناس بما شاؤوا .أمير جاندار : موضوع أمير جاندار ، التسلم لباب السلطان ، ولرتبة البرد دارية ، وطوائف الركابية ، والحرمانية ، والجندارية . وهو الذي يقدم البريد إذا قدم مع الدوادار وكاتب السرّ ، وإذا أراد السلطان تقرير أحد من الأمراء على شيء أو قتله بذنب ، كان ذلك على يد أمير جاندار ، وهو أيضاً المتسلم للزردخاناه ، وكانت أرفع السجون قدراً ، ومن اعتقل بها لا تطول مدّته بها ، بل يُقتل أو يُخلى سبيله ، وهو الذي يدور بالزفة حول السلطان في سفره مساءً وصباحاً .الأستادار : إليه أمر البيوت السلطانية كلها من المطابخ والشراب خاناه والحاشية والغلمان ، وهو الذي كان يمشي بطلب السلطان في السرحات والأسفار ، وله الحكم في غلمان السلطان وباب داره ، وإليه أمور الجاشنكيرية . وإن كان كبيرهم نظيره في الأمرة من ذوي المئين ، وله أيضاً الحديث المطلق والتصرّف التام في استدعاء ما يحتاجه كلّ من في بيت من بيوت السلطان من النفقات والكساوى ، وما يجري مجرى ذلك .ولم تزل رتبة الأستادار على ذلك حتى كانت أيام الظاهر برقوق ، فأقام الأمير جمال الدين محمود بن عليّ بن أصفر عيّنه استاداراً وناط به تدبير أموال المملكة ، فتصرّف في جميع ما يرجع إلى أمر الوزير وناظر الخاص ، وصارا يتردّدان إلى بابه ويمضيان الأمور برأيه ، فجلت من حينئذ رتبة الأستادار ، بحيث أنه صار في معنى ما كان فيه الوزير في أيام الخلفاء ، سيما إذا اعتبرت حال الأمير جمال الدين يوسف الاستادار في أيام الناصر فرج بن برقوق ، كما ذكرناه عند ذكر المدارس من هذا الكتاب ، فإنك تجده إنما كان كالوزير العظيم ، لعموم تصرّفه ونفوذ أمره في سائر أحوال المملكة ، واستقرّ ذلك لمن ولي الاستادارية من بعده ، والأمر على هذا إلى اليوم .أمير سلاح : هذا الأمير هو مقدّم السلاحدارية ، والمتولي لحمل سلاح السلطان في المجامع الجامعة ، وهو المتحدّث في السلاح خاناه وما يستعمل بها وما يقدم إليها ويطلق منها ، وهو أبداً من أمراء المئين .الدوادار : ومن عادة الدولة أن يكون بها من أمرائها من يقال له الدوادار ، وموضوعه لتبليغ الرسائل عن السلطان ، وإبلاغ عامّة الأمور ، وتقديم القصص إلى السلطان ، والمشاورة على من يحضر إلى الباب ، وتقديم البريد هو أمير جاندار وكاتب السرّ ، وهو الذي يقدم إلى السلطان كل ما تؤخذ عليه العلامة السلطانية من المناشير والتواقيع والكتب ، وكان يخرج عن السلطان بمرسوم مما يكتب ، فيعين رسالته في المرسوم ، واختلفت آراء ملوك الترك في الدوادار ، فتارة كان من أمراء العشراوات والطبلخاناه ، وتارة كان من أمراء الألوف . فلما كانت أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون ، ولي الأمير اقتمر الحنليّ وظيفة الدوادارية ، وكان عظيماً في الدولة ، فصار يخرج المراسيم السلطانية بغير مشاورة ، كما يُخرج نائب السلطنة ، ويعين في المرسوم إذ ذاك أنه كتب برسالته ، ثم نُقل إلى نيابة السلطنة وأقام الأشرف عوضة الأمير طاش تمر الدوادار ، وجعله من أكبر أمراء الألوف ، فاقتدى به الملك الظاهر برقوق وجعل الأمير يونس الدوادار من أكبر أمراء الألوف ، فعظمت منزلته وقويت مهابته ، ثم لما عادت الدولة الظاهرية بعد زوالها ، ولي الداودارية الأمير بوطا ، فتحكم تحكماً زائداً عن المعهود في الدوادارية ، وتصرّف كتصرّف النوّاب ، وولّي وعزل وحكم في القضايا المعضلة ، فصار ذلك من بعده عادة لمن ولي الدوادارية ، سيما لما ولي الأمير يشبك والأمير حكم الدوادارية في أيام الناصر فرج ، فإنهما تحكمت في جليل أمور الدولة وحقيرها ، من المال والبريد والأحكام والعزل والولاية ، وما برح الحال على هذا في الأيام الناصرية ، وكذلك الحال في الأيام المؤيدية يقارب ذلك .نقابة الجيوش : هذه الرتبة في الدولة التركية من الرتب الجليلة ، ويكون متوليها كأحد الحجاب الصغار ، وله تحلية الجند في عرضهم ، ومعه يمشي النقباء ، فإذا طلب السلطان أو النائب أو حاجب الحجاب أميراً أو جندياً ، كان هو المخاطب في الإرسال إليه ، وهو الملزوم بإحضاره ، وإذا أمر أحد منهم بالترسيم على أمير أو جنديّ ، كان نقيب الجيش هو الذي يرسم عليه ، وكان من رسمه أنه هو الذي يمشي بالحراسة السلطانية في الموكب حالة السرحة ، وفي مدّة السفر ، ثم انحطت اليوم هذه الرتبة ، وصار نقيب الجيش عبارة عن كبير من النقباء المعدّين لترويع خلق الله تعالى ، وأخذ أموالهم بالباطل على سبيل القهر ، عند طلب أحد إلى باب الحاجب ، ويضيفون إلى أكلهم أموال الناس بالباطل افتراءهم على الله تعالى بالكذب ، فيقولون على المال الذي يأخذونه باطلاً هذا حق الطريق ، والويل لمن نازعهم في ذلك ، وهم أحد أسباب خراب الإقليم كما بُين في موضعه من هذا الكتاب ، عند ذكر الأسباب التي أوجبت خراب الإقليم .الولاية : وهي التي يسميها السلف الشرطة ، وبعضهم يقول صاحب العسس ، والعسس الطواف بالليل لتتبع أهل الريب يُقال : عس يعس عساًو عسساً . وأوّل من عس بالليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أمره أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه بعس المدينة . خرّج أبو داود عن الأعمش عن زيد قال : أتى عبد الله بن مسعود فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً ، فقال عبد الله رضي الله عنه : إنّا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به . وذكر الثعلبيّ عن زيد بن وهب أنه قال : قيل لابن مسعود رضي الله عنه ، هل لك في الوليد بن عتبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنّا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء نأخذ به ، وكان عمر رضي الله عنه يتولى في خلافته العسس بنفسه ، ومعه مولاه أسلم رضي الله عنه ، وكان ربما استصحب معه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .قاعة الصاحب : وكانت وظيفة الوزارة أجلّ رتب أرباب الأقلام ، لأنّ متوليها ثاني السلطان إذ أنصف وعرف حقه ، إلاّ أن ملوك الدولة التركية قدّموا رتبة النيابة على الوزارة ، فتأخرت الوزارة حتى قعد بها مكانها ، ووليها في الدولة التركية أناس من أرباب السيف وأناس من أرباب الأقلام ، فصار الوزير إذا كان من أرباب الأقلام يُطلق عليه اسم الصاحب ، بخلاف ما إذا كان من أرباب السيف فإنه لا يقال له الصاحب ، وأصل هذه الكلمة في إطلاقها على الوزير ، أنّ الوزير إسماعيل بن عباد كان يصحب مؤيد الدولة أبا منصور بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلميّ ، صاحب بلاد الرّيّ ، وكان مؤيد الدولة شديد الميل إليه والمحبة له ، فسماه الصاحب ، وكان الوزير حينئذٍ أبو الفتح عليّ بن العميد يعاديه لشدّة تمكنه من مؤيد الدولة ، فتلقب الوزارة بعد ابن عباد بالصاحب ، ولا أعلم أحداً من وزراء خلفاء بني العباس ، ولا وزراء الخلفاء الفاطميين قيل له الصاحب ، وقد جمعت في وزراء الإسلام كتاباً جليل القدر ، وأفردت وزراء مصر في تصنيف بديع ، والذي أعرف ، أنّ الوزير صفيّ الدين عبد الله بن شكر وزير العادل والكامل من ملوك مصر من بني أيوب ، كان يقال له الصاحب ، وكذلك من بعده من وزراء مصر إلى اليوم .وكان وضع الوزير أنّه أُقيم لنفاذ كلمة السلطان وتمام تصرّفه ، غير أنها انحطت عن ذلك بنيابة السلطنة ، ثم انقسم ما كان للوزير إلى ثلاثة هم : الناظر في المال ، وناظر الخاص ، وكاتب السرّ ، فإنه يوقع في دار العدل ما كان يوقع فيه الوزير بمشاورة واستقلال . ثم تلاشت الوزارة في أيام الظاهر برقوق بما أحدثه من الديوان المفرد ، وذلك أنه لما ولي السلطنة أفرد إقطاعه لما كان أميراً قبل سلطنته ، وجعل له ديواناً سمّاه الديوان المفرد ، وأقام فيه ناظراً وشاهدين وكتاباً ، وجعل مرجع هذا الديوان إلى الأستادار ، وصرف ما يتحصل منه في جوامك مماليك استجدّها شيئاً بعد شيء حتى بلغت خمسة آلاف مملوك ، وأضاف إلى هذا الديوان كثيراً من أعمال الديار المصرية ، وبذلك قوي جانب الاستادار ، وضعفت الوزارة حتى صار الوزير قصار نظره التحدّث في أمر المكوس ، فيستخرجها من جهاتها ويصرفها في ثم اللحم وحوايج المطبخ وغير ذك ، ولقد كان الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقريّ يقول : الوزارة اليوم عبارة عن حوايج كاش عفش ، يشتري اللحم والحطب وحوايج الطعام ، وناظر الخاص غلام صلف يشتري الحرير والصوف والنصافي والسنجاب ، وأمّا ما كان للوزارة ونظار الخاص في القدين فقد بطل ، ولقد صدق فيما قال ، فإنّ الأمر على هذا . وما رأينا الوزارة من بعد انحطاط رتبتها يرتفع قدر متوليها إلاّ إذا أضيفت إلى الأستادارية ، كما وقع للأمير جمال الدين يوسف الأستادار ، والأمير فخر الدين عبد اغنيّ بن أبي الفرج . وأما من ولي الوزارة بمفردها ، سيما من أرباب الأقلام ، فإنما هو كاتب كبير يتردّد ليلاً ونهاراً إلى باب الأستادار ، ويتصرّف بأمره ونهيه ، وحقيقة الوزارة اليوم أنا انقسمت بين أربعة هم : كاتب السرّ ، والأستادار ، وناظر الخاص ، والوزير . فأخذ كاتب السرّ من الوزارة التوقيع على القصص بالولايات والعزل ونحو ذلك في دار العدل وفي داره . وأخذ الأستادار التصرّف في نواحي أرض مصر ، والتحدّث في الدواوين السلطانية ، وفي كشف الأقاليم ، وولاة الواحي ، وفي كثير من أمور أرباب الوظائف ، وأخذ ناظر الخاص جانباً كبيراً من الأموال الديوانية السلطانية ، ليصرفها في تعلقات الخزانة السلطانية ، وبقي للوزير شيء يسير جدّاً من النواحي ، والتحدّث في المكوس ، وبعض الدواوين ، ومصارف المطبخ السلطاني والسواقي ، وأشياء أُخر ، وإليه مرجع ناظر الدولة ، وشادّ الدواوين ، وناظر بيت المال ، وناظر الأهراء ومستوفي الدولة ، وناظر الجهات ، وأمّا ناظر البيوت وناظر الإصطبلات ، فإنه أمرهما يرجع إلى غيره . والله أعلم .نظر الدولة : هذه الوظيفة يُقال لمتوليها ناظر النظار ، ويقال له ناظر المال ، وهو يُعرف اليوم بناظر الدولة ، وتلي رتبته رتبة الوزارة ، فإذا غاب الوزير وتعطلت الوزارة من وزير ، قام ناظر الدولة بتدبير الدولة ، وتقدّم إلى شادّ الدواوين بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات والكلف ، واقتصر الملك الناصر محمد بن قلاون على ناظر الدولة مدّة أعوام ، من غير تولية وزير ، ومشى أمور الدولة على ذلك حتى مات ، ولا بد أ ، يكون مع ناظر الدولة مستوفون يضبطون كليات المملكة وجزئياتها ، ورأس المستوفين مستوفي الصحبة ، وهو يتحدث في سائر المملكة مصراً وشاماً ، ويكتب مراسيم يعلم عليها السلطان ، فتكون تارة بما يُعمل في البلاد ، وتارة بالإطلاقات ، وتارة باستخدام كتّاب في صغار الأعمال ، ومن هذا النحو وما يجري مجراه .ديوان النظر : وهي وظيفة جليلة تلي نظر الدولة ، وبقية المستوفين كلّ منهم حديثه مقيد ، لايتعدى حديثه قطراً من أقطار المملكة ، وهذا الديوان ، أعني ديوان النظر ، هو أرفع دواوين المال ، وفيه تثبت التواقيع والمراسيم السلطانية ، وكلّ ديوان من دواوين المال إنما هو فرع هذا الديوان ، وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه ، وإليه يرجع أمر الاستيمار الذي يشتمل على أرزاق ذوي الأقلام وغيرهم . مياومة ومشاهرة ومسانهنة من الرواتب ، وكانت أرزاق ذوي الأقلام مشاهرة من مبلاغ عين وغلة ، وكان لإعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله ، والخبز والعليق لدوابهم ، وكان لأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كلّ سنة والأضحية ، وفي شهر رمضان السكر والحلوى ، وأكثرهم نصيباً الوزير ، وكان معلومه في الشهر مائتين وخمسين ديناراً جيشية ، مع الأصناف المذكورة والغلة ، وتبلغ نظير المعلوم . ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه ، وكان معلوم القضاة والعلماء أكثره خمسون ديناراً في كلّ شهر ، مضافاً لما بيدهم من المدارس التي يستدرون من وقافها ، وكان أيضاً يُصرف على سبيل الصدقات الجارية والرواتب الدارة على جهات ، ما بين مبلغ وغلة وخبز ولحم زيت وكسوة وشعير ، هذا سوى الأرض من النواحي التي يعرف المرتب عليها بالرزق الإحباسية ، وكانوا يتوارثون هذه المرتبات ابناً عن أب ، ويرثها الأخر عن أخيه ، وابن العم عن ابن العمّ ، بحيث أن كثيراً ممن مات وخرج ادراره من مرتبة لأجنبيّ ، لما جاء قريبه وقدّم قصته يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه ، أعيد إليه ذلك المرتب ممن كان خرج باسمه .نظر البيوت : كان من الوظائف الجليلة وهي وظيفة متوليها منوط بالأستادار ، فكل ما يتحدث فيه أستادار السلطان فإنه يشاركه في التحدّث ، وهذا كان أيام كون الأستادار ونظره لا يتعدّى بيوت السلطان ، وما تقدّم ذكره ، فأما منذ عظيم قدر الأستادار ونفذت كلمته في جمهور أموال الدولة ، فإن نظر البيوت اليوم شيء لا معنى له .نظر بيت المال : كان وظيفة جليلة معتبرة ، وموضع متوليها التحدث في حمول المملكة مصراً وشاماً إلى بيت المال بقلعة الجبل ، وفي صرف ما ينصرف منه ، تارة بالوزن ، وتارة بالتسبيب بالأقلام ، وكان أبداً يصعد ناظر بيت المال ومعه شهود بيت المال وصيرفيّ بيت المال وكاتب المال إلى قلعة الجبل ، ويجلس في بيت المال ، فيكن له هناك أمر ونهي وحال جليلة لكثرة الحمول الواردة ، وخروج الأموال المصروفة في الرواتب لأهل الدولة ، وكانت أمراً عظيماً ، بحيث أنها بلغت في السنة نحو أربعمائة ألف دينار ، وكان لا يلي نظر بيت المال إلا من هو من ذوي العدالات المبرزة ، ثم تلاشى المال وبيت المال ، وذهب الإسم والمسمّى ، ولا يعرف اليوم بيت المال من القلعة ، ولا يُدرى ناظر بيت المال من هو .نظر الإصطبلات : هذه الوظيفة جليلة القدر إلى اليوم ، وموضعها الحديث في أموال الإصطبلات والمناخات وعليقها وأرزاق من فيها من المستخدمين ، وما بها من الاستعمالات والإطلاق ، وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها ، وأوّل من استجدّها الملك الناصر محمد بن قلاون ، وهو أوّل من زاد في رتبة أميراخور واعتنى بالأوجاقية والعرب الركابة ، وكان أبوه المنصور قلاون يرغب في خيل برقة أكثر من خيل العرب زينة ، بخلاف الناصر محمد ، فإنه شغف باستدعاء الخيول من عرب آل مهنا وآل فضل وغيرهم ، وبسببها كان يبالغ في إكرام العرب ويرغبهم في أثمان خيولهم حتى خرج عن الحدّ في ذلك ، فكثرت رغبة آل مهنا وغيرهم في طلب خيول من عداهم من العربان ، وتتبعوا عتاق الخيل من مظانها ، وسموحوا بدفع الأثمان الزائدة على قيمتها حتى أتتهم طوائف العرب بكرائمِ خيولهم ، فتمكنت آل منا من السلطان وبلغوا في أيامه الرتب العلية ، وكان لا يحب خيول برقة ، وإذا أخذ منها شيئاً أعدّه للتفرقة على الأمراء البرّانيين ، ولا يُسمح بخيول آل مهنا إلاّ لأعز الأمراء وأقربّ الخاصكية منه ، وكان جيد المعرفة بالخيل ، شياتها وأنسابها ، لايزال يذكر أسماء من أحضرها إليه ومبلغ ثمنها ، فلما اشتهر عنه ذلك جلب إليه أهل البحرين والحساء والقطيف وأهل الحجاز والعراق كرائم خيولهم ، فدفع لهم في الفرس من عشرة آلاف درهم إلى عشرين إلى ثلاثين ألف درهم ، عنها ألف وخمسمائة مثقال من الذهب ، سوى ما ينعم به على مالكه من الثياب الفاخرة له ولنسائه ، ومن السكر ونحوه ، فلم تبق طائفة من العرب حتى قادت إيه عتاق خيلها ، وبلغ من رغبة السلطان فيها أنه صرف في أثمانها دفعة واحدة من جهة كريم الدين ناظر الخاص ألف ألف درهم في يوم واحد ، وتكرّر هذا منه غير مرّة ، وبلغ ثمن الفرس الواحد من خيول آل مهنا الستين ألف درهم والسبعين ألف درهم ، واشترى كثيراً من الحجور بالثمانين ألفاً والتسعين ألفاً ، واشترى بنت الكرشاء بمائة ألف درهم ، عنها خمسة آلاف مثقال من الذهب ، هذا سوى الإنعامات بالضياع من بلاد الشام ، وكان من عنايته بالخيل لا يزال يتفقدها بنفسه ، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به إلى الجشار ، وتنزى الفحول المعروفة عنده على الحجور بين يديه ، وكتّاب الإصطبل تؤرّخ تاريخ نزوها ، واسم الحصان ، والحجرة ، فتوالدت عنده خيول كثيرة اغتنى بها عن الجلب ، ومع ذلك فلم تكن عنده في منزلة ما يُجلب منها ، وبهذا ضخمت سعادة آل مهنا وكثرت أموالهم وضياعهم ، فعزّ جانبهم وكثر عددهم وهابهم من سواهم من العرب ، وبلغت عدّة خيول الجشارات في أيامه نحو ثلاثة آلاف فرس ، وكان يعرضها في كلّ سنة ويدوّغ أولادها بين يديه ويُسلمها للعربان الركابة ، ويُنعم على الأمراء الخاصكية بأكثرها ، ويتبجح بها ويقول : هذه افلانة بنت فلان ، وهذا فلان بن فلانة ، وعمره كذا ، وشراء أم هذا كذا وكذا ، كان لا يزال يؤكد على الأمراء في تضمير الخيول ، ويلزم كلّ أمير أن يضمر أربعة أفراس ، ويتقدّم لأميراخور أن يضمر للسلطان عّة منها ويوصيه بكتمان خبرها ، ثم يشيع أنها لأيدغمش أميراخور ، ويرسلها مع الخيل في حلبة السباق خشية أن يسبقها فرس أحد من الأمراء فلا يحتمل ذلك ، فإنه ممن لا يطيق شيئاً ينقص ملكه ، وكان السباق في كلّ سنة بميدان القبق ، ينزل بنفسه وتحضر الأمراء بخيولها المضمرة ، فاتفق أنه كان عند الأمير قطلو بغا الفخري حصان ادهم سبق خير مصر كلها في ثلاث سنين متوالية أيام السباق ، وبعث إليه الأمير مهنا فرساً شهباء على أنها إن سبقت خيل مصر فهي للسلطان ، وإن سبقها فرس ردّت إليه ولا يركبها عند السابق إلاّ بدوي قادها ، فركب السلطان للسباق في أمرائه على عادته ووقف معه سليمان وموسى ابنا مهنا ، وأرسلت الخيول من بكرة الحاج على عادتها وفيها فرص مهنا ، وقد ركبها البدويّ عرياً بغير سرج ، فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى وصلت المدى وهي عري بغير سرج ، والبدويّ عليها بقميص وطاقية ، فلما وقفت بين يدي السلطان صاح البدويّ : السعادة لك اليوم يا مهنا ، لا شقيت . فشق على السلطان أن خيله سُبقت ، وأبطل التضمير من خيله ، وصارت الأمراء تضمر على عادتها ، ومات الناصر محمد عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس ، وترك زيادة على خمسة آلاف من الهجن الأصائل والنوق المهريت والقرشيات ، سوى أتباعها . وبطل بعده السباق ، فلما كانت أيام الظاهر برقوق عني بالخيل أيضاً ومات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل .ديوان الإنشاء : وكان بجوار قاعة الصاحب بقلعة الجبل ديوان الإنشاء ، يجلس فيه كاتب السرّ ، وعنده موقعو الدرج وموقعو الدست في أيام المواكب طول النهار ، ويُحمل إليهم من المطبخ السلطانّي المطاعم ، وكانت الكتب الواردة وتعليق ما يكتب من الباب السلطانيّ موضوعة بهذه القاعة ، وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمريّ أيام مباشرتي التوقيع السلطانيّ ، إلى نحو السبعين والسبعمائة ، فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عاة اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة ، وهُجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق ، وبيعت بالقنطارن ونسي رسمها ، وكتابة السرّ رتبة قديمة ، ولها أصل في السنّة ، فقد خرج أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ في تاب المصاحف من حديث الأعمش ، عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : 'إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كلّ أحد ، فهل تستطيع أن تُعَلّم كتاب العبرانية أو قال السريانية' فقلت نعم . قال : فتعلمتها في سبع عشرة ليلة ، ولم يزل خلفاء الإسلام يختارون لكتابة سرّهم الواحد بعد الواحد ، وكان موضوع كتابة السرّ في الدولة التركية على ما استقرّ عليه الأمر في أيام الناصر محمد بن قلاون ، أنّ لمتوليها المسمى بكاتب السرّ وبصاحب ديوان الإنشاء ، ومن الناس من يقول ناظر ديوان الإنشاء ، قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها ، ما بخطه أو بخط كتاب الدست أو كتاب الدرج بحسب الحال ، وله تفسير الأجوبة بعد أخذ علامة السلطان عليها ، وله تصريف المراسيم وروداً وصدوراً ، وله الجلوس بين يدي السلطان بدار العدل لقراءة القصص والتوقيع عليها بخطه في المجلس . فصار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة ، وصار إليه التحدّث في مجلس السلطان عندما عقد المشورة وعند اجتماع الحكام لفصل أمر مهم ، وله التوسط بين الأمراء والسلطان فيما يندب إليه عند الاختلاف أو التدبير ، وإليهترجع أمور القضاة ومشايخ العلم ونحوهم في سائر المملكة مصراً وشاماً ، فيمضي من أمورهم ما أحب ويشاور السلطان فيما لابد من مشاورته فيه ، وكانت العادة أن يجلس تحت الوزير ، فلما عظم ، تمكن القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ من الدولة ، جلس فوق الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري ، فاستمرّ ذلك لمن بعده ورتبة كاتب السرّ أجلّ الرتب ، وذلك أنها منتزعة من الملك .فإن الدولة العباسية صار خلفاؤها في أوّل أمرهم منذ عهد أبي العباس السفاح إلى أيام هارون الرشيد يستبدون بأمروهم ، فلما صارت الخلافة إلى هارون ألقى مقاليد الأمور إلى يحيى بن جعفر البرمكيّ ، فصار يحيى يوقع على رقاع الرافعين بخطه في الولايات وإزالة الظلامات وإطلاق الأرزاق والعطيات ، فجلّت لذلك رتبته ، وعظمت من الدولة مكانته ، وكان هو أوّل من وقع من وزراء خلفاء بني العباس ، وصار من بعده من الوزراء يوقعون على القصص كما كان يوقع ، وربما انفرد رجل بديوان السرّ وديوان الترسل ، ثم أفردت في أخريات دولة بني العباس واستقلّ بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزراء ، وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء ، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء ، ويُطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء ، وتارة كاتب السرّ ، ومرجع هذا الديوان إلى الوزير ، وكان يُقال له الديوان العزيز ، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء . وكان في الدولة السلجوقية يُسمى ديوان الإنشاء بديوان الطغرا ، وإليه ينسب مؤيد الدين الطغراءي والطغراهي طرّة المكتوب ، فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ القاب الملك ، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب ، ويستغني بها عن علامة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1