Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

غريب النهر
غريب النهر
غريب النهر
Ebook314 pages2 hours

غريب النهر

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يمكن اعتبار "غريب النهر" للكاتب المتميز "جمال ناجي" بمثابة رواية تأسيسية، لا على صعيد الكتابة الروائية التي ترتحل بعيداً في الزمن الفلسطيني، فقط، (منذ الحرب العالمية الأولى وحتى نهايات القرن العشرين)، بل في بحثها الأعمق عن أسس تشكل الهوية والذات الإنسانية في هذه المنطقة الممتدة على طول بلاد الشام: فلسطين والأردن وسورية ولبنان. تتناول الرواية محطات النفير الفلسطيني من خلال تسليطها الضوء على عائلة الفلسطيني "إسماعيل أبو حلة" ونزوحه وزوجته وأولاده من قريته العباسية القريبة من يافا، وتحوله إلى لاجئ في غور الأردن؛ حتى يفد ذلك الزائر الغريب إلى دياره فجأة، فيقف أبو حلة مذهولاً ويتساءل في نفسه عمن يكون الضيف، وما الذي يريده، وكيف له أن يعرف التحية الريفية القديمة "العواف" يا عمي إسماعيل؟! تَعْبُر هذه الرواية التاريخ وتضيئه على نحو واسع، متنقلة بين فلسطين وسورية والأردن وتركيا ولبنان، لتكشف للقارئ على نحو جريء ونادر، ضحايا السياسة في كل مكان من العالم، وخلط الأوراق، واستفراد القوى الكبرى بمصائر الشعوب الضعيفة، عاجنة التاريخ بالقيم الكبرى. وأسئلة الحب والموت والقدر والعلاقة مع الطبيعة في أعمق تجلياتها، ومتأملة التاريخ الروحي والميثولوجي؛ وطريقة عيش الناس في هذه المنطقة وتحولها من البداوة إلى التحضر؛ ومعيدة في آن الاعتبار لتاريخ نضالي وطني فلسطيني متألق.
Languageالعربية
PublisherRufoof
Release dateJan 1, 2017
ISBN9786442116981

Read more from جمال ناجي

Related to غريب النهر

Related ebooks

Related categories

Reviews for غريب النهر

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    غريب النهر - جمال ناجي

    شكر خاص إلى

    الصندوق العربي للثقافة والفنون على دعمه كتابة هذه الرواية.

    رواية غريبُ النـَّـهْر

    علا نباح صَبّار الكذّاب من وراء البوابة الحديدية العريضة للبيارة، وسمعه إسماعيل أبو حلّة أثناء ارتدائه منامته الشتائية بعد استحمامه، فظنه يهوّب كعادته كلما مر أحد من أمام البوابة، أو كلما اقترب كائن من سور الأسلاك الشائكة حتى لو كان حرذوناً أو سحلية، فأهمله إمعاناً منه في مسايرة قناعة تولّدت لديه منذ وقت طويل، بأن ذلك الكلب كذاب، لأنه ينبح ببسالة مبالغ فيها، كأنما يريد إشعاره بحرصه في الذود عن البيارة ومن فيها وما فيها، حتى إنه أطلق عليه لقب صبار الكذاب، عندما استيقظ من نومه ذات ليلة على نباحه الذي انطلق فجأة، بسبب وقوع طاسة التوتياء عن حافة نافذة غرفة الضيوف.

    لكن النباح ازداد شراسة، واختلط بهدير محرك سيارة دخلت البوابة ببطء، متوجهة نحو المصطبة الأمامية لبيته في البيارة، وإذ خرج ليعرف ما إذا كان ثمة خطب أمام البيت، فوجىء بسيارة سياحية بيضاء لامعة تتوقف بالقرب منه، ويُفتح بابها الأمامي عن سائق شاب يترجل منها، ويَفتح بابها الخلفي لرجل في حدود الستين من عمره لم يره من قبل.

    عاد السائق إلى سيارته وانطلق بها خارجاً من البوابة مبتعداً، يلاحقه نباح صبار الكذاب، فيما تقدم الرجل نحو إسماعيل بمعطفه الأسود المثني على يده اليسرى، قائلاً بنبرة ودودة أعادته إلى الوراء أعواماً طويلة:

    - العواف يا عمي اسمعين.

    أجابه مرحّباً مصافحاً، كعادته كلما زاره أحد في بيته، وإن كان قد استغرب استخدام الزائر التحية الريفية القديمة العواف التي كفَّ الناس عن النطق بها منذ زمن بعيد.

    وقبل أن يسأله عما يريد، ولج باب غرفة الضيوف من دون استئذان، كأنما سبق له أن عاش في البيت، ووضع معطفه على إحدى الكنبات، ثم جلس باطمئنان في صدر تلك الغرفة المؤثثة بكنبات بُنِّيّة عتيقة، وثلاث طاولات خشبية صغيرة موزعة في مساحات الغرفة، وصور قديمة غير ملونة لبعض أفراد العائلة معلقة على الجدران، ثم نبتة كاوتشوك معمّرة تحيط برقعة خشبية مؤطرة بعرض باع، تتضمن ما يُعرف ب نَصُّ الإنطاء الذي يُثبت تاريخ العائلة، مكتوباً بالخط النسخي العريض، فيما تمتد أوراق تلك النبتة الخضراء لتغطي الواجهة المتقشرة المحيطة بنَص الإنطاء، ويخرج ساقها وبعض أغصانها وأوراقها من النافذة الخشبية، فتبدو من الخارج كأنما هي كائن خرافي يفيض من الغرفة ويُطل أو يتجول خارجها.

    أحسّ إسماعيل أبو حلّة أنه مقبل على مواجهة من نوع جديد عليه، في موقف لم يألفه على مدى السبعين عاماً التي عاشها حتى ذلك الحين؛ إذ لم يسبق له أن التقى ذلك الزائر الذي تصرف كما لو انه واحد من أصحاب البيت، ولولا أن برغياً بارزاً في باب الغرفة الخشبي علِق بقميص منامته، فنتشَهُ أثناء لحاقه بذلك الرجل، إضافة إلى الهشيش العارم الذي انطلق من شجرة الكينا العملاقة القريبة من مدخل البيت، بفعل ريح مباغتة دهمتها، لظن أن ما يراه ليس سوى واحدٍ من كوابيس أحلامه التي كثرت في الآونة الأخيرة، إلى حد أن ابنه رزاق صاحب المفاجآت - الذي تعلم تفسير الأحلام حسب طرق أهل الهند والتبت وقبائل الماساي الكينية - عجز عن إيجاد تفسير لها، وهي على أي حال، أحلام تراوحت بين قراءته خبراً كتبه الملاك جبرائيل بخط أبيض على واجهة سماء حالكة، يفيد بأنه قد مُنح عمراً إضافياً، وبين انزلاق بدنه في سراديب خضراء داكنة وأنفاق تفضي إلى سراديب، وأنفاق أخرى وأخرى، لينتهي به الأمر في أمعاء ثور يريد اجتراره.

    ما إن جلس الزائر الستيني في غرفة الضيوف حتى استيقظ في نفس إسماعيل ذلك الإحساس الذي يُفقده يقينه من وقت لآخر، وهو ميله إلى عدم تصديق ما يرى ويسمع، على الرغم من انسياقه للتفاعل معه والمشاركة فيه، حتى إنه ذات يوم، حين زلّت قدمه ووقع بين الأوعية الصفيحية المزروعة بالريحان والزنبق والصبّار الشوكي في المصطبة الأمامية لبيته، ظل يعتقد خلال لحظات انزلاق قدمه ووقوعه، أن ما يحدث ليس حقيقياً، أو أنه لا يحدث معه هو، أو من غير المعقول له أن يقع على الأرض بين الأوعية الصدئة للنباتات، ولم يصدق ما حدث معه إلا عند سماعه صياح زوجته فخرية التي ظنته ميتاً، ولما تأكدت من حراكِه وبقائه على قيد الحياة بعد سقوطه، قالت له وهي تنظر إلى النباتات المدمَّرة:

    - إذا وقعت مرة ثانية، فالأفضل أن تقع في غرفة النوم، أو عند نجود التي تُحبها، لأنك خرّبت لي قواوير الزريعة بوقعتك.

    حينها انسحب ذلك الإحساس الذي يُفقده يقينه، ليحل محله ألم مُمِضّ ينبض من كاحله الذي التوى، وآخر ينبض من مكان في كيانه لم يتمكن من تحديده.

    لم يدرِ ماذا يقول لذلك الزائر الغريب. وحتى حين انطلقت تلك الكلمة التلقائية تَفضّلْ على لسانه، فإنه لم يتوقع أن يلبي الرجل دعوته بتلك السرعة، ويلج باب البيت متوجهاً نحو غرفة الضيوف، بإقدام يثير التساؤل حول طبيعة الإنسان وغرائبه وجرأته. فكلمة تفضل لشخص تُفاجأ به أمام بيتك من دون أن تراه من قبل، ومن دون أن تعرف ماذا وراءه، إنما تقال كفاتحة حديث أو استعلام عما يريد، أما أن تتحول إلى فاتحة دخول مباشر إلى غرفة الضيوف، فهذا ما أثار تساؤلات صامتة في نفس إسماعيل الذي وجد نفسه يقول للزائر بعد جلوسه:

    - هل سبق أن التقينا؟

    قالها وهو يحك ظاهر يده بأظافر الأخرى، كما لو أنها مصابة بالجذام. فردّ الزائر بلكنة خالطها شيء من لغة غير عربية:

    - لا، لكنني أعرفك، لا تستعجل.

    لم ير في مظهر الرجل ما يوحي أنه ممسوس مثلما خطر له في لحظة خاطفة، كما تنبّه إلى أن في عينيه بريقاً ينم عن عزم وتصميم يثيران في النفس إحساساً بتعذّر هزيمة صاحبهما، ولقد زاد هذا من حيرته، فخمّن أنه ليس واحداً من سكان بلدة الشونة الجنوبية القريبة من بيارته، ولا من أهل غور الأردن كله، لأنه لم يشاهده من قبل في أي من قراه أو طرقه أو مزارعه القريبة، وكذلك لا تبدو عليه تلك العلامات التي تميز سكان الغور، كطريقة الالتفات الفضولية، العيون دائبة الحركة نحو اليمين والشمال، الملابس العملية البسيطة، مسحة المكان المشتركة التي تعتلي الوجوه فتُكسبها درجات متفاوتة من السمرة، طريقة دخول المزارع والبيوت المصحوبة بنحنحات وعبارات تقال بصوت مرتفع إيذاناً باقتراب صاحبها من المكان، أو غير ذلك من العلامات المحلية المألوفة.

    كان الرجل مرتب الهندام كما لو أنه آتٍ من حفل زفاف باذخ؛ كان صافي العينين،حليق الذقن والشاربين، باستثناء خطين أشيبين خفيفين نازلين أسفل فتحتي منخريه إلى ما فوق شفتيه. أما أسنانه فبيضاء كالحليب، حتى إن إسماعيل تساءل في نفسه ما إذا كان صفا أسنانه الأماميان أصليان أم صناعيان ؟فقد رأى فيهما من البياض ما دعاه إلى تأنيب نفسه على قلة اهتمامه بأسنانه كما يجب حتى ذلك الحين. ويبدو أن ذلك الزائر بدّل ملابسه في السيارة قبل وصوله؛ إذ من غير الممكن أن يحافظ على قيافته ونظافة ملابسه بعد عبوره سلسلة التقلبات المناخية الحادة على طول الطريق المنحدر إلى الغور، حيث المساحات قليلة الخضرة في صقيع الجبال الباردة القريبة من عمان، ثم الحرارة الأعلى قليلاً في مدينة السلط وما حولها، ثم الوادي شديد الخضرة أسفل المدينة، ثم اعتدال حرارة الغور في ذلك الموسم من العام، بدأ من نهايات التعرجات الخطرة في وادي شعيب، وحتى البيارة التي رأى فيها وفي ما حولها من مزارع، واحاتٍ تستحق الابتسام بعد رعب الطريق المنحدرة المطلة على أودية سحيقة.

    أمر آخر أثار العجب في نفس إسماعيل، فعلى الرغم من بلوغ ذلك الرجل الستين من عمره، حسب تقديره، إلا أن بنيته المتماسكة تكاد تختصر من عمره عشرة أعوام أو أكثر، كما أن رأسه يحتفظ بغلالات من شعر أبيض مفروق نحو اليمين بشكل عفوي، وهو أمر بدا له مستهجناً، لأنه بالكاد يستطيع العثور على بضع شعرات أو خصل في رأسه هو أو رؤوس المسنين ممن هم أصغر منه بكثير، فكيف تمكن ذلك الرجل من الحفاظ على شعره هكذا ؟

    أما تلك الحيرة التي خالطت تدقيقه في وجهه، من دون أن يتمكن من تشخيصها، أو الاستدلال على ما يوازيها من أوصاف في مخزون ذاكرته، فمبعثها أن بشرة الستيني كانت بيضاء لا حمرة فيها، كما لو أن صبغيات الدم سُحبت من ظاهر يديه ورقبته، ومن وجهه الذي يُذكّر بوجوه المصابين بالتلاسيميا، أو ما يسمونه فقر دم حوض البحر الأبيض المتوسط.

    على أن ما أزعج إسماعيل أكثر، وأسهم في بلبلة أفكاره، أن الرجل تجاهل سؤاله حول ما إذا كان له غرض عنده، وحول الغاية من زيارته تلك، وبدلاً من أن يجيبه، ظل محافظاً على هدوئه ووقار حديثه، مكتفياً بالإيحاء بأن لديه الكثير مما يقال، كأنما هو قابض على مفاجأة يتطلب الإفصاح عنها بعض الروية والتدرج، وحينما استأذن منه كي يؤدي صلاة الظهر نهض قائلاً له:

    - أين تتوضأون ؟أريد أن أصلي معك.

    بعد الصلاة، تحدث الرجل عن أمطار عمان الغزيرة، وخطورة الطريق إلى الغور، ثم أبدى ارتياحه من مستوى خدمات الفندق الذي نزل فيه عند وصوله مدينة عمان قادماً من إسطنبول.

    أما مُضيفه، فظل ينصت إليه باهتمام لم تشتته رائحة دخان عادم السيارة الذي استقر في الغرفة بعد مغادرتها البيارة، ولا رائحة الصباغ الأزرق المنبعثة من غرفة الغسيل التي لصق المطبخ، ولا رائحة الطبيخ الفاسد الذي دلقته زوجته فخرية في سطل النفايات قرب المصطبة، حتى إن وجهه المستدير، بدا متقلصاً متقبّض القسمات، كوجه من يحاول بجهد كبير، فك برغي عنيد عصيّ على التحرك.

    لكن ما كاد يُخرجه عن هدوئه الذي بذل جهداً هائلاً للحفاظ عليه، أن الستيني توقف عن حديث الطقس والطرق والفنادق، ونظر في عينيه ثم سأله:

    - منذ متى لم تر ابنك رزاق ؟

    كان إسماعيل يرزح تحت وطأة ذلك الإحساس بإمكانية أن لا تكون الأشياء التي يراها حقيقية، وربما تلزمها معجزة كي يتأكد من حدوثها، وهو على أي حال، إحساس لازمَهُ منذ نزوحه عن قرية العباسية القريبة من يافا، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره، فقد ظل إلى وقت طويل، غير قادر على تصديق فكرة تحوله إلى لاجىء، أو فكرة عجزه عن زيارة بيته أو بيارته في قريته.

    لو نظر إسماعيل أبو حلة إلى وجهه في المرآة حينما سأله الستيني عن ابنه رزاق، لما عرف نفسه، ولراعه مشهد الارتفاع الحاد لحاجبيه الأشيبين الخفيفين، وانفتاح فمه الذي بدا كفم ضفدع حائر، وانكشاف لسانه المصفرّ بفعل التبغ الذي رافق حياته منذ صباه، ولربما كرر مقولته التي صار يرددها في أعوامه الأخيرة، كلما ألمّ به خطب جديد هذه محنة من الله تعالى ، إذ كيف عرف ذلك الرجل أن الناس ينادونه عمي اسمعين وليس إسماعيل ؟من أين عرف أن له ابناً اسمه عبد الرزاق، ولمّا يعرف من يكون حتى تلك اللحظة ؟كيف عرف أنه يناديه رزاق بدلاً من عبد الرزاق ؟ثم، من أين عرف أنه لم يعد إلى البيت منذ وقت طويل؟.

    على الرغم من كل هذا، فقد أوصله حدسه إلى أن ذلك الرجل طيب ومحترم على الأغلب، ومن الممكن أن يكون حضوره فأل خير عليه وعلى زوجته فخرية، التي سقط من يدها فنجان القهوة المملوء قبل ساعة من حضور الستيني فانسكبت، وقالت إن انسكاب القهوة على التراب فأل خير، ثم أردفت بأنها ستصافح عزيزاً غائباً، لأن كف يدها اليمنى صارت تتأكّلها، فحكّتها بأظافر اليسرى، كما تذكرت حلم ليلتها السابقة، حيث رأت رجلاً ينهض من تحت التراب، ثم ينفض وجهه وشعره وملابسه ويسير نحوها. وقد اجتهد إسماعيل ففسر حلمها قائلاً إن واحداً من الأموات الذين يخصونها قد دفن وهو حي، فردت قائلة:

    - يا رجل، اتق الله وقل شيئاً يدخل العقل !!

    لكن إسماعيل وجد العذر لنفسه في الارتياب بذلك الضيف والشك في نواياه، لأن زيارته الغريبة تلك، جاءت بعد ثلاثة أعوام من توقيع الحكومة الأردنية على اتفاقية وادي عربة مع الإسرائيليين، وهي الأعوام التي اختل فيها يقين الناس وتفارقت آراؤهم، وأصابتهم صدمة صور الموقعين على الاتفاقية وخطاباتهم وملامحهم الباردة، وصاروا يرتابون بكل ما هو جديد، ويتعاملون بحذر مع كل من هو غير معروف من الناس الذين يرونهم أو يزورونهم، خصوصاً في مناطق غور الأردن المتاخمة للنهر.

    * * *

    آل أبو حلة وأقاربهم وأهالي قريتهم والقرى المجاورة لها يلفظون اسم إسماعيل (إسمَعين)، لأنهم يقلبون حرف اللام إلى نون إذا جاء في نهاية الاسم بعد حرف الياء، ويقال بأن عملية القلب هذه تأتّت من ميولهم الروحية بالحفاظ على قافية آمين التي يرددونها أثناء الصلاة.

    ليس هذا حسب، إنما هم يستغنون عن بعض الحروف الحادة أو الثقيلة، كما في عزرائيل التي يلفظونها عزرايين، أما جبرائيل أو جبريل فيلفظونها جبرين، كما لو أن نوعاً من الخنَب الاختياري الجماعي قد أصابهم جيلاً بعد جيل.

    ولأن إسماعيل يُعدّ واحداً من مسنّي آل أبو حلة القلائل، الذين تبقوا على قيد الحياة، ولأنه يحمل اسم جده إسماعيل، فقد دأب الجميع على مناداته منذ صباه ب عمي اسمعين تيمناً بجده؛ الزوجة والأبناء والأحفاد والأقارب، والمعارف وأصحاب المزارع القريبة وتجار الضمان والمبيدات والأسمدة والأنابيب، والفلاحون الذين يعملون في البيارة في مواسم القطاف، وسائقو التراكتورات وبكمات نقل الخضار والفواكه، كلهم ينادونه عمي اسمعين .

    مع أن عبد الرزاق، الابن الثاني لعمي اسمعين قال ذات مرة لأبيه، إن أقاربه وأهل قريته يلفظون هذا الاسم إسمعين بدلاً من إسماعيل، تجنّباً لفأل الذبيح سيدنا إسماعيل، الذي كاد أبوه، سيدنا إبراهيم الخليل يذبحه بأمر من الله تعالى، لكنه عفا عنه في اللحظة الأخيرة، وبأمر آخر من الله تعالى أيضاً.

    أما أصل عمي اسمعين فيمتد إلى ما قبل حكاية الإنطاء التي يَعتد بها ويحرص على الاستشهاد بها كلما سئل عن تاريخ حمولته، وهي الحكاية التي ربطها بما نقله عن والده الحاج عبد الجبار أبو حلة، عن جده إسماعيل، عن جد أبيه، فاروق الذي عمل كاتباً معاوناً لكاتب المراسلات الشريفة في محكمة القدس. وقد حفظ حكاية الإنطاء تلك عن ظهر قلب بلُغةٍ عربية سليمة لا لحن فيها، لكنه ظل يحرص على أن يبدأها بنفسه كلما سردها على مسامع أبنائه فيقول:

    ولدتُ في قرية العباسية القريبة من يافا بعد سبعة أعوام من انتهاء الحرب العالمية الأولى، لأبوين عربيين فلسطينيين هما الحاج عبد الجبار بن إسماعيل بن فاروق أبو حلة، والسيدة عائشة بنت رشيد بن إسماعيل بن فاروق أبو حلة، اللذان يتحدّران من إحدى حمائل بني تميم من بني عبد الدار، رهط الصحابي الجليل تميم الداري، المتحدّر من قبيلة عربية اسمها لخم، أقامت في فلسطين قبل ألف وثمانمائة عام من ميلاد السيد المسيح، ثم انتشرت عائلاتها بعد الفتوحات الإسلامية في مناطق الخليل والساحل الفلسطيني ونابلس

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1