Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الغثاء
الغثاء
الغثاء
Ebook553 pages4 hours

الغثاء

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لم تكن حياة بالمعنى المعروف للكلمة، بل مرحلة بين البقاء والموت، كنا نعيش فيها كما يعيش إنسان مصاب بعطب في نشاط الدماغ. كنا جثثًا متحركة، لا تأتي إلا بأفعال منعكسة لا إرادية. نأكل إن عثرنا على ما يؤكل، نشرب إن كان ثمة ما يُشرب، نختبئ، ننتظر، نتسمع، ننام، نصحو، نعيد الكَرَّة.
بقينا على هذه الحال إلى أن أعلنت الحكومة البريطانية عن الانتهاء من أعمال الانشاءات في مخيم اللاجئين في جزيرة «وايت»، وعن عزم الحكومة البدء في نقل المسلمين إلى الجزيرة.
وبحلول شتاء هذا العام، بدأت القطارات والشاحنات في الانطلاق من المحطات الكبرى إلى الجنوب. خلال الأسابيع الأولى، تم إجلاء ما يزيد عن ربع مليون إنسان، وفي ذات الوقت، أجرت فرق «شباب الحرية» عمليات نقل موازية لآلاف المسلمين إلى مناطق نائية في الريف، لإعدامهم.
Languageالعربية
Release dateApr 3, 2024
ISBN9789778201475
الغثاء

Related to الغثاء

Related ebooks

Related categories

Reviews for الغثاء

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الغثاء - أحمد صلاح سابق

    الغلاف

    الغُثاء

    سابق ، أحمد صلاح.

    الغُثاء : رواية /أحمد صلاح سابق.

    القاهرة : كيان للنشر والتوزيع، 2023.

    400 صفحة، 20 سم.

    تدمك : 5-147-820-977-978

    -1 القصص العربية.

    أ- العنوان : 823

    رقم الإيداع : 27458 / 2022

    الطبعة الأولى : يناير 2023.

    جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة ©

    _____________________

    كيان للنشر والتوزيع

    إشراف عام:

    محمد جميل صبري

    نيفين التهامي

    4 ش حسين عباس من شارع جمال الدين الأفغاني– الهرم

    هاتف أرضي: 0235918808

    هاتف محمول: 01000405450 - 01001872290

    بريد إلكتروني: kayanpub@gmail.com

    info@kayanpublishing.com

    الموقع الرسمي: www.kayanpublishing.com

    • إن الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبر بالضرورة عن رأى الناشرين.

    ©جميعُ الحقوقِ محفوظةٌ، وأيُ اقتباسٍ أو إعادةِ طبع أو نشر في أي صورةٍ كانتْ ورقيةً أو الكترونيةً أو بأيةِ وسيلةٍ سمعية أو بصريةٍ دون إذن كتابي من النـاشـر، يعرض صاحبه للمساءلة القانونية.

    الغُثاء

    أحمد صلاج سابق

    رواية

    «منذ نشأته الأولى، تعهد التنظيم الدولي لجبهة المقاومة الإسلامية بوضع حد لتغلب الغرب في الأرض، والتكبر فيها بالفتن والحروب وأكل الربا، فيما تزداد أمة الإسلام جهلًا وظلامًا، وتتراخى قبضتها على الدين. أفسد الغرب الدنيا وأفقرها، ونشر الظلم وأزهق الأرواح وسفك الدماء بغير حق. اشتد الحر وجفت السماء، وبارت الأرض وشح الرزق، وعصفت الريح الشديدة المُهلكة، وعم سخط الله وبغضه جوانب الأرض؛ فبُعِثت جبهة المقاومة الإسلامية بعثًا قدريًّا، وتسلطوا على الروم تسلُّطًا كونيًّا جزائيًّا، كي ينصروا الدين ويقيموا سلطانه ويشيدوا أركانه. رفع جند الجبهة رايات العقاب السود، وأقسموا على استئصال القوم الذين ظلموا، بالتعجيل بفناء حضارة العصر واستقدام فتن آخر الزمان الكبرى.

    في شهر رمضان من العام الخامس لمولد التنظيم المبارك، وجه جندنا غارات الدمار والهلاك من كل جهة وصوب على حواضر الروم ومعاقلهم في أوروبا وأمريكا، وقاتلوا قتالًا شديدًا لم يُعهد مثله. أخذ جندُ المسلمين أهل الكفر في مدائنهم من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد؛ فقتلوا من جيوشهم وعوامهم ورجالهم ونسائهم جمًّا غفيرًا، وخلقًا كثيرًا، وجمعًا عظيمًا، حتى جللوا وجه الأرض بمئات الألوف من القتلى. كان نصرًا عظيمًا، وأمرًا هائلًا، وخطبًا جليلًا وخارقًا باهرًا، ومعجزة لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بها تخرج الملحمة الكبرى، التي تكون بين الروم وبين المسلمين في آخر الزمان، وبها تقوم - بإذن الله - خلافة على منهاج النبوة، ثم يخرج المهدي.

    سمَّى المؤمنون الغزوة المباركة «بشائر الملحمة»، وسمَّى الغرب نكبته «فبراير الموت».»

    في عدة مواضع من الرواية، اختار الكاتب استبدال بعض العبارات والكلمات بنقاط، للتخفيف من وقع بعض المشاهد على القارئ..

    تقع جزيرة «وايت» بين مضيق «السولنت» والقناة الإنجليزية، وتبلغ مساحتها حوالي مئة وخمسين ميلًا مربعًا، وتبعد عن ساحل مقاطعة «هامشير»، في جنوب إنجلترا، حوالي خمسة أميال، وعن العاصمة «لندن» تسعين ميلًا. في الأزمان الماضية، تميزت الجزيرة بمناخ معتدل، وجمال طبيعي متنوع وجذاب، جعلها وجهة يُسعى إليها لقضاء العطلات منذ العصر الفيكتوري. فقدت الجزيرة تصنيف «اليونسكو» لها كمحمية طبيعية بعد مرور عدة سنوات على أحداث «فبراير الموت».

    السابعة صباحًا

    توقيت جرينيتش

    على مدار ساعات متصلة، استقصت فاطمة أحداث الأيام الخالية من نواحيها كافة، وبحثت في أحوالها بحثًا شاملًا. أثبتت بعد ذلك ما أَلَمَّ بجسدها من إصابات، وبيَّنتها بيانًا شافيًا حفظًا لذكراها من الضياع، وجمعت ورتبت أسباب تلك الإصابات وكيفية حدوثها والأدوات المستخدمة في إحداثها.

    أنجزت فاطمة عملها ذاك على خير وجه، استنادًا إلى «خبرتها» في الطب الشرعي، وهي خبرة مستقاة من ولع بمطالعة تطبيقات الطب الشرعي في قضايا القانون الجنائي والقانون المدني.

    أثبتت فاطمة الوقائع بالكتابة، واستعملت في سبيل ذلك قلم حبر جاف، خطت به الآتي على ورق خفيف متوسط الحجم:

    «أثبت أنا، فاطمة محمد المهدي، أنني أنثى نحيفة البنية، في بداية العقد الثالث من عمري، وأبدو في صحة عامة عادية ووعي كامل وإدراك سليم. بتوقيع الكشف الطبي على نفسي، وبفحص الإصابات الظاهرية على أعضائي، وبفحص ملابسي كافة لبيان ما إذا كان يوجد بها آثار دماء من عدمه، وباستعادة الأحداث وفق التصور الوارد في ذهني، تبين إصابتي بالآتي:

    - سحجات بالوجه تأتى من مختلف الجوانب، نتيجة تعرضي للسَّحب على الأرض من اتجاهات متعددة، كما توجد أيضًا رضوض وكدمات وجروح كالتي تحدث نتيجة سحب على مراحل متعددة أو ارتطامات متعددة.

    - الآثار على الخد تحت الحاجب نتيجة ضربة مباشرة بجسم غليظ.

    - الجانب الأيمن من الوجه متأثر بكدمات في الوجه والوجنة والأذن.

    - الركبة اليمنى بها آثار لكدمة وجرح بلا سحجات.

    - الرِجل اليسرى بها سحجات ورضوض لكن في أوجه مختلفة، مما يعنى حدوث احتكاكات عديدة، نتيجة سحب في أوضاع مختلفة وباتجاهات مختلفة.

    - جروح مختلفة وسحجات ورضوض باليد اليمنى.

    - تبين وجود إصابة أعلى عظمة الورك اليمنى بالخلف مع احمرار وزرقة وتجمع دموي أسفل الظهر بالناحية اليمنى.

    - وجود جروح سطحية في الوجه وعظم الوجنة يمين العين في اتجاهات مختلفة.

    - إصابة في الجانب الأيسر والأوسط من الظهر مع وجود بقعة سفلى مستقيمة وشديدة الاحمرار، كالتي نراها نتيجة الضغط بجسم صلب له حافة حادة بقوة كبيرة كما يحدث من الضغط بوزن شخص يرتدى حذاءً ثقيلًا على ظهر الضحية».

    وتستمر فاطمة في عرض حالتها في التقرير بالتفصيل، مفردة لذلك ثلاث صفحات كتبتها بخط حَسَن، من دون تعب ولا تكلف في دوران اليد؛ فكأن الكتابة عندها مَلَكَة انضبطت بها حركة الأنامل على قواعد مخصوصة.

    بعد أن أنهت فاطمة كتابة تقريرها، لم تنظر إليه قط، بل أودعته دُرجًا من أدراجها، وجعلت تتصوره بعد ذلك بحذافيره، وتعيد كتابته في ذهنها يوميًّا، وتنقحه وتزيد عليه وتحذف منه في كل مرة تقف أمام المرآة لتعاين إصاباتها.

    دأبت فاطمة على أن تقول لنفسها إن التحرشات والاعتداءات على النساء، وجرائم العنف الجنسي الموجهة ضدهن، وغيرها من جرائم الضرب والحرق والقتل والتعذيب وتشويه الأعضاء التناسلية، لم تكن يومًا أمرًا نادرًا أو مستغربًا، وهي آخذة في التزايد، وهي تصير يومًا بعد يوم إلى أن تكون مشاهد اعتيادية ومقبولة لدى شريحة واسعة من المجتمع. وكانت إذ تقر بذلك تجد نفسها في حالة مزاجية انطوائية، وتجد عقلها وقد وقع أسير الكآبة الانفعاليّة، وبدنها وقد وقع أسير الكبت الحركيّ، وتجد في قلبها نقمة متقدة لا تخمد.

    رغم تلك الضغوط كلها، صبرت فاطمة على ما حل بها من مكروه، على نحو عقلاني أوشك أن يكون مصطنعًا، وتعدت ذلك إلى توبيخ نفسها بقسوة على التقصير في تحري الحيطة ابتداءً، وكانت وهي تفعل ذلك تجتهد في أن تتعالى على الأحزان الشخصية والآلام العاطفية المريرة، وكانت وهي تستدعي الوقائع في ذهنها تدعو نفسها بغلظة إلى تحمل البلية بأسرها، وإلى التسامي عن الشكوى والتأوه عديم النفع.

    ثم إنها زعمت وفؤادها مَحْزُون أن بقاءها على قيد الحياة ليس إلا لُطْفًا من الله تعالى. إنها تعلم أن جزيرة «وايت» مَعزِل قاس، وأن الإناث فيه يواجهن تهديدات خطيرة، مثل العنف المنزلي، وعدم كفاية الرعاية الطبية، وانعدام المساواة، والنظام الغذائي السيء، وعدم الاهتمام بالصحة العامة أو النظافة الشخصية. لكن تلك المخاطر جميعها لم تكن تقارن بمشكلة النساء الأكثر حرجًا من وجهة نظرها: العنجهية الذكورية الجمعية، المختلطة بانحطاط الأخلاق العامة، وغياب التواجد الأمني.

    إن من سوء طالع المرء هذه الأيام أن يُخلق مسلمًا، لكن من دلائل النحس المستمر أن يُخلق امرأة. في هذا الركن المظلم من العالم، «قعر كنيف كوكب الأرض»، حيث تعيش فاطمة وتعمل، يلقي الناس بلائمة تفشي ظاهرة الاعتداء اللفظي والبدني والجنسي على شيوع المواد الإباحية، وإدمان المخدرات، ثم الفقر والجهل. بَيْد أن القسم الأكبر من اللوم ينزل على النساء أنفسهن، لتهتك أخلاقهن وخفة ملابسهن، ونزولهن من بيوتهن في أوقات متأخرة من الليل. لكن الحقيقة المجردة، كما تفهمها فاطمة وتؤمن بها، تقول بأن ثمَّ مؤامرة كونية مُرَكَّبة، تمارس بشكل منهجي واسع النطاق، من أجل إذلال النساء والسيطرة عليهن بالترهيب والرعب، كي يوقنَّ بأن الأرض قد ضاقت عليهن، وبأنهن ملفوظات مأبونات. لم يعد ثمّ مكان آمن يمكن أن تتحرك فيه المرأة دون أن يُنتهك عرضها لفظيًّا أو فعليًّا، لا في الشارع، ولا في وسائل المواصلات العامة، ولا حتى في منازلهن.

    نعم، تعرضت فاطمة لمختلف أنواع التهديدات التي تتعرض لها سائر نسوة المدينة، من دون أن تخرج هذه الأفعال في أشد حالاتها سوءًا عن حدود المضايقة اللفظية، أو التحرش الممكن احتماله! غير أن ما حدث لها منذ بضعة أسابيع على يد جماعة من الرعاع، سَطَرَ مرحلةً جديدةً في حياتها، لم تكن متحققة من قدرتها على مواءمتها أو التكيف معها.

    وهكذا، عندما استيقظت من نومها قبل ظهور أول ضوء، عزمت على المضي قدمًا في خطة على قدر من الخطورة، كي لا يتكرر ما كان. اليوم تغادر منزلها للمرة الأولى، بعد أسابيع من العزلة. لم تقض أيامها تلك في بطالة، بل أعدت لليوم عدته. لم تستطع التخفيف من حرارة غضبتها رغم مرور أيامٍ طويلة على الحادث. أتاحت لمشاعر المهانة أن تستحوذ عليها، وتركت نفسها فريسة لأخيلة شريرة وتصورات داهمة، يشتد أوارها بالليل، ثم إذا بها تتماسك وتترسب لما تطلع الشمس. قد يكون التشبيه التمثيلي الأمثل الذي فكرت فيه فاطمة، ضمن تشبيهات تمثيلية أخرى أعملت عقلها فيها وتأملتها، هو غول المرء في بركة من قطران فلزيّ. في الليل ترتفع درجة حرارة السائل اللزج حد الغليان، فتكاد ترى في طبقات الظلمة فقاعات تتولد ببقبقة بطيئة ثقيلة، وتتصاعد منها أبخرة كثيفة خانقة، تحدق بها من كل جهة. تريد أن تصرخ أو أن تبكي فلا تستطيع. وفي النهار يتخثر القطران ويغلظ، حتى يكبلها ويضغط على أعضائها بقوةٍ وقسوة، فكأنها مدفونة في سبيكة من معدن صلب ساخن. تريد أن تتحرر وأن تتحرك وأن تتنفس، فلا تستطيع. ترقد على فراشها وتجتر خواطرها وما يتشبه لها في اليقظة والمنام من صور الانتقام والعنف المفرط.

    وقفت فاطمة بقدمين حافيتين تنظر ببلادة إلى موضع جسمها على الفراش. لوَّثت رقعة داكنة من العرق الملاءة وحالت لونها، وضوَّعت في الغرفة رائحةً كريهة. الساعة الآن السابعة بتوقيت جرينيتش. استيقظت فاطمة قبل الرابعة بقليل، بَيْدَ أنها لم تغادر الفراش إلا في السادسة والنصف. سمعت أذان الفجر يُرفع من المسجد القريب، ولم تتوجه نفسها إلى الاستجابة للنداء، بل ركبها -عوضًا عن ذلك- نعاس مضطرب فترت فيه حواسها، وتحركت أخيلتها؛ فلا هي استلذت بالنوم، ولا هي حصَّلت أجر الصلاة. لم تعقد فاطمة نيتها على ترك الصلاة، ولا اعتزمت تأخيرها عن وقتها جحودًا. إنها امرأة ديِّنة، تحافظ على الصلوات الخمس، وتصوم رمضان، وفي الشتاء تصوم يومين أسبوعيًّا تأسيًا بسنة الرسول الأعظم، وتلزم نفسها بإخراج زكاة مالها. كل ما هنالك أنها ظنت أنها حُبِست عن الصلاة لسبب ما، ولعلها ظنت أنها معذورة بجهل أو نسيان، ولعل الشيطان خطر بينها وقلبها.

    أعادت فاطمة تصور الأيام الماضية، واستعادت المعاني الذهنية المقترنة بها، ثم راحت تستخلص زبدتها ببطء وقسوة، إلى أن عادت بذاكرتها إلى يوم الكارثة. وقع لها الحادث بالقرب من مقر عملها، لأنها اضطرت يومها إلى مخالفة مسارها المعتاد إلى محطة الحافلات العامة. العلة في الإقدام على هذا الفعل الخطير كمنت في انفجار ماسورة المياه الرئيسية المارة من أسفل الساحة الخارجية لمستشفى «الزهراء» العام، الأمر الذي أدى إلى غرق الساحة والشوارع المحيطة، وتسبب في هبوط مساحة كبيرة من محطة حافلات القطاع رقم أربعة، وأسفر عن تعطيل حركة المرور، ومنع دخول أو خروج حافلات الأجرة إلى الموقف. أُلجِئَت فاطمة عندئذ إلى الدوران حول المنطقة، ودخول ضاحية «فوريست فارم» من الجهة الشرقية، وهو مشوار قصير لم يكن ليستغرق نصف الساعة مشيًا على قدمين، في نهايته يمكنها استقلال «توك توك»، وبلوغ منزلها في غضون عشر دقائق على الأكثر.

    لم تكن «فوريست فارم» منطقة مأمونة، ولم يكن من الحصافة دخول أنثى وحيدة إليها في ليل أو نهار. أقرت فاطمة بخطئها، واعترفت إلى نفسها بتهورها، ولم تجد بُدًّا من أن تخوض في تفاصيل الحادث غصبًا، في منامها ويقظتها، المرة بعد المرة. تجتهد في أن تنحي عن ذهنها تلك الوجوه الشائهة وهذه الأيادي الغاشمة، غير أنها لا تستطيع. تغلق عينيها وتطبق على أسنانها غيظًا وتضغط على رأسها بقبضتيها وهي تتذكر الضرب المبرِّح، والشد والسحب والدعس والركل بالأحذية. أولاد الزنى ركَّزوا الضرب على رأسها أولًا، والظاهر أنهم استهدفوا عينيها عن قصدٍ، كي لا ترى وجوههم، ولا تميزهم أو تفرزهم عن غيرهم لاحقًا.

    ها هي الآن، تقف بخمول وتحيُّر، ثم ما لبثت أن طغى على وجهها تعبير مغاير هو أقرب إلى الاستكانة والإذعان؛ فكأنها وصلت في تلك اللحظة إلى استدلال واقعي. لا حاجة بها إلى «مَسْرَحة» الحدث والمبالغة فيه. إنها ليست وحيدة عصرها. النساء يُضربن ويُسرقن ويُغتصبن ويُقتلن في كل يوم. لم يتوقف كوكب الأرض عن الدوران، ولا أشرقت الشمس من مغربها. بطاقة الهوية لم تُسلب منها لحسن الحظ؛ إذ أجزأتها عادتها في إخفائها في جرابٍ خاص تعقد طوقه حول كاحلها. أما المتعلقات والنقود فلم تكن ذات قيمة معتبرة، وأما كرامتها التي أهدرت وشرفها الذي لُطخ بالوحل فعلى الله العوض ومنه العوض. المهم أن تضمن ألا يتكرر الحادث ثانيةً.

    يتعين عليها الآن أن تعد قهوتها، إن كانت تريد أن تبرئ دماغها من صداع الصباح. أوجد التفكير في القهوة في نفسها طاقة أمل بنَّاءة، حرَّكتها إلى الأمام بمقدار عدة خطوات تجاه المطبخ، كي تملأ إناء القهوة بالماء. لم ينهلَّ الماء من الصنبور، بل نزل قطرةً قطرةً، ولم يكن شفافًا، ولم يعدم الرائحة كذلك.

    لزمت فاطمة المكان بصبر، ولم يبد على وجهها تبرُّم أو ضجر. انتصبت قائمة دون حراك، تنتظر امتلاء الإناء بالماء، وتفكر في الوقت ذاته في مشكلة اغتسال الصباح. وعندما شارف الإناء على الامتلاء قرَّبته إلى أنفها كي تشم الماء وتعاين لونه ورواسبه. كانت تعلم أنه غير صالح للشرب في جميع الأحوال، على الأقل طبقًا لمعايير وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية، لكنها كانت تأمل في أن تصاب بالفشل الكلوي خلال خمس أو سبع سنوات، وليس قبل ذلك. وإذ هي تفكر في هذا الشأن، ولأن الشيء بالشيء يُذكر، بَدَرتها ذكريات تعود إلى عهود سحيقة، عندما كانت تأنف من استخدام مياه الصنبور في الطعام والشراب، وكانت تفضل عليها المياه المعبأة. وما تمالكت أن ابتسمت بسخرية إذ تتفكر في تلك الخاطرة، وهي تضع الإناء على الموقد. كانت قد اضطرت منذ فترة طويلة إلى استخدام موقد كيروسين؛ نظرًا لتفاقم أزمة نقص الغاز النفطي المسال في أحياء المعزل المختلفة، ونشوب معارك بالأسلحة النارية على أسبقية استبدال قوارير الغاز. مواقد الكيروسين المنتشرة في أسواق المعزل رديئة، والتي تنفجر بين حين وآخر في المطابخ، وتتسبب في حروق وتشوهات قبيحة.

    رفعت فاطمة الإناء عن فوهة إنتاج اللهب، ثم صبَّت الماء المغلي على أرضية من مسحوق القهوة. لم تملأ قدح القهوة الصغير بالماء إلى حافتها، بل صبت فيه ما يكفي لجرعات محدودة، ثم جلست إلى مائدة الطعام الخشبية الصغيرة، المُلحقة بغرفة المعيشة. ألقت على ركام الأوراق وجهاز التسجيل والاستماع الرقمي العتيق نظرة، ثم أزاحتهم جميعًا بظهر يمناها بغير اكتراث، كي تفسح مكانًا على المائدة لوضع القهوة وعلبة السجائر. أشعلت سيجارة، وقرَّت في جلستها إلى أن أتت عليها، ثم ارتدَّت إلى غرفة النوم كي تعاين أمام المرآة إصابات وجهها، آخر مرة قبل الخروج.

    خفت حدة الإصابات إلى حدٍ كبير؛ فلم يبق منها إلا خدوش متعددة في سائر مساحة الوجه، وبعض البقع الزرقاء، وكدمتان حول العينيْن. زال بحمد الله التورم الدموي المنفر، الذي أغلق عينها اليمنى لعدة أيام، وغادرت وجهها صفة التمزُّق الشديد. عبقت بها أبخرة التبغ المحترق، المختلط بالرصاص والقطران، ولزقت بثنايا منامتها، غير أنها استطاعت رغم ذلك أن تشم رائحة عرقها. مضت عليها أيام طوال دون استحمام؛ ليس استمراءً للقذارة، حاشاها، بيد أن النهوض من الفراش ومزاولة أنشطة معقدة مثل الاغتسال خرجا عن حدود الاستطاعة خلال الفترة الماضية. إنها لا تزال إلى الآن تعاني آلام العظام والعضلات، ولا تستطيع الحركة إلا بحرص.

    لم يكن طول وقوف فاطمة إلا إحدى علامات المماطلة في الإقدام على أي خطوة من شأنها أن تجرئها على الخروج. تَلهَّت بتفحُّص وجهها في المرآة لعدة دقائق أخرى، ثم خلعت منامتها. هذه المنامة التي لا تعدو أن تكون أسمالًا متهدلة، والتي اشترتها فاطمة في «لندن» منذ سنوات، كانت في عهدها الأول تتألف من فانلة بيضاء ضيقة، منسوجة من قطن ناعم عالي الجودة، وسروال قصير مثير من القطن الوردي اللين، طُرِّزت عليه نقوش طفولية مبهرجة.

    أحدَّت إلى نفسها البصر، وقارنت صورتها الحالية بما تختزنه في ذاكرتها من صور في الأيام الخالية. تظن فاطمة أنها موسومة بميسم الجمال؛ فهي شابة طويلة متناسقة الأطراف، ذات قوام نحيل مشدود، وشعر أشقر قصير، كثيف متراكم. وجهها مستطيل، تعكس تقاطيعه الحشمة والحدة وشدة الكيد، وعيناها خضراوان واسعتان، فيهما كِبر وتحد وقسوة، وثقة زائدة بالنفس. تُعبِّر كل حركة تأتيها عن الوقار والحسم، إن كانت في طمأنينة، وعن الحدة والاشتعال، إن غلب عليها قلق أو توتر.

    لم يكن الجمال المادي أولوية مُقدَّمة في حياتها، لكنها لما كانت قد أوتيت ميزات خلقية تُعتَبَر في المعزل من العطايا النادرة، صدَّقت بأفضليتها على سائر النسوة بلا تحفظ. فلتنظر إلى نفسها الآن، وإلى أي منقلب صارت، ولتتدبر. نحفت إلى حد غير مقبول، حتى جفَّ ثدياها وشفَّت بشرتها عن ضلوع قفصها الصدري وعظام الحوض. رجلاها الطويلتان مُسِخَتا إلى قصبتين جافتين هشَّتين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وفيما تُبكِّت نفسها على الحال التي آلت إليها، بذلت وسعها في غض البصر عن وشومها المتعددة. أربعة وشوم اختارتهم على عينها، واستأجرت من يرسمهم على جلدها بالإبر في «فينيكس»، ستوديو الوشم الأفضل في شرق «لندن».

    على خاصرتها، ما بين عظم الحوض وأسفل الأضلاع، دُقَّ وشمٌ صغيرٌ أنيق، على شكل فراشة تخفق فوق غصن زخرفي. وعلى مؤخِّر عنقها، ارتسم وشمٌ نباتي متقن لـ لوتس صغيرة رقيقة. وعلى القدم، حلَّقت شرذمة من طيور السنونو المهاجرة. آخر وشم احتل الجانب الأيمن من عضلة الظهر شبه المنحرفة، وافتقر إلى دقة الصنعة، إنما أشرق بألوان زاهية. صوّر الوشم طائر العنقاء كما رُسم في كتب العرب القدماء، وأسفله انطبعت العبارة التالية، بحروف خشنة، بدت كأنها خُطّت دون عناية: «تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد».

    لا تعد فاطمة نفسها فاخرة بهذه الوشوم، إلا الوشم الأخير، ولا تتردد كلما استحضرتها في ذهنها أن تقر بذنبها على نفسها وأن تعترف بنزقها وقت أن طلبت الوشم. أيامها لم تكن تفكر في مستقبل أبعد من بروز أنفها؛ فلم تتدبر من ثم عاقبة فعلة كتلك خلال -لتقل- الستين عامًا القادمة! بَيْدَ أنها لا تحب أن تقسو على نفسها بخصوص تلك المسألة؛ لأنها عاشت مراهقة مُشرَّدة طائشة، أقدمت فيها على شرور وموبقات عجيبة، لم يبق من حصيلتها -والحمد لله- إلا الوشوم. إنها، في هذه المرحلة من العمر، وبرغم أي اعتبارات كانت قد بنت عليها عزمها على أن تستوشم، ورغم موقفها الديني الحالي الرافض للوشم والمعترف بحرمته، تؤمن بطمأنينة وضمير مستكين أنها أبدت عناية وحسن ذوق في اختيار تصميمات وشومها وألوانها، بلا غلو ولا شطط.

    رفعت فاطمة ذراعيها الواحد تلو الآخر، واستطلعت كتلة الشعر المتلبدة بالدهون وأملاح العرق، التي حيل لونها من الأشقر الذهبي إلى البني الفاتح. عَفِنَت رائحة الإبط إلى حد أدهشها وأثار سخطها في الوقت عينه. تجاهلت آلام العظام والعضلات وهي تنحني لتقبض على منامتها البالية، وفي طريقها إلى الحمام ألقت بها في كيس لدائني طمَّ بالزبالة.

    استيقظ وسام.

    لم يدر ابتداءً أين هو. هُيّئ إليه أنه يستوي على فراشه في شقته الصغيرة، وأن منبِّه هاتفه المحمول يوقظه في السابعة والنصف كي يعدَّ نفسه للِّحاق بمناوبة المصنع الصباحية. تلك كانت أيامًا سعيدة مباركة، جعل له الرب فيها مأوًى يستتر فيه وينتفع به سائر وجوه الانتفاع؛ محل نومه وخلوته وراحته وصيانة نفسه. وكان مع هذا جاهلًا بنعمة البيت، متبرمًا من ضيق شقته وقذارتها، بل كان يشيط دمه من الغيظ إن نعت أيٌّ من معارفه جحر الجرذان الذي يعيش فيه بـ«الشقة»؛ لأنها لم تكن في أفضل أحوالها أكثر من غرفة حقيرة.

    لم يكن فيها إلا فراش معدني صدئ، وحوض بصنبور. لم يكن بها حمام، ولا أُلحق بها مطبخ، ولا فُتِحت في أي من حوائطها فتحة ينفذ منها الهواء والضوء، ولم يكن ثمّ سبيل إلى تهويتها سوى خرم تهوية يسده شفَّاط كهربائي صيني المنشأ. أما الحمَّام فمتوافر بمعدل دورة مياه لكل طابق في البناية، ولا يُستطاع الوصول إليه في أوقات الذروة إلا بالانتظار في طابور.

    اعتدل في مرقده، ونفخ بضجر بعد أن اقتحم عليه ضوء الشمس حرزه، وتسلَّط على عينيه مباشرة. لم يكن ضوء الشمس حافزًا كافيًا للصحو من النوم، مع شدة سطوعه، بل أيقظه رذاذٌ وخرير ماء. ضم حاجبيه وحاول جاهدًا إخراج مخه من حال الإبطاء، من أجل التعرُّف على ماهية الماء المنهمر. ثم اتسعت عيناه، وهبَّ قافزًا من خيمته بذعر، وحدَّق إلى الرجل الواقف أمام مدخل خيمته.

    لا يعرف له أحد اسمًا أو شكلًا، شأنه شأن عشرات المشردين والمختلين عقليًّا الساعين في شوارع المستعمرة. يجوب الرجل المنطقة في كسوة لا معالم لها، غلب سوادها على أي لون آخر فيها. لم يبد من وجهه سوى أنف متآكل، وعين واحدة ناتئة، أما هامته فقد علتها كتلة شعر مُتَلَبِّدة هوجاء.

    لم ير وسام في موقفه من الرجل رأسًا أو لحية، بل عانة يبرز من بين لفائفها قضيب مكتنز، لم يكلف الرجل نفسه عناء توجيهه. اندفع خيط البول الساخن وسقى الأرض إلى جانب مرقد وسام؛ فأيقظه الرشاش.

    فيما مضى، عد وسام نفسه نموذجًا للإنسان المصري القديم، كما رؤي في نقوش القدماء. وجهه طفولي مستدير، وعيناه كبيرتان لوزيتان. أنفه عريض واسع المنخرين، وثغره صغير غليظ الشفتين. قامته وسيطة وصدره فسيح، مع امتلاء رخيم في البدن. تلك كانت صورته في ذهنه، أيام الغنى والوفرة. في أيامه هذه، وبعد أن جاوز الثالثة والثلاثين، فقد وسام صفاته البدنية الجذابة، وفقد معها أخلاقه اللطيفة. هَزُلَ بدنه ونحف بطنه وبرزت عظام وجهه، وجارت عليه النوائب فحفرت على جلده علامات وشيَّبته، إلى أن صار شبحًا باهتًا خفيفًا، لا يشارك ذاته القديمة إلا الاسم.

    لزم وسام عتبة خيمته، ونظر إلى الرجل بعينين لامعتين، وهتف به بأعلى صوت:

    - ماذا تظن نفسك فاعلًا يا وسخ؟!.

    لم يبد على الرجل اكتراث أو مراعاة، ولم يزد على أن يرميه بنظرة خاوية. لم يدر وسام ما يتعين عليه أن يفعل، فالرجل يزيد عليه في الوزن مرتين، وفي الطول كذلك، ولن تجدي أي محاولة للتعدِّي عليه أو دفعه جانبًا. ظهرت عليه دلائل الانفعال الشديد إذ يهتف ضاربًا كفًا بكف:

    - يا رب دك هذه المستعمرة دكًا، واخسف بهؤلاء البشر الأرض!

    طفح وجهه بالغضب، غير أنه لم يحوِّل طاقته تلك إلى رد فعل حركي. على الضد من ذلك، تولته رغبة في الانسحاب. أشفق على نفسه واحتاط وهو يهتف ويشتم؛ فتقدَّم وتقهقر بقدر معلوم، تاركًا بينه وبين خصمه حرمًا آمنًا، مخافة أن يناله الرجل بلطمة أو أن يرشه بالبول مباشرةً.

    قضى الرجل حاجته، وخفض أسماله، ثم استدار متمايلًا في مشيه على قدمين متشققتين، تراكمت عليهما كتل الجلد الميِّت. أتبعه وسام بصره وهو يرعد من الاشمئزاز. تسمَّر مكانه حينًا، ثم حكَّ ردفه الأيمن باستياء، وأحس برغبة ملحة في قضاء الحاجة. نظر حوله فلم يعجبه ما رأى، كعادته كل صباح.

    لم تكن لتلك البقعة اسم، لحداثة عهد سكانها بها. تقع المنطقة على أطراف مستعمرة «فروج لاندز فارم»، التي أنشأتها المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إبَّان الترحيل. قُدِّرت مساحة المستعمرة وقت إنشائها بكيلومتر مربَّع واحد، تزاحمت فيه ما يربو على سبعة آلاف نفس. عانوا جميعًا الفقر والبطالة، وسُدَّت أمامهم سبل الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية من كهرباء وصرف صحي ومياه شرب ملائمة.

    شرعت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بما توافر لديها من موارد محدودة، في إنشاء هيكل داعم للمجتمع، تألف من عدة طرق متوازية ومتقاطعة، امتدت من تحتها شبكتا إمداد المياه والصرف الصحي، ومن فوقها خطوط توزيع الكهرباء، وأنشأت كذلك عيادة، ومدرسة ابتدائية، ونقطتي شرطة وإطفاء. انبسط مخيم فروج لاندز في جميع الاتجاهات، واستعان البشر فيه على احتياجات التوسع بمواد بناء أولية، مثل الصفيح والقش والقماش والورق المقوى.

    يمتد مستودع كبير للنفايات في الجهة الشمالية لمستعمرة فروج لاندز، ولا يكاد يفي باحتياجاتها، لذا تتكدس القمامة في الأزقة والطرقات والمدافن، وتطمر الساحات العامة وأركان الأعشاش والبنايات والخيام. يبلغ تعداد سكان مستودع القمامة ألفي نفس، يعمل معظمهم في فرز وإعادة تدوير النفايات تحت إدارة رجل عتيد يُسمى هزوان. يقول هزوان عن نفسه، ويقول عنه أتباعه إنه سيد رحيم رؤوف، طويل الأناة كثير المراحم. يُقر أهل المستودع بأن هزوان يحفظ أمن المنطقة ويحميها من هجمات العصابات المسلحة، علاوة على امتلاكه وإدارته عدة ورش ومسابك لصهر وتدوير الخردة، يعمل بها مئات الشباب والأطفال.

    ينظر هزوان في أحوال القادمين الجدد، ممن يرغبون في الالتحاق بجموع رعيته، ضمن سعيه لرسم سياسة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1