Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن
رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن
رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن
Ebook1,084 pages8 hours

رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

نظرية كل شيء.. القصة المذهلة لحياة الفيزيائي الأسطورة ستيفن هوكينغ وزوجته جين وايلد. عقله غيَّر عالمنا ... وحبها غيَّر عالمه. ربما يفكر ستيفن هوكينغ ببُعدين، لكن زوجته السابقة تعلَّمت كيف تحب بأبعاد كثيرة. صنداي تايمز. ما الذي يحدث للزمن عندما ينهار الزواج؟ وما الذي يحدث لامرأة وجدت حياتها كلها في فضاء هذا الزمن؟ بالنسبة إلى جين هوكينغ، فإن فيزياء الحب والخسارة تنغرسان في عالم. خاص- الغارديان. جين تكتب عن زوجها السابق بحنان ورقَّة واحترام. صنداي إكسبرس. قصة تفيض بالعاطفة والإثارة. التايمز. العبيكان ٢٠١٧
Languageالعربية
PublisherObeikan
Release dateJan 1, 2018
ISBN9786035039918

Related to رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن

Related ebooks

Related categories

Reviews for رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    رحلة إلى اللانهاية - حياتي مع ستيفن - جين هوكينغ

    الغلافtitlepage.xhtml

    رحلة إلى اللانهاية

    حياتي مع ستيفن

    جين هوكينغ

    نقلته إلى العربية

    ابتسام محمد الخضراء

    title.xhtml

    Original Title

    Travelling to Infinity

    The True Story Behind the Theory of Everything

    :Author

    Jane Hawking

    Copyright © Jane Hawking, 1999-2014

    ISBN-10: 1846883660

    ISBN-13: 978-1846883668

    All rights reserved. Authorized translation from the English language edition

    Published by ALMA BOOKS LTD, Hogarth House, (U.K.)

    حقوق الطبعة العربية محفوظة للعبيكان بالتعاقد مع ألما بوكس لميتيد، المملكة المتَّحدة.

    1436 ــ 2015 cop.xhtml ©

    cop.xhtml

    شركة العبيكان للتعليم، 1437هـ

    فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر

    هوكينغ، جين

    رحلة إلى اللانهاية: حياتي مع ستيفن/ جين هوكينغ؛ ابتسام الخضراء - الرياض 1437 هـ

    ردمك: 978 - 603 - 503 - 991 - 8

    1-هوكينغ، جين - مذكرات. أ. الخضراء، ابتسام (مترجم) ب. العنوان

    ديوي: 818,03 رقم الإيداع: 9498 / 1437

    الطبعة العربية الأولى 1438هـ - 2017م

    cop.xhtml

    الفصل الأول

    1

    أجنحة للتحليق عاليًا

    بدأت قصة حياتي مع ستيفن هوكينغ صيف عام 1962، وربما قبله بنحو عشر سنوات دون أن أعي ذلك؛ عندما دخلت ثانوية سانت ألبانز للبنات بعمر السابعة بوصفي طالبة سنة أولى، اعتدت رؤية صبي ذي شعر بني ذهبي وطليق، كان مقعده قرب الجدار في الصف المقابل لصفنا، كانت المدرسة تستقبل البنين أيضًا، ومنهم أخي كريستوفر في قسم المبتدئين، على أنّني لم ألحظ الصبي ذا الشعر الطليق إلا في المناسبات، كما عندما جمعوا طلاب السنة الأولى في الصف نفسه كأكبر الأطفال سنًّا بسبب تغيّب أحد معلمي الصفين؛ لم يسبق أن تحدثنا مع بعضنا قط، لكن تلك الذكرى المبكرة كان لها دورها على الأرجح، بما أنّ ستيفن كان تلميذًا في المدرسة لمدة قبل أن يغادرها إلى المدرسة التحضيرية الواقعة على بعد بضعة أميال.

    كانت شقيقتا ستيفن أكثر تميّزًا؛ لوجودهما في المدرسة لمدّةٍ أطولَ، شقيقته ماري تصغره بثمانية عشر شهرًا فقط، وهي تكبر شقيقتها، وتتمتع بشخصيةٍ متميّزةٍ غريبة الأطوال، وجسمٍ ممتلئ وشعرٍ أشعث، وذهنٍ شاردٍ منشغلٍ باهتماماتها الشخصية، وقد غطت نظارات جذابة وسميكة جمالها وبشرتها الشفافة، أما فيليبا فتصغر ستيفن بخمس سنوات، ذات عينين لامعتين وملامح عصبية وانفعالية بضفائرها القصيرة الجميلة، ووجهها الوردي المستدير.

    كان نظام المدرسة صارمًا في الاتجاهين الأكاديمي والانضباطي، إلا أنّ التلاميذ كما شأن جميع أطفال المدارس في كلّ مكان، لم يكونوا على تلك الدرجة من التسامح على الصعيد الشخصي في كثيرٍ من الأحيان، فنظرة القبول والإعجاب تتوجه إلى ركوب سيارة رولز رويس وامتلاك منزلٍ في الريف، وخلاف ذلك سيكون المرء عرضةً للسخرية والتهكم اللاذع، وهذا ما قوبلت به بسبب واسطة النقل التي تقلني، والتي كانت سيارة صالون 10 ما قبل الحرب؛ وهو ما ينطبق على حالة آل هوكينغ الذين يأتون إلى المدرسة بتاكسي لندنية قديمة، وهو ما جعل أطفال آل هوكينغ يستلقون على أرضية سيارتهم التاكسي للاختباء من عيون أقرانهم، إلا أنّ المساحة الضيقة كانت لهم بالمرصاد، وأفشلت مبتغاهم في تلك المراوغات اليائسة.

    وقبل وصولهما المرحلة الدراسية العليا، غادرت فتيات هوكينغ المدرسة، أما والدتهما فقد تمتعت بوجهٍ مألوفٍ، تقف يوميًّا على زاوية التقاطع قرب المدرسة منتظرةً ابنها الصغير إدوارد، بجسدها النحيل الصغير ومعطفها المصنوع من الفرو، كان إدوارد يصل بالحافلة من مدرسته التحضيرية في الريف، ذات المدرسة التي ذهب إليها شقيقي بعد عامه في رياض الأطفال في ثانوية سانت ألبانز، وكانت تلك الرياض تُدعى دار أيليسفورد Aylesford House، حيث يرتدي الأولاد ستراتهم وقبعاتهم الوردية، وبخلاف هذا الزي الغريب كانت جنةً حقيقيةً للصبية الصغار، خاصةً لأولئك الذين لم يكن لديهم ميل أكاديمي، من خلال الأنشطة الكثيرة من ألعابٍ وكشافٍ وتخييمٍ وعروضٍ جماعيةٍ، وكثيرًا ما شارك والدي في تلك الأنشطة عن طريق العزف على البيانو، لكن إدوارد الوسيم والساحر في عمر الثامنة، عانى بعض الصعوبات بسبب عائلته بالتبني -علمت هذا عندما عرفت عائلة هوكينغ- ربما لعادتهم الغريبة باستحضار مواضع مطالعاتهم إلى مائدة العشاء، وتجاهل وجود أي شخص لا يهوى القراءة، وهي عادة اختبرتها صديقتي في المدرسة ديانا كينغ Diana King لدى آل هوكينغ، ربما هذا ما سبب دهشتها عندما علمت بخطوبتي من ستيفن: «أوه جين! أنت تتزوجين من عائلة مجانين». كانت ديانا أوّل من لفت انتباهي إلى ستيفن في ذلك الصيف لعام 1962، عندما كنّا سويةً مع صديقتنا جيليان نستمتع بمدة استرخاء بعد الامتحانات قبيل انتهاء الفصل الدراسي.

    وحتى ذلك الحين، كنت قد دخلت عالم الكبار خارج المدرسة ووظائفها وامتحاناتها مرتين، بفضل منصب والدي الحكومي، مرّةً إلى عشاء في مجلس العموم وأخرى إلى حفلةٍ في حديقة قصر باكنغهام ذات يومٍ مشمسٍ حارٍّ؛ وفي ذاك الصيف غادرت ديانا وجيليان المدرسة، لأبقى فيها رئيسة الفتيات لفصل الخريف، وهو الفصل الذي شهد تقديمي للالتحاق بالجامعة، ومع هاتين الصديقتين نزلنا بعد ظهر أحد أيام الجمعة إلى البلدة لتناول الشاي، كنّا نحمل حقائبنا ونرتدي قبعات القش، ولم نكد نقطع مسافة مئة ياردة حتى صادفنا منظرًا غريبًا على عيوننا على الطرف الآخر من الطريق: شاب يمشي بشكلٍ مزعجٍ أشبه بوثباتٍ غير منسجمة، مطرقًا برأسه إلى الأرض، خافيًا إياها تحت شعره البني المنسدل، منغمسًا في أفكاره دون أدنى التفاتة، غافلًا عن مجموعة التلميذات على الطريق، لم يكن ذلك المشهد ظاهرةً عاديةً في سانت ألبانز التقليدية جدًّا، حدقنا أنا وجيليان فيه بذهول، فيما بدت ديانا غير مكترثة بالأمر.

    قالت جيليان لزميلتها الصامتة: «هذا ستيفن هوكينغ، لقد سبق وتحدثت معه».

    ضحكنا في شكٍ وقلنا: «كلا، لم تفعلي!».

    قالت: «بل فعلت؛ صحيح أنّه غريب لكنه بالغ الذكاء، وهو صديق باسيل (شقيقها)، ويشارك في مسيرات (امنعوا القنبلة Ban the Bomb)».

    رفعنا حاجبينا دهشةً، وواصلنا طريقنا إلى البلدة، لكنني لم أستمتع بالنزهة لانشغالي بالتفكير بهذا الشاب الذي لم أشعر بالارتياح لحالته، ربما جذبتني غرابته أنا الفتاة التي تحيا حياةً تقليديةً، وربما انتابني هاجس غريب، أنّني سأراه مرّةً أخرى، ومهما كان السبب، ظلّ ذلك المشهد محفورًا في نفسي بعمق.

    كانت عطلات ذلك الصيف حلمًا لأي مراهق على وشك الاستقلال عن والديه، رغم أنّها كانت بمثابة كابوس لهما، خاصةً إذا كانت وجهتي مدرسة صيفية في إسبانيا، وفي عام 1962 كانت تلك الوجهة بعيدةً محفوفةً بالمخاطر، كما لو أنّها نيبال اليوم!

    ورغم أعوامي الثمانية عشر، كنت واثقةً من قدرتي على رعاية نفسي، وكنت محقةً في ذلك. كان البرنامج منظمًا جيدًا، حيث أقام الطلاب في مجموعاتٍ في منازل خاصةٍ، وفي عطلات نهاية الأسبوع كنّا نذهب في جولاتٍ نجول بها المعالم السياحية جميعها، من بامبلونا Pamplona حيث تجري الثيران في الشوارع، إلى مصارعة الثيران الوحيدة التي شاهدتها، والتي رغم وحشيتها وهمجيتها كانت مذهلةً وآسرةً في الوقت نفسه، وإلى لويولا Loyola حيث منزل القديس أغناطيوس St Ignatius؛ مؤلف الصلاة التي غُرست بي وبكلّ تلميذ من تلاميذ سانت ألبانز .

    أيضًا أمضينا مدد بعد الظهر على الشاطئ، والأمسيات خارج البلدة قرب الميناء في المطاعم، وفي المشاركة في الحفلات والرقص، وفي الاستماع إلى الفرق الصاخبة، ومرأى الألعاب النارية التي تخطف الأنفاس؛ وسرعان ما شكّلت صداقات جديدة خارج إطار صداقات سانت ألبانز المحدود، تركزت تلك الصداقات على المراهقين الآخرين في البرنامج، وخضت معهم في أجواء إسبانيا الرائعة والحماسية تجربة استقلالية البالغين، بعيدًا عن المنزل والأسرة والانضباطية المدرسية الرتيبة.

    وفور عودتي إلى إنكلترا، اقتادني والداي على الفور -تقريبًا- في عطلةٍ عائليةٍ في البلدان المنخفضة ولوكسمبورغ، بعد أن شعرا بالراحة لعودتي سالمةً، وكانت هذه أيضًا تجربةً وسعت آفاقي، واحدة من العطلات التي تخصص بها والدي وقد أعدَّ لها منذ سنوات طويلة، منذ زيارتي الأولى إلى بريتاني Brittany في سن العاشرة.

    وبفضل حماسته وجدنا أنفسنا في طليعة الحركة السياحية، نسافر مئات الأميال على طول الطرق المتعرجة عبر أوروبا الخارجة من صدمة زمن الحرب، زرنا المدن والكاتدرائيات والمتاحف الفنية، وكانت المرّة الأولى التي يستكشف بها والداي هذه الأماكن أيضًا، لقد كانت مزيجًا تعليميًّا ملهمًا من خلال الفن والتاريخ والاستمتاع بطيبات الحياة من طعامٍ وشمسٍ صيفيةٍ، ويتداخل ما سبق مع النصب التذكارية للحرب ومقابر حقول الفلاندرز(1) Flanders’ fields.

    عندما عدت إلى المدرسة ذلك الخريف، كنت مشحونةً بشعور غير مسبوقٍ من الثقة بالنفس بفضل تجارب الصيف، كنت كمن خرج من الشرنقة، إذ لم تقدِّم المدرسة إلا طيفًا شاحبًا من الوعي والاعتماد على الذات الذي اكتسبته من خلال السفر؛ وربما كان هذا سبب إقحامي أفكارًا جديدةً في مكانٍ قديمٍ، إذ خطرت لي فكرة من خلال عروض الأزياء التي تُعرض على شاشات التلفاز، فابتكرت -بصفتي رئيسة الفتيات- عرض أزياء ترفيهيًّا للصف السادس، مع فرْق أنّ الأزياء جميعها قد تم تكييفها وتعديلها بشكل غريب للزي المدرسي! ومع هذه البدعة انهار انضباط المدرسة، عندما تدافع التلاميذ لدخول القاعة، وجن جنون الآنسة ميكلجون Miss Meiklejohn (تُعرف أيضًا باسم ميك)، الآنسة البدينة والقصيرة، سيدة الألعاب الخارجية التي يعتمد حسن سير العمل في المدرسة على صياحها المسترجل والمرعب، كادت أن تصاب بسكتة وهي عاجزة عن سماع صوتها في جلبة المكان، وبيأس لجأت إلى مكبر الصوت الذي لا يُستخدم عادةً إلا في يوم الرياضة، وفي معرض الحيوانات الأليفة، وبغرض السيطرة على جموع التلاميذ المتحركة التي كنّا نشكلها في مسيرنا في كل شارع خلفي من سانت ألبانز عندما نذهب لأداء الشعائر الفصلية في الدير.

    لم يكن من المفترض أن يكون ذلك الفصل الدراسي لخريف عام 1962 عن العروض، إذ كان من المفروض أن يكون عن القبول في الجامعات، وللأسف لم يكن هذا نجاحًا لي من الناحية الأكاديمية.

    اقترنت تلك المدة بالتملق الكبير للرئيس كينيدي، فقد برزت إلى الوجود أزمة الصواريخ الكوبية في شهر أكتوبر/تشرين الأوّل، وهو ما هزَّ الشعور بالأمن لجيلي وبددت الآمال بالمستقبل، مع موجود قوى عظمى تلعب مثل تلك الألعاب الخطرة بحياتنا، ولم يكن أحد متأكدًا من أنّ هناك مستقبلًا يُمكن التطلع إليه؛ وفي أثناء صلاتنا من أجل السلام في المدرسة تحت إشراف العميد، تذكرت نبوءة المشير برنارد مونتغمري(2) Marshall Montgomery في أواخر الخمسينيات، والتي تنذر باندلاع حربٍ نووية خلال عقد من الزمن، وكنّا جميعًا من كبارٍ وصغارٍ نعرف أنّنا نمتلك أربع دقائق فقط كإنذارٍ عند حدوث الهجوم النووي، وهو ما يعني نهايةً مفاجئةً للحضارة كلّها.

    أما أمي فقد جاء تعليقها على احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة في حياتها بشكل فلسفيٍ وعقلانيٍ هادئٍ كما عودتنا دائمًا، فنقلت إلينا تفضيلها تحمّل كلّ شيء والناس كلّهم من تحمُّل عذاب رؤية زوجها وابنها يُجندون للحرب التي لن يعودوا منها أبدًا.

    بصرف النظر عن التهديد العظيم في المشهد الدولي، شعرت بعدم قدرتي على استجماع نفسي للتحضير لامتحانات المستوى المتقدم، والافتقار إلى الحماس في أداء العمل المدرسي بعد أن ذقت طعم الحرية في الصيف، ولم يجرَّ العمل الجاد لدخول الجامعة إلا الذل عليّ عندما رفضتني جامعتا أوكسفورد وكامبريدج، والأشد إيلامًا من ذلك كان إحباط والدي الذي عقد آمالًا كبيرةً على حصولي على مقعدٍ في كامبريدج منذ كنت بعمر السادسة؛ وجاء دخول مديرة المدرسة الآنسة جنت Miss Gent في الأمر ليتعاطف معي، ويخفف شعوري بالفشل الذي لم يخفَ عنها، فأشارت إلى أنّه لا عار في عدم الحصول على مقعدٍ في كامبريدج؛ لأنّ الكثير من الرجال في تلك الجامعة كان أدنى فكريًّا بكثير من النساء اللاتي اضطررن إلى الابتعاد بسبب عدم توافر أماكن لهن في الجامعة؛ كانت النسبة في تلك الأيام ما يقرب من عشرة رجال مقابل امرأة واحدة في جامعتي أكسفورد وكامبريدج، وعليه فقد أوصت بأن أقبل العرض المقدم لإجراء مقابلة في كلية ويستفيلد Westfield College في لندن، وهي كلية نسائية على نموذج كلية جيرتون بكامبريدج Girtonian model، تقع في هامبستيد Hampstead على مبعدة من بقية مباني الجامعة، وهكذا فقد ركبت الحافلة ذات يوم بارد من أيام ديسمبر الرطبة، للسفر من سانت ألبانز مسافة خمسة عشر ميلًا إلى هامبستيد.

    كان يومًا كارثيًّا لدرجة أنّني شعرتُ بالراحة الجمّة عندما صعدتُ الحافلة للعودة إلى المنزل عبر الطريق الكئيبة والمطر الثلجي القاتم والثلج الذي يغطي كلّ شيء في الخارج، وبعد تمرينٍ غير مريحٍ في قسم الفرنسي، والذي يرتكز تمامًا على الشاعر تي سي إليوت T.S. Eliot، والذي كنت لا أعرف عنه إلا الشيء اليسير، ثم طُلِب مني الانضمام إلى طابور الدراسات الرئيسة، وعندما حان دوري، كانت السيدة التي تجري المقابلة جديّةً؛ قلَّ ما ترفع رأسها عن أوراقها، ولها مظهر الموظف المتقاعد بنظاراتها ذات الإطار البني العريض، وبما أنّني كنت تحت تأثير شعوري بالإخفاق التام الناجم عن المقابلة السابقة، فقد قررتُ أن أجعلها تلحظ وجودي حتى لو كان بطريقة تدمر فرصتي، لذلك عندما سألتني بملل وصوت جاف: «ولماذا اخترتِ الإسبانية بدلًا من الفرنسية كلغةٍ رئيسةٍ؟». أجبتها بالملل نفسه والصوت الجاف: «لأنّ إسبانيا حارّة أكثر من فرنسا». سقطت أوراقها من بين أيديها، وفعلًا تحققت آمالي ورفعت بصرها إليّ.

    ولدهشتي، فقد تم توفير مكان لي في ويستفيلد! لكن مع قدوم عيد الميلاد كانت جرعة التفاؤل والحماس التي اختبرتها في إسبانيا قد تلاشت. وعندما دعتني ديانا إلى حفلة رأس السنة التي أقامتها هي وأخوها في الأوّل من يناير/كانون الثاني، لبّيت الدعوة على الفور، وارتديت زيًّا أنيقًا بقماشٍ صناعيٍ أخضر قاتمٍ، وبتسريحةٍ جعلت من شعري لفةً منتفخةً، كنت أشعر بالخجل من الداخل وغير واثقة تمامًا من نفسي، وهناك مقابل الجدار وقف في الزاوية شاب مديرًا ظهره إلى الضوء، وهو يومئ بيديه ذات الأصابع الحادة خلال حديثه، كان شعره منسدلًا على وجهه فوق نظاراته، يرتدي سترةً مخمليةً سوداءَ أنيقةً وربطة عنقٍ مخمليةٍ حمراء، كان ذلك الشاب هو ستيفن هوكينغ، الذي رأيته يمشي واثبًا في الشارع في الصيف.

    كان يتحدث مع صديقٍ من جامعة أكسفورد بعيدًا عن المجموعات الأخرى، يشرح له أنّه بدأ بحثه في علم الكونيات في كامبريدج، لكن ليس كما كان يأمل تحت إشراف العالم الشهير تلفازيًّا فريد هويل Fred Hoyle، بل بإشراف اسم غريب هو دينيس شارما Dennis Sciama، وكان ستيفن يظن في البداية أنّ لفظ اسم مشرفه هو سكيارما Skeearma لكن مع وصوله إلى كامبريدج علم أنّ اللفظ الصحيح كان شارما Sharma، وأقرَّ أنّ أموره في التعليم تجري بشكلٍ مريحٍ، ففي الصيف الذي كنت أقوم به بامتحانات المستوى المتقدم A levels، استطاع الحصول على الدرجة الأولى في أكسفورد، وكانت هذه نتيجة سعيدة بالطبع، فقد احتار الممتحنون في المقابلة الشفوية في هذا المرشح المتفرد لكن غير الكفؤ، الذي تشير أوراقه إلى ومضات من الذكاء فيما إذا كان يستحق الدرجة الأولى أو الدرجة دون الأولى(3) Upper Second أو درجة البكالوريوس العادية، ويُعدّ الخيار الأخير بمثابة فشل، لكنه أبلغ الممتحنين بلا مبالاة أنّهم إذا أعطوه الدرجة الأولى فسيذهب إلى كامبريدج للحصول على درجة الدكتوراه، ومن ثم منحهم فرصة للزج بحصان طروادة في معسكر الخصم، بينما إذا منحوه الدرجة دون الأولى (والتي ستسمح له بإجراء البحوث)، فإنّه سيبقى في أكسفورد، وعليه فضَّل الممتحنون خيار السلامة ومنحوه الدرجة الأولى.

    تابع ستيفن شرحه لجمهوره المكوّن مني ومن صديقه في أكسفورد، كيف قام بخطواته نحو خيار السلامة، مدركًا وقتها مدى ابتعاد خيار حصوله على الدرجة الأولى في أكسفورد نظرًا إلى ضآلة ما قام به من عمل، فهو لم يذهب أبدًا إلى محاضرة -فضّل البقاء مع أصدقائه على الدراسة- وحكايته الأسطورية عن تمزيق أوراق العمل ورميها داخل سلة مهملات المدرّس، ومغادرة البرنامج التعليمي وهي قصة حقيقية، وبسبب خشيته على فرصه الأكاديمية قام ستيفن بالتقديم للانضمام إلى الخدمة المدنية Civil Service، واجتاز المراحل التمهيدية للاختيار في عطلة نهاية أسبوع في منزل ريفي؛ لذا أعد نفسه للتقديم لامتحانات الخدمة المدنية بعد النهائيات. وفي صباح أحد الأيام استيقظ كالمعتاد مع شعورٍ سيئ بأنّ هناك ما يجب القيام به اليوم، غير برنامجه اليومي بالاستماع إلى التسجيل الكامل لحلقة نيوبلونغ أو الرباعية الأوبرالية Ring Cycle لريتشارد فاغنز، وبما أنّه لا يعتمد على يوميات ويقتصر في مواعيده على الذاكرة، فقد تذكر بعد مضي ساعات عدّة أنّ ذلك اليوم كان هو يوم امتحانات الخدمة المدنية.

    استمعت إليه بافتتان، بانجذاب إلى هذه الشخصية غير التقليدية من خلال حسِّه الساخر وشخصيته المستقلة، وسحرتني حكاياته بدرجةٍ كبيرةٍ، خاصةً عندما يصاب بالفواق خلال ضحكاته، فيكاد يختنق تقريبًا وهو يروي النكات التي تتناوله شخصيًّا في كثيرٍ منها. كان من الواضح أنني أمام شخصٍ مثلي؛ ميّال للتعثر في الحياة، وله القدرة على رؤية الجانب المضحك من المواقف، شخص مثلي خجول إلى حدٍّ ما، لكنه لا ينفر من التعبير عن آرائه، وهو بخلافي لديه حس قوي بقيمته الخاصة ولديه الوقاحة لإعلانها، ومع انتهاء الحفل تبادلنا الأسماء والعناوين، دون توقع رؤيته مرّة أخرى باستثناء لقاءات عابرة. كان شعره المنسدل وربطة عنقه دليلًا على حالة من الاستقلالية العقلية، وفي المستقبل كان بإمكاني تجاهلها، كما فعلت ديانا، بدلًا من الانشداه بدهشة إذا ما صادفته مرّة أخرى في الشارع.

    p01-ch01.xhtml

    (1) حقول فلاندرز: اسم عام يستخدم لساحات المعارك في الحرب العالمية الأولى في مقاطعة فلاندرز البلجيكية. (المترجم).

    (2) برنارد مونتغمري (1887-1976): مشير في الجيش البريطاني، قائد عسكري بارز في الحرب العالمية الثانية (المترجم).

    (3) الدرجة دون الأولى: هي درجة مؤهلة في الجامعات البريطانية، وهي أدنى من الأولى وأعلى من 2:2. (المترجم).

    2

    على المسرح

    لم تمضِ بضعة أيام حتى استقبلتُ بطاقة دعوةٍ من ستيفن، دعاني فيها إلى حفلةٍ ستقام في الثامن من يناير، وقد كُتِبت الدعوة بخط اليد في صحيفة نحاسية جميلة، ورغم إعجابي بها والجهد الكبير المبذول في كتابتها إلا أنها لم تكن متقنة، فاستشرت ديانا بشأن الدعوة، وكانت هي الأخرى قد تلقت دعوةً إلى الحفلة نفسها، فأبلغتني أنّ الحفلة بمناسبة عيد ميلاد ستيفن الحادي والعشرين، ولم يكن هناك ذكر لهذه المعلومات على بطاقة الدعوة، وقطعت وعدًا بأن تأتي وتقلني؛ لم يكن من السهل اختيار هديةٍ لشخص قد التقيته للتو، لذلك أخذت له قسيمة شراء أسطوانات.

    كان منزل آل هوكينغ في شارع هيلسايد Hillside Road، سانت ألبانز نصبًا تذكاريًّا للتوفير والاقتصاد، ولم يكن ذلك غريبًا تلك الأيام، حيث أصبح للمال احترامه البالغ في مرحلة بعد الحرب، فأصبح الناس يبحثون عن المساومات ويتجنبون التبذير؛ بُني المنزل في السنوات الأولى من القرن العشرين، في شارع 14 هيلسايد، منزلٌ بسطحٍ قرميدي أحمرَ مكوّن من ثلاثة طوابق، يحتفظ بسحره الخاص، ربما لأنّه بقي على حالته الأصلية منذ إنشائه، دون أي تحديثٍ عصري مثل التدفئة المركزية أو تغطية الأرضية بكاملها بالسجاد، وقد تركت الطبيعة والعوامل الجوية والعائلة المكونة من أربعة أطفال آثارها على الواجهة المتهالكة المخفية بالسياج النباتي الجامح، وقد تدلت الوستارية(1) Wisteria على الشرفات الزجاجية المتداعية، وكانت الكثير من ألواح الزجاج الملون في النافذة العلوية فوق الباب الأمامي مفقودة.

    عندما ضغطنا الجرس لم يفتح لنا أحد، حتى جاءت امرأة اعتادت الانتظار متدثرةً بمعطفها الفرو على زاوية التقاطع، والتي قُدمت لي أنّها إيزابيل هوكينغ، والدة ستيفن، وكانت برفقة صبي صغيرٍ ساحرٍ مع شعرٍ أسودَ مجعدٍ وعينين زرقاوين لامعتين، وبدا خلفهما مصباح كهربائي وحيد يضيء المدخل الأصفر الطويل ذا الأثاث الكثيف -بما في ذلك ساعة الجد- وورق جدران ويليام موريس(2) الأصلية والعتيقة.

    عندما بدأ أعضاء الأسرة بالظهور على باب غرفة المعيشة لاستقبال الواصلين الجدد، اكتشفت أنّني أعرفهم جميعًا: والدة ستيفن كانت معروفةً جيدةً بسبب انتظارها على التقاطع، وأخوه الصغير إدوارد الذي كان يرتدي قبعةً ورديةً، وشقيقتا ستيفن ماري وفيليبا اللتان أعرفهما من المدرسة، وفرانك هوكينغ الوالد المميز للأسرة، الطويل بشعره الأبيض، الذي أتى مرّة إلى حديقتنا الخليفة لجمع سرب نحل، والذي أبعدنا وقتها بحركاتٍ فظةٍ من يده عندما اقتربت مع أخي كريس لمراقبة ما يفعل؛ وإضافةً إلى كونه مربي النحل الوحيد في المدينة، كان فرانك هوكينغ معروفًا لامتلاكه مع عدد قليل من الناس زوج زلاجات، ففي الشتاء كان يتزلج على التل نحو الأسفل متجاوزًا منزلنا إلى ملعب الغولف، حيث اعتدنا الذهاب في نزهاتٍ لجمع الجريس في الربيع والصيف والانزلاق على صواني قصديرية في فصل الشتاء. لقد كان الأمر مثل تركيب أحجية الصور معًا:

    كان جميع أولئك الناس مألوفين تمامًا بالنسبة إليَّ، لكن لم أكن على درايةٍ بقرابتهم، وفي الواقع كانت هناك سيدة أخرى من الأسرة، معروفة جيدًا بالنسبة إلي، وهي عادةً ما تبقى في غرفتها، لكنها تنزل للمشاركة في المناسبات العائلية كهذه المناسبات، وهي أغنيس ووكر Agnes Walker، جدّة ستيفن الاسكتلدنية؛ كانت شخصيةً معروفةً في سانت ألبانز بفضل براعتها في العزف على البيانو، وكانت تقدِّم عرضًا في الشهر مع فعاليات دار البلدية مع مولي دي كين Molly Du Cane، سيدة الرقص الشعبي المرح.

    كان الرقص والتنس أنشطتي الاجتماعية الوحيدة طيلة أعوام مراهقتي، وحصلت من خلالهما على مجموعةٍ من الأصدقاء من الجنسين من مختلف المدارس والمشارب، وخارج أيام المدرسة كنا نذهب جماعيًّا إلى القهوة صباح يوم السبت، والتنس في الأمسيات، ونحضر الفعاليات الاجتماعية في نادي التنس في الصيف، ودروس الرقص الثنائي والرقص الشعبي في الشتاء، ولم يحرجنا حضور أمهاتنا أمسيات الرقص الشعبي مع الكثير من مسني سانت ألبانز ومقعديها، كنّا نجلس منفصلين عنهم وبعيدين ما يكفي عن الجيل الأكبر سنًّا.

    ازدهرت الرومانسيات في زاويتنا في بعض الأحيان، ما كان يثير الكثير من القيل والقال وقليلًا من المشاحنات، ثم سرعان ما تختفي تلك الأحاديث كما ظهرت. كنّا مجموعةً وديةً هادئةً من المراهقين الذين يعيشون حياةً أكثر بساطةً من نظرائنا آنذاك، وكان الجو في الرقصات بهيجًا ورائعًا، بفصل حماس مولي دي كين وحيوية فنها، كانت تدعو الحضور للرقص والكمان على كتفها، في حين تعزف جدّة ستيفن السمينة بأصابعها الرشيقة على البيانو، دون أن تسمح لعقدة شعرها على جبهتها بأن تتحرك قيد أنملة، كان لها شخصية مهيبة، وكانت تعاين الراقصين محدقةً بصمتٍ غريبٍ، وهي بالطبع من نزلت إلى الطابق السفلي لاستقبال الضيوف في عيد ميلاد ستيفن الحادي والعشرين.

    ضمت الحفلة خليطًا من الأصدقاء والأقارب، القليل من أصدقاء ستيفن في أكسفورد، لكن معظم أصدقائه كانوا من زملائه أو مقربين منه في مدرسة سانت ألبانز، الذين أسهموا في نجاح تلك المدرسة في امتحانات دخول أوكسبريدج Oxbridge لعام 1959. في سنه العشرين كان ستيفن أصغر من أقرانه في المدرسة، ومن ثم كان صغيرًا لدخول الجامعة ذلك الخريف، خاصةً أنّ الكثير من زملائه من الطلاب الجامعيين لم يكبروه بعام واحد فقط بل بأعوام عدّة؛ لأنّهم جميعًا قدموا إلى أكسفورد بعد أدائهم الخدمة الوطنية التي كانت قد ألغيت، وقد اعترف ستيفن في وقت لاحق بفشله في الحصول على أفضل النتائج في أكسفورد؛ بسبب الاختلاف العمري بينه وبين زملائه من الطلاب الجامعيين.

    وبالتأكيد فقد حافظ على علاقات وثيقة مع أصدقاء المدرسة أكثر من أي من معارفه في جامعة أكسفورد، ما عدا باسيل كينغ Basil King شقيق ديانا، وقد عرفت ذلك من سمعتهم بأنّهم النخبة الجديدة في مجتمع سانت ألبانز، حيث قيل إنّهم المفكرون المغامرون لجيلنا، المكرّسون بحماس لرفض البديهيات والسخرية من كلّ ابتذال، ولاستقلالهم الفكري وبحثهم في المنهج الموضوعي للعقل.

    هللت صحيفتنا المحلية ذي هيرتس أدفرتايزر The Herts Advertiser بنجاح المدرسة قبل أربع سنوات، ووضعت أسماءهم ووجوههم على صفحاتها، وبينما كنتُ على وشك الشروع في مسيرتي الجامعية كانت سنواتهم الجامعية خلفهم، وكانوا بكل تأكيد مختلفين جدًّا عن أصدقائي وعني، كنت مشرقةً، لكن فتاة عادية في الثامنة عشرة من عمرها شعرت بالخوف، فأي من هؤلاء لا يمضون أمسياتهم في الرقص الشعبي، شعرت بالألم من ضآلة ثقافتي، لذلك اتخذت موقعًا قريبًا من النار مع إدوارد على ركبتي، واستمعت إلى المحادثة دون نية بالمشاركة، كان بعض الحضور واقفًا وآخرون متكئين على الجدار البارد لغرفة الطعام، حيث كان المصدر الوحيد للحرارة القادمة من موقد ذي واجهة زجاجية؛ كانت المحادثة متقطعة وتكونت معظم الوقت من نكات، ولم يكن أي منها يمت بصلة إلى الثقافة الرفيعة التي كنت أتوقعها، وكل ما أتذكره من تلك المحادثات لم يكن نكتة بقدر ما هي أحجية ساخرة، عن رجل في نيويورك يريد الوصول الى الطابق الخمسين من المبنى لكنه طلب المصعد إلى الطابق السادس والأربعين! لماذا؟ لأنّه ليس لديه من الطول ما يكفي ليصل إلى زرّ الطابق الخمسين...

    استغرق الأمر بعض الوقت قبل رؤية أو سماع ستيفن مجددًا، وكان انشغالي مركزًا في لندن من خلال اتباع دورة سكرتارية في النوع الثوري من الاختزال، والتي تستخدم الأبجدية بدلًا من الكتابة الهيروغليفية وحذف حروف العلة جميعها. كنت أرافق والدي في البداية إلى المحطة للحاق بقطار الثامنة صباح كلّ يوم، حتى اكتشفت أنّه لم يكن مطلوبًا مني أن أكون في المدرسة في شارع أكسفورد باكرًا، وأنّ باستطاعتي السفر بوتيرة مريحة أكثر من وتيرة والدي الكادحة المستعجلة، لذلك صرت أمشي بتؤدة إلى المحطة لأستقل قطار التاسعة المختلف تمامًا عن قطار الثامنة من حيث ركابه، فلا وجود للازدحام الصباحي لركاب الثامنة ممن هم من المعيلين في منتصف العمر ببدلاتهم الداكنة. ونادرًا مرّ اليوم دون مقابلة شخصٍ أعرفه، غير مستعجل وببدلته الرسمية، إما ذاهبين إلى الكلية بعد عطلة نهاية أسبوع في المنزل وإما مسافرين إلى لندن لإجراء مقابلة؛ كان هذا استفتاحًا جيدًا ليومي؛ لأنّ بقيته خلا استراحة قصيرة لتناول طعام الغذاء كان مقتصرًا على الفصول الدراسية، محاطةً بقعقعة الآلات الكاتبة القديمة، وثرثرة الشابات المتفاخرات بعدد دعواتهن إلى قصر باكنغهام Buckingham Palacen أو قصر كنسينغتون Kensington Palace في لندن أو كلارنس هاوس Clarence House.

    تعلمت الشكل الثوري من الاختزال بسهولة، لكن الكتابة على الآلة الكاتبة دون النظر إلى لوحة المفاتيح كانت كابوسًا، وكنت أرى أنّ للاختزال فائدته في تدوين الملاحظات في الجامعة أما الكتابة فقد وجدتها مملة لأقصى حد، وأصابتني باليأس، حتى إنني كنت أكافح للوصول إلى أربعين كلمة في الدقيقة عندما أنهى بقية الصف الدورة وأتقنوا المهارات الإضافية جميعها لفن السكرتارية. وفي الواقع كان للاختزال قيمة على المدى القصير في حين أثبتت مهارات الكتابة نفسها مرارًا وتكرارًا.

    كانت عطلات نهاية الأسبوع فرصتي لنسيان أهوال الطباعة ومواكبة أصدقائي القدامى، وفي صباح يوم سبت من شهر فبراير/شباط التقيت ديانا التي أصبحت طالبةً ممرضةً في مستشفى سانت توماس، وإليزابيث شانت Elizabeth Chant؛ صديقة أخرى من أيام المدرسة كانت تتدرب لتصبح معلمة مدرسة ابتدائية، وجرى لقاؤنا في مقصدنا المفضل في قهوة غرينز Greens، وهو المتجر الكبير الوحيد في سانت ألبانز؛ تبادلنا الملاحظات حول دوراتنا، وبدأنا بالحديث عن أصدقائنا ومعارفنا، وفجأة سألتْ ديانا: «هل سمعت مؤخرًا عن ستيفن؟» أجابت إليزابيت: «نعم، أليس أمرًا مروِّعًا؟». علمت أنّهم يتحدثون عن ستيفن هوكينغ، فسألت: «ماذا تقصدين؟ لم أسمع أي شيء عنه».

    Bart على ما أظن، حيث تدرب والده وحيث تتدرب ماري الآن، إنّه يتعثر ولا يستطيع ربط حذائه»، توقفت قليلًا وتابعت: «لقد أجروا له الكثير من الاختبارات الرهيبة، ووجدوا أنّه يعاني مرض شلل مروِّعًا لا أمل في علاجه، وهو أشبه بالتصلب المتعدد لكنه ليس تصلبًا متعددًا، وهم يعتقدون أنّ لديه عامين فقط ليبقى على قيد الحياة».

    شعرت بالذهول وأنا أسمع تلك الأنباء غير السارّة، كنت قد التقيت ستيفن للتو وبالرغم من غرابته فقد راقني، بدا كلانا خجولًا في وجود الآخرين، لكن الثقة كامنة في دواخلنا، ومن الصعب تصوّر مواجهة شخص يكبرني بضعة سنوات لاحتمال موته، لم يكن الموت مفهومًا ذا دورٍ في وجودنا، كنّا ما نزال شبابًا صغارًا بما يكفي لنشعر بالخلود.

    سألتُ ديانا والصدمة بادية على وجهي: «كيف حاله؟». أجابتني: «لقد زاره باسيل، وقال إنّه مكتئب جدًّا، فقد كانت نتائج الاختبارات غير سارّة، وتوفي صبي من سانت ألبانز في السرير المقابل لستيفن ذلك اليوم».

    تنهدت وتابعت: «أصرَّ ستيفن على مكوثه في جناح، وليس في غرفة خاصة كما أراد والداه بسبب مبادئه الاشتراكية».

    سألتها بصراحة: «وهل يعرفون سبب هذا المرض؟».

    أجابتني: «ليس تمامًا، يعتقدون أنّه قد أعطي تطعيمًا غير معقم ضد الجدري عندما سافر إلى إيران منذ بضعة سنوات، وهو ما سبب بدخول فيروس في عموده الفقري، لكنهم غير متأكدين، وهذه مجرد تكهنات».

    عدت إلى المنزل بصمت وأنا أفكر في ستيفن؛ لاحظت أمي انشغالي، لم تكن قد التقته من قبل لكنها تعرف ودّي له، وكنت قد اتخذت الاحتياطات بتحذيرها حول غرابة أطواره، لكي لا تُدهش في حال التقته ذات يوم. وبإيمانها العميق الذي جعلها تكمل الحياة خلال سنوات الحرب، ومرض العضال لوالدها الحبيب، ونوبات الاكتئاب التي تصيب والدي، قالت لي بهدوء: «لماذا لا تصلي له؟ قد تساعده صلاتك».

    ولذلك، فقد اعترتني الدهشة وأنا أراه بعد أسبوع من ذلك اللقاء في محطة القطار؛ كنت بانتظار قطار التاسعة، وإذ بستيفن يمشي بتؤدة على الرصيف حاملًا حقيبة قماشية بنية اللون، وقد غمرته البهجة والسرور لرؤيتي، كان ظهوره عاديًّا تمامًا وربما أكثر جاذبية عن مظهره في المناسبات السابقة -من ناحية صورته المألوفة في أكسفورد من ربطة عنقه، وسترته المخملية السوداء، وبشعر أطول- إذ ارتدى ربطة عنق حمراء ومعطفًا واقيًا من المطر وكان شعره مسرحًا ومرتَّبًا. كان اللقاءان الماضيان في المساء في إضاءة خافتة، أما في النهار فقد كانت ابتسامته العريضة المنتصرة وعيناه الرماديتان الصافيتان لصالحه تمامًا. وهناك ما جذبني خلف تلك النظارة الشبيهة بالبومة، وربما ذكرني من دون وعي مني ببطلي المفضل؛ لورد نلسون Lord Nelson بطل نورفك(3). جلسنا سويةً في القطار إلى لندن وخضنا الأحاديث بسعادة، ولم نتطرق إلى موضوع مرضه إلا لمامًا، فقط أخبرته بسماعي دخوله المستشفى وكانت ردّة فعله تغضن بسيط في وجهه دون أن يقول شيئًا.

    تصرف ستيفن بشكل مقنع كما لو أنّ كلّ شيء على ما يرام، وشعرت أنّ عليّ ألا أتابع في موضوع مرضه أبعد من ذلك. كان في طريق عودته إلى كامبريدج كما أخبرني، وعندما اقتربنا من سانت بانكراس St Pancras قال إنّه يعود إلى المنزل في كثيرٍ من عطلات نهاية الأسبوع، وسألني عما إذا كنت أود الذهاب معه إلى المسرح ذات مرّة، وكان جوابي هو بالإيجاب طبعًا.

    التقينا مساء أحد أيام الجمعة في مطعم إيطالي في سوهو، وكان جلستنا في المطعم لوحدها كافيةً بأن تغطي ذلك المساء، إلا أنّ ستيفن كان قد ابتاع تذاكر للمسرح كذلك، ولذلك كان علينا الانتهاء من الوجبة المكلفة بسرعة وبشكل محرج لنتمكن من شق طريقنا جنوبًا قرب النهر إلى أولد فيك Old Vic، ووصلنا في وقت عرض فولبون(4) Volpone، دخلنا المسرح على عجلة ورمينا حوائجنا تحت المقاعد الأخيرة في الصالة عندما بدأ العرض.

    كان والداي من رواد المسرح كذلك، لذلك فقد رأيت الخيميائي The Alchemist وهي المسرحية العظيمة الأخرى لجونسون، واستمتعت بها كثيرًا؛ وكانت مسرحية فولبون مسلية، وسرعان ما أخذتني دسائس الثعلب العجوز الذي أراد اختبار صدق ورثته، والذي باءت خططه بالفشل الذريع.

    وقفنا في موقف الباص وأخذنا نناقش المسرحية التي أعجبنا بأدائها، ومرّ متشرد بقربنا وطلب بأدب من ستيفن إن كان لديه أي فكة، مدّ ستيفن يده في جيبه، وقال محرجًا: «آسف، لم يتبقَ بحوزتي شيء!». ابتسم المتشرد والتفت إليّ وهو يقول: «لا بأس يا سيدي» غامزًا باتجاهي متابعًا: «أتفهم هذا». وفي هذه اللحظة وصل الباص فصعدنا إليه بسرعة، وما إن جلسنا حتى التفت ستيفن إليّ معتذرًا: «أعتذر بشدّة لكنني لا أملك حتى أجرة الباص، هل معك مال؟»، وبما أنّني أعلم المقدار الكبير الذي أنفقه تلك الليلة فقد طمأنته بسعادة، وعندما اقترب قاطع التذاكر وأصبح فوقنا بحثت عن محفظتي في أعماق حقيبة يدي، وسرعان ما تعادل إحراجي بإحراج ستيفن منذ دقائق عندما اكتشفت أنّها غير موجودة. نزلنا مسرعين من الباص عند أوّل إشارة مرور، وجرينا بسرعةٍ عائدين إلى أولد فيك، كان المدخل الرئيس للمسرح مغلقًا، لكن ستيفن ضغط على باب منصة المسرح ووجده مفتوحًا والممر مضاء في الداخل.

    غامرنا ودخلنا بحذر، لكن لم يكن هنالك من أحد في منظورنا، ووجدنا أنفسنا على خشبة المسرح المهجورة في نهاية الممر، كانت لا تزال مضاءة، وبرعب تخطينا الخشبة على رؤوس أصابعنا ونزلنا على الدرجات نحو الصالة المظلمة، وما هي إلا ثوان حتى شعرنا بارتياح بالغ ونحن ننتشل المحفظة الجلدية الخضراء عن الأرض تحت المقعد حيث جلست، وعندما هممنا بالعودة إلى الخشبة أُطفِئت الأنوار، وغرقنا في الظلام، فأمرني ستيفن: «امسكي يدي»، ففعلت وأنا أحبس أنفاس إعجابي به وهو يقودني إلى الدرجات فالخشبة ومن ثم إلى الممر، وكان الباب لا يزال مفتوحًا لحسن حظنا، وما إن أصبحنا في الشارع حتى انفجرنا في الضحك، لقد كنّا على خشبة المسرح في أولد فيك!

    p01-ch02.xhtml

    (1) الوِسْتارية أو الغِليسين أو الحُلْوة: الاسم العلمي Wisteria وهي جنس من النباتات يتبع الفصيلة البقولية من رتبة الفوليات. (المترجم).

    (2) ويليام موريس (William Morris, 1834-1896): معماري وفنان ومصمم للأثاث والمنسوجات وكاتب اشتراكي إنجليزي. (المترجم).

    (3) نورفك (Norfolk): خامس أكبر مقاطعات إنكلترا، تقع في شرق إنكلترا في المنطقة المعروفة باسم إيست أنجليا. (المترجم).

    (4) فولبون: مسرحية كوميدية كُتبت من قبل بِن جونسون (Ben Jonson) عام 1606، وتتميّز أسماء الشخصيات بأنّها مستمدة من عالم الحيوان، وتعني فولبون الثعلب. (المترجم).

    3

    عربة ملكية

    بعد مضي بضعة أسابيع على حلقة أولد فيك، ومع اقتراب دورة الكتابة السريعة من نهايتها، استقبلتني والدتي عند عودتي إلى المنزل في المساء بحماس وهي تلوّح برسالة من ستيفن، الذي اتصل ليدعوني إلى حفلة مايو الراقصة May Ball، وهي نهاية السنة الأكاديمية في كامبريدج. كان ترقُّب الحفلة أشبه بالعذاب، وأذكر أنّه في الصف السادس في المدرسة دُعيت إحدى الفتيات إلى حفلة مايو، وشعر بقيتنا بالغيرة الشديدة إزاء كلّ تفصيل ورد في ذلك الحفل الذي بدا وكأنّه من حكايات الخيال، والآن وبشكل لا يُصدق، حان دوري، وعندما اتصل ستيفن لتأكيد الدعوة قبلت بسرور، وحللت مشكلة ماذا سأرتدي بسرعة عندما وجدت فستانًا من الحرير الأبيض والأزرق البحري في متجر بالقرب من مدرسة الكتابة السريعة في شارع أكسفورد، والذي كان ضمن حدود إمكاناتي.

    كانت حفلات مايو الراقصة في كامبريدج تجري على خلاف اسمها في شهر يونيو/حزيران، وكان أمامي بضعة أشهر، وفي تلك الأثناء كانت الأولوية لإيجاد مصدر مالي، مع تبدد أموالي في فستان الحفل والأسفار المترقبة حول إسبانيا في الصيف القادم، لذلك لجأت إلى وكالة توظيف في سانت ألبانز، واستغرقت أولى مهماتي يومًا ونصف -بعد ظهر الخميس وكلّ الجمعة- في مصرف وستمنستر Westminster Bank في هاتفيلد Hatfield، حيث كان مدير الفرع السيد أبركرمبي Mr Abercrombie الرجل الصبور واللطيف وأحد أصدقاء والدي. وقد تم إرسالي في البداية إلى المقسم، دون أن أمتلك فكرةً عما يجب القيام به، وشعرت بالذعر من الأضواء الساطعة وصرت أسحب بعض الموصلات من اللوحة في اهتياج لأضع غيرها في الثقوب الفارغة، وكانت هذه المحاولة يائسة إذ لم أنجح إلا في قطع اتصالات المتصلين من الخارج، ووصل هواتف الناس الذين يجلسون قبالة بعضهم في المصرف! بعدها، تنقلتُ تدريجيًّا في مجموعة متنوعة من الوظائف المؤقتة خلال الربيع وحتى بداية الصيف واقتراب أمسية حفلة مايو.

    عندما وصل ستيفن بعد ظهر أحد الأيام الحارة أوائل يونيو ليقلني إلى كامبريدج، صدمت بتدهور حالته الصحية منذ لقائنا المسائي في مغامرة أولد فيك، وراودني الشك في قدرته على قيادة سيارة والده الضخمة من نوع فورد زيفير Ford Zephyr، المصممة كالدبابة، التي يتضح أنّها قد عبرت الأنهار في كشمير عندما كانت العائلة -باستثناء ستيفن الذي بقي في المدرسة في إنكلترا- تعيش في الهند منذ بضعة سنوات سابقة. أصابتني الخشية من أن تكون سرعة السيارة الهادرة فوق احتمال السائق الحالي الهزيل والضعيف والواهن، والذي يبدو أنّه يستخدم المقود ليرفع نفسه ليرى فوق لوحة القيادة. عرَّفت أمي على ستيفن ولم تُظهر أي علامات مفاجأة أو إنذار، بل لوحت لنا حتى ابتعدنا كما لو أنّها عرابة جنية ترسلني إلى الحفل مع الأمير الساحر في عربة زجاجية هاربة!

    كانت رحلة مرعبة بكل معنى الكلمة، واتضح لي أنّ أسلوب ستيفن في القيادة مماثل لوالده الذي يقود بسرعة وبشكل محموم، ويتجاوز التلال والزوايا، وقد كان معروفًا جيدًا لمخالفته المرورية للمسار المزدوج والقيادة في الاتجاه غير الصحيح. ولم يكن بالإمكان خوض أي حديث بسبب عويل الرياح من النوافذ المفتوحة، وتجاوزنا بسرعة الحقول والأشجار لهيرتفوردشاير Hertfordshire إلى المناظر الطبيعية المكشوفة لكامبريدجشاير Cambridgeshire، وقلَّ ما تجرأت على النظر في الطريق أمام ستيفن، بينما بدا أنّه ينظر في الأنحاء كلّها ما عدا الطريق؛ ربما شعر أنّه قادر على تحمل العيش تحت الخطر ما دام قدره أن ينال تلك الضربة القاسية، لكن هذا لم يكن مطمئنًا كثيرًا لي بطبيعة الحال، وأخذت في نفسي عهدًا بالسفر بالقطار في المرّات القادمة، وبالتأكيد بدأ الشكّ يساورني حول التجربة المفترضة لهذه الحكاية الخرافية المتعلقة بحفل مايو.

    وصلنا أخيرًا إلى سكن ستيفن، متحدين جميع إحصاءات حوادث المرور، كانت غرفة ستيفن في سكن الدراسات العليا ذي طراز الثلاثينيات مع حديقة وافرة الظل، حيث انشغل المحتفلون الآخرون في استعداداتهم الأخيرة، غيّرت ملابسي في غرفة خُصصت لي في الطابق العلوي من قبل مدبرة المسكن، وقدمني ستيفن لزملائه في السكن من طلاب الدراسات العليا، الذين لديهم مواقف متناقضة مع ستيفن مما حيّرني، تحدثوا إليه بما يخص مصطلحاته الفكرية وأحيانًا بطريقة ساخرة لاذعة، وأخرى حاسمة ساحقة لكن دائمًا في جوٍّ من الدعابة، أما في ما يخص أموره الشخصية فقد عاملوه بكثير من المحبة، وقد وجدت صعوبةً في التوفيق بين هذين السلوكين النقيضين، فقد اعتدت اتساق المواقف والاتجاهات، وشعرت بالحيرة من هؤلاء الناس الذين يلعبون بثقة دور محامي الشيطان، فيتجادلون بشراسة مع أحدهم -أقصد ستيفن- لدقيقة، ومن ثم يعاملونه بالعكس بعناية شديدة لاحتياجاته الشخصية، كما لو كان قائدهم؛ لم أكن قد تعلمت التمييز بين المنطق والعاطفة وبين العقل والقلب، وكان عليّ تعلم بعض الدروس بسبب براءتي التي كانت مملةً ومتوقعةً وفق معايير كامبريدج.

    ذهبنا جميعًا لتناول عشاء متأخر في مطعم في الطابق الأوّل يقع على زاوية متنزه الملك King’s Parade، وكان باستطاعتي رؤية أبراج كلية الملك King’s College، والقسم العلوي منها، من الكنسية والمنزل، والتي ترتسم بشكل ظليل على بانوراما مضاءة وكبيرة لغروب في شرق أنجليا(1)، وكان هذا المنظر ساحرًا بحد ذاته؛ عدنا إلى المنزل لتعديلات اللحظة الأخيرة قبل المشي لمدّة عشر دقائق على المساحات الخضراء الندية خلف المباني إلى المحاكم القديمة لكلية ستيفن، ترينتي هول Trinity Hall. أصرَّ ستيفن على إحضار مسجله ومجموعة أشرطة إلى الكلية؛ لتركيزها في غرفة أحد الأصدقاء التي وُضعت تحت تصرفنا عندما نحتاج إلى استراحة من الحفلة، لكنه لم يستطع حملها؛ لذلك تبرع أحد أصدقائه بحملها قائلًا: «مهلًا، أظن أنّ عليّ حملها عنك يا صديقي».

    كانت كلية ترينتي هول صغيرةً نسبيًّا، متواضعةً وبعيدةً عن المشهد العام، وتتكوّن من مجموعة متنافرة من المباني القديمة جدًّا -قديمة جدًّا وذات طراز فيكتوري ومؤخرًا بعضها حديث- والمروج المسيجة وأحواض الأزهار والشرفة المطلة على النهر. اقتربنا من الكلية من الجانب الآخر لنهر الكام Cam، وتوقفنا لمدة وجيزةٍ على قوس جسر حديدي أبلغني ستيفن بقصته المؤثرة، فقد بُني هذا الجسر مؤخرًا في ذكرى أحد الطلاب يُدعى تيموثي مورغان Timothy Morgan، الذي توفي بشكل مأساوي في عام 1960 بعد أن أنهى تصميم هذه الجسر. ومن هذا الجسر بدا لنا مشهد قادم من حكايات خيالية، وقد ذكرني هذا المشهد بالمنزل الريفي الغامض في روايتي المفضلة مولن الكبير Le Grand Meaulnes لكاتبها آلان فورنييه Alain-Fournier، عن مغامرة بطل الرواية أوغستن مولن المراقب المرتبك في أضواء قصر قابع في أعماق ظلام الريف الشاسع، والذي يجد نفسه فجأة في حفلة صاخبة، حيث الموسيقى والرقص، وحيث لا يمكن توقع ما هو قادم. وهنا في كلية ترينتي هول كانت الفرق الموسيقية تطلق أنغامها عبر نسيم الليل، وقد تم تزيين المروج المؤدية إلى النهر بالأنوار المتلألئة، وتركزت نحاسية رائعة في الوسط، وكان الشبان والشابات يرقصون في أزواجٍ على المنصة تحت الشجرة.

    تعرفت إلى كثير من أصدقاء ستيفن في الخيمة الكبيرة المنتصبة أعلى المرج، وصنعنا سويةً خطًّا متواصلًا لحصصنا من العصائر اللذيذة التي توزع على المحتفلين في الأماكن المختلفة: إلى القاعة المزدحمة حيث الملهى على منصة بعيدة لا يمكن سماع الموسيقى التي تعزف فيه، وإلى الغرفة الأنيقة المكسية بالخشب حيث تتنافس فرقة موسيقية وترية مع أخرى نحاسية من جامايكا خارجًا على المرج، وإلى الزاوية قرب المكتبة القديمة حيث تُوزع الكستناء من مجمرة متوهجة. ابتعد أصدقاؤنا تاركين لنا حرية الجلوس على الشرفة المطلة على النهر، لنشاهد الراقصين يتمايلون على وقع الأنغام الهادئة للفرقة النحاسية، واعتذر لي ستيفن: «آسف، أنا لا أرقص». وكذبت قائلةً: «لا بأس في ذلك ولا يهم».

    إلا أنّ هذا لم يعنِ استحالة الرقص؛ لأنّه فيما بعد وبعد بوفيه آخر وعصائر أكثر، اكتشفنا فرقة جاز تعزف بعيدًا في القبو، كانت الغرفة مظلمةً، خلا بعض الأنوار الزرقاء الغريبة، وكان الرجال غير مرئيين ما عدا مقدمة وأطراف قمصانهم، والذين أشعوا ببريق أرجواني لامع، بينما لم تكن الفتيات مرئيات على الإطلاق، أبهرني المنظر فشرح لي ستيفن أنّ الأضواء تلتقط العنصر الفلوري الموجود في مسحوق الغسيل، ولهذا بدت قمصان الرجال مرئية، بينما لم تُعالج فساتين الفتيات بوساطة تايد Tide أو داز Daz أو أي منظف آخر؛ ولهذا لم تظهر في الضوء الشبحي، واستطعت إقناع ستيفن للنزول إلى حلبة الرقص في ظلمة الغرفة تحت الأرض، وأخذنا بالتمايل بلطف ذهابًا وإيابًا، ضاحكين على النماذج الراقصة للضوء الأرجواني حتى خيّبتنا الفرقة التي وضبت أدواتها ورحلت.

    عند حلول ساعات الصباح الأولى، فتحت الكليات الأخرى التي لطالما استضافت حفلات مايو أبوابها لجميع القادمين، ومع بزوغ الفجر مشينا في شارع ترينتي Trinity Street إلى كلية ترينتي، وهناك أعد أحدهم، وهو مُنظّم للغاية، مع صديقة بالغة طعام الإفطار في مجموعة رحبة من الغرف، لكنني ارتميت على الكرسي ورحت في نومٍ عميقٍ، ولا بدّ أنّ أحدهم قد قادني مشيًا وأنا أغط في النوم إلى السكن في شارع آدامز Adams Road، حيث نمت بشكلٍ مريحٍ حتى منتصف النهار.

    ووفق المقرر، خُصص برنامج النهار لشركاء حفل مايو ليكون مع مرشدين سياحيين أكفاء في جولة تستعرض الحداثة في الجامعة، وقد قدموا جولةً مثيرةً جدًّا؛ وكان أصدقاء ستيفن: نيك هيوز Nick Hughes وتوم ويسلي Tom Wesley يشاركان بقوة بوصفهما محررين في عملية إنتاج دليل مباني كامبريدج ما بعد الحرب، بعنوان العمارة الجديدة في كامبريدج Cambridge New Architecture، وذلك فضلًا عن بحوثهما لنيل الدكتوراه في الكيمياء، وقد طُبع هذا الدليل في عام 1964، وقد شاركهم ستيفن اهتمامهم هذا، وعمل بوصفه مستشارًا غير متفرغ لصالح المشروع، لذلك كانوا حريصين على إظهار موضوعات تدارسهم إلى أي طرف مهتم؛ ويُنظر الآن إلى هذه الأبنية بعين الريبة، أما في الستينيات فقد كانت مصدر حماسٍ بالغٍ بسبب الاندفاع الكبير الذي تلا الحرب للتطور والتوسع، دون الاهتمام بالمعالم القديمة والمروج أو الأشجار التي لم تستطع منع الموجة الجديدة من الطرق والأبنية وتوسع الجامعة، ولم تكن لنظرة الحفاظ على القديم شعبيةً آنذاك.

    بكثير من الحماس المتوهج، أشار لنا أدلتنا -نحن الضيفات الإناث الجاهلات الحساسات- إلى مجموعة مختارة من المواقع الجديدة، التي إما تم الانتهاء منها أو لا تزال قيد الإنشاء، وشملت الجولة التوسيع الضخم لكاسون Casson في موقع سيدجويك Sidgwick Site وكلية تشرشل Churchill College -الكلية التذكارية لسير وينستون تشرشل، الذي دفعه قلقه من نقص علماء التكنولوجيا في البلاد إلى تأسيس هذه الكلية في عام 1958، وأخذونا أيضًا إلى هارفي كورت Harvey Court التي كانت ضمن أعمال تطوير كلية كونفيل وكايس Gonville and Caius، وهي المباني التي سحرت الجميع بمن فيهم المساهمون في مشروع العمارة الجديدة في كامبريدج، وقد وصفوها آملين بأنها: «التجربة التي ستدفع سكانها إلى الاستمتاع بنمط الحياة الذي تفرضه هي نفسها»، وأضافوا في الدفاع عنها: «وهي المحاولة الأكثر شجاعة لكامبريدج لإيجاد الحلول المثالية الحديثة لمشكلات السكن الجامعي». ولم يخطر ببالي أنّني وبعد اثني عشر عامًا سأكون ممن يعيشون بالقرب من هذه التجربة المثيرة في عالم الحياة العصرية، وأخيرًا وكما هي التقاليد سُمح لنا، نحن الزائرين من الجامعات الأقل شأنًا، باختلاس نظرة داخل كنيسة كلية الملك King’s College Chapel.

    وبعد الغداء قمنا بجولة في قارب البنط، ومن ثم لاحت العودة في الأفق، فاقترحت بتردد لستيفن: «أظن أنّه من الأفضل أن أعود بالقطار»، لكنه لم يسمع ما قلت، ولذلك أخذت مكاني مرّة أخرى في الزيفير اللعينة دون أن أكرر رغبتي حرصًا على عدم الإساءة إليه، وكانت رحلة العودة مرعبة كسابقتها، وعندما وصلنا سانت ألبانز كنت قد قررت أنّه ومهما بلغ تقدير حفل مايو في نفسي إلا أنني لن أضع نفسي في عرضةً لركوب مثل هذه السيارات المرعبة مرّة أخرى. كانت أمي في الحديقة الأمامية عندما وصلنا أمام البوابة، ودعتُ ستيفن باقتضاب: «شكرًا لك، ووداعً»، ومن دون أدنى التفاتة سرت إلى المنزل.

    تبعتني والدتي ووبختني بشدّة: «لن تتركي هذا الشاب المسكين يرحل دون أن يحتسي كوبًا من الشاي أليس كذلك؟». صُدمتُ بلامبالاتي، فقد أعادتني كلماتها إلى رشدي، ركضت إلى خارج المنزل لألحق بستيفن، كان لا يزال هناك في السيارة المركونة أمام البوابة، محاولًا تشغيلها، وببطء تحركت السيارة دون تشغيل لتنزل على المنحدر القاسي، لأنّه لم يكن قد فرملها قبل إقلاع المحرك. كبح السيارة بحركة رشيقة، ودخل لاحتساء الشاي معنا تحت الشمس قرب باب الحديقة، لاحظت لطفه وسحره ونحن نروي بحماس أحداث الحفل لوالدتي، وعلمت في قرارة قلبي أنني أميل إليه، وأنني سأغفر له جنونه على الطريق خاصةً أنّها تجربة لن تتكرر كثيرًا.

    p01-ch03.xhtml

    (1) شرق أنجليا (East Anglia): إحدى المناطق في شرق إنجلترا، وكامبريدج أشهر مدنها. (المترجم).

    4

    حقائق مخفية

    بعد أسبوعين لاحقًا حصلت عائلتنا على استضافة مؤقتة لأجانب، بعد أن استجاب والداي لدعوة لاستضافة مراهقات فرنسيات قادمات بغرض الزيارة، وعليه تولوا الاعتناء بفتاة ذات ستة عشر عامًا، وصادف أن جاء سكن صديقتها المقربة لدى آل هوكينغ.

    لم يمضِ وقت طويل بعد حفل مايو، حتى دعتني إيزابيل هوكينغ مع الفتاتين الفرنسيتين لمشاركتها في زيارة إلى كامبريدج، ومضينا معها في أحد أيام السبت من شهر يونيو، وسررت بقيادتها المتزنة للسيارة بخلاف أخيها، وخفة دمها وتركيزها على الأمور الفكرية، وكانت نزهةً رائعةً انتهت بتناول الطعام على شرفة غرفة ستيفن في الطابق الأرضي في آدامز رود Adams Road -أطلقت عليها إيزابيل (الوجبة الباردة)- وهذا ما جعل روابط عائلتي أقوى مع آل هوكينغ، وعندما عاد ستيفن إلى سانت ألبانز لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، دعاه والداي إلى العشاء، وعاملاه بكرم ضيافة تام؛ بدا ستيفن بمظهره رابط الجأش، وقد عاد بشكله إلى أيام أكسفورد القديمة، بشعره المسترسل المنطلق الذي كان أطول أكثر من أي وقتٍ مضى، وبزته المسائية المخملية السوداء وربطة عنقه الحمراء وكأنّه زي موحد مسخّر لتحدي كل انسجام يمثله والداي، ومن جهتهم شعروا بالراحة لأنّ هذا اللقاء سيكون لقاءنا الأخير لبعض الوقت بما أنني كنت على وشك الانطلاق مرّةً أخرى نحو إسبانيا.

    في وقتٍ مبكرٍ صباح أحد أيام يوليو/تموزمن عام 1962، قادني والدي إلى مطار غاتويك Gatwick؛ لأنضم إلى رحلة طلاب كان من المقرر أن تغادر في الساعة التاسعة صباحًا، لتصل إلى مدريد الواحدة ظهرًا، لكن تم تأجيل الإقلاع حتى يتم إجراء إصلاحات للمحرك؛ ولم أشعر بالقلق من التأخير، ولا من الحاجة إلى الإصلاح ولا من حقيقة أنّه وبعد إقلاعنا أخذ الماء يتدلى من سقف الطائرة كرقاقات ثلجية، ولم أكن قلقة من استمتاع القبطان ومساعده بكوب من العصير عندما دُعينا، نحن الطلاب، إلى إلقاء نظرة على قمرة القيادة، أما أحد معارف طبيبنا المحلي ويدعى بيل لويس Bill Lewis فقد كان أكثر قلقًا عندما استقبلني في مدريد عند الساعة الخامسة بعد الظهر، وقال مازحًا: «أظن أنّ طريقكم كان عبر القطب الشمالي». أخذني إلى منزله للقاء زوجته التي خصتني باستقبال حارّ كل مساء من الساعة السادسة فصاعدًا، ومن ثم نقلني إلى مسكن كان قد وجده لي.

    كانت بيلار صاحبة المكان ذات جسدٍ صغيرٍ وأنفٍ حادٍ وشعرٍ أسودَ وشخصيةٍ مرحةٍ،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1