Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

التدين كما أفهمه
التدين كما أفهمه
التدين كما أفهمه
Ebook831 pages6 hours

التدين كما أفهمه

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

من خلال فهم العلوم الإنسانية والدينية سنحاول فهم سلوكنا الديني المعاصر.
ونعيد قراءة الإنسان والواقع الذي اختلف فيه منظور الناس عن التدين ونبحث في المظاهر الاجتماعية التي تبرزه وتقويه.
في هذا الكتاب رؤى ومناقشات عن تغيُّر طبيعة الإنسان المعاصر وعلاقته بالدين في السنوات الأخيرة، عن كل ما يؤثر في إنسانيتنا وفي ديننا وفي نظرتنا إلى الغير والحكم عليه، عن علاقة الإنسان بربه ومن أي شيء يستمد قوته وقدرته على المواصلة في سلام وأمان لقلبه وعقله، عن سمات العصر الحالي والظواهر شديدة الغرابة التي تم ربطها بالدين وهي لا تمُتُّ إليه بصلة.
بقلمٍ فلسفيٍّ ونظرة تحليلية دقيقة يحاول المؤلف استكشاف المناطق المحيطة بفكرة التدين وما يحدث حولها من ظواهر وتأويلات.
Languageالعربية
Release dateApr 5, 2024
ISBN9789778063547
التدين كما أفهمه

Related to التدين كما أفهمه

Related ebooks

Reviews for التدين كما أفهمه

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    التدين كما أفهمه - علاء عبدالحميد

    التدين كما أفهمه

    علاء عبد الحميد: التدين كما أفهمه، كتاب

    الطبعة العربية الأولى: يناير ٢٠٢٤

    رقم الإيداع: 28085 /2022 - الترقيم الدولي: 7 - 354 - 806 - 977 - 978

    جَميــعُ حُـقـــوقِ الطَبْــعِ والنَّشرِ محـْــــفُوظةٌ للناشِرْ

    لا يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة

    بدون الحصول على الموافقة الخطية من الناشر.

    إن الآراء الــــواردة فــــي هـــذا الكتــــاب

    لا تُعبـــر عــن رؤيـــة الناشـــر بالضـــرورة

    وإنمــا تعبــر عــن رؤيــة الكــــاتب.

    © دار دَوِّنْ

    عضو اتحاد الناشرين المصريين.

    عضو اتحاد الناشرين العرب.

    القاهرة - مصر

    Mob +2 - 01020220053

    info@dardawen.com

    www.Dardawen.com

    التدين كما أفهمه

    علاء عبد الحميد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

    هذا الكتاب لا يُصنّف تحت العلوم التقليدية من فقه أو أصول أو عقيدة ونحوها من المجالات التي كتبتُ فيها سابقا، فحتى وإن كانت كتاباتي في هذه المجالات السابقة ذات طبيعة معاصرة ومغايرة للتقليدى قليلًا، فإنها تبقى يمكن تصنيفها داخل هذا المجال أو ذاك، ولكن هذا الكتاب بعيد عن المجال النظري العلمي، إنه يقترب من الواقع العملي أكثر، ولكنه يقترب منه ليحلل الأفكار التي تقف وراء سلوكنا والمؤثرات على وعينا وثقافتنا الدينية المعاصرة ليناقش الموجود ويعرض المفقود من التدين كما أفهمه وكما أؤمن به.

    ***

    فكرة الكتاب وتقسيمه:

    التدين هو رحلة الإنسان إلى الله عبر الدين، فالدين هو الطريق الذي جعله الله وسيلة الإنسان إليه، وبدون الدين لا يصل الإنسان إلا إلى حدود ضيقة من معرفة الله إن اهتدى إليه، فالدين هو النور الذي أضاء به الله ظلمات الحياة ومتاهات الفكر.

    ولكي نقطع هذه الرحلة فلا بدّ من إدراك أركانها، فالإنسان ركن لأنه السائر إلى الله، ومعرفة الله ركن لأنه المقصود المُسار إليه، والدين ركن لأنه الوسيلة والطريق الذي سيسلكه الإنسان إلى الله تعالى، والتدين ركن لأنه السير نفسه والطريقة التي يمارسها الإنسان في تطبيق الدين ليصل به إلى الله تعالى، فالفرق بين الدين والتدين كالفرق بين الطريق والسير فيه، بين المعرفة والتطبيق، بين العلم والعمل به، فهذه أربعة أركان للرحلة، ولن يكون حديثنا في هذا الكتاب على جميع الأركان بل بعضها فقط:

    ١. فأما ما يتعلق بمعرفة الله تعالى فقد حوّمت حولها وقرّبت بعض أبعادها في كتاب «رحلة إلى معرفة الله» فأغنى عن الكثير مما يقال هنا.

    ٢. أما ما يتعلق بفهم الدين فقد بيّنت الكثير من الجزء المنهجي منه الذي يشرح طريقة الفهم وسبيل الوصول للمعرفة في كتاب «كيف نفهم هذا الدين» وكتاب «كيف وصل إلينا هذا الدين»، وسيتبعهم إن شاء الله لاحقا ما يكمل الصورة وضوحًا.

    أما الشق الموضوعي بمعنى ماذا يقول الدين نفسه(1) ، فقد شرعت في أول البيان في كتاب «فلسفة الأسرة» وإن شاء الله يتبعه المزيد من شرح جوانب الإسلام إجمالًا وتفصيلًا إن يسّر الله الحال ومنع العوائق.

    فهذان الركنان - أعني معرفة الله تعالى ومعرفة الدين - لم أتعرّض لهما في هذا الكتاب واكتفيت بما كتبته في الكتب المذكورة أو القادمة إن شاء الله.

    ٣. أما ما يتعلق بالإنسان فقد شرعت في توضيح بعض جوانبه في كتاب «حديث نفس» وفيه بعض الإشارات لمعرفة النفس، وأتبعته بكتاب «الحب والخوف» كالتكملة له، ولكن في هذا الكتاب شرعت في القسم الأول منه في فهم أكثر تفصيلًا للإنسان والإنسان المعاصر تحديدًا، وتعرضت لعلاقته بالتدين إجمالًا، وهذا موضوع القسم الأول من الكتاب الذي يتحدث عن الإنسان، اعتمدت في فهمي للإنسان وعرضي لخصائصه ومشاكله على تجربتي الممتدة لسنوات مع أعداد كبيرة من الناس عبر مجالات مختلفة دينية وتدريبية(2) وثقافية، تجارب بعضها كان قريبا لصيقا وبعضها بعيدا عاما، ولكنها كانت تضيف للإنسان الذي يتأمل سلوك الناس من حوله الكثير، ثم أصقلت هذه التجربة بالقراءة في بعض أدبيات علم النفس الشهيرة وعلم الأعصاب وعلم الاجتماع فضلا عما سطره الفلاسفة عبر مدارسهم المختلفة من وجودية وأرسطية وغيرها مما تيسر الوقوف عليه، وبالطبع كانت كتابات أئمة التصوف ممن خبروا النفوس وغاصوا في أعماقها - لا سيما الإمام الغزالي - الرافد الأول والأهم، ولكني لا أزعم أني تدخلت في غير تخصصي، فيبقى الطرح المذكور أقرب للتجربة الإنسانية في فهم الإنسان ذات طابع شخصي لا تخضع لقوانين العلم الصارمة، وإن استعنت في مراجعة ما أطرحه ببعض الأصدقاء من أصحاب التخصصات المذكورة لضمان عدم الخروج عن أصول العلم ومع ذلك تبقى الأفكار المطروحة شخصية الطابع.

    ومن ملاحظتي لتجارب الناس الدينية فبالتأكيد ثمة تجارب واعية وناضجة في السير إلى الله ولكنها تبقى الأقل ظهورا وانتشارًا، أما الكثير من أنماط التدين في عصرنا فهي مجرد سلوك بشري لتحقيق احتياجات معينة أو إشباع رغبات أو مشاعر محددة، ويوم أن نفهم مخاوفنا وسلوكنا - كأشخاص نعيش في القرن الواحد والعشرين - ودوافعنا الباطنة واحتياجاتنا النفسية سننتبه للكثير من المزالق التي نقع فيها ونحمّل الدين والتجربة الدينية تبعاتها وهما بعيدان عن ذلك.

    كان هدفي من هذا التحليل السريع للإنسان أن نقترب أكثر من فهم أنفسنا، فنحن الذين نمارس الدين، وبدون فهم مشكلاتنا واحتياجاتنا سيكون تعاملنا مع الدين مشوشًا مشوها، بل قد يكون فرصة للتخفي وراءه لستر عيوبنا ومشاكلنا النفسية، بل قد نأخذ من الدين ما يوافق ميولنا غير المعتدلة، فمثلًا من يميل إلى القلق والهلع والتفكير المتشائم فيأخذ من الدين مساحة التخويف والعذاب والوعيد فقط لم يمارس في الحقيقة تدينا حقيقيا، بل وجد مساحة جيدة لتفريغ ميوله النفسية.

    لذا فأنا أؤمن أنه لا سير إلى الله تعالى إلا بفهم النفس التي هي مطية الإنسان في هذه الرحلة، وبدون الوقوف مع أنفسنا لفهمها، فسيرنا سيكون مضطربًا مشوهًا، وهذا ما ستلحظه في تحليل العديد من أنماط التدين وأفكاره التي سيأتي الحديث عنها في النقطة التالية.

    ٤. كان الركن الرابع من أركان الرحلة هو التدين نفسه، وهذا قسّمت الحديث فيه إلى قسمين: التدين في الواقع كما أراه وأشاهده، والتدين كما أفهمه:

    أولًا: التدين في الواقع:

    هذا القسم الثاني في الكتاب بعد قسم فهم الإنسان وعلاقته بالدين، وهو عبارة عن رصد للتدين في واقعنا العملي، وتحديدا في القاهرة حيث نشأت وأعيش، اعتمدت فيه على رصدي للواقع الديني الذي شاهدته واقتربت منه، بالطبع لم استوعب كل الواقع الديني المتشعب، ولكني رصدت المنتشر الشائع الذي اقتربت منه ورأيته، لم أتعرض للأنماط التكفيرية والمقابل لها من الدجالين والمشعوذين، ففضلا عن عدم اقترابي من هذه الأنماط بما يسمح برصدها بموضوعية فإني أعتبر هذه الأنماط أحوج للدراسة الاجتماعية - كظاهرة منحرفة في المجتمع - أكثر منها لحديث ديني عن أنماط التدين في المجتمع، ولكني تعرضت للتدين الشائع بأنماطه المعروفة فرصدت أهم أنماطه وتعرضت لأهم أفكاره، فجاء هذا القسم في فصلين:

    الفصل الأول: عن أنماط التدين: رصدت فيه أهم الأنماط السلوكية للتدين في خلال العشرين سنة الماضية وهي مدة اقترابي من الواقع الديني ومشاهدتي الحيّة له، فتعرضت للتدين الشعبي والتيارات الدينية وظاهرة لبس الحجاب وخلعه ودروس العلم والعمل الخيري ... إلى آخر الأنماط التي ستجد التعرض لها في هذا الفصل، وحاولت أن أفهمها وأتعرض لها بالتحليل والتقييم لفهم التجربة الدينية ومعرفة موضع الخلل فيها، مستعينا بما قدمته عن الإنسان المعاصر وخصوص مشاكله.

    الفصل الثاني: عن أفكار التدين: وهي مزيد من الغوص في أعماق التجربة الإنسانية ومحاولة فهم الأفكار الشائعة في نفوس المتدينين - على اختلاف أنماطهم واتجاهاتهم - والتي تؤسس لفهمهم لهذا الدين وتعاملهم معه، فتعرضت لها بالبيان والتحليل ثم بالنقد الإيجابي الذي لا يكتفي بالاعتراض على الفكرة، بل يقدم الفهم الذي أراه صحيحا للفكرة، فيكون النقد بنّاء يعيد تأسيس الأفكار التي يتعرض لها بالهدم، وبالطبع لم أستوعب كل الأفكار، بل رصدت أكثرها شيوعا وأهمها من وجهة نظري، ولكن ما إن شرعت في الرصد والكتابة حتى اتسع الأمر وتضخم حتى كاد الكتاب أن يخرج عن حجمه الطبيعي فاضطررت للانتقاء وتأجيل بعضها لكتب جديدة تليق بها. تعرضت لفلسفة الذنب ولجلد الذات ومحاولة أسلمة الأشياء وأحلام الماضي الحالمة وغيرها الكثير من الأفكار التي تجدها في قائمة المحتويات فلا نطيل بذكرها هنا.

    كان غرض هذا القسم - التدين في الواقع - بفصليه، محاولة فهم أنفسنا في محاولاتنا الدينية السابقة والوقوف عند هذه المرحلة الزمنية التي يتغير فيها الواقع الاجتماعي للعالم بتسارع ملحوظ وتتغير العلاقة مع الدين في مجتمعاتنا بتغيرات جذرية ولا سيما بعد التجارب الشديدة الصخب التي مرّت بها المنطقة خلال السنوات السابقة والتي تؤذن بإعادة تشكل للحياة الاجتماعية من جديد، فكان لا بدّ من الوقوف والتقييم والتحليل لنفهم ونتعلم ونُصلح من أخطائنا.

    ربما يبدو الكتاب حتى الآن أنه سيأخذ طابعا اجتماعيا أو فكريا - وهو ولا شك فيه هذا الجانب بوضوح لا سيما في القسم الأول - ولكن الحقيقة أني لم انزلق في هذا الاتجاه، بل يظل الكتاب دينيا يعالج هذه القضايا من منظور ديني أوظف فيه العلم الديني الذي أؤمن بقيمته وأهميته في معالجة الأفكار والرجوع للدين كما أفهمه كحاكم عليها، ففي الحقيقة الكتاب وإن كان ينطلق من الواقع فإنه لا ينفصل عن الدين.

    بالتأكيد من مرّ بتجربة دينية سيتقاطع مع أحد هذه الأفكار أو الأنماط، ولكن من لم يمر بأي تجربة ربما تكون استفادته أكثر بالأفكار المطروحة في ثنايا المناقشة والعرض.

    ثانيًا: التدين كما أفهمه:

    هذا القسم الثالث من الكتاب، وهو عبارة عن التدين الذي أؤمن به وبضرورته، والذي اعتبرته التدين المفقود فبدأت بعرض سريع لبعض الجوانب المفقودة في التدين كما أفهمه، ثم انتقلت لأهم الأفكار التي أراها تؤسس لهذا الفهم بشكل عملي يرتبط مباشرة بالإنسان، وهنا أيضا اتسع الأمر عليّ حتى كاد لا يتوقف، إذ الدين كما أؤمن به ضارب في كل مناحي الحياة ومشتبك معها، وما أوسع الحياة وما أشد تشعباتها، لذا فاضطررت أيضًا للانتقاء والاقتصار على الأهم والأبسط والأقرب من الأفكار التأسيسية، وأخّرت الباقي لموضع آخر وكتب جديدة.

    فكان ملخص فكرة الكتاب أني اعتبرت أن التدين هو رحلة الإنسان إلى الله، وأن التدين له واقع نعيشه ينقسم إلى أنماط سلوكية وأفكار مُحرّكة، وله مستقبَل أرجوه سميته التدين كما أفهمه.

    هذا من حيث فكرته، أما من حيث مضمونه فلم أتكلم عن معرفة الله تعالى اكتفاء بكتاب «رحلة إلى معرفة الله»، وقصرت الكلام على الإنسان، وعلى التدين في الواقع، والتدين كما أراه، فجاء في ثلاثة أقسام كالآتي:

    ***

    لغة الكتاب وأسلوبه:

    الكتاب مكتوب للقارئ العادي غير المتخصص في علم معين، وهو يخاطب أكثر من كانت له تجربة دينية يحتاج لتأملها وتحليلها وتقييمها، ولكنه يخاطب عموما كل إنسان مهتم بفهم دينه بشكل عملي عن وعي وبصيرة، فهو لن يخبرك عن خطوات للتدين تفعلها لتكون متدينا ولا سيعطيك واجبات عملية وخطط تسير عليها، بل سيخبرك عن مفاهيم وأولويات تساعدك على السير في طريق التدين على بصيرة من أمرك، فهو كتاب استبصار لا كتاب أعمال، والعمل عن فهم وبصيرة هو أشد ما أرجوه.

    ورغم أن الكتاب يخاطب القارئ العادي إلا أنه في كثير من الأحيان يخوض في بعض القضايا الفلسفية التي أراها تأسيسية أو شديدة الأهمية وبمثابة أصول لفكرة مهمة في تعاملنا الدين، وهي بالتأكيد موضوعات بعضها لن يروق للجميع، ولكني راعيت ألا أستخدم فيها لغة فلسفية أو انفصل عن موضوع الكتاب - الذي هو التدين - وحتى المصطلحات التي اضطررت لاستخدامها يمكن أن يقف القارئ على معناها بأدنى بحث، فلم أشأ أن أثقل الكتاب بحواشي تعريفية وشارحة حتى لا تطغى اللغة العلمية عليه ولا يتضخم حجمه.

    فكرت أن أضع علامة على المواضع ذات الطابع الفلسفي ليتجاوزها القارئ غير المهتم، لكني رأيتها فقرات وليست مقالات كاملة، ووجدت أن محاولة فهمها ربما تفيد، كما أنها لا تخلو من سؤال بمثابة العنوان يسبقها فيمكن أن يتجاوزه القارئ إن لم يكن مهتما بالسؤال أو العنوان، وعموما فكرة كتابة الكتاب في صورة مقالات تساعد على هذا. ورغم هذا فإنني لا أنصح القارئ بتجاوز كل موضع فلسفي، فكثير من القضايا اليومية إن فهمنا أصولها تنحل الكثير من الإشكالات وننتبه للكثير من المزالق، فالكتاب بمجموعه وتفاصيله رحلة مكمّلة لبعضها البعض.

    هذا وقد حاولت أن أغيّر في أسلوب الكتاب في بعض الفقرات تنشيطًا للقارئ ودفعًا للسآمة عنه، فجاء بعضها بشكل ساخر وبعضها بشكل مغاير قليلا لباقي الكتاب.

    عن النقد في هذا الكتاب:

    خرجنا في هذا الكتاب عن المألوف الشائع، ولستُ ممن يولع بالمخالفة لمجرد التميز، ولكني ممن يأبى الموافقة لمجرد التقليد والانتساب، فإنّ طبيعة العلم وحرية الفكر اللذين أؤمن بهما يقتضيان أن أفكر في كل ما أسمع أو يقال، ولسان حالي كما قال ابن سينا قديما: «ولُربّ غفلة جلبها اقتداء، وسهو غطى عليه حسن ظنّ بالقدماء، فتلقّى بالقبول، وعادة صدّت عن حقيقة، ومساعدة صرفت عن تأمّل. وقد أجهدنا وسعنا أن نلحظ الحقّ نفسه وأن لا نجيب دواعي العادات ما أمكننا ووفقنا له، وإن كان التّحرّز واقية في الأكثر دون الدوام، والاحتياط منجاة عن الغلط في الغالب دون الكل. وبنا حاجة إلى شركائنا في التلافي لما فرّطنا فيه وقصرنا عنه. والله موفقنا لما نرجوه من صواب يتيسر وخطأ يُجتنب برحمته»(3).

    إلا أني في الحقيقة لا أخالف معظم القدماء، بل أرى أن الموافقة معهم في الحقيقة أعظم وإنما قديمي الذي أخالفه هو عادات أهل العصر الموروثة وأفكارهم المنقولة عبر العقود الأخيرة، فإذا بي كلما رجعت للأصول وجدت مخالفة الفروع، فإذا بي أمام تدين لا أفهمه ولا أعرفه، وإذا بأفكار لا أراها تمُت للإسلام بصلة، بل هي إلى الإسقاطات النفسية أقرب وبالعادات المجتمعية ألصق. وإذا بالقدماء على الحقيقة أكثر تحررا وأصدق نسبة إلى الإسلام فكرا وعلما، فإذا بي أخالف القديم القريب إلى القديم البعيد.

    كان من ضرورة الرحلة أن أتعرض بالنقد للكثير من الأفكار الدينية المنتشرة، وبعض الأفكار هي أشد لصوقا بالإنسان من نفسه حتى أنه يعيد تعريف نفسه بها، فكأن ذاته هي أفكاره، فلا بدّ أنه سيشعر بضيق إن قرأ هذا النقد، ولكني أخذت على نفسي أن أكون صريحا في هذا الكتاب فلا أجمّل الحقائق، ومن طبيعة النقد أنه يُشعر الناقد أنه فوق المنتقَد، وهذا أبعد ما يكون عن فكري.

    سمع أحدهم درسًا لي أخالف فيه أحد العلماء القدماء منتصرًا لمذهب غيره على هذا العالم، فأهدى إلى كتابًا في فضائل هذا العالم المُنتقد، والحق أني لا أشك في ديانته ولا ورعه ولا علمه، ولكن الانتقاد للفكر شيء والانتقاص من صاحبه شيء آخر، وإني أنفر من الثاني وأتحرز منه ما استطعت.

    فالكثير من أهل التدين هم أصدق إيمانًا وأحسن أخلاقًا مني بلا شك، بل أكاد أجزم أني ربما أكون أقلهم منزلة، لا أقول هذا تواضعا، بل لأني في الحقيقة منشغل بنفسي عالم بذنوبي بيقين، وهم لم يظهر عليهم سوى الاجتهاد في الدين الذي ربما اختلف معه لكني لا أنكر صدقه، أما ذنوبهم غير الظاهرة وما بينهم وبين الله فلا أعلمه فليس لي إلا الظاهر، وظاهرهم أفضل من باطني.

    وليس من تصدر للتعليم والتأليف بمعصوم، ولا إن تكلمنا عن كل حق تحققنا به، ولا إن دعونا إلى كل صلاح كنا السابقين إليه.

    يقول الإمام ابن الجوزي حاكيًا عن نفسه فكأنه ينطق عني: «ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رقّ قلبه أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟ فصِحتُ بلسان وَجْدي: إلهي وسيدي؛ إن قضيت عليَّ بالعذاب غداً فلا تُعلِمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي؛ لئلا يقولوا عذَّب من دلّ عليه.

    إلهي؛ قد قيل لنبيك ﷺ: اقتُل ابن أُبي المنافق. فقال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(4). إلهي فاحفظ حُسن عقائدهم فيَّ بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك. حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي»(5).

    المراجع والإحالات:

    كالعادة في هذا النوع من كتاباتي أكتب بالفكرة وقد اختمرت في نفسي، وبالمعنى وقد عشته حتى صار من قناعاتي، فلا يرجع إلى كتاب معين ولا يعتمد على مصدر دون آخر، بل تمتزج الأفكار بالتجارب، والنقول بالمعقول، فيخرج لك الكلام مني وقد حمل العديد من الأفكار بعضها مني والكثير منها أضافته لنا كتابات الآخرين وعلومهم، وهل التعلم إلا الأخذ عن الغير؟

    لذا فتوثيق كل فكرة أمر عسير وإنما فقط أوثق المنقول بنصه أو المطلوب الرجوع إليه، ومع ذلك رأيت أن أضع قائمة صغيرة ببعض الكتب التي تقاطعت بشدة مع هذا الكتاب فكانت كالمراجع له أو المصادر المُكملة لطرحه، وهذا لا يعني أني أتفق مع كل ما فيها أو أني أخذته منها وحدها بالضرورة، ولكني رأيت أنها تُكمل الصورة والرجوع إليها يغني عن كثير من النقل والتفصيل، ومن مهمات المؤلف أن يتفرغ للإبداع لا للنقل، فيكتب ما ليس عند غيره.

    ستجد في هذا الكتاب الإشارة لكتاب إحياء علوم الدين(6) خصوصا وللغزالي عموما، فقد تأثرت ولا شك بفكره، وهضمت الكثير من كتبه، ولكن صارت أفكاره ممتزجة ببعضها، يوضح بعضها بعضًا ويشرح آخرها أولها، فلم أر - حيث ذكرته - للتوثيق فائدة، إذ أني لا أنقل من موضع بعينه، بل أنقل لك أفكاره كأنه حدثني، وألخص لك فكره كما فهمته.

    أما الإحالة لكتبي فهي ضرورة مستمر عليها، إذ الأفكار تأخذ ببعضها البعض وتتجاور حتى يكتمل البناء، فكان كل كتاب يقدم فكرة نختصرها هنا أو نحيل عليها، فلا يتوقف فهم كتاب على كتاب ولكن يتوقف إثبات قضية أو تأسيسها على كتاب آخر، ولا يعني هذا أن تمتنع من استكمال الكتاب الذي بين يديك حتى تقرأ سابقه، فسبق التأليف لا يعني سبق القراءة، بل الكتب تكمل بعضها كالدائرة، فلا متقدم ولا متأخر، بل كل كتاب يأخذ موقعه من بيان الدين ليكون الجميع مكمّلًا للجميع.

    ***

    كيف تقرأ الكتاب؟

    الأصل بالطبع أن تقرأ الكتاب بالترتيب من بدايته حتى نهايته، ومع ذلك فهذا الكتاب بتقسيمه الثلاثي أخذ طابعًا ثُلاثيا، فالقسم الأول عن الإنسان أخذ طابعًا نفسيا وفلسفيًا، والقسم الثاني عن التدين في الواقع أخذ طابعًا اجتماعيًا، والقسم الثالث أخذ طابعًا دينيًا بوضوح، هذا من حيث الروح العامة إجمالًا وإلا فكل الأقسام تحتوي قدرا جيدًا من المفاهيم الدينية، فقد حرصت ألا أخرج في الكتاب عن مقصوده وتخصصه.

    ومع ذلك فربما يملّ البعض ممن لا تستهويه الفلسفة وعلوم الاجتماع من النصف الأول من الكتاب، فلذا يمكننا قسمة الكتاب إلى نصفين يبدأ النصف الثاني من نصف القسم الثاني وهو الخاص بأفكار التدين، فإن شعرت بأنك لا تستهويك المعلومات الوصفية والتحليلية فيمكنك أن تنتقل إلى فصل أفكار التدين في القسم الثاني أو حتى تبدأ من أول القسم، فهناك تبدأ مساحة الأفكار الدينية عن التدين في الوضوح والظهور، فتقرأ الكتاب من هناك حتى نهايته وتكتفي بهذا القدر فهو الأهم والباقي كالتمهيد له.

    فإن قدرت على العودة له من أوله حتى موضع بدايتك فهذا أفضل بالتأكيد وسيزيد الرؤية وضوحًا.

    والمقالات عموما معظم لغتها متقاربة ولكن بعضها كان مُكثّفا أو أكثر فلسفة من غيره، فالكتاب وجبة متنوعة الألوان تخاطب فئة واسعة من البشر، وليست اهتمامات الجميع واحدة، لذا فقد تروق لك مقالة وتملّ من أخرى، وغيرك يعكس، وهذه طبيعة التنوع.

    فقط في مقال «إله العقل والحكمة» تضخم الموضوع وتشعّب فاضطررت إلى نقل فقرات كثيرة للهوامش وحذف أخرى اعتمادا على جوانب تعرضت لها في كتاب «رحلة إلى معرفة الله» وأملًا بأن أرجع لهذه القضية بتفصيل أكثر في زمان لاحق، فجاء هذا المقال ضخم الهوامش أكثر من غيره، ومع ذلك يمكن لمن يخشى التشتيت أن يكتفي بقراءة المقال نفسه ويتجاوز هوامشه.

    ***

    شكر وامتنان:

    لقد صحبني في هذا الكتاب كالعادة أصدقاء كُثر كل يضيف إضافة مهمة لولاها لما خرج هذا الكتاب بصورته تلك، فالبعض راجعه كلمة كلمة والبعض شارك في مراجعة مقال بعينه لتقاطعه مع تخصصه والبعض شارك بالرسومات والكثير شارك بالمناقشة والتعليقات على معظم الكتاب، والمستفيد الأكبر من هذا العمل في الحقيقة هو أنا، فالمناقشات الثرية التي كانت تدور والتعليقات النافعة التي كان يكتبها أصدقائي في مسودات الكتاب كلها ثراء معرفي لي وودت لو كنت أقدر على مشاركة القارئ الكريم لها ولكنها كانت ستخرج بالكتاب عن مقصوده ويتضخم حجمه، فالشكر لهم جميعا واحدا واحدا ولا توفيهم كلمات الشكر حقهم.

    أشكر صديقي د.محمد علي الذي راجع هذا الكتاب وصوبه، وأصدقائي د.محمد عثمان، وكريم محمد، ومحمد مجدي خليل وعمر أسامة ومحمد دنيا على قراءة مقالات هذا الكتاب وما أبدوه من ملاحظات، وأصدقائي وائل عوّاد ومحمد الفندي وأحمد عمر على خصوص ملاحظات خاصة ببعض المواضع، والصديقان أحمد اليماني وأكرم محمد على تصميم رسومات الكتاب التوضيحية.

    وبالطبع فجميع أفكار هذا الكتاب تعبّر عني وحدي، ومشاركتهم في النقاش لا تعني بالضرورة موافقتهم على كل ما فيه.

    ***

    في النهاية هذا كتاب جديد، يحوي العديد من الأفكار، والفكر مساحة شخصية، الزلل فيها أكبر من مساحات العلم الآمنة التي نعتمد فيها على المنهج العلمي وعلى جهد من سبقنا من العلماء وما حققوه وقرروه، ولكن في الفكر نُطبّق ما تعلمناه ونصرّح بما نعتقده.

    فإن قررت البدء في صفحاته فلا تقرأه ناقدا ولا مقلدا، بل قراءة الصديق لصديقه، الذي يتجاذب معه الفكر وينظر من زاويته ويقبل أو يرفض، فعين الناقد تجعلك تقف في زاوية مغايرة لزاوية الكاتب فلا تكاد تبصر ما يبصره، وعين المُقلد تعميك عن خطأ المؤلف فتتبعه إن زلّ أو لم يُوفق للسداد، أما عين الصديق فتشارك وتخالف، تفهم وتحكم، فإن اتفقنا فهي غاية كل مؤلف، وإن اختلفنا فيسعنا جميعا ما يسع الأصدقاء إن اختلفوا.

    ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا،

    وارزقنا العمل بما علمتنا وتقبل منا.

    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

    علاء عبد الحميد

    القاهرة

    ١٧/ ١١/ ٢٠٢١ م

    الموافق ١٢ من ربيع الآخر ١٤٤٣هـ

    محتوى الكتاب

    القسم الأول

    ما الإنسان؟

    مدخل لفهم الإنسان

    لكي نفهم الإنسان سنعتمد على الرصد البسيط لأنفسنا، لن نحاول في هذا الكتاب الدخول في تفاصيل العمق الإنساني وسنكتفي بالرصد العام لما يحدث في عالمنا الشخصي.

    فالإنسان كائن يؤثر ويتأثر، إنه يصنع واقعه، ثم واقعه يصنعه، تبني منزلًا في مكان طبيعي جميل فتجد أنك تحتاج مع الوقت لزراعة بعض النباتات وشراء سرير معلق لتسترخي عليه وسماع موسيقى هادئة وشراء عطر لطيف، لقد بدأ بيتك الجميل في التأثير عليك وعلى نفسيتك واحتياجاتك، صنعت الجميل فأعطاك الجمالُ المزيدَ ودفع بك في اتجاه الجمال، والعكس صحيح، تشتري منزلًا في وسط العاصمة الصاخبة فتحتاج لشراء زجاج عازل للصوت ومكيفات لتنقية الهواء ومزيل للعرق وملابس عملية لا تتسخ بسهولة وهاتف حديث لسهولة التعامل مع مميزات المدينة الكثيرة، لقد تطورت شخصيتك تجاه العملانية وربما النفعية.

    كل ما نفعله يعود بالتأثير فينا بشكل مذهل، حتى نوعية طعامك وطريقة كلامك، فالتأثر والتأثير هما الصفة البارزة التي يمكننا أن نبدأ من عندها رصد الظاهر الإنساني لنقترب أكثر من فهم أنفسنا. فما هي أبرز المؤثرات علينا؟

    يمكننا تقسيم المؤثرات على الإنسان إلى مؤثرات خارجية وأخرى داخلية.

    ١. فالمؤثرات الخارجية: هي الوجود خارج نفوسنا الذي ندركه ونتفاعل معه، إنه الواقع الخارجي بما يحتويه من ثقافة وظروف بيئية ودين وحضارات تتصارع وتأخذ عن بعضها.

    فالإنسان الذي ينشأ في الصحراء يتأثر بظروف البيئة القاسية فتجد نفسيته مختلفة عن نفسية الذي ينشأ في البيئة الزراعية الهادئة، بل الأخلاق تتغير تغيرًا جذريا، فالنجدة والشجاعة وصدق الكلمة تجدها أكثر ظهورا في أخلاق الصحراء التي تجعل هذه الأخلاق من ضروريات الحياة وبدونها يهلك الإنسان إن لم يجد من ينجده، في حين تدفع الحياة الزراعية مثلا للتعاون بما يستتبعه من ميل للتسامح والتغافل وربما المداهنة.

    والإنسان الذي يعيش في ظروف الحرب والقحط غير الذي يعيش في ظروف السلم والرخاء، والذي يعيش في حضارة قوية تؤثر على غيرها وتقود العالم غير الذي يعيش في حضارة ضعيفة منهزمة ومولعة بتقليد الغالب.

    والدين ولا شك أحد أهم العوامل الخارجية المؤثرة، فكل دين سواء كان سماويا أو وثنيا له تعاليمه وقيمه وثقافته التي تؤثر على الإنسان تأثيرًا بيّنا، بل لو قلنا إن الحضارات في حقيقتها نشاط ديني لما كنا مبالغين، وانظر للحضارات المصرية القديمة والرومانية والإسلامية وغيرها تجد صواب ما قلناه، بل حتى الحضارة الحديثة التي تخلّت عن الدين هي حضارة دينية بشكل أو بآخر؛ إذ الإلحاد نوع من الدين الإنساني!

    فالثقافة المجتمعية والدين والظروف البيئية وتفاعل الحضارات كلها عوامل خارجية تؤثر على الإنسان وتعيد تشكيله وبالتالي تعيد تشكيل واقعه.

    ٢. أما المؤثرات الداخلية: فهي ما ينشأ من باطن الإنسان وما يثور داخله من بواعث، فالإنسان ليس بكائن ساكن جامد، بل له إرادة وتأثير، فتنبعث منه الأفعال التي تعود بعد ذلك بالتأثير عليه.

    فمن أهم تلك المؤثرات الداخلية الحاجات والشهوات، والذكريات والتجارب والخيالات، والرغبة في المحاكاة والطبيعة التعلمية للإنسان، وبالطبع المشاعر والأفكار.

    فأنت تحركك شهوة الطعام فتشتريه أو شهوة الجنس فتسعى لعلاقة محرمة أو مباحة وفق استعدادك، وتمر بتجربة عاطفية فاشلة فتؤثر على نفسيتك وطريقة تعاملك المستقبلية مع التجارب الجديدة، وترى شيئا تستحسنه أو تخالط شخصية لطيفة تحبها فتجد أنك تحاكي بعض طباعها عن غير وعي، كما أنك بما منحك الله من ذاكرة تختزن الأحداث وعقل يحلل ويبحث في الأسباب ويربط بين الأشياء المنفصلة في الواقع بروابط من السببية والشرطية، تتعلم تلقائيا وتنضج معارفك وتصوراتك عن الوجود والحياة ولو لم يعلمك مُعلم، فتنبعث من معارفك وعلومك الجديدة قرارات ومواقف جديدة تعود بالتأثير بدورها في حياتك وواقعك الخارجي.

    محل التأثير والتأثر في الإنسان:

    المشاعر والأفكار هما عوامل الحركة الإنسانية، هما سرّ الحياة الحقيقي، وهما يتفاعلان سويا فيؤثر أحدهما في الآخر، وهما محل التأثير الفعلي على الإنسان، فأنت تستطيع إيصال معارف أولية للإنسان عبر حواسه، كرائحة طيبة يشمها أو ابتسامة يراها أو ملمس ناعم يشعر به، ولكن المعاني الحقيقية العميقة لا تكون إلا عندما يشعر أو يفكر، عندما يشعر بمحبتك أو بغضك له، أو يفكر في قضية معقولة يقتنع بها.

    هذه المُدخلات هي التي تحركه حركة عميقة بعيدة التأثير، إنك قد تقفز لوخزة بعوضة أو تنتقل عن مكانك لرائحة كريهة، ولكنك تسافر البلاد وتغير عملك وسكنك إن أحببت وقررت الزواج.

    وهما في مرتبة وسيطة في قضية التأثير، فهما من المؤثرات الباطنة ولكنهما يتأثران بباقيها في نفس الوقت؛ فقرارك حال غضبك أو يأسك يتأثر بحاجتك وشهوتك، وفي نفس الوقت هما يؤثران في بعضهما، وهما في الحقيقة محل الاستقبال للمؤثرات الخارجية.

    فإذا أردنا مزيد فهم للإنسان فلنقترب من هذه الجوانب المؤثرة ونلحظ أثرها.

    ولكن حتى لا يتضخم الكتاب سنقصر حديثنا في المؤثرات الداخلية على المشاعر والأفكار، وفي المؤثرات الخارجية على تأثير المجتمع والدين والثقافة، وبعد ذلك نرصد تفاعل الإنسان بأفكاره وفلسفته مع الوجود، تمهيدا للسؤال الختامي «من نحن؟».

    ولنبدأ بالحديث عن المشاعر ثم الأفكار فننظر لحقيقتهما ثم أثرهما الواضح في نفوسنا، ثم نبحث في أشد المؤثرات فيهما في زماننا.

    ***

    الإنسان والمشاعر

    ربما تكون الأفكار ذات أثر كبير في تاريخ البشرية، ولكن الأفكار لا تحيا ما لم يؤمن بها الناس وتدب الحماسة لها في قلوبهم فيعملون بها، فالأفكار تحيا بهذه العاطفة التي تقف ورائها وبدونها تكون مجرد فلسفات تُدرس في الكتب أو يطويها النسيان.

    فهذه العاطفة التي تقف وراء الأفكار هي في الحقيقة أكبر ما يحرك الإنسان، بل ما أكثر ما نحب شيئا ضارًا فنفعله لحبنا له ونكره النافع فلا نُقدِم عليه، فمجرد المعرفة لا تقوى على تحريك الإنسان ما لم ينبعث من داخله «شعور» عميق يحركه ويدفعه دفعًا.

    فالطعام الضار إن أحببته ربما أقدمت على تناوله غير عابئ بالضرر اللاحق، لا سيما إن خف ألمه وتأخر ظهور أثره، فإن كان ضرره شديد الألم وسريع المفعول ربما قوي خوفك وكرهك للألم فيغلبان حبك لتناوله، فهنا معرفتك النظرية بضرر الطعام ربما لا تكفي لكي تمتنع عنه ما لم تتصل بـ«شعور» يقوي الباعث في نفسك ويمنعها من الفعل.

    فأعظم ما يحرّك الحياة هو المشاعر، تشتعل نفسك غضبا فتدمر الدنيا، وتمتلئ حبا فتعمرها.

    ولكن ما حقيقة المشاعر؟

    إن المشاعر تختلط بأشياء تبدو شديدة القرب منها حتى نتوهم أنها هي، كالاحتياجات والأفكار، ولكنها تشتبه بكل واحد منهما من جهة غير التي تشبه فيها الأخرى.

    فهي تتشابه مع الاحتياجات في أنها بواعث للرغبة ومحركات للإنسان، وتتشابه مع الأفكار في أننا نأخذ بها القرارات ونستند إليها في تصرفاتنا اليومية.

    فقبل الكلام على المشاعر نحتاج للتفرقة بينها وبين الاحتياجات والأفكار، فربما ساعدنا هذا التمييز على التعريف بها.

    ***

    ١. الفرق بينها وبين الاحتياجات:

    يمكننا تمييز الاحتياج للطعام والشراب مثلا بسهولة عن شعور كالحب والكره، الأول هو حاجة ضرورية من أجل البقاء والنمو والثاني هو أمر نفسي محض.

    ولكن ما الفرق بين الجوع والحب؟ إن كلاهما نوع شعور داخلي ولكن الأول يدل على حاجة يمكن إشباعها والثاني هو علاقة أو موقف دائم ومستمر من شخص أو شيء(7).

    بعيدا عما يقوله علماء الأعصاب من مركز كل شعور وتقسيم المشاعر لأخلاقية وغيرها(8)، فثمة تفرقة أولية هي التي تهمنا في سياق هذا الكتاب، حيث نفرق بين الأمور التي يتم إشباعها بوظائف معينة كتناول الطعام أو الرغبة في الحديث أو الاستشارة وبين أمور هي بمثابة موقف نفسي من الأشياء كالحب والخوف والغضب.

    فثمة انفعالات ومواقف نفسية تجاه الأشياء والأشخاص، وهي تزداد وضوحا تجاه الأشخاص وتقل تجاه الحيوانات غير العاقلة وتكون أخفى حتى تكاد تنعدم أو تُنكر تجاه الجمادات.

    فعندما تميل إلى إنسان وتشعر بالراحة لوجوده وبالحاجة له عند فقده، تكون هذه انفعالات أولية يمكن أن تكون من الاحتياج العاطفي أو النفسي وقد تكون من المشاعر، وفي كون الاحتياج أمرًا مغايرًا للمشاعر نوع خفاء. فالاحتياج ليس علاقة بينك وبين الشيء بل هو مجرد غرض عندك إذا أُشبِع أو لُبي فقد حصل المطلوب. قد تشعر بالوحدة فيؤنسك حيوان أليف أو شخص قريب أو كتاب لطيف. إنّ رغبتك في لقاء إنسان بعينه في هذا التوقيت قد يكون لشعورك بالوحدة لا أكثر وقد يكون لشعور خاص تجاه هذا الشخص بعينه أو لمجموع الأمرين.

    في الحالة الأولى يمكن أن تختفي هذه الرغبة بمجرد توفير البديل الملائم، وفي الحالة الثانية نحن أمام علاقة أكثر وضوحا تجاه هذا الشخص، يمكن أن نعبر عنها بالحب أو الميل.

    فطبيعة المشاعر أنها علاقة تربطك بالأشخاص، وهي ذات طابع متسامي قليلا عن الحاجات المادية، إنها تكاد تكون ذات طابع «روحي» لذا تكاد تكون نادرة تجاه الجمادات إلا في تلك الحالات التي تحمل فيها الجمادات «معنى» كذكرى تحملها سلسلة لجدتي أو عطر لأمي، أو حتى إدراك معنى روحي في الوجود كالجمال والخيرية فتبدأ النفس في التعلق به والميل إليه.

    إن شعور الغضب يبدو مفهوما تجاه الميكانيكي الذي أهمل في عمله فتعطلت منك السيارة، ولكنه لا يكاد يُفهم إن كان تجاه السيارة نفسها، إنك في اللحظة التي تغضب فيها من سيارتك دائمة التعطل تكون تمارس نوعا من المجاز العملي وكأنك تتخيل سيارتك كائن مريد مختار، فكأن المشاعر لا تظهر إلا بظهور الروح العاقلة المُدرِكة، فتكون المشاعر هي العلاقة التي تربطك بها سواء بتأثير منها أو بموقفك تجاهها وقدرتك على رؤية عيوبها أو جمالها.

    الخلاصة أن المشاعر هي علاقة نفسية أو قلبية تربطك بالأشخاص أو بالمعاني.

    ***

    ٢. الفرق بينها وبين الأفكار:

    نحن نفرق بين قرار شراء منزل - مثلا - لأنه ملائم لغرضنا وثمنه مناسب لقدرتنا الشرائية، وبين أن نستدين لمساعدة صديق عزيز لا تربطنا به صلة قرابة أو التزام تعاقدي من أي نوع.

    في الأول نحن ننظر إلى المصلحة والحاجة والقدرة، فنوازن بينها ونقيس هذا إلى ذاك، وهذه الموازنة تُسمى تفكيرًا، وفي الثاني نحن نتحرك بمشاعر الحب والاهتمام.

    الأمر في طرفيه كالفارق بين حلّ مسألة رياضية، وبين لطمك لإنسان وأنت في حالة غضب، الأول حالة عقلية تفكيرية والثاني حالة عاطفية انفعالية.

    والمشاعر تزداد تطرفا حتى لا يبقى معها أي تفكير - كحالة الغضب الشديد أو الرعب التام - وتهدأ في انفعالها - حتى ولو كانت قوية - حتى تقترب من القرارات التي نصفها بالعقلانية، كما في حالة شرائك هدية لصديق فتفكر في الأنسب له وما تقدر عليه، إنها حينها لا تكاد تفترق عن قرار شراء منزل لنفسك إلا فقط في البواعث، ففي حالة المنزل كان الباعث هو المصلحة والحاجة وفي الهدية كان الباعث هو الحب والعاطفة(9).

    إذا يمكننا اعتبار أن الفارق الأكبر بين المشاعر والأفكار هو اندراج كل واحد من الأمرين تحت مجموعة من المعاني تمثل الأولى ما نسميه بالعواطف أو المشاعر كالحب والبغض والغضب والسعادة، وتمثل الثانية ما نسميه بالأفكار التي تعتمد استخدام المبادئ أو حتى الأخلاق بمفهوم ضيق(10)، كالمصلحة أو الملاءمة أو المنطقية أو العقلانية أو الاتساق.

    وفي الحقيقة فصل الأمرين عن بعضهما عسير ولكن لا بأس من المحاولة النظرية للتقريب، وإلا فالإنسان يصدر عن ملكات نفسه الراسخة التي تُسمى أخلاقاً - بالمعنى الواسع - وهي تمتزج فيها الأفكار بالمشاعر، بل ربما كانت هي في الحقيقة مجموع الأمرين لو كان حقا ثمة أمران.

    ***

    فإذا اتضح الفرق بين المشاعر وبين الاحتياجات والأفكار فلنرجع إلى سؤالنا عن حقيقة المشاعر ليزداد الأمر وضوحا.

    قلنا أن المشاعر هي علاقة نفسية أو قلبية تربطك بالأشخاص أو بالمعاني، ووصفناها بأنها انفعالات للنفس، والسؤال الآن: هل المشاعر مجرد انفعالات أولية كالغضب العابر، أم إحساس مستمر كالحب؟

    إن الإنسان له مستويات من الإدراك الداخلي مختلفة، فالفكرة - مثلاً - في أطوارها الأولية تمثل رأيا مبدئيًا تجاه الأشياء، فإن قويت بالأدلة واستمرار الزمن صارت عقيدة ومبدأ، وكذلك الشعور في أطواره الأولية مجرد انفعال عابر، كاستحسانك لشيء ما، فإن قوي بالتفاعل معه وطول التأمل فيه والارتباط به صار حبا عميقا راسخًا في القلب يُحرك الإنسان ويؤثر فيه.

    فيمكننا تقسيم المشاعر إذا إلى نوعين: الأول: مشاعر أولية نسميها «انفعالات»، والثاني: مشاعر راسخة عميقة، وهي التي تستحق أن نسميها بالـ«مشاعر». وفي الحديث عن كل نوع منهما سنتكلم عن تعامل الإنسان المعاصر مع هذا النوع من المشاعر وأبرز مواقفه الشعورية. ثم نختم ثالثًا بعلاقة التدين بالمشاعر.

    ***

    أولًا: المشاعر في طورها الأوليّ

    المشاعر في مراحلها الأولى مجرد انفعالات للنفس من ميل ونفرة وأمن وخوف وسكينة وغضب وخجل وسعادة وحزن، وتعدادها عسير، ولكنها تشترك في أنها في بداياتها تكون عوارض لا تدوم إلا نادرا وفي الغالب يكون لها سبب مفهوم وغالبا ما يكون خارجيا(11)، فإن كانت مُثارة بلا سبب خارجي فإنها تكون عادة من الأفكار، فإنك تتذكر ذكرى حسنة فتشعر بالسعادة وتسيطر عليك فكرة موتّرة فتشعر بالقلق، ولكن مع ذلك فالمشاعر قد تُثيرها الإحساسات الداخلية كالشعور بالجوع أو الألم فإنهما قد يورثان الضجر أو الحزن أو الانكسار.

    فالنفس أشبه بالرق الذي تجده في السماعات يهتز للانفعالات، وهذه الاهتزازات نسميها مشاعر أوليّة.

    فنحن ننفعل بالوجود، سواء كان هذا الوجود زهرة جميلة أو طبيعة ساحرة أو لحناً بديعاً أو حتى فكرة هادئة حالمة، وكذلك ننفعل مع نقيض هذه الأمور.

    ولكن المشاعر في حالتها الأولية تلك قلما تدوم، بل الغالب أنك تشعر بالسعادة لفترة من يومك، ما دمت متعرضا لأسبابها، ثم تزول السعادة وتتحول

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1