Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

النيل: حياة نهر
النيل: حياة نهر
النيل: حياة نهر
Ebook1,413 pages9 hours

النيل: حياة نهر

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

هل ترغب في السفر عبر الزمان والمكان مع نهر النيل, الذي يروي قصصًا عن حضارات وثقافات وحيوانات متنوعة؟ هل تود أن تستمع إلى صوته الذي يغني بالحياة والسلام والفوران؟ هل تحب أن تشاهد صوره الخلابة التي تمتزج فيها الألوان والسهول والمنابع؟ إذًا, فإن كتاب "حياة النهر" للكاتب إرفين شرودنجر هو الخيار المثالي لك. في هذا الكتاب, يأخذك شرودنجر في رحلة ممتعة ومثيرة مع نهر النيل, من مصادره الاستوائية والحبشية إلى مصباته المصرية, مستعرضًا بعض الحقائق والنظريات العلمية التي تشرح طبيعة هذا النهر العظيم ودوره في تشكيل التاريخ والأحياء. كما يقدم شرودنجر فكرة جديدة وثورية عن "البلورة غير المنتظمة" التي تحمل المعلومات الوراثية للكائنات الحية, والتي ساعدت في اكتشاف جزيء الدي إن إيه. لا تفوت فرصة قراءة هذا الكتاب المدهش, الذي يجمع بين الفن والعلم في توليفة رائعة.
Languageالعربية
Release dateJul 25, 2020
ISBN9789771494928
النيل: حياة نهر

Read more from إميل لودفيغ

Related to النيل

Related ebooks

Reviews for النيل

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    النيل - إميل لودفيغ

    مقدمة المترجم

    نقلتُ للكاتب الألماني الكبير إميل لودفيغ غيرَ كتابٍ في تراجم الرجال، وللنابغة الغربيِّ هذا كتاب «النيل» وكتابُ «البحر المتوسط» ترجم فيهما للنهر وللبحر كما ترجم للعظماء، فأكسبهما من الحياة ما يُخيَّل إلى القارئ معه أن الجماد من بني الإنسان، و«النيلُ» هو الذي أعرِضه الآنَ على القراء.

    بدا النيل للودفيغ إنسانًا فقصَّ نبأ مغامراته ومخاطراته، وأبصر النيلَ في شبابه مردِّدًا لمؤثِّرات البيئة التي أوجدته، فلما صار كهلًا أخذ يُكافِح تطاولَ العالم الخارجي بسجيته، ولما دخل دور المَشِيب ظَهَر أثر الإنسان فيه.

    وقضى لودفيغ ستَّ سنين في جمع مواد هذا السِّفْر الجليل، الذي هو بِدعٌ في بابه ووضعه، ولا يعد هذا السِّفْر — إذن — من الكتب التي ينشرها كُتَّابٌ ينفقون أسابيعَ في مصر فتشتمل على خطأٍ غير قليل.

    وينطوي الكتاب على أدب وتاريخ وجغرافية، مع غموضٍ والْتِباس في الفكر والتعبير، شأن لودفيغ في جميع كتبه، فبذلنا جهدًا كبيرًا في تذليل ذلك لشوكة اللغة العربية مع حَرْفِيَّة النقل، وجعل أسلوب الترجمة مساويًا للأسلوب الأصلي جُهْدَ المستطيع.

    والكتاب — مع ذلك — ليس للتسلية، ولا للترويح والتخلية، فلم يُكتَب باللغة الدارجة ولا على نَمَط الروايات السيَّارة، وهو يتطلَّب — لفهمه والإحاطة بمعانيه ومناحيه — صبرًا ودقةً وإنعامَ نظر.

    ومن يطلع على كتب لودفيغ ومن إليه من أساطين الأدب في الغرب يَرُعْه ما بين الأدبين — العربي والغربي — من بونٍ واسع في الوقت الحاضر، مع ما كان من غنى لغة الأدب العربي في الزمن الغابر، ولا بد — لذلك — من تطعيم لغتنا الراهنة مقدارًا فمقدارًا بما تحتويه معاجمنا من كلمات غير نابية، فلعلها تصير مألوفةً، وهذا ما سرت عليه بعض السير في كثيرٍ من الأسفار التي ترجمتها، ولكن مع تفسير هذه الكلمات في هامش الصفَحات تسهيلًا للمطالعة.

    وفي الكتاب كلماتٌ قليلة عرَّبناها لما رأينا من عدم وجود ما يقابلها في كتب لغتنا، كما أننا اجتنبنا تكرار النسبة في الكلمات المُعَرَّبة خلافًا لما اعتمده كتابنا فنبَّهنا إلى ذلك كله في مواضعه.

    نقلت كتاب «النيل» إلى العربية معتمدًا على ترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية، راجيًا أن أكون قد قدَّمتُ إلى إخواني أبناءِ النيل هذه الهديةَ الصغيرة لأُعرب لهم عن مودتي بها، ووادي النيل هو البلد الكريم الذي أحببته كثيرًا.

    نابلس

    عادل زعيتر

    مقدمة المؤلف

    كتبتُ وترجمتُ، وكلما كتبتُ سيرة رجل وترجمت عنه١ تَمَثَّل لي مجرى نهرٍ ومصيرُه، ولم يبدُ لي وجود نصيب بشري لنهر وصورة إنسان له غيرَ مرةٍ واحدة، فلما أبصرتُ سد أسوان العظيم للمرة الأولى في نهاية سنة ١٩٢٤ كان للمعنى الرمزيِّ الذي فَرَضَه عليَّ من السلطان الكبير ما ظننتُني معه هنالك، في ذلك المحلِّ الفاصل من المجري، مدركًا لحياة النيل من منبعه إلى مصبِّه، وترى للطبيعة في ذلك المكان قوةً أولية سيطر الإنسان عليها بذكائه فحوَّل الصحراء إلى أرض خصيبة محقِّقًا ما حاوله الدُّهريُّ٢ فاوْست٣ وعده أرفعَ عملٍ للرجل، وما لاح لعينيَّ في أسوان من ذكرى لخاتمة فاوست هذه أوحى إليَّ برغبة في كتابة قصة النيل كما أكتبُ قصة العظماء.

    ولكنني قبل أن أقصَّ نبأ مغامراته وأُبدِيَ عميق مخاطراته أرى سَبْر غوره توكيدًا لبصري أو تقويمًا لنظري، وقد عرفت أجزاءَ أفريقية الأخرى منذ زمن، وأفريقية مما أحببتُ، وأفريقية مما جَلب السعادة إليَّ، وفي المنطقة الاستوائية وفي منبع النيل كنت قبل الحرب العظمى، وعليَّ أن أدرس النيل عن كَثَبٍ ليظهر لي أنه أبهرُ الأنهار طُرًّا.

    والنيل أكثر الأنهار طولًا، وليس النيل أغزرَ الأنهار ماءً، وفي هذا سر حياته وحياة ما يُبَلله من بقاع، والنيل يجوب صحارِيَ وفَلَواتٍ، ولا ينال النيل روافد ولا غَيْثًا في شطر٤ من مجراه، ولا يَنْقُص النيل بذلك، ويُوجِدُ أخصبَ الأرَضين في نهاية أمره مع ذلك، وعلى ما يُبَدِّدُه النيل من أدقِّ قُوَاه في فَتَائه على ذلك الوجه تُبْصِره مهولًا في مصبِّه، وعلى ما يدلُّ عليه طولُه من سدس محيط الأرض تراه أبسط الأنهار شكلًا، فهو يجري من الجَنوب إلى الشمال توًّا مُحْدِثًا عطفةً وحداة فقط، وهو لم ينحرف غيرَ أربعمائة كيلومتر من طوله البالغ ستة آلاف كيلومتر، ويقع مصبُّه ومنبعه على درجة واحدة من الطول تقريبًا.

    ويشتمل حوض النيل على أعظم بحيرة في نصف الكرة الأرضية الشرقي وعلى أعلى جبال قارَّته وأكبرِ مدنها، ويعمر ضفافَ النيل أكثرُ طيور النصف الشماليِّ من الكرة الأرضية وجميعُ ما في الفردوس من حيوانٍ ونبات يَتَرَجَّح بين نوامي الألب وغياض البلاد الحارة وغِرَاس البطائح والغُدران، وزرع السهوب والفيافي وأغنى ما في الدنيا من الأطيان، ويُطْعِم وادي النيل مئات العروق ويقوت أناسيَّ من الجبال والمناقع ومن العرب والنصارى ومن أَكَلَة لحوم البشر ومن ذوي الطول والقِصَر، وما بين الناس من اصطراعٍ في سبيل الثراء والسلطان وفي سبيل العادات والإيمان وفي سبيل هيمنة اللون يُمكِن تَتَبُّعُه هنا لمدة ستة آلاف سنة خَلَتْ؛ أي لمدةٍ أطوَل مما في أيِّ مكان لتاريخ البشر.

    ولكن أَعْجَبَ ما وجدتُ في تلك الظاهرات التي تتجلَّى فيها قدرةُ الطبيعة وعمل مخلوقاتها وجهود الناس والزراعة والنبات والحيوان والأمم وتاريخها هو أنها ما كانت لِتُوجَد لولا النهر، أو كانت تُوجد على خلاف ما هي عليه بغير النهر.

    بَدَا النيلُ لي كائنًا حيًّا يَقُوده قَدَرٌ مرهوب نحو استعباد محتوم بعد ظهور نضيرٍ، ولاح النيلُ لي كعظماء الرجال فأردتُ أن أستنبط من طبيعته تسلسلَ حوادث حياته المقدَّر فأبنتُ كيف أن الوليد — وهو يتفلَّت من الغابة البِكر — ينمو مصارعًا ثم تَفتر همَّته ويكاد يَنْفَد ثم يخرج ظافرًا، وكيف أن أخاه القَصِيَّ المقحام يُهرَع إليه ليزلِقا معًا من خلال الصحراء ويصاولا الصخر، والنيلُ في تمام رُجُولته يقاتل الإنسانَ فيُقهَر ويُروَّض ويوجب سعادةَ الآدميين، ولكن النيلَ قَبْلَ ختام جِرْيته يسبِّب من المآسي أكثرَ مما في شبابه الوحيش.

    ويكون تأثير البيئات في النيل شديدًا في البُداءة شدةَ تأثُّر الصبا والفَتَاء بالطبيعة والمحيط، فإذا مضى حينٌ عَمِلَتْ مكافحتُه الإنسان عَمَلَها فيه وساقته، ويجاوز النيلُ دورَ البساطة الأولية في الكون إلى دَور النور المعقَّد في التمدن الحديث فيُبصر مبدأ قاهريه الأكبر في خَطَر، ويُتعِبه طمعُ الناس في المال فيقذِف نفسَه في البحر ليجدِّد ببعثٍ خالد.

    وفي الغالب تَجِدُ وثائق حياة كلِّ نهر في المؤلَّفات العلمية أو في كتب السياحة حيث يسافر الكاتب مع القارئ، ويتضمَّن الوجهُ الوصفيُّ الجديد الذي هَدَفْتُ إليه طِرازًا آخر في جمع الوقائع، فقد أمسكتُ النهرَ في مراكز مجراه الحيوية الخمسة كما صنعتُ في تراجمي السابقة: أمسكتُ به في بحيرة ألبرت (مَرَّتين) وفي بحيرة نُو وفي الخُرطوم وفي أسوان وفي القاهرة، وقد نويت وصف حياةٍ، لا كتابةَ دليلٍ، فلا أَسِيح مع القارئ على النهر، ولا أقصُّ مغامراتي بل أقص مغامراتِ النيل، والنيلُ سائحًا هو الذي يَفْتِن مصيرُه أفئدتَنا أجمعين.

    ومن العبث أن يُبْحَث في هذا السِّفر عن جغرافيةٍ كاملة لبِقاع النيل الأربع أو عن تاريخٍ جامع لها، أو عن مَعْلَمَةٍ٥ للشعوب والحيوان والنبات، وتُبصر في هذا السِّفْر نبذًا تُقَصَّر بلا انقطاع اجتنابًا لِعَوْق النهر عن جَرْيه، وتُبْصِر في هذا السِّفر إعراضًا عن حياةِ كاشفي منبع النيل الروائية مع احتمال بيانها ذاتَ يومٍ على انفراد.

    وقد اقتُطع وصف مجرى النيل من منبعه إلى مَصَبِّه بفصولٍ تاريخية تَشغَل ربعَ النصفِ الأول من هذا الكتاب ونصفَ الشَّطر الثاني منه؛ وسبب هذا التفاوت في التوزيع هو عدم وجود تاريخ للنيل الأعلى تقريبًا ووفرةُ معارفنا عن النيل الأدنى.

    وكما رأيتُ فُيُولًا وأسودًا على ضفاف النيل الأعلى، وجِمَالًا وحميرًا على ضفاف النيل الأدنى، تَرِدُ للشُّرْب مساءً أبصرتُ موكِبًا متصلًا لأشباح أولئك الذين عاشوا وسيطروا وأَلِمُوا هنالك، وأبصرتُ تنازع الأديان والعروق في صحارى السودان وسهوبه، وفي مصرَ التي هي مصدر الإنسانية في الغرب.

    وفي هذا الكتاب — كما في سِيَري الأخرى — لم آلُ جُهدًا في كَتْم المصادر التي رجعتُ إليها تحقيقًا لانطباعاتي وإمعانًا فيها، وذلك لعَدِّي إظهارَ الذي أَرَى في رمزٍ وإظهارَ الرمز في حادث منظور أهمَّ من جمع التواريخ والأسماء التي يُمكِن كلَّ واحدٍ أن يَجِدَها في المراجع الخاصة، وفي هذا السِّفْر، كما في سواه، لم أدَّخر وُسعًا في تلوين ما يُعَبِّر المتخصصُ عنه بالأرقام والجداول، وفي هذا السفر لم أرغب في وصف ما يُحَدَّث عنه في الغالب، بل عملتُ على وصف ما يَقِفُ الأبصارَ ثم على تسميته، وفي الدرجة القُصوى من الفصل الثالث فقط؛ أي في طَوْر الأسداد الجازم من تلك الحياة، اضطُررت إلى ذكر أرقام قليلة ذكرًا مضبوطًا معتذرًا إلى القارئ، وهذا إلى أنني حَوَّلت كسور الأرقام إلى أصفار عند الضرورة، لما في اﻟ «٩٦٤ كيلومترًا بين بحيرة نُو والخُرطوم» مَثَلًا من وَقفٍ للنظر أقلَّ من اﻟ «١٠٠٠ كيلومتر بينهما»، وكذلك لم تُسَوَّ كتابةُ الأسماء الأفريقية في اللغات الأوروبية تمامًا.

    ولم تُوضَع الطبيعة والتاريخ في النصف الثاني من هذا الكتاب على المستوى الذي اتفق لهما في النصف الأول منه، ولا غَرْوَ، فالنهر في فَتَائه، كالإنسان في شبابه، يُردِّد مؤثِّرات البيئة التي أوجدته، على حين ترى النهر في كهولته يكافح تطاول العالَم الخارجي بسجيَّته، وللإقليم والبلد تأثيرٌ عظيم في رَيْعان الشباب، ثم يبدو تأثيرُ الإنسان، وتقضي الضرورة بتحويل الخطة أكثرَ من قَبل عند تناول نهر يَجُوب في شَبابه من البِقاع ما لا تَرَى له تاريخًا ويَجرِي في مَشِيبه من أقدم بلاد الدنيا تَمَدُّنًا، وتُبصر لمصرَ ستةَ آلاف سنة تاريخًا، ولا تكاد تجد لأُوغندة والسودان من التاريخ قرنًا، وهكذا نُخَصِّص ثلاثةَ أرباع النصف الأول من الكتاب للطبيعة ونُخَصص ربعًا منه للتاريخ، مع أن نصيب الطبيعة هو نصف الشطر الثاني منه، وذلك لِمَا بين أسوان والدِّلتا من اختلافٍ قليل في المنظر والنبات والحيوان.

    ومع ذلك تُعَالَج الأقسام التاريخية من نصف الكتاب الخاصِّ بمصر في كلماتٍ جوامعَ ما لم تعارِض موضوع الجميع، والأوصاف تحتلُّ مكانَ الأفكار كما في تراجمي السابقة، والأحوالُ الاجتماعية في هذه الأوصاف تفضُل الحروبَ صدارةً، ومشاعرُ الناس فيها تَفُوق شأنهم أهميةً، وهكذا يُعطَف في النصف السوداني عند الوصف على مشاعر الزنجي أو الفيل أكثر مما على الإنسان الأبيض، وهكذا يحاوَل إبراز التاريخ في مصرَ من حيث مقامُ الفلاح الذي عاش أوثقَ عِشرةً للنيل في كل زمن من عشرة ذوي الحكم، لا كما نَظَرَ إليه الملوكُ والفراعنة والسلاطين؛ وذلك لأن مصرَ هي بلدُ الدنيا الوحيدُ الذي يقضي كل ساكنٍ حياته فيه تَبَعًا للنهر في أيِّ وقت كان؛ وذلك لأن الأُسَر المالكة تأتي وتستغلُّ النهر وتزول، ولكن النهر، ولكن أبا البلد هذا، هو الذي يظلُّ باقيًا، وكان للنيل، كان لمولِّد الماء والحبِّ هذا، من الشأن منذ ستين قرنًا ما له في دور الأسداد والقطن الحاضر، ولم نألُ جُهدًا في وصف الأديان والمعابد والمساجد مُظْهِرين تأثيرها في الفَلَّاحين، ومن الفلاحين يتألف شعبُ النيل الأدنى.

    ومما يُلَاحَظ على الخصوص سكوتي عن مواكب الصيد الأكبر التي لم أشترك فيها وامتناعي عن كل حوارٍ إثنوغرافي، ويَربِط العلماء الذين بَحَثُوا عن الشعوب التي استقرَّت بوادي النيل بعروقٍ متباينة مُنَاوَبَةً، وأَجِدُ في هذا ما يزيدني حَذَرًا من جميع النظريات العرقية، وأرى أن ما يَحُوم حول الحاميين والساميين من جَدَلٍ علمي كاشف في كل خمس سنين ﻟ «مراكزَ جديدةٍ للحضارة» أقلُّ وقفًا لنظري من منظر بدويٍّ على ضفة العطبرة أُعْجَب من خلال أعطافه الرائعة بتوالد خمسة عروق أو ستة عروق، وذلك إلى أن مما يُستحبُّ إهمالُه دراسةَ مثل هذا التوالد في كتابٍ يقوم موضوعه على أمر نهرٍ ولو كنا نبلغ بتلك الدراسة طائفةً من الحقائق.

    ومن ناحيةٍ أخرى أرى الشعوب المختلفةَ ألوانًا ذات أهميةٍ في زمن تُعَدُّ فيه لتمثيل دورٍ جديد في حياة النوع البشري، والنيل قد أثَّر في جميع هذه الأمور، وجميعُ هذه الأمور قد أثَّرَت في النيل، ويقوم عملي الوحيد على إظهار الرمز الأكبر الذي يُستخلَص مما يَحُفُّ بالنيل من قَدَر.

    وقد قُمتُ برحلاتٍ ثلاثٍ متوالية بين سنة ١٩٣٠ وسنة ١٩٣٤ فأُتيح لي بها أن أدرُس جميعَ النيل بأوغندة والسودان، وأن أدرُس النيلَ الأزرق في سَفَرٍ بالقسم الغربي من الحَبَشَة حيث بَلَغتُ منابعه، وأن أدرُس في السودان مجراه الأدنى، وقد اكتفيتُ مضطرًّا برسم مجراه الأوسط بين بحيرة طانة وحدود السودان وفق ما رواه من الأنباء ثلاثة سياحٍ أو أربعة سياح رأوا أجزاءً من هذه البقعة التي لم يَقَعْ رِيادُها تقريبًا، وقد استطعت بفضل ما حَبَتْنِي به حكوماتُ بلاد النيل الثلاث من عنايةٍ ووسيلةٍ أن أنتفع كما أودُّ بالخط الحديديِّ والطائرةِ والباخرة والشراع والبغل والحمار، وقد وَضَعَ الملك فؤادٌ باخرةً تحت تصرُّفنا، وسهَّلَت الحكومة الإنكليزية رحلتنا بشتى الوسائل، وأرفقتْنا الحبشة بحرسٍ عسكريٍ من قلابات.

    وقد تمَّ القسم الخاصُّ بالحَبَشَة قبل بَدْءِ النزاع في أفريقية الشرقية.

    ومن بين ما لا يُحْصِيه عَدٌّ من المؤلفات الخاصة بمصر انتفعتُ في النصف الثاني من هذا الكتاب ﺑ «تاريخ الأمة المصرية» على الخصوص، بهذا الكتاب الرائع الواقع في أربعة أجزاء، والذي نُشر بإشراف غَبْريال هانُوتُو فأهدى الملكُ فؤادٌ نسخةً منه إليَّ، ومما انتفعتُ به كتابُ مِس و. س. بلاكمن المُمتِع عن فلَّاحي مصرَ العليا، ومما انتفعت به مُذَكرةُ الأمير عمر طوسون المصري عن تاريخ النيل.

    وأُعرِب عن شكري لذوي الفضل الذين أعانوني بالنُّصْح حين قراءة النسخة الخطية، وهم مدير حديقة الحيوانات بالخرطوم الميجر باركر فيما هو خاصٌّ بالحيوان، والمركيز جنتيل فارينولا بفاراميستا (توسكانة) فيما هو خاص بالحبشة، والدكتور تكس مايرهوف بالقاهرة فيما هو خاصٌّ بالعرب والتاريخ الطبيعي، وسكرتير حكومة السودان السابق وحاكم تنغانيقة سير هارولد مكمايكل فيما هو خاصٌّ بالسودان، ومفتش الري العام في المملكة المصرية مستر توتنهام فيما هو خاصٌّ بالفراعنة واليهود، فهؤلاء الأفاضل المتخصصون صانوني من طائفة من الأغاليط مع عدم مشاطرةٍ تامة لأفكاري.

    وما بقي من الخطأ في هذه الزبدة الجامعة فأتركه، مع ذلك، لمن يبحث عنه من ذوي الاختصاص.

    ومعظم صور الكتاب الفوتوغرافية هو من تصوير لهنرت ولندروك بالقاهرة، والصور الفوتوغرافية الأخرى هي من تصوير قوة الطيران الملكي البريطاني بلندن وقراقاشيان وإخوانه بالخرطوم ومن دليل السودان بلندان.

    لودفيغ

    موشيا، سنة ١٩٣٦

    ١ ترجم عنه: أوضح أمره.

    ٢ الدُّهري، بالضم: هو الذي أتى عليه الدهر وطال عمره، وهي نسبة إلى الدهر، شاذة.

    ٣ فاوست: بطل رواية لغوته عرفت بهذا الاسم.

    ٤ شطر الشيء: نصفه.

    ٥ المعلمة: من معلم الشيء، وهو موضعه الذي يظن فيه وجوده كمظنة، ويقابلها كلمة Encyclopédie.

    الجزء الأول - الحرية والمغامرة

    انظروا إلى الساجنة١ تروها ناضرةً سرورًا كبصر الكواكب! وهنالك فوق البواسق٢ وبين الصفوات٣ ذوات الأدغال٤ رضعت في صغرها ملائكة الخير، فلما شَدَنت٥ واشتدت اندلقت من السحاب … فكانت كالدليل العجيل٦ حين قَطَرَت وراءها ينابيع الإخاء.

    غوته

    ١ الساجنة: ميل الماء من الجبل.

    ٢ البواسق: جمع الباسقة، وهي السحابة البيضاء الصافية اللون.

    ٣ الصفوات: جمع الصفاة، وهي الحجر الصلد الضخم.

    ٤ الأدغال: جمع الدغل، وهو الشجر الكثير الملتف.

    ٥ من شدن الظبي، إذا قوي واستغنى عن أمه.

    ٦ العجيل: المسرع.

    الفصل الأول

    هدرٌ يُبَشِّر بنهر، وحول صخر جزيرةٍ حَجيرة١ تُبصِر شريطًا جبَّارًا صَخَّابًا أزرقَ سماويًّا أزهَرَ بهيًّا يُلقي نفسه من عَلٍ في مسقطٍ مُضاعف فيؤدِّي إلى دُردُورٍ٢ يغشاه زَبَدٌ ضارب إلى خُضْرَة كالذي يعلو اللبن فيدفع هذا الزبد إلى ما ينتظره من مصير مجهول، فبين هذا الضجيج يُولد النيل.

    وبالقرب من هذا المَسقَط الهائل وفي شُرَيْمٍ٣ هادئ بعض الهدوء يُفغَر فمٌ مخيف ورديٌّ بين أذنين حمراوين ورديَّتين، فهذا البقر البحري حين يثأب، وهذا الجاموس النهري حين يُزَنخر٤ متراخيًا، ويرفع رأسه ويتنفس صاخبًا مع خُوَار،٥ يقذف من مِنخَره الماء صُعُدًا، وهنالك في الأسفل حيث يَسكُن الماء تبصر تنانين برونزية خُضرًا ممدودةً على صخرة يسترها زَبَدٌ رُقْشًا٦ ذوات عيونٍ ذهبيةٍ وبطونٍ صُفر مُتِمَّةٍ لمنظرها الأسطوري، ويَجثِم على ظهر كلِّ واحد منها، حتى بين نابيْ أحدها، طائرٌ لنومها مفتوحةَ الفم، وذلك هو التِّنِّين الذي ذُكِر في سِفر أيوبَ، وذلك هو التمساح، وذلك هو الحيوان الغريب المحتمل بقاؤه من الزمن الذي كان الخِنشار٧ والدَّلْبُوث٨ يغطِّيان فيه وجه الأرض وكانت الزحافات فيه سادةَ الدنيا.

    وفوق هؤلاء الغيلان الذين يَرجِع أمرهم إلى ما قبل الطوفان تُحَلِّق ذوات الأجنحة وتحوم وتهتزُّ وتصطاد، وهنا يَتَجَمَّع كثيرٌ من طيور أوروبة، وهنا يجتمع جميعُ الطيور التي تجوب أفريقية الشمالية، وما تحدثه الطيور من ضوضاء فيَغْفِر٩ خريرَ الماء، ففي الجُزَيِّرة المُدغِلة١٠ المائلة عن سَمْت المساقط، والتي لم تطأها قَدَمُ إنسانٍ، وإن شئت فقل في منبع النيل، تَقَعُ جنةُ تلك الطيور.

    ولدى أدنى دَوِيٍّ تتحول تلك الرقاع البيض المُلس كالحرير، والتي تتلألأ كزهر البرتقال بين أوراقه المُدهامَّة،١١ إلى بلاشين،١٢ بيضٍ تطير فوق الشَّلَّالات مَثْنِيَّة الأرجل إلى الوراء، ويبدو هذا الطائر الآخر، الذي هو أبيض الطيور مع منقاره المِلْعَقيِّ الغريب الذي يُشْتَقُّ منه اسمه،١٣ صغيرًا بجانب طيرٍ آخرَ ضخمٍ رماديٍّ يأخذ في الطيران متثاقلًا منحنيَ الجِذْع منعطف العُنُق، ومن بين ذلك البُعاق١٤ يُسمَع حفيفٌ بغتةً، فقد غَطَسَ طيرٌ كبيرٌ بالغُ السَّوَاد في الماء، غَطَسَ القاقُ المشهور بشرهه لمدة دقائقَ حتى يظهرَ من بعيدٍ حاملًا سمكةً بمنقاره مصفِّقًا بجناحيه كطيور البحر، وهنالك طيرٌ أسود أبيض ينظر إلى ذلك المنظر بعين السخط، فيتقدَّم متزنًا منخفضَ الرأس، ثم يرى إثبات عِزَّته الصادقة فيبسط بتُؤَدةٍ ما في جناحيه الأصفري الخطوط من انحناءٍ منسجمٍ ويطير رشيقًا، فهذا هو طير النيل المقدس: إبيس.١٥

    وترى الكَرَاكِيَّ١٦ واقفةً على الضِّفاف شامخةً صامتةً مَنِيعةً كالأمراء الذين ورد ذكرهم في الأقاصيص العربية، وترى كُركيًّا أغبرَ نبيلَ النظر يحمل عنقُه الدقيقُ بروعةٍ رأسًا ذا ثِقَل ويجمع في طاقةٍ ريشَ ذنبه الأدكن١٧ وينشر من فَوْره جناحيه الوسيعين ويحوم فوق الماء رويدًا، وأجملُ من ذلك كُرْكِيٌّ آخر ذو ريشٍ ضاربٍ إلى زُرقة ممتدٍّ إلى ذَنَبه وذو ريشٍ ضاربٍ إلى صفرة ممتدٍّ على رأسه كريش الطاووس، ولهذا الكُركيِّ المتوَّج مِشْيَةٌ تَنِمُّ على الزهو والهبوط كالصور التي رسمها فان ديك١٨ لأبناء الملوك، وبجانب هذا الأمير من الخلف مع قليلِ بُعْدٍ مناسبٍ تُبصِر أبا سُعن١٩ الطائرَ المضحكَ البشيع كما في الأساطير والأبيض الأسود مع سكونٍ ظاهر خادع ومع وقارٍ ممزوجٍ بحذر وجفوة ومكرٍ وجَشَع، فهذا الطائر يشترك في كلِّ عملٍ نافع فيَصِيد كلَّ شيء يقدر عليه فأرةً كان أو عنكبوتًا.

    وبين كبار الطير تلك تُبصر ألوفًا من صِغَار الطير تُحَلِّق فوق منبع النيل صادحةً مغرِّدةً مُصَفِّرة، وتبصر التَّمَامِر٢٠ الفَيْرُوزِية٢١ مع ريش نارنجي يبدو ورديًّا تارةً مَغْرِيًّا٢٢ تارةً أخرى ويتحول مترجحًا بين ألوانِ قوس قُزَح ويلمع في الماء والضياء، وتبصر هذه التَّمَامر في وسط السُّمَانَى الزاهيَ الذي يَعبَث بين القاوَند٢٣ الزاهر الزرقة وفوقه، وفي العِيص٢٤ يغرِّد عندليب الشرق، البلبل، متواريًا، على حين يَهْوِي قريبًا من مأواه الخفيِّ سُنُونُو الثِّمال مع صوتٍ خفيف، شأن حنين شعراء الألمان إلى الجنوب وإلى هَزَار٢٥ الشرق، وتَسْجَع القُمْر٢٦ الوردية الرمادية سجعًا رزينًا، ويرتفع صفير الزرازير السمر الخضر، المختلفة الألوان عند الانعكاس كعين الهِرِّ،٢٧ من بين أصوات الطيور الكبيرة، ويُبلِّل الخَطَّاف صدرَه الأغبرَ برشاش النهر، وتُغَرِّد الدُّعَرَة،٢٨ وهي طائرٌ نيليٌّ كإبيس، محرِّكةً ذَنَبَها، فبانسجام الألوان وتوافق الأصوات تُحيط هذه الطيورُ بالجزيرة المنيعة بين الشَّلَّالات كأنها تخشى الإنسان أكثر من خشيتها بقرَ النهر والتمساح وكِبَار الطير.

    وأين نحن؟

    تَقَعُ مساقط رِيبُون، وهي منبع النيل، وهي ما يسميه أهلُ تلك البُقعة بالحجارة، في شمال خطِّ الاستواء رأسًا، ويبلغ عرضها ثلاثمائة متر، وتندلق بين صخرٍ بِكرٍ، وتَحُفُّ بهذه الصخور شجيراتٌ وأزهارٌ برية نابتةٌ على هَضْبةٍ جرداء بعد إتلاف البِيض للغاب محوًا للقاتل من الذُّبَاب.

    وفي أقصى شِمال بحيرة فيكتورية، وبالقرب من جِنْجَا، ينمُّ هديرٌ هائلٌ على هذا المنظر العظيم، وخلف الصخور الغُبْر التي هي ضربٌ من الأسداد الطبيعية وبجانب الخليج تمتد البحيرةُ ذات الجزائر والجُزَيِّرات، ومن هنالك يسير النهر، ومن هنالك ينطلق رسول قَلْب أفريقية حاملًا البشائرَ العجيبة إلى بحر بعيد.

    وما كان أحدٌ ليَعْرِف مأتاه، وما بذله الإنسانُ من جهودٍ في ألوف السنين بحثًا عن منبعه، فقد ذهب أدراج الرياح، والناسُ كانوا يعتقدون أن هذا النهر المُحَيِّر مَدِينٌ في قُوَّته إلى أطواد٢٩ وأنه كالأنهار الأخرى وليدُ سيول، ومنذ سبعين عامًا فقط يُرَى بعد كشفٍ أن جَرْي النيل يبدأ بشلَّالٍ عظيم، والنيل — وهو ابنٌ لأعظم بحيرة في أفريقية، وهو يُزْبِد ويُزَمْجِر — يُبدي سلطانه من يوم حياته الأولى.

    وقليلٌ من هذا العُبَاب٣٠ الأوليِّ ما يَصِل إلى الغاية، ولا تُسفِر الريح والشمس والصخر والحيوان والنبات عن غير وقف تلك الأمواج أو تحويلها إلى بخار، وليس ما يَبلُغ البحرَ المتوسط بعد شهورٍ طويلة صادرًا عن ذلك اليَنبُوع، فللنيل ثلاثة ينابيع وعِدَّة روافد في البَدَاءة، وهذا إلى الملايين من ذَرَّات الماء التي تَتْبع النهر في مجراه من ذلك الشلال الذي يُولَد منه إلى أن يختلط بمِلح البحر.

    وفي الأعلى، وبالقرب من المنبع، يَنشُرُ ضباب الفجر سِترَه فوق البحيرة، ولا أحد يَستطيع أن يُنْبِئ أين ينتهي، فإذا طَلَع النهار ظهرت جزائر وجُزَيْراتٌ وخُلجانٌ صغيرة عميقة تُوغِل في الأرض، وظهرت كُثبانٌ على مدى البصر، وظهرت سلاسل تلالٍ تُكْسَف في الزُّرقة البعيدة، وتسطع على الضفاف المرتفعة مراعٍ، وهي أراضٍ خصيبةٌ شعرية، تحدُّها أدواحٌ٣١ منفردة فاصلةٌ بين الظل والنور.

    وما كانت العين لتمتد إلى الضِّفة البعيدة، ولو لم تَزحَم كثرة الخُلُج والجُزُر أبصارنا هنالك؛ وذلك لأن تلك البحيرةَ بحرٌ أوسعُ من سويسرة مِساحةً، ولها قوانينها ونُظُمها ومخاطرها، وهي جوهرُ فردٍ في وسط تلك القارَّة المُفْتَتَنة، وهي مرآةٌ كبيرة لشمس أفريقية، وهي حدٌّ لبلدٍ رعائيٍّ: لأوغندة، وتقع أوغندة على ارتفاع ١١٠٠ متر، وتُقاس بالجنة. ويسودها صيفٌ خالدٌ عاطل من حَرٍّ قاتل في النهار ومن ضَبَاب خانقٍ في الليل، وتُنْعِم العاصفة عليها بالنسيم بعد الظهر وبالريح في المساء، وتُعدُّ أوغندة بلدًا مخصابًا مخراقًا٣٢ يتوازن الغيث والشمس فيه دومًا.

    وعلى تلالها وفوق جبالها وراء الإطار الذي يحيط بالبحيرة يتوارى أواخر عمالقة ما قبل التاريخ، وبيان ذلك أنك إذا ما سِرْتَ من ضفاف هذه البحيرة ذات الزُّرقة الحريرية وجدتَ البلد يرتفع إلى أرصفةٍ ويصعد في الشمال الغربي نحو براكين وذرًى من الغَرانيت ونحو ينابيع لروافد تصبُّ كلها في النهر الأكبر وإلى قِمَم جبال القمر الثلجية، ومن هذه الجبال يتألَّف سورٌ لحديقة أناسٍ من ذوي الحظِّ يبذُرُون قليلًا ويحصدون كثيرًا.

    والحقُّ أن ضفاف البحيرة هي حديقةٌ من عمل الطبيعة ويدِ الإنسان المُسْمَرَّة بفعل الشمس، وفي كل جهةٍ من تلك الحديقة ينتصبب من السَّنْط الأكبر عِظْلِمٌ٣٣ أخضرُ كالمهابط٣٤ المبسوطة فيمرُّ النور من بين أغصانه الدقيقة ناشرًا ظلًّا لطيفًا على المروج، وينقسم أصله العريضُ الأغبر الناعم الجاف الأعقدُ عند مستوى الأرض إلى عدة فروعٍ مكسوَّة في أعلاه بأوراق ذات تقاطيعَ رقيقةٍ وعناقيد خُبَّازية طويلة، وإليك قُبَّةَ شجر التين النابت فوق جذورٍ جسام بارزة من الأرض والغنيِّ بخشبه وظله، وإليك الجُمَّيْز الملكيَّ القائم بجانبه والحائزَ لمثل صفاته، ويميل الزهرُ الأحمر الزاهي النحيفُ نحو البحيرة على حين تَغْرِزُ ثُرَيَّا شجر المَرجان أصابعَها القِرْمزية الساطعة في الهواء.

    يقوم فوق المنحدرات المخضرَّة على طول البُحَيْرة جميعُ ما ذُكر ساكنًا وحيدًا تقريبًا، وذلك رمزًا إلى منظر خيال.

    ١ الحجيرة: الكثيرة الحجارة.

    ٢ الدردور: موضع في البحر يجيش ماؤه.

    ٣ الشريم: الشرم الصغير، والشرم هو الخليج.

    ٤ زنخر: نفخ.

    ٥ الخوار: صوت البقر.

    ٦ الرقش: جمع الرقشاء، وهي مؤنث الأرقش؛ أي المنقط بسواد.

    ٧ الخنشار: نبات.

    ٨ الدلبوث: نبات يُعرف بذنب الفرس.

    ٩ غفر الشيء: ستره.

    ١٠ أدغلت الأرض: كثر دغلها؛ أي شجرها الملتف.

    ١١ المدهامة، الدهماء، وفي القرآن وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ، مُدْهَامَّتَانِ أي خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة والري.

    ١٢ البلاشين: جمع البلشون، وهو الطائر المعروف بمالك الحزين.

    ١٣ أبو ملعقة Spoonbill.

    ١٤ البعاق: الصراخ.

    ١٥ Ibis، وهو الطير الذي يُعرف في بلاد النوبة بأبي خنجر.

    ١٦ الكراكي: جمع الكركي، وهو طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب قليل اللحم يأوي إلى الماء أحيانًا.

    ١٧ الأدكن: المائل لونه إلى سواد.

    ١٨ فان ديك: رسَّام مشهور وُلد في أنفرس وتُوفي بالقرب من لندن (١٥٩٩–١٦٤١).

    ١٩ أبو سعن Marabout: طائفة من الطيور طويلة الأرجل قريبة من اللقلق تعيش في أفريقية والهند.

    ٢٠ التمامر: جمع التمرة، طائر جميل أصغر من العصفور يمتص الزهر والثمر.

    ٢١ الفيروزية: ما كان لونها بلون الفيروز، وهو حجر كريم أزرق.

    ٢٢ المغري: نسبة إلى المغرة، وهي الطين الأحمر يصبغ به.

    ٢٣ القاوند Kingfisher; Martin pécheur: عصفور صغير ذو ريش زاهر ساطع يعيش على ضفاف مجاري المياه ويصيد صغار السمك.

    ٢٤ العيص: الشجر الكثيف الملتف.

    ٢٥ الهزار: البلبل والعندليب.

    ٢٦ القمر: جمع القمري، وهو ضرب من الحمام حسن الصوت.

    ٢٧ عين الهر: حجر كريم كثير الألوان.

    ٢٨ الذعرة: طائر صغير يكثر تحريك ذنبه ويتلفت كأنه مذعور.

    ٢٩ الأطواد: جمع الطود، وهو الجبل العظيم.

    ٣٠ العباب: الموج.

    ٣١ الأدواح: جمع الدوحة، وهي الشجرة العظيمة المتسعة.

    ٣٢ المخراق: السخية.

    ٣٣ العظلم: نبت يُصبَغ به.

    ٣٤ المهابط: جمع المهبطة، وهي المعروفة بالبراشوت Parachute.

    الفصل الثاني

    لم يجرؤ أحدٌ بعد على قَهْر منبع النيل، ولا على الإنشاء والتنظيم فوق ضِفافه مع أن عِدَّة خِططٍ وُضعت حول ذلك الجزء الأفريقي من قِبل مهندسين كثيرين، ومع ذلك نصب جسرٌ حديديٌّ أسمرُ على النهر في أوائل حياته؛ أي بالقرب من مجراه التحتانيِّ، فيَصِلُ به قطارٌ بين بحيرة فيكتورية والمحيط الهندي، أو يَصِل به قطارٌ بين البحر الصغير والبحر الكبير، وما كان النيل ليحتملَ جِسْرًا آخرَ إلا بعد ثلاثة آلاف كيلومتر من مجراه التحتانيِّ وعلى طَرَف الصحراء، وما كان لإنسانٍ في جميع هذه المسافة بين بلادٍ وشعوبٍ أن يعبُرَ النيل بلا زورق (عدا جسرًا طبيعيًّا)، وقد حاول ذلك كثيرٌ من الحيوان والإنسان فكان الهلاكُ نصيبهم، والنهر بلا جسرٍ في مسيرٍ لا نهايةَ له دلَّ على أنه حاجزٌ بين حيوانٍ وحيوان.

    والنهر الفتي لا يأخذ حِذرَه من مِعبَر،١ والنهر الفتي في رَتَلٍ طويل من المساقط والدوافع يُطلِق العِنَان لصولته الطِّفلية فائرًا مدحورًا مزبدًا سعيدًا بالحياة، والمَسقطُ الثاني الذي هو مَسقط أُوِين عريضٌ كالأول، ولكنه أعمق منه مرتين وأقفر وأقتم، وهو يُعَجِّل سلسلة الدوافع، وإذا ما نُظِرَ إلى الأمر كما تودُّ الطبيعة، لا كما تصنع الحضارة، سُمِّيَتْ هذه الدوافع بالشلَّال الأول والثاني، وينحرف النيل المُرغي وغير الصالح للملاحة نحو الشمال من غير أن ينقطع نَفَسه، وقد توارت المراعي والمروج، وقد مُنِعَت سُكْنى تلك البقعة بسبب مرض النوم، ويظل النهر والغابة وحدهما كما صنعتهما يد الخالق، ويبقيان نتيجة نبت القرون وقرضها، والنيل في ذلك المسير، وفي ذلك الحين وحده، يلامس الأيكة٢ البكر.

    وتفصل النهرَ من الغابة وتترُكه يلهو بألعابه أسوارٌ حيةٌ من النبات المعترش المشتبك وتُخفي عنه اصطراع الحيوانات الكبيرة ومصائبها، كما يُسعَى في إبعاد منظرٍ أليم عن الصبي، وما يقع خلف تلك الأسوار فيَرجع إلى زمنٍ كانت الأرض فيه أشدَّ فَتَاءً والحياة فيه أكثر وفرًا وأعظم نموًّا، وفي ذلك النبت، حيث تَنَازُعُ الأفراد أخفى مما في بقاع الشمال القُرْع، تلتقي الحياة والممات التقاءً وثيقًا، وهنالك تكون البهائم والنوامي التي لم تمسسها يد إنسانٍ على أتمِّ التحامٍ، وعلى نور هذا السَّفَر٣ الأخضر الذي تتجلَّى الغابة البكر به تتعلق جذور الدوح بسالف موتاها على حين تهيمن ذُراها على ذلك الاشتباك الكثيف كأعاظم الرجال العُزْل فتؤلف مع غيرها شركة رءوسٍ مشمسة، وما تنتجه الرءوس فيسقط على الأرض، يسقط على منبع الخصب الجديد في منطقة الحياة التي لا تَفْنَى، والتي لا أحد فيها يجني ثمار هذه الأشجار، والتي ترى الطبيعةَ بها في بخارٍ حارٍّ ولودٍ من الحب طليقةً من كلِّ مأرب.

    figure

    جبار في السهب.

    وفي غضون القرون ما فَتِئَ تراب الغابة البكر يرتفع مدبولًا٤ إسفَنجيًّا نديًّا فتنبت الجذور والسوق في غصون الأشجار التي توشك أن تنهار مع أنها لا تزال حيةً، وينمو صائلًا نباتٌ جديدٌ بخيتٌ على أصولٍ عادت إلى التراب أو على أصولٍ حية فيتغذى بها، ولا ينفذ عَدُوَّا غاب الشِّمال، الجليدُ والبَرَد، ولا خَرِيقُ٥ الجبال المجاورة المستورة بالثلج، تلك الأسوار التي أقامتها الغابة بنفسها، وبالعكس تَجِدُ هنالك الشيء الكثير من حامِيَتَي النبات: الحرارة والرطوبة، والعدوُّ الوحيد الذي يَجْرُؤ على دخول تلك المحالِّ التي هي أمنعُ من سواها هو الحيوان الذي يرجع إلى ما قبل الطوفان، والذي ظلَّ باقيًا من خلال الانحلال الشامل، فالفيل وحده هو من القوة ما يستطيع بأعضائه القوية أن يدوس معه ما يُعاسِرُه أو يَسْحَق معه ما يعوقه، وما كان الإنسان ليطأ أرض الغابة البكر لولا خطوات الفيل، والفيل هو الذي رسم سبيل الأَسْوَد التي لا يزال الأبيض يتَّبِعها في طُرقه.

    وإذ إن الغابة البكر هي اشتباكٌ مستمرٌّ من الأسفل ومن الأعلى حيث يحاول الخِنْشَار٦ والكلأ الأكبر أن يَلحقا بالنبات المعرِّش الهابط؛ فإن السُّورَ الذي لا يُنفَذ منه يتألف من مائة ضعفٍ مع الزمن من غير أن يَقِفَ رنينَ هذا العالم صوتُ الفأس حين خَبْطها الشجر.

    وكثافة الأيكة تُسْفِر عن سكوتها، وأصواتُ الطيور وحدَها هي التي تَنِمُّ على عمقها، هي التي تدلُّ على جزءٍ من بُعدِ غَوْرها، وما هو واقعٌ من ضِحْك٧ القِرَدَة وطنين الحشرات وحفيف الدوح التي يعوِزُها الهواء ونقيق الضفادع في البرديِّ،٨ وصفير الشُّحرور وحسيس الوِرْلَان٩ وكشيش الثعبان ونعيق الغِربان فقد ضَعُفَ كضياء الغابة، وقد بدا حادًّا مفاجئًا كصوت الأولاد في الكنيسة عند القيام بالشعائر ما دام ظلام الأَجَمَة وعلوُّها يُثِيران فينا ذكرى الكنائس.

    وفوق الأرض وفي أصول التِّين العظيمة وبين سُوقِ السَّحْلَبِيَّات تكوَّنت كُوَّاتٌ عميقةٌ يُمْكِن الإنسانَ أن يأويَ إليها، وهي تشابه كُوَّاتِ أركان الكنائس، ومن العَلَاء وفي أغصانها المستورة بالأزهار تَجثِم البَوَابشين١٠ ساكنةً كالتماثيل السُّود متبرِّمةً من وثبات الرَّبابيح١١ التي تَلْمَع أذنابُها البيض وخطوطُ ظهورها عندما تَقْفِزُ من مُعَرِّشٍ إلى آخر، وتدبُّ الحياة دبيبًا خفيًّا في تلك الأشجار الخامدة الخانقة المظلمة بفعل الحيوانات التي تؤثِّر فينا بخُطاها وأصواتها أقلَّ من تأثير الأزهار بألوانها، ومن خلال اشتباك المعرِّشات يُبْصِر جلدُ حيةٍ لامعٌ، ولا يكون لصوت طيرٍ معنًى إلا حين يُرَى ظلٌّ عابرٌ لصقرٍ أبيضَ وحين يَصِيح بعض الببغاوات على البَوْبَاب١٢ الذي هو شجرٌ ضخمٌ ذو قاعدةٍ جلدية متجعدة، وتتلاشى هذه الأصوات بسرعة في سكون الأَيْكَة البكر المُثِير.

    وإليك نداءَ شجرة المرجان المُحرِق، وإليك هذه الشجرةَ التي تَحْكِي أغصانُها فروعَ شجر التين فتمسُّ الشمسَ، وإليك هذه الدوحةَ التي تتدلى من الرأس كأنها ضربٌ من فولٍ مارد، وإليك السَّنْطَ المُخْمَليَّ، الذي تسطع من بين أوراقه أزهارٌ ورديةٌ حمرٌ كبيرةٌ كيد الإنسان، وإليك العَشَقَ١٣ السماوية التي تسترسل أكاليلَ أكاليلَ من أغصان الجُمَّيْز إلى اللمَّاع مع أزهارٍ حمرٍ متزاحمة كثافةً.

    وفي بقاعٍ من الغاب لا شَجَرَ فيها وعلى ضفاف غُدرانٍ تكاد تُستَر بأوراقٍ فتنفُذُ إليها شمس البلاد الحارة تكون الأزهار أقلَّ أخذًا بمجامع القلوب وإن وُجِدَ هنالك عشرةُ أمثالها؛ وذلك لأن الحيوان هو السيد على طرف الماء هنالك حيث تبصر القاوَندَ الفيروزي واقفًا على اللبلاب١٤ القِرمزيِّ الملتفِّ حول الحسَّاسة١٥ منحنيًا فوق الماء مترقبًا سمكًا يُمسِكه، ويهتزُّ وكر التنوُّط١٦ في أقصى سُعُوف النخل فيتفلت بذلك من جشع القرود وطمع الأفاعي، وهنالك، حيث يَمِيل الخنشار المَذِر١٧ إلى الماء، ترفرف فراشٌ سَمَنجونِيَّةٌ١٨ ذواتُ أعين أُرْجُوانية، وهنالك ضُبَّانٌ زرقٌ ذوات نُقَطٍ نارَنجية تَدَّفئ بين البطيحة١٩ والغدير.

    ويُبدي النَّسَّاف٢٠ حركاتٍ غريبة ويخرج أصواتًا صُحلًا٢١ كما لو كان كل جرسٍ٢٢ نتيجة ألمٍ صميم، ويُصَفِّر شحرورٌ جهيرٌ على شجرةٍ قريبةٍ كما لو كان يغازل، كما لو كان متفنِّنًا مولدًا بجانب مقلِّدٍ أرفل،٢٣ ويفوق الزَّمَّار كلا الطيرين، ويَخرِق مزماره المغري المُغِمُّ أوراق الشجر كما لو كان يَعِيش في الهواء والماء، وذلك مع تحدٍّ للغابة البرية وسُخْرٍ من ضرورة النَّقْر٢٤ ومن عبء ما يحيط به، وذلك إلى أن يقف تغريده نعيق العَقْعَق.٢٥

    وعلى مدًى من تلك القَرْقَرَة والمُفَارَعة تعيش الحيوانات الكبرى في الغابة وتصيد وتتزاوج وتتقاتل، وهي تظهر على ضِفاف دوافع النيل الفَتِيِّ مساءً فَتَجْرَع وتكرع من مائه الفُرَات،٢٦ والزِّنجيُّ في ذلك الحين يتوارى، والزنجي في النهار يصطاد ويغتسل في خليج ساكن، فإذا دنا الليل ترك المكانَ لسادة الغابة الصامتين عن وَجَلٍ.

    ١ المعبر: ما يُعبَر به النهر كالقنطرة.

    ٢ الأيكة: الغابة.

    ٣ السفر: الوقت الذي هو بعيد غياب الشمس.

    ٤ دبل الأرض: أصلحها بالدبال، وهو السماد.

    ٥ الخريق: الريح الباردة الهبابة.

    ٦ الخنشار: نبات عديم الأزهار، ويُعرف بالسرخس أيضًا.

    ٧ ضحك القرد: صوت.

    ٨ البردي: نبات كالقصب كان قدماء المصريين يستخدمون قشره للكتابة.

    ٩ الورلان: جمع الورل، وهو دابة على خلقة الضبِّ أعظم منه طويل الذنب دقيقه.

    ١٠ البوابين: جمع البابون، وهو القرد الأفريقي الذي هو أقبح القردة منظرًا وأحطُّها عقلًا.

    ١١ الربابيح: جمع الرباح بضم الراء وهو القرد الذكر.

    ١٢ البوباب: من أعظم نباتات البلاد الحارة، وهو قليل الارتفاع، ولكن دائرة ساقه تزيد على عشرين مترًا.

    ١٣ العشق: جمع العشقة، وهي نبات يلتوي على الشجرة ويلزمها.

    ١٤ اللبلاب: نبات يتعلَّق على الشجر ورقه كورق اللوبياء.

    ١٥ الحساسة: نباتة إذا لمستها انطبق ورقها وتُعرف بالمستحية.

    ١٦ التنوط: طائر يعلق قشورًا من قشور الشجر ويعشش في أطرافها لتحفظه من الحيات والناس والذر.

    ١٧ المذر: الفاسد.

    ١٨ السمنجوني: ما كان بلون السماء.

    ١٩ البطيحة: مسيل واسع فيه رمل ودقاق الحصى.

    ٢٠ النسَّاف: طير له منقار كبير عليه ما يشبه القرن.

    ٢١ الصوت الأصحل: الأبح الخشن.

    ٢٢ الجرس: الصوت.

    ٢٣ الأرفل: من لا يحسن عمله.

    ٢٤ نقر الطائر الحب نقرًا: لقطه من هنا وهنا.

    ٢٥ العقعق: طائر على شكل الغراب، أو هو الغراب.

    ٢٦ الفرات: العذب.

    الفصل الثالث

    يهدأ النيل الشاب على مسافة ستين كيلومترًا من مجراه بعد منبعه، ويتعرَّفُ النيل الشاب ببطائنه، ويَنزِل مائتي متر بين المساقط والدوافع، ويُحيط ببضع جُزَيراتٍ كثيرة الغابات، ويُبصِر أناسًا عراةً أنشئوا أكواخًا لصيد السمك وتجفيفه وتدخينه.

    والنيل عندما يغادر الدوافعَ ويَتَّسع ويَسلُك سبيلَ الحكمة يباغته الناس ويُرهِبُونه بأمرٍ جديد عليه لا ريب، وبيانُ ذلك أن زوارق وبواخر صغيرةً تنتظره فيرى لزامًا أن يحتمل استواء أناسٍ على ظهره، ويبدأ النيل وَضْعَ ذلك الوِزْرِ١ عنه بشدة، وتُعِينُه حجارة قَرَاره وصخور قاعه على ذلك، ثم يُذْعِن لما كان من إنشاء الإنسان الماكر سُفُنًا ذاتَ حَيَازِيمَ٢ مسطحةٍ. فيظل النيل صالحًا للملاحة مائتي كيلومتر، وبالقرب من المكان الذي يغدو به ذلك الأمر ظاهرةَ النيل، ومن درجة العرض الشمالية الأولى، يلوح الخطُّ الحديدي متوجهًا إلى الجنوب الشرقي نحو كينيا والبحر بما لا يكاد يُمَسُّ به النيل، ولا يدنو الخط الحديديُّ الثاني من هذا البر إلا في الدرجة الثالثةَ عشرةَ الشمالية؛ أي بعد ألفيْ كيلومتر، فهذا هو طول البقاع التي تعترض دون إنشاء خطوط حديدية.

    ولا يكاد النيل يحتمل باخرةً حتى يُعَانِيَ مغامرةً جديدة؛ وذلك أن ضفاف مجراه تتوارى فيتَّسع مقدارًا فمقدارًا، وأين الغابة التي تَفرِض عليه حدودًا ثابتة؟ كان عرضه ستمائة مترٍ منذ هنيهة، فلم يلبث أن انبسط على كيلومترات ويَغِيض ماؤه، ويصبح ناقصَ الصورة، ويهبط في ضربٍ من الإسفنج فيُخشَى ضَيَاعُه، ويتقدم، وكلما تقدم تمطى وأضحى عمقُه ثلاثةَ أمتار أو أقلَّ من ذلك عند طرف المستنقَع، وهذا إلى ما يظهر من ستره بالخُضَر والزهر، ويبدو كل شيءٍ حوله ساكنًا نائمًا، ويلوح إقدامه معطَّلًا وسروره زائلًا، وماذا حدث إذن؟

    ترانا في بحيرة كيوغا، وهي مساحةٌ واسعة من الماء مع أربعة فروع كبيرة، وهي مستنقعٌ يحفُّ البردي من حوله، ويجتابه النيلُ في مائة كيلومتر فيعاني نباتَه، وتتأصَّل جذور النِّيلُوفَر٣ بسهولةٍ في تلك المياه الدنيا، ويَكسُوها هذا النبات العجيب الأزرق السماوي مع تجاويفَ ذهبية يعلوها زهرٌ آخر أحيانًا، فكأن ذلك بِسَاطٌ حقيقيٌّ مُصوَّرٌ نَمَطِيٌّ يتوارى النهر تحته تقريبًا.

    وتحاذر الروافد الأولى أن تُفْضِيَ إلى هذا الإسفنج لما يسفر ذلك عن امتصاصه لها، وفي أقصى طرف البحيرة الغربيِّ، حيث يتركها النيل، ينضمُّ إليه أخوه الصغير نهر كافو خاتمًا حياته الصغيرة هنالك، ويتجه النيل إلى الشمال بعد أن يصير نهرًا مرةً أخرى، ولكن مع محافظته على جِرْيَة بحيرةٍ، ولكن مع ظهوره متثاقلًا متوانيًا مستغدرًا٤ مُتخيِّلًا.

    وفي تلك المرحلة من المجرى يمكن قياس نظام النيل بما لبعض السجايا من تغيرٍ دوريٍّ، والنيلُ يغيِّر ثم يغيِّر جريه ولونه مناوبةً وعلى غير انتظامٍ في ألوفٍ من الفراسخ وطويلٍ من الشهور، فطورًا تراه هائجًا عبوسًا وطورًا تراه سائبًا تَعِبًا، ومن المتعذر أن يُعرف أيُّ الأمرين يؤثِّر في الآخر ويطبعه بطابعه: النيل أم البلد المحيط به؟ وإنما الذي يقال الآن هو أنه يَدْلِف٥ نحو الشمال مع انحدارٍ غير محسوس على وزن بحيرة كيوغا.

    وينعطف النيل بغتةً، ويترك ذلك الاتجاه الشماليَّ للمرة الأولى، ويَسِير نحو الغرب ويتحول تحولًا تامًّا، وما يلاقيه من أرضٍ صخرية فيشُدُّ عزيمته فيقلب السفن، وينقلب إلى سيلٍ منيع كما في صباه ويَضِيق مجراه ويعمُق مسيله، وهل هذه مغامرةٌ جديدة؟

    يظهر فَلْقٌ أفريقيٌّ فجأةً مع طرف متلفف، فالبُقعة تصير صخرية، وتتجمَّع كتل الصوَّان ويتكوَّن عقيقٌ،٦ ولم يجاوز النيل حتى الآن غيرَ دوافع واسعةٍ جدًّا، ويَهبِط النيل الذي ضُغِطَ في عرض ستة أمتار للمرة الأولى من ارتفاع أربعين مترًا، ويؤدِّي مَصَبُّ البحر الاستوائيِّ الداخلي إلى هذا المسقط الذي يتدهور به النهر في بضع ثوانٍ مع إرزام٧ رعدٍ وهباء٨ ماءٍ وزَبَد.

    ويُوجِدُ النيل سجيَّتَه بمساقط مرشسن تلك التي هي أهمُّ ما في جريه، ويعرض للنيل أمرٌ هائل، فهو يهبط من منطقة أفريقية إلى أخرى، وتُحَوِّله مغامرةُ الشباب هذه التي هي ولعٌ جامحٌ تحويلًا تامًّا، وهنا لا يلهو بقر ماء ولا تمساحٌ، حتى إن الطير قليلٌ هنا، حتى إن السمك لا يحاول العودَ إلى مأتاه هنا، ولكنك ترى جسرًا خالدًا يصل الماءَ بالسماء، ولكنك ترى قوس قزح، وينعكس النور في كل مكان على الألوف من مَهَا٩ الطلق١٠ التي هي أساسٌ برَّاق لهذا المنظر المؤثر.

    وعلى مسافة فرسخٍ من هنالك لا يزال الزَّبَدُ فوق الموج الهائج مشاهِدًا لما يعانيه النيل من رَجٍّ، ثم يتَّجِه النيل من بين شجيرات منثورةٍ في السُّهْب،١١ إلى وادٍ يتسع بسرعة، ويجد النيل نفسه للمرة الأولى تجاه ظاهرةٍ عجيبة ترجع إلى ما قبل التاريخ، فالفيل يدنو من النيل نحو المساء.

    هو ضخمٌ، هو آخر مَنْ سَيْطَرَ في تلك الأرض على جميع المخلوقات الأخرى، هو الأقوى الذي لا يقدر على مقاومته حيوانٌ ولا شجر، هو الذي لا يبالي بشكِّ شوكةٍ١٢ أو لسع ثعبان، هو شاعرٌ كالعظماء بقدرته التي لا يحتاج من يخشاها، هو ليس فحورًا ولا ضاريًا، هو أكرم الحيوانات وأذكاها طُرًّا، هو حليمٌ طَيِّبُ المزاج مع شدة انتقامٍ عندما يدافع عن صغاره تجاه هَجَمَات الإنسان الغادرة، هو مُجَهَّزٌ بأصغر العيون في أكبر الوجوه وبأدقِّ صماخٍ١٣ تحت أعظم لُغْدٍ١٤ هو ذو عُضْوٍ نصفه أنفٌ ونصفه ذراعٌ وذو عاجٍ يستطيع أن يُتْلِف به كل شيء، هو لا يخرِّب غيرَ الضروري مع ذلك، هو قلما يُرْهِب أو يصطاد الحيوانات الأخرى، هو لا يأكل منها، هو يغتذي بالعشب الغَضِّ وبقشر الشجر وبالثمر كغيلان الأقاصيص، هو إذا ما وَطِئَ الأرضَ بقوائمه الهائلة كان دَوْسُه من الحفة كدوس الجائل، والحق أن هذا الحيوان الذي يرجع إلى ما قبل الطوفان بعيدٌ من الثقل والتوحش، والحقُّ أنك تبصر الهدوء في نظره وسيره.

    وفي سالف الأدوار كان الفيل معروفًا في جميع الأرض، وليس في العالَم مكان وُجِد فيه من العاج مثلما وجد في منطقة مضيق برنغ،١٥ ووجد الفيل في رومة وإرلندة وإسبانية الشمالية وسيبرية، وما عُثِرَ عليه في هذه البلدان من عظامه التي هي عظام الفيل الأفريقيِّ فيكفي لإثبات سابق اتصالٍ بين القارتين، وكان الفيل يعيش في أوروبة في الأزمنة التاريخية أيضًا، فقد رأى سائحٌ فنيقيٌّ فيولًا بجوار جبل طارق، ويدلُّ رسم فِيَلَة هَنِيبال في النقود على صمخٍ ضخمةٍ وظهورٍ منحدرة لا تَرَى لها نظيرًا في أفيال الهند.

    وتخرج من الغابة جماعةٌ من الفِيَلَة، ولا يكاد يُشعِر بطقطقةٍ لها لشدة حَذَرِها، والبلاشين وحدها هي التي تَنِمُّ عليها حينما تَحُوم فوقها؛ وذلك لأن البلاشين تتغذَّى بالحشرات التي تَعِيش على جلودها كما يعيش اللغويُّون من الشعراء، وتحذر الفيول الإنسان، والإنسانُ يَنْصِب لها أشراكًا في الغالب، وتَقِفُ الفيول وتترقَّب ولا يُسمع سوى تصفيقٍ لآذانها، وتتحرَّز الفيول لوجود صغيرٍ بينها، وهي تتوارى صامتة إذا لم تُبْصَر، وهي على عكس الإنسان تجبه العدوَّ إذا ما كُشِفَ أمرها، والآن تخرج الأفيال من الأدغال ويبدو ثلثا أجسامها ويبلُغ الكلأ الطويل مستوى رُكَبِها، ويجعل الصغير نفسه تحت أُمِّه وبين قائمتيها الأماميتين حيث اللَّوَابِن،١٦ ويُلقي الصغير خرطومه إلى الخلف ليرضع بفمه، وتدخُل الفيول الأخرى في الماء بعد أن تسحق كل شيءٍ في خليج، لا عن حِدَّة، بل عن ضخامة، وتزنخر١٧ بمنخرها في النيل وتَنْضَح١٨ ظهرها بخرطومها وتشرب وتأكل الكلأ العالي في المرج، ولا يُرى لها مَضْغٌ، فهي لا تَفْغَر فمًا عظيمًا كما يفعل بقر الماء، وإنما يتوارى كلُّ شيءٍ في هُوَّةٍ لا قعر لها كما يلوح.

    وعندما تأخذ الفِيَلة في الأوب من النهر تبدُو سودًا في سهبٍ أصفر، غير أن أنيابها تلمع بيضًا في الذكور والإناث منها على السواء، ويقود الذكر جمعها، ويأخذ مالك الحزين مكانَه من ظهره كالجِنِّيِّ الأبيض الذي يقود كبار المجرمين وشيوخَ الأشرار وفقَ ما جاء في الأساطير، ويرجع الفيل الضخم إلى الغابة مُرَوَّحًا مبللًا سعيدًا مائدًا،١٩ والفيلُ في طريقه يمسُّ بخرطومه شجرة سنطٍ ليرى هل تستحقُّ أن تُقْشَر، والفيل في طريقه يلتفت ليطمئنَّ إلى أن زوجَه وولده يتَّبِعانه، وهكذا يعود الفيل من ضفاف النيل إلى ظلال الأيكة البكر المدهامَّة حيث يسيطر بعقل إنسانٍ بصير فيرتِّب ويذكُر طليقًا طلاقةَ موجودٍ عالٍ قويًّا أكثر من كلِّ حيٍ باديًا آخرَ مَلِكٍ حقيقيٍّ للطبيعة.

    وهنالك حيث يتَّسِع النهر بالتدريج ترى وطنَ بقر الماء والتمساح، وفي مساقط مُرْشِسُن بمجرى النهر التحتانيِّ تبصر الألوفَ من هذه الحيوانات، وتلك المياه التي تُبدي نفسها للشمس والتي هي حمامٌ جبَّارةٌ تَحمِي هذه الموجوداتِ المائيةَ من كلِّ خَطَر.

    والحقُّ أن النيل للمرة الأولى يُلاقِي بحيرةً كبيرة بلا شواطئ كبحيرة فيكتورية التي يتركها خلفه من غير أن يراها، والنيل، وراء السُّهْب الأصفر المقطَّع كدلتا ينتهي إلى طرف بحيرة ألبرت الشمالي الأقصى، والنيل يجوب هذه البحيرة، وهنا — وعلى بعد ٥٠٠ كيلومتر من منبعه — يعدل النيل عن التسمِّي بنيل فيكتورية إلى التسمي بنيل ألبرت لما عُزِّز به من منبعٍ قويٍّ آخر، وتوجد مئات التماسيح على جزرٍ مستوية وعلى أنوفٍ تتقدم كألسنة جزائر فريز،٢٠ وتَثِبُ أسماكٌ فضيةٌ من خلال أمواج خُلجانٍ ملوَّنةٍ بألوان قوس قزح على حين يظهر ماء البحيرة أزرق في مكانٍ آخر، وعلى الشواطئ حيث يتناوب الغاب والشهب تعبث جماعةٌ رائعة من الأوعال، وتقترب الظباء من النيل الذي يَسقِي كلَّ حيوان.

    ولكن النيل لا يضمحلُّ في ماء هذه البحيرة الصافي كما حدث له في إسفنج كِيُوغا؛ وسبب ذلك أن جُرَافًا٢١ عنيفًا يجرُّه وتُخَطُّ طريقه، وفي الغرب البعيد تنتصب ظلالٌ بنفسجيةٌ لجبال شامخة، وهنالك يجري نهرٌ كبير آخر، يجري نهر الكونغو متجهًا إلى الغرب، ولن يرى النيل هذا النهر، والنيل يجرُّه مجراه إلى الشمال، ولنَرَ ما الذي يغذِّي ذلك المنبع الثاني الذي هو حوض بحيرة ألبرت العظيم، وذلك قبل أن نقتفي أثر النيل.

    ١ الوزر: الحمل الثقيل.

    ٢ الحيازيم: جمع الحيزوم، وهو وسط الصدر.

    ٣ النيلوفر: ضرب من النبات ينبت في المياه الراكدة له أصل كالجزر وساق أملس يطول بحسب عمق الماء، فإذا ساوى سطح الماء أورق وأزهر.

    ٤ استغدر المكان: سارت فيه غدران.

    ٥ دلف: مشى كالمقيد وقارب الخطوط في مشيه.

    ٦ العقيق: الوادي وكل مسيل ماء شقه السيل قديمًا فوسعه.

    ٧ أرزم الرعد: اشتدَّ صوته.

    ٨ الهباء: الغبار.

    ٩ المها: جمع المهاة، وهي البلورة.

    ١٠ الطلق: حجر شفاف يتشظَّى إذا دُقَّ.

    ١١ السهب: البعيد المستوي من الأرض.

    ١٢ شكت الشوكة رجله: دخلت فيها.

    ١٣ الصماخ: خرق الأذن الباطن الماضي إلى الرأس.

    ١٤ اللغد: منتهى شحمة الأذن من أسفلها.

    ١٥ برنغ: مضيق بين آسية وأمريكة الشمالية، ويفصل بين المحيط الهادئ والمحيط الشمالي.

    ١٦ اللوابن: الضروع.

    ١٧ زنخر بمنخره: نفخ.

    ١٨ نضح: رش.

    ١٩ المائد: المتبختر.

    ٢٠ فريز: قطعة من أوروبة الغربية واقعة على بحر الشمال بين هولندة وألمانية.

    ٢١ الجراف: السيل الذي يذهب بكل شيء.

    الفصل الرابع

    تَنِمُّ عَطَفَات الأنهار على سابق وجودها، ومما هو موضع شكٍّ مدةُ الحوادث وخصائصها، ولكن أمرها يُحْزَر كما لدى الإنسان من خلال دُجَى١ الذِّكْرَيَات مع تعذر إثباتها وإنكارها، وارجع البصر إلى أوغندة مع ذلك تُبصرْ أن حَلَّ ما قبل التاريخ فيها أيسر من حلِّ التاريخ نفسه ما دام لعالَمِ ما قبل التاريخ قَدَمٌ في العالم التاريخيِّ هنالك، وما حدث للإنسان فقد دفن في هُوَّة الأزمان. والإنسان كان يجهل الكتابة إلى زمنٍ حديث، وكان عاطلًا من العنعنات تقريبًا مع أن ما قبل التاريخ قد نَحَتَ أطلالَه ودلائله على الجبال، فيمكن تخمين ماذا كان عليه مجرى النيل الأصلي.

    وأفريقية هي قارة مهادٍ،٢ ومفاوز،٣ وهي القارَّة الوحيدة التي يمكن إطلاق هذا الاسم عليها مع استثناء هضبة البحيرات الكبرى، ومما حَدَثَ عند انفتاق وجه القارة أن ظهرت فُرجة تمتدُّ من روديسية إلى وادي الأردن مشتملةً على البحر الأحمر، وقد انفجرت النار من جوف الأرض وألقت كتلًا عظيمة وجعلت منها جبالًا واسعة الفُوهات، وفَتَحت على سفح هذه البراكين ذلك الوادي الذي تكونت فيه البحيرات وجرت منه الأنهار، وقد انقسمت الفرجة إلى ذراعين في جنوب حوض النيل، فاتجهت الذراع الشرقية إلى كينية وكَوَّنت كليمنجارو وكونت الذراع الغربية ثلاثَ بحيراتٍ واقعةً في غرب بحيرة فيكتورية، وتمثِّل هذه البحيرة انخفاضَ الهضبة بين الذراعين.

    ومهما يكن من رَيْبٍ في معارفنا فإن مما تلوح صحته تَكَوُّنَ البحيرات السبع بأفريقية الوسطى في تاريخٍ حديثٍ نسبيًّا، وتمدُّد سهولٍ واسعةٍ في مكان بحيرة فيكتورية الحاضرة، وخَدَّ٤ روافد هذه البحيرة لها، ومن المحتمل أن وُجِدَتْ طُبُوعٌ٥ واسعة مؤخرًا فزادت بوابلٍ٦ متصلٍ وشقَّت طريقًا لها من بين التلال المجاورة، والماء يعمِّق ويوسِّع الخَرْق ويعدُّ سبيله إلى السهل، والدوافع والمساقط آية هذا التطوُّر.

    وفوق البراكين الكبرى وفُوهاتها الصغرى التي نَدِينُ لها بالحُمَم المُجْمَدة والينابيع الحارة والهزات الأرضية نرى انتصابَ شاهد، نرى صخورًا أوَّليَّة، نرى مَلِك الجبال رونزوري المغطَّى بالثلج والأعلى من الجبل الأبيض،٧ فهذا الطود هو فؤاد أفريقية، ومنه يجري الماء إلى الغرب وإلى الشرق مغذيًا أعظمَ أنهار القارة: النيلَ والكونغو.

    وليس جبل رونزوري نفسه خطَّ تقسيم المياه، ويعود هذا الشأن إلى سلسلةٍ من البراكين تبلُغ من العلو ٤٥٠٠ متر، وتَقَع في الدرجة الثانية من العرض الجنوبيِّ من خطِّ الاستواء، وتُعرف بسلسلة مُفَنبيرو التي هي خط تقسيم المياه الصحيح كما يلوح، وقد تغيَّر هذا الخطُّ في أثناء تناسخ الأنهار، حتى إن أمره اليوم يبدو ملتبسًا خفيًّا فلا ينفكُّ علماء الجغرافية وعلماء المياه يجدِّدون قياسه بلا انقطاع، وبالأسماء وحدَها يُدَلُّ عليه، وفي النيل ترتبط البحيرات الأربع الكبرى المسماة بأسماء ملوكٍ من الإنكليز بالغة الغرابة في أفريقية، وفي الكونغو ترتبط البحيرتان الحاملتان لاسمين أفريقيين وهما: كيفو وتنغانيقا، وتجد بين هذه الحدود منابع ذينك النهرين العظيمين اللذين يُحْيِيان قارةً تثير العَجَبَ بخَثْرِها.٨

    figure

    مساقط ريبون.

    وإذا كان النيل ينال جميع مائه من بحيراتٍ فما هو مصدر ماء هذه البحيرات، وإذا كان يأتيها من الأنهار ماءٌ أقل مما يأتيها من المطر فما هو مصدر هذا المطر؟ لا تزال هذه الأسئلة موضعَ جدال واختلاف.

    والآن يُعتقد أن مصدر أمطار حوض النيل هو جَنُوب المحيط الأطلنطي، ويظلُّ التبخر٩ والتكاثف، الناشئان عما بين البحر والأرض من توتُّرٍ، متوازنين إجمالًا لا تفصيلًا، وهنالك صراعٌ بين التبخُّر وتكوُّن الأنهر وجَرْيها نحو البحر، ولعمق الصحن شأنٌ في هذه الدورة التي تشتمل على ثلث أمطار الأرض، ولا يزيد عُمق بحيرة فيكتورية على تسعين مترًا، ويتبخَّر من هذه البحيرة أكثر مما تأخذ، فيعدُّ مهندسو النيل هذا النقصَ المستمرَّ من المسائل الخطيرة. والحق أن لبحيرة فيكتورية شكلًا خاصًّا بها به جوها ونظام ريحها، وتقوم عوامل إقليمها الأساسية على تناوب الريح البرية والريح البحرية، وعلى كثرة الزوابع وعلى ارتفاع حرارة الماء إلى ٢٦ درجةً، وعلى عدم وجود أشهر جَفَاف، وعلى ما يُصاب به ذلك السطح العظيم من تَبَخُّر.

    ولا عَمَلَ لسواعدها١٠ في ذلك، ومن السواعد ما يأتيها من ثلاث جهات مع ذلك، ولكن ليس لها سوى مَنْفَذٍ واحد، سوى منبع النيل في شمالها بالقرب من جنجا، وفي الشمال الشرقيِّ تنزل سيولٌ بانحدار قوي من إلغون، البركان المنزوي البالغ ارتفاعه أربعة آلاف متر، فتأتيها هذه السيول بماء غزير، ومن سواعدها الخمسَ عشرةَ تُرَى واحدةٌ مهمةً، فكان يطلَق عليها اسم النيل؛ وسبب هذا هو أن من منطق الجغرافيين أن يُذهَب إلى أن أهم ساعدةٍ لبحيرة هي النهر الذي يخرج منها، وأن يُرَى ذلك في أمر البحيرات الكبرى فضلًا عن أمر صغرى البحيرات التي يمكن قياس جريانها ورؤيته من بعيد أيضًا، وإذا كان هذا الرافد الغربي هو النيلَ وَجَبَ أن يَجِدَ أقربَ مخرجٍ له على مسافة ٢٥٠ كيلومترًا، والبرهان الوحيد الذي يُذكر تأييدًا لهذا الافتراض هو أن السكان الأصليين يُسمُّونه «أم نهر جِنْجَا».

    ورافدُ بحيرة فيكتورية ذلك — ويُدعى كاجيرا — هو نهرٌ كبير، هو نهرٌ عظيم حتى عند عدم حَمْله لاسم النيل، ويبلغ طوله سبعمائة كيلومتر، ويستنزف مياه معظم الهضبة الواقعة غرب تلك البحيرة، وتتعذَّر الملاحة في منافذه الثلاثة بغير الزوارق لتحوُّل هذه المنافذ بحسب علوِّ النبات الذي تجيء به من الجبال، وتبصر بعد مسافةٍ صالحة للملاحة كثيرة العَرْض في بعض الأحيان، من الفُلُوع١١ والمراتج١٢ ما يضايقه في مجراه الفوقانيِّ على حين يستُرُه البردي ويجعله مَنْقَعًا،١٣ وهو إذا ما اقتُرِب من منبعه رُئي أنه سيلٌ جبليٌّ صائل.

    كانت سبع مدن تتنازع شرفَ كونها مسقطًا لرأس أُوميرُس، وتزعم ثلاثة منابع كونها مهدًا للنيل، ولكلٍّ من هذه المنابع اسمٌ غريب، وقد وُجِد بعد قياساتٍ كثيرة أن الجدول الذي يحمل اسم رُوفوفُو هو مصدر الرافد كاجيرا، وهو يجري في أرض بَلْجِيَّة١٤ من ارتفاع ألفيْ مترٍ على الجانب الشرقيِّ من الفَلْق١٥ بين تنغانيقا وبحيرة إدوارد، وفي الأيكة الكثيفة البكر، ومن المباح لكم عند الرغبة أن تكرِّموا منبعَ النيل الأول في ذلك الجدول: رُوفُوفُو.

    ١ الدجى: جمع الدجية، وهي الظلمة مع غيم.

    ٢ المهاد: الأرض المنخفضة.

    ٣ المفاوز: جمع المفازة، وهي الفلاة.

    ٤ خد الأرض: شقَّها.

    ٥ الطبوع: جمع الطبع، وهو مغبض الماء؛ أي مجتمع الماء ومدخله في الأرض.

    ٦ الوابل: المطر الشديد.

    ٧ أعلى جبال الألب، ويبلغ ارتفاعه ٤٨١٠ أمتار.

    ٨ من خثر اللبن إذا ثخن واشتدَّ.

    ٩ التبخر: جاءت هذه الكلمة في المعاجم بمعنى التدخن بالبخور، وقد توسعنا في دلالة هذه الكلمة فاستعملناها بمعنى تصاعد البخار Evaporation.

    ١٠ السواعد: مجاري الماء إلى النهر أو إلى البحر، ومفردها ساعدة.

    ١١ الفلوع: جمع الفلع، وهو الشق.

    ١٢ المراتج: جمع المرتج، وهو المضيق.

    ١٣ المنقع: المكان يستنقع فيه الماء.

    ١٤ Belge, Belgian.

    ١٥ الفلق: الشق.

    الفصل الخامس

    تُعانِق سلسلة رُوِنزُوري في حِضنٍ واسعٍ ذلك البلد الرائع الواقع حول البحيرات الغربية، وكان القدماء يسمُّون تلك السلسلة جبالَ القمر، وإذ لم يَسطِع الزنوج أن يفسِّروا وجود الثلج على ذراها كانوا يزعمون أنها اجتذبت إليها نورَ ذلك الكوكب. والحقُّ أن سلسلة رونزوري لم تُصَوَّر من عنصرٍ أرضيٍّ كما يظهر، وهي التي تناطح سماء المساء الذهبي بعزلتها مرتفعةً خمسة آلاف متر في منطقة خطِّ الاستواء حيث تَوَارَى النبات واختفى الصَّوَّان وحيث يبدو جليد قممها وجَمَد قبابها، وهي منزويةٌ كفيلسوف يكفيه شعوره بقدر نفسه، فقاومت زمنًا طويلًا فضول الناس وحَجَبَتْ رءوسها عدة شهورٍ عن ثلاثةٍ من أعظم الرواد، فأخذوا يشكُّون فيما يؤكده الزنوج، وكثيرٌ أولئك السياح الذين اتخذوا الخريطةَ دليلًا لهم في البحث عنها فلم يروها قط، وهي أغنى جبال أفريقية، وهي — لتكاثف المطر على صخرها — تنزل ألوف الجداولُ منها فتتحول إلى أنهارٍ وتجتمع في بحيراتٍ وتؤلِّف نصف النيل الآخر في نهاية الأمر، ويمكن جبالَ القمر أن تُدْعَى ملكةَ ذلك البلد، غير أنها والدة له.

    ويتألَّف من هذه السلسلة البالغِ طولُها مائة كيلومترٍ ثلاثةُ مدارج متعاقبةٌ، والسهب أولها، والسهب — وارتفاعه ألف متر — أهمُّها.

    والسهب ساطعٌ، والسهب أرضٌ مفتوحة متموِّجة مجزَّأةٌ إلى مروج واسعة مع أنواع كثيرة من شجر السنط، ومن السنط ما هو بلا أوراق وما هو شائكٌ وما هو أبيض ضاربٌ إلى خضرة، ومنه ما هو أبيض ذو أوراقٍ خضرٍ لامعةٍ بين الشوك، ومنه ما هو أسود كثير الورق أسمر الفروع، ومنه ما هو ذو ساقٍ برَّاقةٍ ضاربةٍ إلى حمرةٍ، ومنه ما هو كبير العناقيد نَردِينيُّ١ الزهر أزرقه، ويقوم اليَتُوع٢ بينه قائمًا قاتمًا مستقيمًا مصمتًا،٣ ويلوح كل شيءٍ في اليَتُوع خاصًّا بما قبل الطوفان كالفيل، فهو عصلبيٌّ٤ أزغب، وهو يثير في النفس صورة أُسْرةٍ يرأسها زهرٌ ضخمٌ أصفر وورديٌّ، وتُزهِر السحلبيات العالية والنرجسيات القانية٥ على الأرض اليابسة، وتُوحي ألوف الأزهار فوق ضخم السوق وعلى مستوى الأرض برسم طاقةٍ ذات غبار أحمر، وتجري الأنهار هنالك حيث العشب يلمع مُدهَامًّا وحيث تتجمع الطيور في البردي وفي الأقسام الكثيفة من الغاب، ويبلغ ارتفاع ذلك الكلأ أربعةَ أمتار مع سوقٍ تستغلظ غِلَظَ الخيزران ومع أوراقٍ تنتهي بحرفٍ، ويسمى ذلك الكلأ على طول النيل عشب الفيل، والخَلَنْج٦ الأحمر الشائك الطويل هو الذي يفوقه علوًّا.

    وتدنو الوعول من أنهار ذلك السهب غيرَ خائفةٍ تقريبًا، وترفع الغِزلان المُغرُ٧ الشُّعْرُ٨ قرونها الظريفة وتشم الهواء بمناخرها على حين يصل الرَّتُّ٩ متئدًا خافضَ الرأس بين الخوف والشجاعة، وتجاوز الوعول شائك العوسج قافزة، والبقعة الخضراء التي تنمُّ على الماء هي التي تجتذب جميعَ هذه الحيوانات، وفيما يحوم أبو سُعن١٠ فوق أرجال١١ الجراد كالجوارح١٢ يطير الخَضَارِي١٣ فوق غدير البردي مذعورًا من صفير العُقَاب.

    وفي منطقة رُوِنزوري الثانية — التي هي بُقعَةُ المضايق والأودية والتي تكثُرُ فيها المساقط — يحيط بالبال نِطَاقٌ يُرَى من بعيدٍ، وهنالك تُبصِر غاباتٍ تكسوها الأُشْنَة١٤ بأسرها، وهنالك يسيطر شجرٌ من طائفة الصَّنَوْبَر والسَّرْو، ويعلو الخَيْزُران وترتفع اللُّوبِيلْيَة١٥ محدِّقةً مُفَتَّحَةَ العيون باديةً شمعةَ زهرٍ كالرمح مع عناقيد متدليةٍ منها، وتنتصب تلك النباتاتُ الكبيرة في غابةِ المطر الخالد كالمِسَلَّات في المقابر المهجورة.

    ويُزهر بالقرب منها شجر الخَلَنج الأحمر الوردي والضارب إلى زرقة، ويستر هذا الشجر طُحلُبٌ أخضر برتقاليٌّ أُرجوانيٌّ متصلٌ بلحية غائمة نازلة من ساقه، ويتجمَّع بين هذا الشجر أجدادُه الموتى تحت كَفَنٍ من الطحلب الأبيض، ويئنُّ في كلِّ مكانٍ خيزرانٌ شبه مكسورٍ بفعل الريح والمطر، والحقُّ أن ذلك هو بلد البحيرات وفُوهَاتِ البراكين.

    وهي كثيرةٌ، وهي تنظر إلى السماء بعينها السوداء غائصةً بين حواجز وَعِرَةٍ حافظت على شكلها الابتدائيِّ، ويَقطَع الصمتَ العميقَ هَدْرُ اليمام١٦ الرزين، وتُخفِي وجود الإنسان أشجارُ الموز في بقاعٍ محروثةٍ من الغابة مع أكواخٍ قليلة، وهنالك من المَرتَع١٧ البلقع١٨ ما يكون له في النفس أثر الحديقة المتروكة لو لم تُذَكِّرنا ذوات القوائم الأربع بالخطر الداهم من فَوْرها، ومما رُئِيَ هنالك، وعلى عُلُوِّ ١٨٠٠ متر، فُيُولٌ وجواميس، ومما شوهد هنالك أُسُودٌ تتعقب رِتَتَةً على ارتفاع ٢٤٠٠ متر، ومما نُظِرَ على ما هو أعلى من ذلك هنالك وُعُولٌ ورَبَابِيح١٩ وقِرَدَةٌ وهررةٌ وخشيةٌ وأرانب صخريةٌ وثابةٌ، وأنمارٌ تغامر حتى منطقة الثلوج، ومن بين الطيور تجد التُّمَّرة٢٠ ذات الالتماع الضارب إلى خُضرة مَعدِنية تصعد إلى آخر الأشجار باحثةً عن العسل.

    والمنطقة الثالثة هي أضيق المناطق. وهي مستورةٌ تقريبًا، وعلى الدوام، بغطاءٍ من الأمطار والغيوم التي تتحول إلى ثلج، وهي سلسلةٌ من الذُّرَى الثلجية بالغةٌ خمسين كيلومترًا ومشابهةٌ لما في القفقاس، وبها يلمع آخر شهود العصر الجليدي من خلال القرون.

    وفي سفح تلك الجبال، وفي غرب بحيرة فيكتورية، وفي حوض كاجيرا، حيث يترجح ارتفاع البلد بين ١١٠٠ متر و٣٠٠٠ متر، يصار إلى الطرف الشرقي من تلك الحفرة الكبيرة التي تنخفض إلى ١٥٠٠ متر دفعةً واحدة، ويبلغ الانحدار من الوهر والوعر ما يمتنع معه قطعُه على الحيوانات الوحشية عدا الفيل والجاموس.

    وتجمع تلك الحفرةُ التي قَعَّرتها البراكين الفعالة مياهَها من سلسلة البحيرات، وتصل المياه إلى تلك الحفرة بجَرْيٍ دَلُوقٍ، وتقف المياه هنالك وتكسل ثم تشقُّ طريقًا لها بعنف.

    ونحو الشمال، وإلى النيل وحدَه، تجري بحيرة إدوارد، التي تنال روافدَ من الجنوب والشمال ويذهب جميع ما يَنزِل من سلسلة رونزوري إلى النيل مارًّا من بحيرة جورج وبحيرة ألبرت، ويتوجَّه جميع ما يَرِدُ أوغندة من سيولٍ وأنهار وبحيرات إلى مَنْبَعَي النيل، حتى إن ما يود أن يتفلَّت منه لا يقاومه، ومن ذلك أن نهر كافو الذي يباري النيلَ الفتيَّ سرعةً في بدء الأمر يتردَّد بين اتجاهين، فإذا ما ذَهَبَ نحو بحيرة كِيُوغا التجأ إلى نيل فيكتورية، وإذا ما جَرَى نحو الغرب انتهى إلى نيل ألبرت، وفي كلتا الحالين ترتبط حياته الوضيعة في مصير رفيقه المرهوب.

    ١ النردين: نبات طيب الرائحة.

    ٢ اليتوع: نبات له لبن.

    ٣ المصمت: الذي لا فرجة فيه.

    ٤ العصلبي: القوي العظيم.

    ٥ القانية: الشديدة الحمرة.

    ٦ الخلنج: شجر كالطرفاء.

    ٧ المغر: جمع المغراء، وهي مؤنث الأمغر؛ أي ما كان لونه أحمر غير ناصع.

    ٨ الشعر: جمع الشعراء، وهي مؤنث الأشعر؛ أي الكثير الشعر الطويلُه.

    ٩ الرت: الخنزير البري، جمعه رتتة.

    ١٠ أبو سعن: طائر.

    ١١ أرجال: جمع رجل، وهو جماعة الجراد.

    ١٢ الجوارح: جمع الجارحة، وهي ذات الصيد من السباع والطير والكلاب.

    ١٣ الخضاري: جمع الخضيري، وهو عصفور أصفر اللون ضارب إلى الخضرة.

    ١٤ الأشنة: شيء نباتي يتكوَّن على الشجر والصخور.

    ١٥ اللوبيلية: نسبة إلى النباتي الفرنسي دولوبيل.

    ١٦ هدر اليمام هدرًا: قرقر وكرَّر صوته في حنجرته، واليمام هو الحمام البري.

    ١٧ المرتع: المرعى.

    ١٨ البلقع: القفر.

    ١٩ الربابيح: جمع الرباح، وهو القرد الذكر.

    ٢٠ التمرة: طائر أصغر من العصفور.

    الفصل السادس

    يلتقي نظاما منابع النيل، ويجتمع كلُّ شيء في الزاوية الشمالية من بحيرة ألبرت لتقوية تدفُّق النهر الشاب الذي يُجهَل

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1