Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

جوني حمل بندقيته
جوني حمل بندقيته
جوني حمل بندقيته
Ebook416 pages3 hours

جوني حمل بندقيته

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

جوني حمل بندقيته دالتون ترامبو يُجبر القارئ من قبل المؤلف على قضاء كل الوقت الذي يقرأ فيه هذا الكتاب داخل رأس جوني بطل الرواية لماذا؟ لأن جوني جندي جريح فقد ساقيه وذراعيه ووجهه بالكامل. وفقد حواسه الخمس – الإحساس الوحيد المتبقي هو عن طريق الجلد الموجود على صدره المتضائل من خلال ذكرياته وأفكاره الداخلية، تستكشف الرواية موضوعات الهوية والحرية وأهوال الحرب. تعتبر واحدة من أقوى الروايات المناهضة للحرب، يحاول جوني التواصل مع العالم الخارجي لكن هل سينجح؟ هذا الكتاب يشبه الحرب ستشعر أثناء قرائته بأنك حزين، غاضب، مرير، كئيب، متشائم ضائع مرتبك.

Languageالعربية
Publishertevoi
Release dateMay 24, 2024
جوني حمل بندقيته

Related to جوني حمل بندقيته

Related ebooks

Related categories

Reviews for جوني حمل بندقيته

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    جوني حمل بندقيته - دالتون ترامبو

    المقدمة

    بدأت الحرب العالمية الأولى مثل مهرجانٍ صيفيِّ للمدافع الرشاشة، الكثير من التنانير المتطايرة والأكتاف

    الذهبية، والملايين تهتف على جوانب الطرقات، بينما أصحاب السمو الأباطرة المتباهون والأمراء والقادة

    .الميدانيون وغيرهم من الحمقى يطوفون عواصم أوروبا على رأس جحافلهم البرّاقة

    لقد كانت الحرب موسم عطاء وسخاء، موسماً للاستعراض والموسيقى، للشعر والأغاني والصلوات البريئة

    أصبح فيها شهر أغسطس نابضاً بالحياة من خلال ليالي المجون الطويلة للضباط الفتيان وفتياتهن اللواتي

    تُركن بعدها للأبد.

    تجاوزت إحدى أفواج المرتفعات القمة في معركتها الأولى يتقدمها أربعون عازف مزمار، مبتعدين

    عمّا يستحقونه في هذه الحياة، وفجأة توقفت الموسيقا وهرب الأمراء وكانت الحصيلة تسعة ملايين جثة، تغير بعدها عويل المزامير إلى الأبد.

    لقد كانت آخر الحروب رومنسية، و جوني حمل بندقيته هي على الأغلب الرواية الأمريكية الأخيرة التي

    كُتبت عن هذه الحرب قبل أن تقرع الحرب العالمية الثانية طبولها.

    للكتاب تاريخ سياسي غريب،  تمت كتابته عام 1938 عندما كانت النزعة السلمية لعنة على اليسار

    الأمريكي ومعظم الوسط، بدأت طباعته في ربيع عام 1939 وتم نشره في الثالث من سبتمبر بعد عشرة أيام من المعاهدة النازية السوفيتية، وبعد يومين من بداية الحرب العالمية الثانية.

    بعد فترةٍ قصيرة وبتوصيةٍ من السيد (جوزيف وارتون ليبينكوت) الذي أراد تحفيز المبيعات تم بيع

    حقوق النشر لـ (The Dailey Worker Of New York City)، عندها أصبح هذا الكتاب نقطة تلاقي

    اليساريين لعدة أشهر.

    بعد الهجوم الذي شُنَّ على ميناء (بيرل هاربور) بدا مضمون الكتاب غير متناسب مع عصرٍ تسوده

    صرخات مزمار القربة(¹)، حيث ظهر السيد (بول بلانشارد) عام 1955 متحدثاً عن رقابة الجيش قائلا:

    "تمَّ حظر عدد من المجلات الناطقة بلغات أجنبية والموالية لهذا المحور المعارض للحرب، بالإضافة إلى

    ثلاثة كتب من ضمنهم الرواية الدّاعية للسّلم لـلكاتب (دالتون ترامبو) ((جوني حمل بندقيته)) التي تم إنتاجها

    خلال معاهدة(عدم الاعتداء) بين هتلر وستالين".

    بما أن السيد (بلانشارد) وقع في خطأ _والذي أتمنى أن يكون غير مقصود_ بما يخص: وقت إنتاج الكتاب

    والعنوان الذي تم انتاج الكتاب على أساسه، فإنني لا أستطيع تصديق رواية حظره.

    بالتأكيد لم يتم إبلاغي عمّا حصل لقد وصلني كثيرٌ من الرسائل من قبلِ رجالٍ يخدمون خارج البلاد

    والذين قرؤوا الكتاب في مكتبات الجيش، وفي عام 1945 وقعت بين يديّ نسخةٌ في (أوكيناوا) بينما كان

    القتال لايزال مستمراً، ولو حدث وأنني علمت بأمر حظره مسبقاً فلا أعتقد أنَّ الاحتجاج كان ليكون أمراً

    مجدياً، ففي بعض الأحيان من الضروري لبعض الحقوق الخاصة أن تُفسح المجال أمام متطلبات المصلحة

    العامة العليا.

    أعلم أنها فكرةٌ خطيرة وينبغي ألّا أذهب بها بعيداً، لكنَّ الحرب العالمية الثانية لم تكن حرباً رومنسية.

    مع تعمق الصراع مُنعت رواية جوني من الطباعة بشكلٍ نهائي، وأصبح عدم توفرها في المكتبات

    قضية حريّات مدنية مع اليمين الأمريكي المتطرف.

    انهمرت عليّ رسائل منظمات السلام ومجموعات الأمهات من جميع أنحاء البلاد بتعاطف شديد منددةً

    باليهود والشيوعيين والتجار الجدد ورجال المصارف الدوليين الذين قاموا بقمع روايتي لبث الرعب في

    قلوب ملايين الأمريكيين الحقيقيين الذين طالبوا بـ سلامٍ تفاوضيٍّ فوريّ.

    العديد ممن راسلني من أصحاب الكلام المنمق والعناوين المثيرة للجدل كان لديهم شبكة اتصالاتٍ امتدت

    إلى معسكرات اعتقال مؤيدي النازية، وقد رفعوا ثمن نسخة مستعملة من الكتاب إلى أكثر من 6 دولارات.

    أزعجني هذا لعدة أسباب أحدهم مالي، فقد اقترحوا عليّ أن أكون قائداً لتجمع وطني شعاره السلام وتوعدوا

    بحملة بريدية للضغط على الناشر من أجل إصدارٍ جديد.

    كان من المستحيل أن أقتنع بهذه السرعة فكتاب جوني من نوع الكتب التي لا ينبغي إعادة طباعتها

    حتى تنتهي الحرب.

    وافق الناشرون بناءً على إصرار الأصدقاء الذين شعروا أنَّ جهود من راسلني قد تؤثر سلباً

    على سيرالحرب، فقمت بإبلاغ مكتب التحقيقات الفيدرالي بحماقة عن أنشطتهم عندما زارني

    زوجٌ من المحققين الذين لم يكن اهتمامهم يكمن في الرسائل بل فيما يكمن داخلي، لدي شعور أنهم

    لا يزالون هكذا حتى الآن وهذا يخدمني بشكلٍ جيد.

    بعد عام 1945 أظهرت النسختان أو الثلاث نسخ الجديدة استحساناً من اليسار العام ويبدو أنه تم تجاهله

    تماماً من قبل الجميع من ضمنهم كلّ تلك الأمهات اللواتي كنَّ متحمساتٍ في زمن الحرب.

    نفذت المطبوعات مرة أخرى خلال الحرب الكورية في ذلك الوقت كنت أشتري النسخ بدلاً من

    بيعها للحكومة التي كانت بدورها ستحولها الى ذخيرة، وهنا انتهت القصة أو بدأت.

    وبعد عدة سنوات عندما قمت بقراءتها مرةً أخرى كان من الصعب عليّ مقاومة الرغبة الملحّة التي تولدت

    بداخلي لتغيير شيء ما هنا أو هناك للتوضيح أو للتصحيح أو للتفضيل أو للقطع.

    في النهاية .. يصغرني الكتاب بعشرين عام وقد تغيرتُ كثيراً بينما هو بقي على حاله... أم هل تراني

    مخطئ؟

    هل من الممكن لأي شيءٍ أن يقاوم التغيير حتى لوكان مجرد سلعة يمكن شراؤها أو دفنها أو حظرها أو

    ذمّها أو مدحها أو تجاهلها لجميع الأسباب الخاطئة ؟ على الأغلب لا.

    كان لكتاب جوني معنى مختلف في ثلاث حروب مختلفة ومعناه الحالي هو ما يتخيله كل قارئ

    وكل قارئ يختلف بشكل مذهل عن أي قارئٍ آخر وكل قارئ بدوره أيضاً يتغير.

    لقد تركته يبقى كما هو لأرى ما هو.

    دالتون ترامبو

    لوس أنجلوس

    25 مارس 1959

    الكتاب الأول الميت

    المقطع الأول

    كان يتمنى أن يتوقف جرسُ الهاتف عن الرنين، فألمه لا يحتمل كلَّ  ذلك الرنين المتواصل طوال الليل، لقد

    كان مريضاً جداً، ليس للنبيذ الفرنسي أيَّ علاقةٍ بذلك فهو شخصٌ لا يحتاج الكثير من النبيذ ليصل حدَّ الثمالة،

    دوارٌ شديدٌ وألم يعصر معدته، يبدو أنَّ لا أحد سيجيب على ذلك الهاتف الذي بدا كأنه يرنًّ في غرفةٍ

    شاسعة المساحة تبلغ حوالي المليونِ ميل، وكأنَّ رأسه أيضاً بحجم تلك الغرفة، اللعنة على ذلك الصوت.

    جرس هاتفٍ لعينٍ بعيدٌ جداً كأنّه في طرفٍ آخرٍ من العالم، يحتاج الشخص عامين للوصول إليه، يرنُّ

    ويرنُّ طوال الليل، يبدو أنّ هناك شخصٌ ملحٌّ يريد شيئاً مهماً  للغاية، فرنين الهاتف ليلاً يدل على حدوث أمرٍ

    هام، أو أنّ على أحدهم أن يعيره انتباهاً، كيف بإمكانهم أن يتوقعوا منه أن يجيب على الهاتف بأيّة

    حال؟ كيف؟ وهو منهكٌ ورأسه ثقيلٌ لو لصقتَ هاتفاً في أذنه لن يشعر به وكأنّه شرب ديناميت.

    لِمَ لا يجيب أحدٌ على ذلك الهاتف اللعين؟

    - مرحباً (جو).

    كان (جو) مريضاً للغاية يتجه كالأحمق نحو غرفة الشحن الليلية ليجيب على الهاتف، والتي هي غرفةٌ

    صاخبةٌ لا يمكن لأحد سماع أيَّ صوتٍ ضعيف فيها كصوت رنين الهاتف، لكنه استطاع سماعه رغم كل

    أصوات النقر الصادرة عن معدات تغليف (Battle Creek)، وحشرجةِ المكناتِ ذاتِ الأحزمة، ودويِّ

    محركات الأفران الدوّارة في الطابق العلوي، ودمدمة الصناديق فوق المكنات ذات المسالك الفولاذية،

    وطقطقة محركاتٍ يتم إصلاحها في المرآب لكي تصبح جاهزة للعمل في الصباح، وصراخ العربات التي

    لطالما احتاجت تزييتاً، لِمَ لم يقم أحدٌ بتزييتها بحق الجحيم؟

    سار (جو) في ممرٍ متوسطٍ بين كومة من الصناديقٍ المليئةٍ بالخبز، شاقاً طريقه وسط النفايات المرمية على

    الأرض ،عرباتٌ وصناديق وكرتون تالف، وأشلاءٌ من الخبز، أولادٌ ينظرون إليه أثناء مروره، بدت وجوههم

    مألوفةً بالنسبة له، أجل. . . ذاك الولد الهولندي الصغير وذاك الولد ذو العرق الأبيض الذي أصيب بطلقٍ

    ناري في عموده الفقري و(بابلو) و(رودي)......جميع أولئك الأولاد كانوا ينظرون إليه بفضول أثناء مروره،

    ربما كانوا يشعرون بخوفه الذي حاول إخفاءه، وأخيراً وصل إلى الهاتف.

    - مرحباً.

    - مرحباً بني، تعال إلى المنزل حالاً

    - حسناً أمي، إنني قادمٌ في الحال

    ذهب مسرعاً إلى غرفة المراقبة الليلة الزجاجية حيث كان (جودي سيمونز) رئيس العمال يراقب طاقمه عن كثب.

    - علي أن أعود إلى المنزل، توفي والدي للتو

    - " يا للهول توفي! إنه خبرٌ سيء يا عزيزي، بالتأكيد هيا أذهب بسرعة. . .(رودي) اجلب الشاحنة وأوصل

    (جو) إلى منزله لقد توفي والده منذ قليل. . . . بالتأكيد عليك الذهاب إلى المنزل!. . . . لو أنّني أستطيع جعل

    أحدٍ من أولئك الأولاد يصفعك ليفقدك وعيك في الخارج. . . .إنه لأمر شديد الصعوبة أيها الفتى هيا أذهب إلى

    المنزل حالاً".

    أدار (رودي) الشاحنة، لقد كان في (لوس أنجلوس) في ليلة ماطرةٌ من شهر ديسمبر قبيل أعياد الميلاد مباشرة

    كانت واحدة من أهدأ الليالي على الإطلاق باستثناء صوت زحلقة الإطارات على الطريق المبلل، وضجيج

    سيارة (الفورد) بين المباني المهجورة في تلك المناطق الفارغة.

    كان (رودي) يدوس على دعسة البنزين ومهما كانت السرعة يستمر في الصدور صوت صليل من خلفهم في

    مكان ما داخل صندوق السيارة الخلفي.

    لم ينطق (رودي) بأيّة كلمة، كان يقوم بالقيادة فقط، عبر (فيغيروا) بين منازل قديمة كبيرة تلتها منازلٌ

    أصغر ثم عدة منازل أخرى وصولاً إلى النهاية الجنوبية، ثم أوقف الشاحنة.

    - شكراً (رودي) سأخبرك عندما ينتهي كل شيء، سأعود إلى العمل بعد يومين.

    - حسناً (جو)، لا بأس، إنه أمرٌ قاسي، أشعر بالأسف، تصبح على خير.

    أدار (رودي) محرك سيارته مسرعاً في ذاك الشارع المنحدر تاركاً خلفه فقاعات من الماء على الرصيف.

    استمر المطر بالهطول، وقف في مكانه للحظة ثم التقط أنفاسه و نظر باتجاه طريقه، حيث كان طريق البيت

    عبر زقاق يمر فوق مرآب خلفي لمنزلٍ من طابقين وللوصول إليه كان عليه أن يدخل في ممرٍ ضيقٍ

    ومظلم واقع بين منزلين متقابلين حيث اجتمعت مياه الأمطار على السطح وانسكبت بينهما متحولةً إلى بركةٍ

    واسعة مصدرةً صوتاً يشبه صوت انسكاب المياه في الخزان.

    امتلأت قدماه بالماء أثناء عبوره وعندما خرج من بين المنزلين المتقابلين رأى أضواءً تنبعث من فوق

    المرآب.

    وعندما فتح باب البيت انبعث هواء دافئ منه كان هواءً ممزوجاً بروائح الصابون والمعقمات التي

    استخدموها عند غسيل والده مع مسحوق يوضع لمحاربة قروح الفراش، كان الصمت يعمُّ المكان، صعد

    الأدراج على أطراف قدميه وحذاؤه مازال مبللاً قليلاً.

    دخل غرفة المعيشة فوجد والده مستلقياً كجثةٍ هامدة والقماشة على وجهه، لقد كان مريضاً لفترةٍ طويلة وأبقوه

    في غرفة المعيشة لأن الشرفة الزجاجية -التي كانت غرفة نوم والده وأمه وأخواته- كانت شديدة الحرارة.

    ذهب باتجاه والدته التي لم تكن تبكي كثيراً ووضع يده على كتفها.

    - هل اتصلت بأحد ما؟

    - نعم، سيكونون هنا في أي لحظة، لكنني أردتك أن تأتي أولاً.

    كانت أخته الصغيرة نائمةً على الشرفة الزجاجية، أمّا أخته الأكبر ذات الثلاثة عشر عاماً كانت لا تزال في

    رداء الحمام منهارةً في زاوية تحاول التقاط أنفاسها وهي تنحب بصمت، ألقى نظرةً عليها فوجدها تبكي

    كأنها امرأة، لم يكن يدرك أنّها لم تعد طفلة، كانت تكبر طوال الوقت ولم يلحظ ذلك حتى رآها في لحظة

    البكاء تلك بسبب وفاة والدها، علا صوت طرقة على الباب في الطابق السفلي.

    - ها قد جاؤوا، دعونا ندخل إلى المطبخ، هذا أفضل.

    واجهوا صعوبةً في إدخال أخته إلى المطبخ، ولكنها في النهاية دخلت بصمت وهي تمشي بصعوبة ووجهها

    شاحبٌ وعيناها جاحظتان ولهاثها كان أكثر من بكائها، جلست والدته على كرسي في المطبخ وضمت أخته

    بين ذراعيها، صعد (جو) على السلالم ونادى بصوتٍ منخفض:

    - ادخلوا.

    فتح الباب رجلان يرتديان أطواقاً متلألئة وصعدوا السلالم حاملين نقالة موتى مصنوعة من الخيزران

    المجدول، فركض مسرعاً إلى غرفة المعيشة قبل وصولهم إليها، وأزاح الملاءات عن وجه والده ليراه قبل أن

    يصلوا إلى أعلى السلالم.

    نظر إلى وجهه المتعب ذي الواحد والخمسين عاماً فقط، طأطأ رأسه وفكر في نفسه:

    أشعر أنني أكبر منك بكثيرٍ، أشعر بالأسف عليك يا أبي، لم تكن الأمور تسير على ما يرام مطلقاً ولم تكن

    لتصبح أفضل، من الجيد أنك رحلت فهذه الأيام تُحتم على الناس أن يكونوا أسرع وأقوى مما كنت عليه أنت

    يا أبي، أتمنى لك ليلةً جيدة وأحلاماً سعيدة، حزني على رحيلك اليوم لا يضاهي أسفي على ماكنت عليه

    البارحة، أحببتك جداً يا أبي، ليلة سعيدة".

    دخل الرجلان إلى غرفة المعيشة، فذهب هو إلى المطبخ ليرى أخته وأمه، أما أخته الصغيرة ذات السبعة

    أعوامٍ ظلت نائمةً على الشرفة، سمع خطاهم وهم يحومون حول السرير وسمع صوت الأغطية التي يتم

    رميها على قدميه، ثمّ سمع صوت نوابض السرير وهي تسترخي بعد ثمانية أشهر من الاستخدام، وصوت

    صرير خيزران النقالة بعد أن حملت العبء عن السرير، ثم بعد الصرير سمع صوت تحرك الأقدام وهي

    تخرج من الغرفة الأمامية ثم وهي تنزل السلالم.

    تساءل ما إذا كانوا يحملون النقالة بشكلٍ أفقي على السلالم أم أنَّ رأسه للأسفل وقدميه للأعلى أو أنّه في

    وضعية غير مريحة بالنسبة له، لو كان والده يقوم بتلك المهمة لكان سيحملها برفقٍ شديد.

    بعد أن أغلقوا الباب خلفهم، رجفت والدته وقالت بصوتٍ مبحوح:

    - إنّه ليس (بيل) قد يبدو لك أنه هو، لكنه ليس هو

    ربت على كتفها، وتمددت أخته على الأرض من جديد، وانتهى كل شيء.

    لمَ لم تكن تلك خاتمة الأحزان إذاً؟ كم مرة يتحتم عليه خوض غمار هذه المأساة؟

    لقد انتهى كل شيء فلمَ لم يتوقف ذلك الهاتفُ اللعين عن الرنين إلى الأبد؟

    شعر بالجنون بسبب صداع ما بعد الكحول وقد رأى أحلام سيئة، سيقوم بالاستيقاظ والرد على الهاتف لاحقاً

    أمّا الآن إن كان لديهم أي اعتبار له فعلى أحدهم أن يقوم بذلك من أجله لأنه متعبٌ جداً وقد سئم ذلك الرنين.

    كل شيء من حوله يزداد خفّة ويتطايرمن أمامه ويشعره بمرضه، عمَّ صمت رهيب، ظلّت الأمور على ما

    هي عليه، صداع يقرع ويطرق داخل جمجمته، لكنه لم يكن صداع ما بعد الكحول، إنه رجل مريض، رجل

    مريض تستحضره الذكريات، وكأنه يستيقظ من المنوّم، لا بد للهاتف أن يتوقف عن الرنين في وقت ما، لا

    يمكن أن يستمر إلى الأبد، فلم يعد بمقدوره تكرار نفس الأفعال كل مرة، يرد على الهاتف ثم يسمع بأنّ والده

    قد مات ومن ثم يعود إلى المنزل في ليلة ممطرة، فقد يصاب بالبرد إذا استمر بفعل ذلك أكثر، ثم إن والده لا

    يمكن أن يموت أكثر من مرة واحدة فقط، ما الذي يحدث؟

    رنين الهاتف هو مجرد جزءٍ من ذلك الحلم، بدا صوته مختلفاً عن أي صوتٍ سمعه من قبل، لأنه صوت يعني

    الموت، صوت بنوع خاص... صوت بخاصيّةً معينة كما اعتاد البروفيسور القدير (إلدريدج) أن يقول لنا

    في صف اللغة الانكليزية:

    إنه نوع خاص من الأشياء التي تبقى ملتصقة بك دائماً لكنّها بلا فائدة تُذكر

    إنَّ جرس الهاتف والمكالمة التي تمت وكل ما يتعلق بذلك اليوم كان مجرد ماضٍ قد تجاوزه تماماً.

    ها قد عاد للرنين مجدداً، يرنُّ بعيداً كما لو أنَّ صداه يتردد في نوافذ عقله، شعر كما لو أنّه مكبل لا يستطيع

    الوصول إليه ولكن الوصول إليه واجب لا مفر منه، ذكره بعزلته ، وكأن المسيح يرنُّ في أعماق عقله وينتظر

    منه إجابة وهو لا يستطيع الوصول إليه، ومع كل رنةٍ يزداد شعوره بالوحشة... شعوره بالخوف.

    عاد ألمه يشتدّ من جديد وبدأ صوت جرس الهاتف يتلاشى، لقد كان مجرد حلمٍ لكنه مستيقظ على الرغم من

    أنه لا يستطيع رؤية أو سماع أي شيء باستثناء صوت هاتفٍ لا يرن فعلياً.

    لقد كان خائفاً جداً وتذكر عندما كان طفلاً وقرأ قصة ( آخر أيام بومبي)(²) واستيقظ بعدها في منتصف ليلةٍ

    مظلمة مذعوراً يبكي ووجه يختنق في الوسادة ظناً منه أنّ قمة أحد جبال (كولورادو) قد انفجرت وأنّ الأغطية حِممٌ بركانية، وأنه دُفن حيّاً وسيحتضر هناك إلى الأبد.

    و الآن عادت إليه حالة الاختناق ذاتها وشعور الانقباض في الأمعاء ذاته من شدة خوفه، كان خائفاً ويحاول

    جمع كلُّ قواه مثل رجلٍ مدفونٍ تحت أرضٍ عميقة ينبش فيها بكلتا يديه بحثاً عن الهواء.

    شعر بالغثيان والاختناق وكاد أن يغمى عليه من الألم، ألمٌ امتد في جسده كالكهرباء هزه بشدّة ومن ثم رماه

    على السريرمرهقاً بلا حراك بجسد يتصبب عرقاً، ثم شعر بشيءٍ آخر،  شعر بغطاء رطب فوقه يحيط بكامل

    جسده، غطاء أشبه بالضمادات، لقد كان ملفوفاً بالضماداتِ من رأسه حتى أخمص قدميه.

    إنه مصاب إذاً!

    تحطم قلبه بين ضلوعه من شدة الصدمة، لقد كان قلبه ينبض لكنه لم يتمكن من سماعه.

    يا إلهي إنه أصمّ إذاً!

    من أين حصلوا على فكرة الخنادق المضادة للقذائف و العديمة النفع تلك؟

    التي من الممكن إن تعرض أحدٌ فيها للقصف أن تصاب بالضرر كل وظائفه السمعية في أذنيه وتتركه أصمًّ

    لدرجة أنه لن يستطيع سماع نبضات قلبه، لقد أصيبَ . . . أصيبَ بشدةٍ، وهو الآن أصمّ ليس بشكل جزئي إنما

    أصمّ بشكلٍ كامل، إنه الآن كالحجر الأصم.

    استلقى لفترة بينما كان الألم ينحسر من جسده، فما حصل معه جعله يفكر ويفكر ملياً دون توقف.

    ماذا عن بقية الرجال؟ ربما لم يحالفهم الحظ، لقد كان هناك العديد من الرجال الجيدين في تلك الحفرة.

    كيف سيبدو الأمر عندما تصرخ في وجه الآخرين وأنت أصم؟ أيجب أن تكتب لهم ما تريد قوله على الورق؟

    لا، هذا خطأ...هم من سيكتبون لك على الورق ولست أنت، الصمم ليس بشيء تفرح به أو ترقص عند سماعه

    إنه أسوأ من ذلك بكثير، عندما تكون أصم تكون وحيداً، تكون مهجوراً.

    إذاً لن يستطيع السماع بعد الآن، حسناً هناك الكثير من الأصوات التي لن يرغب في

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1