Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

لا شئ مما سبق
لا شئ مما سبق
لا شئ مما سبق
Ebook496 pages3 hours

لا شئ مما سبق

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يومٌ واحدٌ فقط غيّر حياة هذا الرجل، فقسَّمها إلى نصفين، وشطره إلى شخصين متناقضين تمامًا..
هل هو طيبٌ أم شريرٌ، ماكرٌ أم ساذجٌ، مسلمٌ أم مسيحيٌّ، جانٍ أم مجني عليه؟! هو نفسه لم يستطع الإجابة على هذه الأسئلة إلا بعد الخوض في رحلة تحبس الأنفاس مع كل حدث يقابله! صليب، وشم، قرآن، كاميرا، طبنجة ميري، كارت ذاكرة، صراخ، ضياع….. وصمت.
جميع ما سبق ليس إلا أيقونات وتمائم تتشابك بها أحداث الرواية التي لا تهدأ، ويأخذنا فيها المؤلف عبر شخوصه الذين يمثلون نماذج تفنَّنت في صنع الفساد والانحلال، من خلال أحداث مُربِكة، مُرهِقة للأعصاب يغلفها الإثارة والتشويق…
Languageالعربية
Release dateMay 30, 2024
ISBN9789776426856
لا شئ مما سبق

Read more from أمير عاطف

Related to لا شئ مما سبق

Related ebooks

Reviews for لا شئ مما سبق

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    لا شئ مما سبق - أمير عاطف

    الغلاف

    لا شيء مما سبق

    أسم الرواية : لا شئ مما سبق

    الطبعة الأولى :يناير 2016

    رقــم الإيــــداع: 2015/23085

    الترقيم الدولي :9789776426856

    تصحيح لغوي:مصطفي السيد سمير

    تصميم الغلاف:كريم أدم

    جَميــعُ حُـقـــوقِ الطَبْــعِ والنَّشرِ محـْــــفُوظة

    © دار دَوِّنْ

    تليفون: 01020220053

    E-mail: info@dardawen.com

    www.dardawen.com

    لا شيء مما سبق

    روايــة

    أمير عاطف

    dawwen

    دار دَوِّن للنشر والتوزيع

    إهداء

    إلى أمى.. التي نهلتُ من معينِ حنانها حتى ارتويت، أدعو الله يا أمي أن يسكنك فسيح جناته، وينزل عليكِ شآبيب رحمته

    إلى أبي.. الذي حقن أوردتي بمبادئه التي أحيا بها، وأسير عليها الآن

    إلى زياد.. ولدي.. لعلّي أجعله فخورًا بي دومًا

    أمير

    يولد العقل كصفحةٍ بيضاء، ومن ثم تأتي التجربة لتنقش عليه ما تشاء.

    - جون ستيوارت ميل، فيلسوف واقتصادي بريطاني، (1806-1873)م

    (1)

    لم يكن بدر الدين الجمالي يعلم حينما شرع في بناء باب زويلة، أنه سيكون بعد عدة قرون مكانًا يحتضن واحدة من أكبر عمليات تسليم الهيروين في مصر!

    بدا اليوم عاديًا جدًا، كأيّ يوم آخر في شارع الغورية المُكتظّ بالمحلات المُعلَّق على أبوابِها ملابس نسائية وكل ما يلزم المُقْبِلات على الزواج. عربات يدوية عليها صناديق، تروح وتجيء يجُرّها صبية إلى الخارج حيث الشارع الرئيسي والعكس. عربة الفول المُلتفّ حولها أناسٌ يتناولون وجبة الإفطار المؤسِّسة ليومهم؛ طبق فول صغير جدًا وطبق سلطة بستة أرغفة! بجواره بائع مشروبات مُثلَّجة؛ تمر، سوبيا ودوم يلتفّ حوله الصغار والكبار. يمرّ من جانبهم أربعة أشخاص مُتجهين إلى مبنى باب زويلة، دلفوا من الباب الصغير لشراء تذاكر لزيارة الأثر من الرجل القابع بالداخل جالِسًا وبالكاد يُغالِب نومه، وعندما لاحظ هيئتهم هبَّ من مكانه مُرَحِبًا بهم ترحيبًا عظيمًا

    تلك المجموعة ليست إلا نبيل الجَيَّار ورجاله؛ يحمل أحدهم حقيبة على ظهره تحتوي على مائة ألف دولار، واقفين بالأعلى بين المئذنتين ينتظرون المعلم جبريل وابنه الذي جاء مُنتَطِقًا في وسطه تحت ملابسه حِزامًا يحتوي على نصف كيلو هيروين. كان المبنى خاليًا من الناس باستثناء عامل نظافة انتهى من جمع القمامة وألقاها من أعلى المبنى!

    بين نظرات متبادلة يشوبها بعض من الريبة، صافحوا بعضهم البعض قبل أن يبدأ جبريل بالحديث: إشمعنى المكان ده اللى اخترته نتقابل فيه يا جيَّار؟! ماكانش فيه مكان غيره؟

    - إنت هنا يا معلم جبريل في أأمن مكان في مصر، استحالة حد يكتشف إن يتم فيه صفقة زي دي

    نظر جبريل وابنه وقد نالتهم الدهشة قائلا وهو يضرب كفًا بكف: إزاي يا عم ده احنا في عِبّ الحكومة كلها!

    - ماهو عشان كده باقول لك إن ده أأمن مكان. آخر واحد من الحكومة طلع المبنى ده كان في عهد محمد علي

    قالها الجيَّار بابتسامة تنم عن شعورٍ جارفٍ بالأمان، قبل أن يسمعوا حفيف خطواتٍ حولهم، فخرج من المئذنتين اليمنى واليسرى ثمانية أشخاص بزي عساكر أمن مركزي، كانوا قابعين بانتظارهم منذ ساعة يراقبونهم بالأعلى، حاصروهم بعد أن أحكموا عليهم الفخ، مُشهرين أسلحتهم، فتمكنوا في غضون ثوانٍ من السيطرة عليهم وتقييدهم، وضبط الأحراز التي بحوزتهم، بالتزامن مع خروج المقدم خالد سليمان الكحكي من المئذنة اليمنى. عاقدًأ يديه خلف ظهره وراح يتفرس وجوههم قبل أن تنطلق منه ضحكة ساخرة دوت في المكان قائلا لجبريل:

    - في الحقيقة يا معلم جبريل كلام نبيل الجيَّار مش دقيق، الظاهر إنه ماذاكرش تاريخ كويس، ع الأقل تاريخي

    ذُهِلَ الجيار حينما رأى المُقدم خالد وظل فاغرًا فاه من هول المفاجأة، غير مُصدق ما تراه عيناه. نفس رد الفعل ارتسم على وجه جبريل فاستطرد خالد ساخرًا:

    - مالك يا جيَّار؟! مستغرب من إيه؟! (استحال وجهه فجأة إلى العبوس وأردف بصوتٍ عالٍ). إنت فاكر يا روح أمك إن ممكن يكون فيه بيننا اتفاق وصفقة بجد؟! (التفت إلى جبريل موجهًا كلامه له) على فكرة يا معلم، أنا هاقول لك حاجة عشان أخلَّص ذمتي من ربنا، نبيل الجيَّار باعك لنا

    نظر له جبريل مُنصِتًا مُستفهِمًا قاطبًا جبينه، يتطاير الشرر من عينيه، فأردف خالد مُتهكمًا بانتشاء:

    - أيوه باعك لنا والله، وسَلِّمَك ولا مؤاخذة تسليم أهالي، يغريك تعمل معاه صفقة ويجيبك هنا عشان نقبض عليك مقابل مية وخمسين باكو. الله أعلم باللي بينكم، مايهمنيش ومش عاوز أعرف السبب في إنه يبيعك. المهم ابقوا اتحاسبوا مع بعض في سجن وادي النطرون بقى

    قاطعه جبريل في هدوء: الكلام اللى باسمعه ده بجد يا نبيل يا جيَّار؟ آه كلب يابن الخاينة، إزاي تاه عن بالي إنك..

    قاطعه الجيار: إوعاك تصدقه يا معلم جبريل. ده عاوز يوقعنا في بعض وحياة رحمة أبو...

    قاطعه خالد: وحياة رحمة أبوك لأدخلك السجن ومش هتشوف الأسفلت تاني. رجال الشرطة الشرفا يا نبيل استحالة يحطوا إيديهم في إيدين مهربين وحرامية، ماتصدقش كلام قنوات الدش

    كان ذلك بالتزامن مع دوي سارينات سيارات الشرطة بالأسفل لتكسر هدوء المبنى قبل أن تنزل منها قوة من القسم للاقتحام. لم يستغرق الأمر منهم سوى دقائق تم فيها القبض عليهم جميعًا دون أيّ مقاومة تذكر، بينما نظر إلهيم خالد نظرة تشفِ واضحة ممزوجة بثقة في النفس

    ******

    الخميس 29 سبتمبر 2011 - الساعة 10:43 صباحًا

    في قسم الشرطة مُتهتِّك الجدران. ذي الطابقين، الأول لخدمات المواطنين كعمل محاضر تُلقى بعد ذلك في الأدراج بعد دفع 3 جنيه و45 قرش للمحضر، أو للكشف على صحيفة حالة جنائية فيش وتشبيه. بينما الطابق الثاني الذي في واجهته مكتب مأمور القسم، وعلى يمينه مكتب الاستيفاء المثبت في أرضيته أربعة جانشات مُقيَّد في ثلاثة منهم ثلاثة (مُسجَّلي خطر) قد تلقُّوا العديد من الصفعات وبعض اللكمات على وجوههم مصحوبة بسيلٍ من السباب والشتائم كي يعترفوا بتفاصيل واقعة سرقة سيارات، لم يعترفوا حتى الآن لكنهم سيعترفون، آجلاً أم عاجلاً

    في المكتب المقابل الُمَعَّلق بجانبه يافطة مطموس بعضها، كانت نحاسية لامعة يومًا ما، مكتوب عليها المقدم خالد الكحكي الجالس في مكتبه ممسكًا بسماعة هاتفه، وباليد الأخرى خنجرًا يمنيًا

    - يا أسطى زينهم إحنا كنا حلوين مع بعض لحد ما ولاد الـ (...) اتملعنوا وطمعوا وكانوا عاوزين يلهفوا فلوس الكارتة لحسابهم، وإنت عارف إن كله إلا إن حد يستهفأني. لا الكلام ده كان إمبارح قبل ما أحذرهم مرة واتنين وتلاتة، فلازم يتربوا عشان يعرفوا إن اللي يفكر يضحك على خالد الكحكي هيزعل ويشيل أوبح، يومين تلاتة وهيطلعوا متربيين بعد ما يرجعوا فلوس الكارتة مضروبة في أربعة، دي فلوس الدولة ما إنت عااااااااارف. آمين، يومين تلاتة. سلام

    دخل عسكري مذلولاً منكسرًا كمراهقة هُتِك عرضها للتوّ، مُمسِكًا بكيس أسمر يحتوي على ثلاثة أرغفة فول، بصلتين كبيرتين وثلاثة قرون فلفل أخضر، وضعها على مكتبه بعد أن ألقى التحية الميري

    - الفطار سعاتك يا خالد بيه

    - وفين الشاي؟! من إمتى يابني الفطار بيجيلي من غير الشاي؟ سأله وهو يضع سماعة الهاتف

    - الشاي جاي ورايا سعاتك

    لم يُكَمِّل جملته حتى دخل عسكري آخر لا يقل انكسارًا عن زميله، مُمسِكًا كوب شاي بيدٍ مرتعشة، ووضعها على مكتبه قبل أن يلقي تحيته هو الآخر، بنبرةٍ أعلى: الشاي يا خالد بيه، آسف ع التأخير سعاتك

    - العيال اللي في الاستيفا اعترفت ولا لسه؟ سأله وهو يخرج الساندويتش، فأجابه وما زال رافعًا يده عند حاجبه: خلاص يا باشا واحد منهم اعتـ..

    قاطعه بعصبية مصدرًا صوتًا من مؤخرة أنفه، بعد أن قضم قضمة من الساندويتش: مين ابن العـ... اللي واقف تحت على عربية الفول؟ ومين اللي عمل لي السندويتشات دي؟!

    - سـ.. سعـ.. سعادتك اللي عملها الواد قِدرة

    - عَرَّفته إنها ليا؟

    - آه سعادتك

    طب روح هاتهولي من قفاه هو والكلب اللي معاه

    خرج العسكري بسرعة البرق، فاصطدم كتفه عند الباب بكتف عسكري آخر يدخل، مقيدة يده بيد مُسجَّل خطر:

    - تمام يا فندم، وليد دبرياش أهو سعادتك

    نهض خالد وبصق القضمة التي قضمها في وجه دبرياش، كان للعسكري الذي يقيده نصيب منها

    - إنت فاكر يا روح امك أنا قاعد في مكتبي وماعرفش كام عربية سيرفيس طِلعِت، وعَمَلِت كام دور؟ بتستلطخني يله؟!

    رد عليه دبرياش وهو يمسح وجهه بانكسار وتقزز لم يجرؤ على إظهاره:

    - يا سعات الباشا وحياة أمي هي دي كل الفلوس اللي لميناها، إلهي أتفرم ما خدت ملين في جيبي

    - تاااااااني بتكدب؟ دخلّوه الإنعاش وخلوه يستناني، أنا هانعش أمك يابن الكدابة

    - لا والنبي يا سعادة الباشا، كله إلا الإنعاش، أبوس رجلك يا خالد بيه آخر مرة، وحياة ربونا ما هتتكرر تاني، والنبي يا خالد بيه لتسامحني

    - بكرة تجيب الإيراد مضروب في أربعة، وعلى الله تتكرر تاني، المرة دي أنا هاعمل خاطر للأسطى زينهم، وللوسخة أمك اللي متبهدلة طول اليوم قدام نصباية الشاي . إقلع فانلتك دي، أمسح بيها مكتبي والمكاتب اللي في الدور كلها، والترابزين لحد تحت، وهاستناك بكرة

    - أوامرك يا خالد باشا

    بدأ دبرياش في مسح المكتب كخادمة مُتمَرِسة، بينما دخل عسكري ومعه قِدرة وصبيّه. فاستقبلهم خالد بوابل من السباب:

    - الفول ناقص ملح ليه يا روح اللي جابتك، والبصل مش متقطع. هه؟ عملتها قبل كده وكنت عامل زي المرة قدامي عشان أعديهالك، المرة دي مش هاعديهالك

    - عليا الحرام من مراتي يا خالد باشا شنتوتشاتك اتبدلت مع شنتوتشات زبون تاني غصبن عني، عليا الحرام من مراتي ما كان..

    قاطعه خالد بهدوء.

    -روح سيأ الحمامات يا روح أمك، والكلب ده يطلع يقف مكانك ع العربية، ويجيب لي سندويتشات تتاكل، وإنت بعد ما تخلص مسح الحمامات هتتحبس 48 ساعة، المرة دي يومين، المرة الجاية هالبِّس أمك جُنحة

    خرج الصبي كعبد أعتق توًا من سوق الرقيق، بينما توسَّل قِدرة:

    - حاضر يا وليد بيه آنا آسف مش هتتكرر تاني، بس وحياة الغاليين عندك بلاش الحمامات

    - كلمة تانية وحياة الغاليين عندي هاخليك تلحس الحمامات بلسانك مش تمسحها بس. غور من وشي

    خرج الجميع من غرفة مكتب المقدم خالد، ما عدا العسكري الذي أحضر الشاي ولا يزال رافعًا يده عند حاجبه، نظر له خالد رافعًا حاجبيه فاتحًا كفَّه باندهاش . ما تمشي يابني!!

    أرجع بعدها رأسه للوراء، بعد أن أشعل سيجارة وزفر دخانها بقوة، ثم مسك هاتفه المحمول وأجرى مكالمة قائلا:

    - إيه يا سِيد أمك. بكرة في نفس المكان قبل الصلاة

    ******

    مستشفى قصر العيني

    طُرقة طويلة بها نوافذ مكسورٌ معظم زجاجها، حوائطها مُهترِئة، متآكلة، مطموس طلاؤها منذ زمن. تجلس سيدة نائحة واضعة يديها على رأسها، تهتزّ ذات اليمين وذات الشمال، تُهمهم بكلامٍ ليس مفهومًا وحولها الأقارب يواسونها، أناس آخرون يستندون إلى الجدار جالسين القرفصاء؛ مرضى، بأجسادٍ واهنة لا تخلو من مرض، بصحبة مرضى آخرين لا تخلو أجسادهم أيضًا من مرض. ما بين مرضى السُكَّري، فشل كلوي، قلب. وأمراض أخرى. لا يملكون إلا عشمًا في الانتظار خمس أو ست ساعات فقط. ليأتي طبيب يشخصهم في دقيقتين ويرحلوا بعد أن يكتبوا الدواء اللازم لهم

    بآخر هذه الطرقة يسارًا توجد غرفة تخزين الأدوية المرصوصة داخل دواليب مشاع لأي شخص سواء يعمل بالمستشفى أم لا. بجانب أحد الدواليب سرير تتأوه فوقه ممرضة يعتليها أحد الأطباء الذي أخذ يُقبّلها ويعبث بجسدها في نهمٍ حتى انتهى منها ونهض، نهضت هي الأخرى بعدما عدلت من ملابسها وانحنت لتلقط البالطو من الأرض لترتديه مرة أخرى، في الوقت الذي وضع فيه الطبيب ثلاثين جنيهًا في جيبها وخرج فخرجت وراءه مُمسِكة بحقنة أنسولين كانت من المفترض أن تحقن بها أحد المرضى منذ نصف ساعة!

    كانت شادية غنيم الممرضة امرأة ثلاثينية العمر، قصيرة الطول، خصيبة القوام. ذات نهدين ناضجين شامخين، شبعا من نظرات المرضى وبعض الأطباء، مؤخرة مُمتلِئة رجراجة، كانت السبب في حصولها على جواب تثبيت بعد شهرٍ واحدٍ فقط من عملها هناك. داخل رأسها جوار المُخيخ يرقد جزء صغير جدًا بحجم حبة الأرز يضيء تلقائيًا حينما ترى رجلا وسيمًا أو مربوعًا ذا بنية قوية، تشعر بالإعجاب به والرغبة في التهامه، بغض النظر عن عمره أو حالته المادية أو حتى الطبقة التي ينتمي إليها

    بصرف النظر عن ستمائة جنيه تتقاضاهم من العمل مع طبيبة نساء وتوليد تزاول المهنة دون رخصة، تتقاضى أيضًا من المستشفى أربعمائة جنيه شهريًا، بالإضافة لنحو خمسمائة جنيه رسوم المرور على جسدها من حين لآخر، وخمسمائة جنيه بقشيشًا من أهالى المرضى، فتستطيع الحصول على أي شيء ترغب فيه. كـ تابلت اشترته منذ أسبوعين رغم أنها ليست بحاجة إليه! ولكن فقط لتكيد به ممرضة أخرى

    تنتهي اليوم من نوبتها في تمام الساعة الواحدة، تلتقي بعدها الأسطى حنفي الميكانيكي الذي سيأخذها بسيارة أحد زبائنه للسينما، ثم يوصلها إلى عيادة طبيبة النساء التي تعمل معها من ثلاث إلى خمس ساعات يوميًا قبل أن تستقل توك توك إلى بيتها الكائن في منطقة رملة بولاق بإحدى البيوت القديمة التي اغتصبها الزمن

    تقطن شقتها بمفردها بعد أن سُجِنَ والدها الذي قتل والدتها وعَمَّها حينما عاد ذات مرة مبكرًا عن ميعاده فوجدهما سويا على فراشه فالتقط سكينًا وذبحهما

    ******

    الجُمعة 30 سبتمبر - الساعة 11:17 صباحًا

    بأحد مقاهي شارع المُعِز لدين الله الفاطميّ، المرصوفة طُرقاته بأحجارٍ شبه مُنتظمة، تنتشر رائحة البخور الهندي مختلطة برائحة العِطارة، فيَختلِطان برائحة المِسكْ، ليختلطوا جميعًا برائحةِ معسِّل تفاح تفوح من شيشة نُحاسيّة يمسك بلَيَّها المقدم خالد، مُرتديًا ملابس كاجوال ونظارة راي بان سوداء، وجواره كوب شاي مُستقِر على منضدة ساندًا مرفقه عليها، وحقيبة جوار قدميه التي يهزها بانتظام مُنتظرًا فاروق أبو جريشة

    وُلِدَ المقدم خالد الكحكي وفي فمه أكثر من مجرد ملعقة من ذهب، بل سبائك من ذهب. عائلته مُتَنَفِّذة ثرية؛ والده سليمان الكحكي، سفير سابق لمصر في عدة دول إفريقية كالكاميرون وجنوب أفريقيا والسودان. ثاني أو ثالث أغنى شخص في عائلة الكحكي قديمة المنشأ، عريقة المنبت، الممتدّة جذورها في عدة محافظات كجذور شجرة سدر في غابة استوائية. والدته الدكتورة عليّة بدر، رئيسة قسم التاريخ بجامعة حلوان، هي أيضًا سليلة عائلة من أكبر عائلات الزمالك

    له أخ يدعى محمود، يصغره بثلاثة أعوام، طبيب نفسي مُتمرِّس، سافرَ خارج البلاد بعدما تزوج من فتاة فاتنة الجمال، أحبها حينما رآها في أحد الإعلانات

    طويلُ النِّجاد، قويُ البنية، عريض الكتفين ومُنتفِخ الصدر. صلب، لا أباليًا، رغم أنه تخطى عتبة الأربعين منذ عامين، لكن هيئته المهيبة تنم عن شابٍ ثلاثينيّ، يتردد دومًا على مراكز كمال أجسام. ذو شعرٍ أسودَ كثيفٍ، لا يتخلَّله سوى بضع شعيرات بيضاء، شاربٌ كث يقف عليه أربعة طيور جارحة. شامة ثقيلة عند طرف حاجبه الأيسر. عينان بُنِيّتان حادتان، قويّتا النظر، تتألقان بذكاءٍ نادرٍ ماكرٍ، يزداد تألقهما حينما يحقق مع أحد مُسجّلي الخطر ويستجوبه، قاسي النظرات، يكفيه النظر بثباتٍ إلى أيّ شخص من ثلاث إلى خمس ثوان أثناء تحدثه ليكوِّن تقريرًا في ذاكرته عن نواياه، أو عمَّا يجوس في مخيلته

    دخل كلية الشرطة عن طريق الواسطة بالإضافة لرشوة عشرين ألف جنيه، كان قبل ذلك مثل الفتاة الخجولة، لكنه بعد وقتٍ ليس بكثير بدأ يكتسب ثقته في نفسه، ويعي قيمة زيِّ ضابط شرطة يرتديه ويسير به في الشارع وسط العامة فيرهبونه ويبجلونه. ويعامله بعضهم معاملة خاصة بإذلالٍ ومهانة

    بعد التخرج أصبح تدريجيًا فظّ القلب، سليط اللسان، إثر تعامله مع المجرمين والسوابق. يتحدث معهم بلغتهم وكأنه واحد منهم، أنفه لا تخطئ رائحة الكذب، تستشعره عن بُعد أميال. ذكاؤه أعلى من معدّلاته الطبيعية. كان الأذكى بين كل أفراد دفعته، الأمر الذي جعل اسمه يتردد كثيرًا بين قادة الكلية فيشيدون ببراعته ودهائه

    بجانبه الأيمن جرح قطعي بطول تسعة سنتيمترات عمره ثمانية أعوام؛ كان واقفًا بسيارته أمام أحد المحلات مُنتظِرًا زوجته وأولاده قبل أن تمرّ من أمامه سيدة مُنتقبة تحمل طفلاً رضيعًا سقط منها فجأة، فلطمت على وجهها ثم انحنت لتلتقطه مرة أخرى واستقلت تاكسي ورحلت. لفت انتباهه أن الطفل لم يبكِ حين سقط ولم يصدر منه ولو صرخة! طارد التاكسي حتى لحق به في إشارة مرور، فانتبهت له السيدة التي نزلت بالطفل وركضت مُسرعة، نزل من سيارته تاركًا إياها عند الإشارة، أطلق ساقه للريح واندفع وراءها راكِضًا حتى لحق بها وأحكم قبضتيه عليها فسقط النقاب واكتشف أنه رجل استلَّ من جيبه مطواة قرن غزال غرزها في جنبه، فتجمَّع الناس وهو لا يزال - رغم جرحه الغائر - مُمسِكًا به وبالطفل؛ الذي كان عبارة عن جثةٍ لطفلٍ ميت مُسبقًا وتم تفريغه من أجهزته واضعين بدلا منها 4 كيلو هيروين ثم أعادوا خياطته مرة أخرى

    ثمة آثار جرحٍ آخر عمره خمسة أعوام في فخذه الأيمن، نتيجة لواقعة حدثت له آنذاك، بينه وبين أحد البلطجية الذي صادف وجوده في ميدان العتبة يتابع إزالة الباعة الجائلين، فهجم عليه وأصابه في فخذه بآلة حادة، انتقامًا لصفع والده وبعثرة كرامته يومًا أمام كل بائعي السوق. تعافى خالد من هذه الإصابة بعد أسبوعين لا يفكر خلالهما سوى فيما سيفعله بهذا الشقيّ، ليضبطه في منطقته ويلقنه درسًا دسِمًا بَتَرَ فيه إبهامه وكسر صفَّ أسنانه السفليّ بلكمتين، قبل أن يزج به في السجن بتهمة لم يفعلها. ومنذ ذلك الوقت وهو يقضي مدة عقوبة داخل جدران السجن، يفكر كيف سينتقم من خالد

    بعدما فُتِحَت السجون أثناء ثورة 25 يناير، وهرب آلاف المساجين منها، استطاع أن يُعيد ثلاثة وثمانين سجينًا مرة أخرى، وأكثر من مائتي وخمسين قطعة سلاح قد تم سرقتها من القسم وقت الانفلات الأمني

    له عدة علاقات نسائية، تعرف زوجته بعضا من هذه العلاقات، وفكرت أكثر من مرة أن تطلب منه الطلاق أو أن تخلعه، لكنها تأبى ذلك خوفًا على مستقبل أولادها، بالإضافة إلى الخوف من عودتها إلى بيت أهلها متوسطي الحال وترك أمواله للعاهرات، التي من بينهن إحدى صديقاتها في النادي، والتي تزوجها عُرفيًا لمدة أسبوع سافر خلاله شرم الشيخ

    بينما يستبدل عامل المقهى الفحم، نظر خالد - واضعًا قدمًا على الأخرى - إلى ساعته ثم أمسك هاتفه بانفعال قائلا:

    - إيه يا روح أمك هو أنا هاستناك كتير؟؟ طب اخلص!

    ******

    في نفس التوقيت.

    على الرغم من سطوعِ الشمس في الخارج، لكن إغلاق النافذة وانسدال الستارة غامقة اللون عليها، جعلا الغرفة مُظلِمة تمامًا إلا من ضوءٍ منبعثٍ من شاشة لاب توب موضوع على ساقين متألقتين، متأنقتين، عاجيتين، ممددتين على سريرٍ مملوء بدباديب وقلوب حمراء إسفنجية كافية لافتتاح متجر هدايا

    بدا دخان السيجارة جليًا في الضوء المنبعث من الشاشة إلى وجه داليا خالد، التي تسحب أنفاسًا تعقبها أنفاسٌ تنفثها بعصبية، فتتصاعد أعمدة الدخان بانسيابية وببطء إلى السقف

    داليا، ذات السبعة عشر عامًا، فتاة جامعية مُتحررة، تدرس في السنة الثانية بكلية العلوم جامعة عين شمس، ذات شعر كستنائيّ اللون، وعينين فستقيتين. مُرتدية بادي أزرق بحمَّالات يتدلى تحته تفاحتان يانعتان متحررتان من حمالة صدر، وشورتا قصيرا للغاية. تحرص على أن يكون وزنها دائمًا خمسين كيلو، لا يزيدون جرامًا ولا ينقصون!

    بجوارها مطفأة سجائر شهدت محق ثلاث عشرة سيجارة انتظارًا للرابعة عشر التي في يديها، تنفث أنفاسها المُضطربة كدواخلها؛ بسبب أحمد الذي دخل حياتها منذ شهرين، تعرَّفت عليه بإحدى المظاهرات بميدان التحرير. غَيَّر حياتها وغَيَّرها، حثّها على تغطية شعرها والانتظام في الصلاة، أخبرها أنه يغار عليها ويخشى أن يتحرش بها أي شاب في مظاهرة أو خارج مظاهرة، فرحت جدًا لذلك، وبدأت تدريجيًا بفعل بعض هذه الأشياء

    ظلَت تنتظره بينما تتصفح الـ فيس بوك، حاولت الاتصال به كثيرًا لكن هاتفه مغلق، قلقت بشأنه وكاد القلق يعتصرها لأن اليوم فيه عدة مسيرات من بينهم مسيرة يقودها، وتخشى عليه من وجود مُندسِّين. ظلَّت هكذا إلى أن اتصل بها أخيرًا، وأخبرها أنه بخير لكنه يشعر أن ساقه كُسرت أثناء هروبه من قوات الأمن، لكنه بخير على أية حال. لم تقتنع، وأخبرته أنها ستحاول أن تذهب إليه في ميدان التحرير، أنهت المكالمة قبل أن تسمع صوت أقدام والدتها غادة جوهر التي حاولت فتح باب غرفتها فوجدته مُغلقًا من الداخل

    - داليا.. داليا

    لم تلق ردًا فأمسكت هاتفها لتتصل بها وتوقظها، لكن حال دون ذلك مكالمة وردتها فأجابت:

    - آلو

    - وحشتيني جدًا يا غادة. فماقدرتش ماتصلش بيكي

    - وبعدين بقى؟! أنا مش قلت لك مليون مرة يا أمجد ماتتصلش بيا فجأة كده من غير ما أكون عارفة قبلها؟ افرض دلوقت خالد جنبي؟! وخصوصًا إن النهارده الجمعة!

    - عادي يعني.. كنتي هتعملي زي المرة اللي فاتت وتقولي الرقم غلط وخلاص!

    الكابتن أمجد الذي يدير أحد أكبر مراكز الساونا والجيمانيزيوم بالمهندسين، ومُدَرِّب كمال أجسام. زير نساء ولا مشكلة لديه في أن يكون لديه أربع أو خمس علاقات في آنٍ واحد. من بين هؤلاء النساء كانت غادة

    منذ أن رآها وهو يحاول مرات ومرات أن يقيم علاقة معها فيصطدم إلحاحه بامتناعِها الممزوج بغنجِ يتيح له الإلحاح مرتين أخريين وستوافق، ظل يطاردها إلى أن جلست معه ذات مرة في مطعم بالمهندسين عبَّر فيها بعيونٍ جائعة ولسانٍ معسول عن إعجابه بها ورغبته القوية في قضاء ليلة معها، فوافقت أخيرًا وذهبت معه إلى شقته، شربا وتسامرا ورقصا سويًا على أنغام موسيقى

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1