Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

عالم صوفي: رواية حول تاريخ الفلسفة
عالم صوفي: رواية حول تاريخ الفلسفة
عالم صوفي: رواية حول تاريخ الفلسفة
Ebook951 pages7 hours

عالم صوفي: رواية حول تاريخ الفلسفة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

«عالم صوفي» نسيج لغز ساحر، تدهش القارئ وتوسع آفاق معرفته وتبهجه. حبك فيها غاردر قصة الفلسفة الغربية مستكشفاً غموضها ومسلطاً الضوء على ألغاز الحياة والعالم من حولنا.
نقلت رواية «عالم صوفي» إلى 59 لغة، وما زالت إلى الآن أعظم إنجاز أدبي في تاريخ النرويج.
«صيغت عالم صوفي لتكون كتابًا كلاسيكيًا شعبياً فريداً من نوعه. هي من ناحية لغز محيّر ومشوق، ومن ناحية أخرى هي مقدمة واضحة وسهلة إلى الفلسفة والفلاسفة... » التايمز.
« إن الميزة الوحيدة اللازمة لكي يصبح الإنسان فيلسوفاً جيداً هي قدرتة علي الدهشة»
«إنني أتغير باستمرار، أنا لست اليوم نفسي قبل أربعة أعوام، إن مفهومي عن نفسي هو كمزاجي، يتغير من لحظة لأخرى ويحصل لي أن أرى نفسي كائناً جديداً بشكل جذري.»
Languageالعربية
PublisherDar Al-Muna
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789189940550
عالم صوفي: رواية حول تاريخ الفلسفة

Read more from جوستاين غاردر

Related to عالم صوفي

Related ebooks

Related categories

Reviews for عالم صوفي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    عالم صوفي - جوستاين غاردر

    عالم صوفي

    جوستاين غاردر

    عالم صوفي

    رواية

    حول تاريخ الفلسفة

    النص العربي بقلم:

    حياة الحويك عطية

    جوستاين غاردر

    حقق جوستاين غاردر (1952) نجاحًا عالميًّا عظيمًا من خلال رواياته المتعددة التي تخاطِب الأطفال والناشئة والبالغين. نُقلت كتبه إلى ما يزيد عن خمسين لغة، وبِيعت منها ملايين وملايين النسخ. يستمد غاردر الإلهام في مؤلفاته من تساؤلاته عن الوجود التي تشكل دائمًا الفكرة الأم في مؤلفاته. وتحظى المواضيع الفلسفية التي يناقشها باهتمام القرّاء مهما اختلفت أعمارهم.

    حصل غاردر على انطلاقته المميزة سنة 1991 مع صدور رواية «عالَم صوفي» التي أصبحت سنة 1995 الرواية العالمية الأكثر رواجًا في شتّى أنحاء المعمورة.وتسلم العديد من الجوائز الأدبية سواء في موطنه أم خارجه. وفي سنة 2005 منحه ملك النرويج وسام سانت أولاف، ومنحته كلية الثالوث في جامعة دبلن دكتوراه فخرية.

    طبعة خاصة لمصر عام 2020

    رقم الإيداع: 2020/13248

    ISBN 978-977-6633-32-2

    Arabic edition © Bokförlaget Dar Al Muna AB, 2020

    Original title in Norwegian:

    Sofies verden

    © H. Aschehoug & CO. Oslo, 1991

    All rights for Arabic language © Bokförlaget Dar Al Muna AB, 1996

    Cover © Quint Buchholz

    Typesetting: Joachim Trapp

    19 شارع هدى شعراوي

    من شارع طلعب حرب – وسط البلد – القاهرة

    محمول 00201004367744

    هاتف 23926249 / 00202

    khaled_Tanmia@hotmail.com

    Bokförlaget Dar Al-Muna AB

    Box 127, 18205 Djursholm, Sweden

    www.daralmuna.com

    الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة. غوته

    حديقة عدن

    ...في لحظة محددة كان لا بد

    أن ينبثق شيء من العدم...

    عادت صوفي أمندسون من المدرسة، وكانت قد قطعت شوطًا من الطريق برفقة جورون. تحدثتا عن الإنسان الآلي. وكانت جورون ترى أن الدماغ البشري هو جهاز منظم متطور أما صوفي فتشعر أنها لا توافقها الرأي. لا يمكن أن تحصر الكائن البشري بمجرد آلة. أليس كذلك؟

    عند الوصول إلى مقربة من المركز التجاري، ذهبت كل واحدة منهما إلى جهة. فقد كانت صوفي تسكن زقاقًا في آخر حي سكني، وتحتاج تقريبًا، لضعفي الوقت الذي تحتاجه جورون للذهاب إلى المدرسة. منزلها يبدو وكأنه في آخر العالم، ذاك أنه ما إن تنتهي الحديقة حتى تبدأ الغابة.

    انعطفت إلى زقاق النّفل. وكان في آخره منعطف على شكل زاوية قائمة، «منعطف القبطان»، الذي لا يُصادَف فيه عابر إلا أيام السبت والآحاد.

    كان اليوم هو الأول من أيار. وفي بعض الحدائق يتكاثف النرجس عند أقدام الأشجار المثمرة، وتكتسي أشجار الحور بوشاح من الأخضر الطريّ.

    ألم يكن من الغريب رؤية كيف يأخذ كل شيء في النمو، في هذه المرحلة من السنة؟ ما الذي يسمح لمجموع النبات بالانبثاق من الأرض الجامدة لمجرد أن يجلو الطقس، وتختفي آخر آثار الثلج؟

    عند عبورها باب الحديقة ألقت صوفي نظرة على صندوق البريد. الذي عادة ما يكون محشوًا بنشرات إعلانية إضافة إلى بضعة مظاريف مُرسلة إلى أمها. وعادة ما كانت تضع ذلك كله على طاولة المطبخ، قبل أن تصعد إلى غرفتها للقيام بواجباتها، وكان يحصل، من وقت لآخر، أن تصل كشوفات بنكية باسم أبيها، لكن لا بد من القول إنه لم يكن أبًا كسائر الآباء. فهو قبطان على ناقلة نفط، مما يجعله غائبًا كل أيام السنة تقريبًا. وعندما كان يمضي بعض الأيام على اليابسة، كان يتسكع بالبابوج ويحاول أن يكون مفيدًا... لكنه يصبح عندما يبحر، شخصية بعيدة جدًا.

    هذا اليوم لم يكن في صندوق البريد إلا رسالة صغيرة، وكانت موجّهة لصوفي، كانت الرسالة معنونة ببساطة:

    صوفي أمندسون

    3- زقاق النفل.

    لا شيء آخر، أي إشارة عن المرسل، ولا حتى طوابع.

    استعجلت صوفي إغلاق البوابة خلفها وفتحت المغلف، فلم تجد في داخله إلا ورقة صغيرة، لا تتجاوز مساحتها مساحة الظرف، وعليها جملة واحدة فقط: من أنت؟

    لم تكن الورقة تقول صباح الخير ولا من طرف من أُرسلت. فقط هاتان الكلمتان وبعدهما ثلاث علامات استفهام.

    نظرت من جديد إلى المغلف. لكن إذا كانت هذه الرسالة قد وُجّهت إليها... فمن الذي دسها في صندوق البريد؟

    ركضت صوفي نحو المنزل ذي الخشب الأحمر، وقبل أن تقفل الباب بالمفتاح، كان الهر شيريكان قد قفز، كالعادة، من بين الأدغال، وانسلّ حتى درج المدخل، واستطاع أن يندس إلى الداخل

    -بسْ، بسْ.

    عندما تكون أم صوفي متعكرة المزاج، قد يحصل أن تنعت المنزل بالحظيرة الحقيقية. والحظيرة هنا مجموعة من حيوانات مختلفة، وبهذا المعنى كانت صوفي فخورة بحظيرتها. فقد أعطيت أولاً وعاءً زجاجيًا فيه ثلاث سمكات حمراء: القرط الذهبي، ليلى الحمراء وبطرس القرصان، ثم حصلت على كري كري وغري غري. وبعدها السلحفاة جوفندا، وأخيرًا الهر شيريكان. وهو هر مرقط كالنمر. لقد قُدمت لها كل هذه الحيوانات تعويضًا عن غياب أمها التي تعمل إلى وقت متأخر، وأبيها البعيد دائمًا في الطرف الآخر من العالم.

    تخلصت صوفي من حقيبتها المدرسية، وقدمت الطعام لشيريكان. ثم جلست في المطبخ والرسالة الغامضة في يدها.

    - من أنت؟

    أي سؤال أبله! وكأنها لا تعرف أنها صوفي أمندسون! ولكن من هي صوفي هذه في النهاية؟ إنها لا تعرف الكثير، وبدقة، عن ذلك.

    ولو أنهم أطلقوا عليها اسمًا آخر؟ آن كنوتسن، مثلًا، هل كانت ستكون شخصًا آخر؟

    تذكرت فجأة أن أباها أراد أن يسميها سينوف. وحاولت أن تتخيل الوضع. وهي تمد يدها مقدمة نفسها باسم سينوف أمندسون. لكن لا، لا تسير الأمور على ما يرام هكذا. إنها في كل مرة فتاة مختلفة.

    نزلت عن كرسيها الصغير، وذهبت إلى الحمام حاملة الرسالة الغريبة في يدها. وقفت أمام المرآة ونظرت مباشرة في عينيها ثم قالت:

    -أنا صوفي أمندسون.

    لم تجب الفتاة التي في المرآة، حتى ولا بتكشيرة. عبثًا حاولت صوفي أن تفعل ذلك، فقد كانت الأخرى تفعل الشيء نفسه بالضبط. حاولت صوفي أن تفاجئها بأن تتحرك بسرعة كبيرة، لكن الأخرى تحركت بمثل سرعتها.

    وسألت: من أنت؟

    لم تحصل على جواب أفضل من الذي حصلت عليه قبل لحظات. لكنها، ولجزء من الثانية، لم تعرف من التي طرحت السؤال هي أم تلك التي في المرآة.

    وضعت صوفي سبابتها على الأنف الذي رأته في المرآة، قائلة:

    -أنت، أنا.

    وعندما لم تحصل، أيضًا على جواب، قلبت ترتيب الجملة:

    - أنا أنت.

    لم تتقبل صوفي أمندسون صورتها دائمًا، غالبًا ما يقال لها إن لها عينين لوزيتين، وذاك بدون شك تجنبًا لملاحظة أن أنفها صغير جدًا، وفمها كبير قليلًا. إضافة إلى أن أذنيها قريبتان جدًا من عينيها. لكن الأسوأ هو شعرها المنسدل تمامًا، مما يجعل تسريحه مستحيلًا. أحيانًا يمرر أبوها يده في شعرها ويناديها بـ «ذات الشعر القطني». لقد كان الكلام سهلاً بالنسبة له، فهو غير محكوم طوال حياته بهذا الشعر الطويل المنسدل الناعم. إذ لم يكن أي نوع من المستحضرات يثبت على شعر صوفي.

    كانت ترى أن رأسها بشعًا جدًا إلى الحد الذي يجعلها تتساءل أحيانًا عما إذا كانت قد ولدت مع تشوه خلقي. على أي حال، لقد قالت لها أمها إن ولادتها كانت صعبة. لكن هل تحكم ولادتنا مظهرنا إلى الأبد؟

    أليس من المستغرب أنها لا تعرف من تكون؟ أليس من غير العدل ألا نستطيع اختيار مظهرنا الخارجي؟ إنه يُفرَض علينا هكذا. نحن نستطيع أن نختار أصدقاءنا لكننا لم نختر أنفسنا. إنها حتى لم تختر أن تكون كائنًا بشريًا.

    ما هو الكائن البشري؟

    رفعت صوفي من جديد عينيها إلى الفتاة التي في المرآة، معتذرة لها بقولها:

    -أعتقد أنني سأصعد لأقوم بواجباتي المدرسية في علم الأحياء. بعد لحظة كانت في الممر، ثم عادت ففكرت «لا. في النهاية، أنا أفضل الذهاب إلى الحديقة.»

    -بسْ، بسْ دفعت صوفي الهر إلى السلم، وأعادت إقفال الباب وراءها...

    عندما وصلت إلى الممر المرصوف بالحصى وهي لا تزال تحمل الرسالة الغامضة في يدها، اجتاحها إحساس غريب: لكأنها كانت حتى الآن دمية، وجاءت ضربة عصاة سحرية تدفع فيها الحياة. لكم كان غريبًا أن تجد نفسها في العالم، منشغلة بقصة غير مألوفة إلى هذا الحد!

    قفز شيريكان في الممر، واختفى وراء بعض أشجار المشمش الكثيفة. هرٌّ حيوي جدًا، من أصغر شعرة بيضاء في رأسه، حتى ذيله المتدلي في آخر جسده الأملس، كان موجودًا أيضًا في الحديقة، لكنه لا يعي ذلك كصوفي.

    وكلما كانت تعي أكثر أنها تحيا، كانت فكرة أنها لن تظل هنا إلى الأبد، تتسرب إلى نفسها.

    أنا موجودة الآن -فكرت- لكنني في يوم ما، لن أعود هنا.

    هل هناك حياة بعد الموت؟ من المؤكد أن هذا السؤال لا يمنع الهر من النوم.

    لم يكن قد مضى وقت طويل على موت جدة صوفي ومع ذلك فإن صوفي تشعر كل يوم تقريبًا، ومنذ ستة أشهر، بأنها تفتقدها كثيرًا.

    أليس من الظلم أن يتوجب على الإنسان أن يموت يومًا؟

    ظلت صوفي فترة في الممر تتأمل. كانت تحاول أن تقنع نفسها بوجودها هي،كي تطرد فكرة أنها لن تعيش إلى الأبد. لكن عبثًا، فما تكاد تركز تفكيرها على حياتها حتى تتخيل نهاية هذه الحياة. العكس أيضًا كان صحيحًا: فعندما كانت تتقبل فكرة أنه يمكن لحياتها أن تنتهي يومًا، كانت تشعر على الفور وكما لم تشعر أبدًا من قبل، أي حظ استثنائي أن تكون حية!

    لكأن الأمر يشبه وجهين لقطعة واحدة، لا تتوقف عن تقليبها في يدها. ولم يكن من شأن ما يظهر واضحًا على أحد الوجهين إلا أن يقوي الوجه الآخر. أن الحياة والموت يلتصقان ظهرًا لظهر.

    فمن المستحيل أن نشعر أننا أحياء إذا لم نفكر أيضًا بأننا سنموت يومًا، كما أننا لا نستطيع التفكير بموتنا، دون أن نحسّ، وفي اللحظة نفسها، بالمعجزة الغريبة، معجزة كوننا على قيد الحياة.

    تذكرت صوفي أن جدتها قالت شيئًا مماثلًا يوم أخبرها الطبيب بخطورة مرضها. «لم أنتبه، إلّا الآن إلى أي مدى هي الحياة جميلة.» هكذا قالت.

    ألم يكن من المحزن أن نلحظ أن أكثرية الناس، يجب أن يصابوا بالمرض كي يعرفوا قيمة الحياة؟ أو أنه يجب عليهم أن يتلقوا رسالة غامضة؟

    ربما عليها أن تبحث عما إذا كان هناك شيء آخر في الصندوق؟

    اندفعت صوفي باتجاه البوابة، فتحت الصندوق الأخضر. وإذا بها تقفز عندما تكتشف رسالة مشابهة في داخله. فقد كانت واثقة من أنها تفحصته جيدًا، لتوها، عندما أخذت الرسالة الأولى.

    على هذا المغلف أيضًا، كان اسمها مكتوبًا. فتحته، وأخرجت منه ورقة صغيرة مماثلة للأولى، مكتوب عليها عبارة:

    - من أين جاء العالم؟

    ليس لدي أي فكرة عن ذلك، قالت صوفي لنفسها، لا أحد يستطيع أن يعرف هذا النوع من الأشياء! ومع ذلك فإن السؤال يستحق الطرح. ولأول مرة في حياتها، رأت أنه لا يمكن العيش دون التساؤل عن الأصول، على الأقل.

    لقد أعطتها الرسالتان الغامضتان قدرًا من النشوة جعلها تقرر الجلوس بهدوء في كوخها.

    هذا الكوخ، كان الملجأ السري لصوفي. لم تكن تذهب إليه إلّا عندما تغضب كثيرًا، أو تحزن كثيرًا أو تسرّ كثيرًا. لكنها لا تعرف اليوم أين هي من هذا كله.

    كان المنزل دو الخشب الأحمر يقع وسط حديقة كبيرة، فيها كثير من الزهور الكثيفة، والشجيرات، والأشجار المثمرة. وتمتد أمامه مرجة كبيرة، فيها أرجوحة وصيوان صغير، بناه الجد للجدة يوم فقدت وليدها الأول بعد أيام من ولادته. يومها أطلقوا على تلك الطفلة اسم ماري، وعلى قبرها حفروا العبارة التالية: «لقد ألقت علينا ماري الصغيرة التحية، خطت ثلاث خطوات صغيرة، ثم ذهبت.»

    في آخر الحديقة، في زاوية منها، وراء شجرة الخوخ، تمتد منسفة كثيفة تمنع الزهور والشجيرات المثمرة من النمو. لقد كانت في الأساس سياجًا قديمًا يفصل الحديقة عن الغابة، لكنه تحول إلى عيص حقيقي لا يمكن اختراقه، وذلك لأن أحدًا لم يعتنِ به طوال العشرين سنة السابقة.

    وكانت جدة صوفي قد أخبرتها أن هذا السياج كان يعيق -خلال الحرب- مهمة الذئاب التي تلاحق الدجاجات التي تُركت حرة في الحديقة.

    الجميع، باستثناء صوفي، كانوا يرون أن هذا السياج عديم الفائدة، مثله مثل قفص الأرانب العتيق الذي تُرك في مكان قصيّ في الحديقة. لقد كانوا يرون ذلك لأنهم لم يكونوا يعرفون سر صوفي.

    دائمًا، عرفت صوفي بوجود ممر صغير في السياج، يكفيها أن تزحف منه، لتنفذ إلى بقعة واسعة طلقة، بين الأدغال، كأنها كوخ حقيقي. في هذا المكان يمكنها أن تثق بأن أحدًا لن يكشف مخبأها، أو يخرجها منه.

    قطعت الحديقة جريًا، وهي لا تزال تضم رسالتيها في يدها، دبّت على يدها ورجليها، واندسّت تحت السياج. كان كوخها كبيرًا بما يكفي للوقوف، لكنها اليوم، تفضل الجلوس على جذور ضخمة. ومن مكانها هذا، تستطيع أن تراقب كل شيء من خلال فتحات صغيرة بين الأغصان والأوراق وحتى لو أن أيًا من هذه الفتحات لا يتجاوز حجم القرش، فإنها تكفي لمراقبة الحديقة كلها. عندما كانت أصغر سنًا، كان يمتعها أن تراقب أبويها وهما يبحثان عنها خلف الأشجار.

    لقد أحست صوفي دائمًا بأن الحديقة عالم قائم بذاته. وكلما كانت تسمع حديثًا عن جنة عدن، وعن الخلق، تتخيل نفسها جالسة في كوخها تراقب جنتها الخاصة.

    من أين جاء هذا العالم؟

    إنه السؤال! تعرف صوفي أن الأرض ليست سوى كرة صغيرة في قلب الكون الشاسع. ولكن، من أين جاء هذا العالم؟

    لا شك أنه يمكن افتراض وجود الكون منذ الأزل، مما يسمح بتجاهل وإلغاء هذا السؤال من أصله. ولكن هل يمكن لأي شيء أن يكون موجودًا منذ الأزل؟ شعرت أنها ليست موافقة على هذه الفكرة، يجب أن يكون لكل شيء بداية. أليس كذلك؟ إذن لا بدّ أن يكون الكون قد خُلق انطلاقًا من شيء آخر.

    ولكن إذا كان مصدر الكون في شيء آخر، فلا بدّ أن هذا الشيء أيضًا، قد خُلق يومًا. وانتبهت صوفي إلى أنها لم تفعل أكثر من نقل المسألة. لا بدّ، أنه في لحظة ما، قد انبثق شيء من العدم. ولكن هل هذا معقول؟ أليس تخيّله مستحيلًا بقدر استحالة تخيل فكرة عالَمٍ موجود منذ الأزل؟

    في المدرسة، علموها أن الله قد خلق العالم، وها هي تحاول أن تجد بعض العزاء في هذا التفسير. لكنه لا يكفيها تمامًا.

    جيد! الله خَلق العالم. ولكن، الله إذن؟

    هل كان قد خُلق هو الآخر انطلاقًا من لا شيء؟

    هذا أيضًا غير مفهوم. فإذا اعتبرنا أن الله يستطيع أن يخلق ما يريد، فلا بدّ أنه كان شيئًا ما قبلًا، كي يستطيع خلق نفسه. لم يتبقَّ إلّا حل واحد:

    أن الله كان دائمًا موجودًا. لكن هذا التأكيد بالذات هو ما رفضَته! فلا بد أن تكون لكل موجود بداية.

    فتحت المظروفين مرة أخرى.

    -من أنت؟

    -من أين جاء العالم؟

    الحقيقة، إن طرح أسئلة كهذه، ليس لعبًا! ومن أين جاءت هاتان الرسالتان؟ إن هذا أيضًا سر.

    من الذي سحب صوفي من حياتها الهادئة ليضعها أمام أحاجي الكون الكبرى؟

    للمرة الثالثة، ذهبت صوفي تنظر في صندوق البريد. كان ساعي البريد قد مرّ لتوّه. وعندما مدت يدها، خرجت برزمة من الصحف، والكتيّبات الإعلانية، وبعض الرسائل الموجهة لأمها. وبطاقة بريدية عليها صورة شاطئ شمالي. قلبت البطاقة، وإذا الطوابع نرويجية، وإشارة الإرسال تقول: «الحامية النرويجية للأمم المتحدة». أهي من والدها؟ إنه إذن في لبنان، بينما كانت تعتقد أنه في مكان آخر من العالم... لكن الخط لم يكن خطه...

    أخذت دقات قلبها تتسارع وهي تقرأ اسم المرسل إليه:

    «هيلد موللر كناغ بوساطة صوفي أمندسون»

    3 زقاق النفل.

    كانت بقية العنوان صحيحة، والرسالة تقول:

    عزيزتي هيلد

    أتمنى لك أشياء كثيرة جيدة في عيد ميلادك الخامس عشر.

    وكما تعلمين، أنا أحرص أن أقدم لك هدية تجعلك تكبرين.

    سامحيني إذا كنت أرسل البطاقة لصوفي. فذاك ملائم أكثر.

    أقبلك،

    أبوك

    عادت صوفي إلى البيت راكضة، ودخلت إلى المطبخ، كانت تغلي استنكارًا.

    من هي إذن «هيلد» هذه التي تسمح لنفسها ببلوغ الخامسة عشرة قبل شهر واحد من عيد ميلادها هي؟

    في المدخل راحت صوفي تبحث في دليل الهاتف، كان فيه أكثر من واحدة تحمل اسم موللر أو كناغ، لكن ليس بينهن من تحمل موللر كناغ.

    من جديد أخرجت البطاقة البريدية... لا... إنها بطاقة حقيقية، بطوابع حقيقية وختم مركز بريدي حقيقي...

    ما هو هدف أب ما، من إرسال بطاقة معايدة على عنوان صوفي، في حين من الواضح أن المقصود فتاة أخرى؟ أي أب تراوده هذه الفكرة السيئة: حرمان ابنته من بطاقة عيد ميلادها، بإرسالها إلى عنوان آخر؟ ولماذا كان الأمر ملائمًا هكذا؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن العثور على هيلد هذه؟

    مشكلة أخرى، تقع على رأسها. حاولت أن ترتب أفكارها قليلًا.

    خلال فترة بعد الظهر أي خلال أربع ساعات فقط، وجدت صوفي نفسها أمام ثلاث أحاجٍ. تتمثل الأولى في معرفة من الذي وضع المظروفين الأبيضين في صندوق بريدها. والثانية في السؤالين الدقيقين اللذين تطرحهما الرسالتان. أما الثالثة فهي معرفة من هي هيلد موللر كناغ، ولماذا كانت صوفي هي التي تلقت بطاقتها عوضًا عنها.

    وراودها إحساس بأن هذه الأحاجي الثلاث مترابطة بشكل أو بآخر. ذاك أنها كانت تعيش حتى هذا اليوم، حياة تافهة.

    القبعة العالية

    ... إن الميزة الوحيدة اللازمة لكي يصبح الإنسان

    فيلسوفًا جيدًا هي قدرته على الدهشة...

    لم تكن صوفي تشكّ في أن صاحب الرسالتين المقفلتين سيحاول الاتصال بها من جديد. ولكن حتى ذلك الحين، عليها أن تمسك لسانها.

    بدأت تجد صعوبة في تركيز انتباهها في الصف. فلم يكن الأستاذ يتحدث إلّا عن أشياء دون فائدة. لماذا لا يتحدث عن طبيعة الإنسان، والعالم وأصله؟

    فجأة انتبهت إلى أن الناس، سواء في المدرسة أو خارجها، يهتمون بأشياء عابرة تمامًا. رغم وجود مسائل أخرى، أكثر أساسية وصعوبة من مسائل البرنامج المدرسي!

    من كان يعرف أن يجيب عن أسئلة كهذه؟ أو أن يفكر فيها؟ على أي حال. فذاك شيء مختلف عن قضاء الوقت في ترداد وحفظ المواد عن ظهر قلب.

    ما إن انتهت الحصة الأخيرة، حتى اندفعت خارجة، بسرعة اضطرت جورون إلى الركض لتلحق بها، سائلة:

    -هل سنلعب الورق هذا المساء؟

    هزت صوفي كتفيها

    -اعتقد أن لعب الورق لم يعد يثير اهتمامي.

    لم تصدق جورون أذنيها

    -آه. حسنًا. هل تفضلين اللعب بالريشة الطائرة؟

    ركزت صوفي نظرها طويلًا في الأرض، ثم نظرت إلى صديقتها

    -أعتقد أنه حتى الريشة الطائرة، لم تعد تثير اهتمامي أيضًا.

    -حسنًا. إذا كان الأمر هكذا!

    لم تخفَ على صوفي نبرة الأسف في صوت صديقتها التي أضافت:

    -ربما استطعتِ أن تقولي لي ما الذي تجدينه مهمًا، إذن؟

    - إنه... إنه سر.

    -كما تحبين!

    مشت الصديقتان برهة طويلة صامتتين وعندما وصلتا إلى ملعب كرة القدم، قالت جورون:

    -حسنًا، سأختصر الطريق باجتياز الملعب.

    «قَطْعُ الملعب» هو اختصار للطريق، لكن جورون لم تكن تسلكه إلّا عندما يجب عليها أن تصل في موعد محدد للزيارة أو للذهاب إلى طبيب الأسنان.

    لامت صوفي نفسها لأنها أذتها. ولكن بماذا كان عليها أن تجيبها؟ بأنها ترغب في أن تعرف الآن من هي، وكيف خُلق الكون، لذلك لم يعد لديها وقت للعب الريشة الطائرة؟ لا تثق بأن جورون كانت ستفهمها.

    لماذا يجعل الاهتمام بهذه الأسئلة الأساسية، والتافهة في النهاية، الحياة صعبة جدًا؟

    أحست بقلبها يخفق بشدة أكبر وهي تفتح صندوق البريد. لم ترَ إلّا رسالة من المصرف، وبعض المظاريف الصفراء الكبيرة... لا، لقد تمنت صوفي بشدة أن تجد رسالة ثانية من مجهولها.

    لكنها فوجئت وهي تقفل البوابة، بوجود اسمها على أحد المظاريف الكبيرة. وعندما أرادت فتحه قرأت على ظهره الكلمات التالية: درس في الفلسفة للمعالجة بعناية كبيرة. جريًا، صعدت زقاق الحصى، ووضعت حقيبتها المدرسية على درج المدخل، دسّت الرسالة تحت ممسحة الأرجل، ثم ركضت في الحديقة إلى خلف المنزل لتلجأ إلى كوخها. هناك فقط سيكون لها الحق في فتح الرسالة الكبيرة.

    كان يتبعها شيريكان، ولكن ليكن... فهي تثق بأنه لن يروي شيئًا.

    كان في الملف أربع أوراق كبيرة مطبوعة على الآلة الكاتبة، وملمومة بشكلة. وأخذت صوفي تقرأ:

    ما هي الفلسفة؟

    عزيزتي صوفي

    إن للناس كل أنواع الاهتمامات، فبعضهم يجمع القطع القديمة أو الطوابع، وبعضهم يهتم بالأعمال اليدوية أو إصلاح الأشياء القديمة بينما يكرّس آخرون كل أوقات فراغهم لهذه الرياضة أو تلك. كثيرون يفضلون القراءة لكن كل شيء يتوقف على ماذا نقرأ. يمكن الاكتفاء بقراءة الصحف، أو الأفلام المصورة، ويمكن ألّا نحب إلّا الروايات أو أن نفضل كتبًا متخصصة بمواضيع مختلفة كعلم الفلك، أو حياة الحيوانات أو الاكتشافات العلمية.

    إذا كنت أهوى الخيول أو الحجارة الكريمة فلا يمكن لي أن أطلب من الآخرين أن يقاسموني هذا الهوى. وإذا كنت لا أدع تقريرًا رياضيًا تلفزيونيًا يفوتني، فذلك لا يعطيني الحق في أن أنتقد الذين يجدون الرياضة مملة.

    وإذا كان يوجد - رغم ذلك - شيء، من طبيعته أن يهم كل الناس، شيء يخص كل كائن بشري، بصرف النظر عن هويته وعرقه؟ أجل عزيزتي صوفي، هناك قضايا يجب أن تشغل كل الناس. وهذا النوع من القضايا هو الذي يشكل موضوع درسي.

    ما هو الشيء الأهم في الحياة؟

    إذا ما وجهنا هذا السؤال لرجل لا يجد ما يشبع جوعه، سيجيبنا إنه الطعام. الذي يرتجف بردًا سيقول إنها الحرارة، أما الذي يعاني الوحدة فسيجد أنها صحبة البشر الآخرين.

    لكن، هل يوجد رغم كل شيء، أبعد من هذه الحاجات الأولية، ما يحتاجه أيضًا جميع الناس؟ الفلاسفة يعتقدون أن الجواب نعم. إنهم يؤكدون أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده. لا شك أن كل الناس يحتاجون إلى الطعام، وهم يحتاجون أيضًا إلى الحب والحنان. لكن هناك شيء آخر نحتاج إليه كلنا: هو أن نعرف من نحن، ولماذا نعيش؟

    إذن، ليست الرغبة في معرفة لماذا نعيش، اهتمامًا «عارضًا» كالاهتمام بجمع الطوابع، والذي يطرح على نفسه هذا النوع من الأسئلة يلتقى بذلك مع اهتمامات كل الأجيال التي تسبقه. إن أصل الكون، والأرض، والحياة، هي قضية أكثر أساسية من معرفة من الذي حصل على أكبر عدد من الميداليات الذهبية في آخر أيام الألعاب الأولمبية.

    إن أفضل وسيلة لمقاربة الفلسفة هي طرح عدة أسئلة فلسفية:

    كيف خُلق الكون؟ هل وراء كل ما يحدث إرادة أم حس؟ هل توجد حياة أخرى بعد الموت؟ ودون أن ننسى هذا كله، كيف يجب أن نعيش؟

    لقد طرح البشر، في كل العصور، على أنفسهم هذه الأسئلة. وحسبما نعرف، فلا توجد أي ثقافة لا تهتم بمعرفة من هو الإنسان، وكيف خُلق العالم.

    في الواقع، ليس هناك الكثير من الأسئلة الفلسفية، ما عدا هذا. لقد رأينا الأهم منها. لكن التاريخ يقدم لنا إجابات مختلفة لكل هذه الأسئلة.

    إنه لمن الأسهل جدًا طرح أسئلة فلسفية من الإجابة عنها. واليوم أيضًا، على كل منا أن يجد إجاباته عن الأسئلة نفسها، لا فائدة من البحث في موسوعة علمية عما إذا كان هناك إله، أو حياة بعد الموت. كذلك فإن الموسوعة لا تدلنا إلى الطريقة التي يجب علينا أن نعيش بها حياتنا، لكن قراءة ما فكّر به الآخرون، يمكن أن تساعدنا في تشكيل حكمنا الخاص عن الحياة.

    ويمكن مقارنة الصيد، بحقيقة الفلاسفة، وبرواية بوليسية. بعضهم يعتقد أن دوبون هو المجرم، بينما يعتقد بعضهم الآخر أنه دوران، ولكن عندما يكون هناك تحقيق بوليسي حقيقي، تنتهي الشرطة يومًا إلى حل اللغز. من المؤكد أنه يمكن لنا أن نفكر بأنها قد لا تتوصل لذلك أبدًا. لكن، في كل الحالات يظل هناك حل.

    كذلك يمكن لنا أن نفكر أيضًا أنه حتى لو كان من الصعب الإجابة عن سؤال، فإن هناك جوابًا جيدًا واحدًا. فإما أن حياة أخرى توجد بعد الموت وإما لا.

    لقد انتهى العلم إلى حل عدد كبير من الألغاز القديمة. ثمة زمان كان فيه وجه القمر سرًا كبيرًا. لم يكن الجدال يؤدي إلى شيء، وكان كلٌّ يطلق العِنان لخياله. لكننا بتنا اليوم، نعرف تمامًا ماذا يشبه الوجه الآخر من القمر. ولم نعد نستطيع الاعتقاد بأنه مسكون وأنه قطعة من الجبن.

    فيلسوف إغريقي قديم، عاش قبل ألفي عام كان يعتقد أن الفلسفة ولدت بفضل دهشة البشر. وكان يقول إن كون الإنسان حيّ، هو شيء من الغرابة بحيث تظهر الأسئلة الفلسفية من تلقاء نفسها.

    وكما لو أننا نحضر جلسة شعوذة، نجدنا لا نفهم ما دار أمام أعيننا. وعندما نسأل: كيف حوّل الساحر بضعة مناديل حريرية إلى أرنب حي؟ كثيرون يعتقدون أن العالم غير قابل للفهم، كخروج أرنب من القبعة الرسمية التي كان يُظنّ أنها فارغة. فيما يخص الأرنب، من المعروف أنه خيّل لنا أننا نراه ولكن كيف فعل ذلك؟ هنا يكمن كل السؤال. نحن نعرف أن العالم ليس حلقة شعوذة، ذاك أننا نعيش على هذه الأرض ونشكل جزءًا منها. وإنما نحن الأرنب الذي أُخرج من القبعة، مع فارق كون الأرنب الأبيض لا يعي أنه يشارك في حلقة شعوذة. أما نحن فأمر مختلف، نحن نشعر أننا نشارك في السر ونحب كثيرًا أن نعرف كيف تشابك كل هذا.

    ملاحظة: فيما يخص الأرنب الأبيض، تكون المقارنة مع الكون أكثر دقة. ولا نصبح نحن إلا دويبات صغيرة ملتصقة في فراء الأرنب، أما الفلاسفة فيحاولون أن يتسلقوا قامة شعرة دقيقة كي ينظروا في عيني الساحر.

    هل ما زلت تتابعينني يا صوفي؟

    البقية في العدد القادم.

    كانت صوفي قد أصيبت بدهشة عميقة. إنها نسيت أن تتنفس، وهي تقرأ!

    من الذي أرسل الرسائل؟ من؟ من؟

    لا يمكن أن يكون هو نفسه من أرسل بطاقة المعايدة لهيلد كوللر كناغ. فتلك البطاقة كانت تحمل طوابع وختم البريد. بينما وُضع المظروف الأصفر في صندوق بريدها مباشرة، وكذلك المظروفان الأبيضان.

    نظرت صوفي إلى ساعتها. لا تزال الساعة الثالثة إلا ربعًا، أي أنه لا يزال هناك ساعتان حتى موعد عودة أمها.

    خرجت دبًّا على يديها ورجليها، وركضت نحو صندوق البريد... وإذا كان لا يزال فيه شيء بعد؟

    أجل، لقد وجدت ظرفًا أصفر يحمل اسمها. نظرت حولها، لكنها لم ترَ أحدًا. ركضت حتى حدود الغابة لترى ما إذا كان ثمة أحد في الممر.

    لا وجود لحيّ هناك.

    خُيّل لها أنها سمعت تكسّر بعض الأغصان اليابسة، هناك، بعيدًا في الغابة.

    لكنها لم تكن متأكدة، وعلى أي حال ما الفائدة من الركض وراء شخص يحاول الهرب؟

    عادت صوفي إلى المنزل، وضعت حقيبتها المدرسية وبريد والدتها. صعدت إلى غرفتها وأخرجت علبتها الحديدية الجميلة، التي تحفظ فيها مجموعتها من الأحجار الجميلة، وقلبتها أرضًا، لتضع مكانها الظرفين الكبيرين. ثم خرجت إلى الحديقة متأبّطة العلبة، لم تكن تنسى في السابق، تحضير الطعام لشيريكان.

    -بسْ، بسْ.

    في كوخها، فتحت الظرف وأخرجت منه عدة أوراق مطبوعة على الآلة الكاتبة، وراحت تقرأ:

    مخلوق غريب

    ها نحن من جديد. وكما تلاحظين، فإن درس الفلسفة الصغير هذا، يصلك قطعًا صغيرة غير عسيرة الهضم، على ما أتمنى. هذه بعض الملاحظات التمهيدية الأخرى.

    هل قلت لك سابقًا إن الميزة الوحيدة اللازمة، كي يصبح الواحد فيلسوفًا جيدًا، هي قدرته على الدهشة؟ إن لم أكن قد قلتها فأنا أعيدها الآن. إن الميزة الوحيدة اللازمة لتصبح فيلسوفًا هي أن تندهش.

    كل الأطفال يملكون هذه الملكة. لكن لا تكاد بضعة أشهر تمضي، حتى يجدوا أنفسهم مقذوفين في واقع جديد. ويبدو أن ملَكة الدهشة هذه تضعف مع الكبر. لماذا؟ هل تعرف صوفي أمندسون، الجواب الصحيح، بالمصادفة؟

    لنَعدْ: لو أن مولودًا صغيرًا عرف أن يتكلم، لكان عبّر بالتأكيد عن دهشته من الوقوع في عالم غريب. وحتى لو أنه لا يستطيع أن يتكلم، فيكفي رؤيته يشير بإصبعه إلى كل الأشياء ويمسك بفضول كل ما يقع تحت يده.

    مع بداية كلامه. يتوقف، ويروح يصيح عو، عو! بمجرد أن يرى كلبًا. أما نحن الأكثر تقدمًا في السن، فننظر إليه في عربته، ونشعر بأن هذه الحماسة الفائضة تتجاوزنا. ونضيف بنبرة ضجرة: « أجل. نعرف أنه عو عو. لكن يكفيك الآن... كن عاقلًا!». إننا لا نقاسمه تهلله، فقد سبق لنا ورأينا كلبًا.

    ربما يتكرر انفلات صرخات الفرح هذه مئات المرات، قبل أن يصل الطفل إلى أن يلتقي كلبًا دون أن يضطرب. وكذلك الأمر أمام فيل أو بقرة أو نهر... إلخ.

    ولكن قبل أن يصبح الطفل قادرًا على التكلم بشكل صحيح -وقبل أن يتعلم التفكير بطريقة فلسفية- يكون الكون قد أصبح عادة.

    أقصد أن عليك يا عزيزتي صوفي ألا تصبحي جزءًا من أولئك الذين يتقبلون العالم كحتمية. ولذا سنلجأ، من باب التدابير الاحترازية، إلى بعض التمارين الفكرية الصغيرة، قبل أن نبدأ دروس الفلسفة، بمعنى الكلمة.

    تخيلي أنك تتنزهين في الغابة، ذات يوم مشمس، وفجأة ترين أمامك على الطريق، سفينة فضائية، هبط منها، مخلوق فضائي من سكان المريخ، ويقف متسمّرًا أمامك، متفرّسًا في وجهك...

    ما الذي يخطر، عندئذٍ، في بالك؟ آه، ليس الأمر مهمًا في النهاية. ولكن ألم تصعقك فكرة أن تكوني أنت مخلوقًا مريخيًا؟

    أعترف، إن أمكانية العثور على مخلوقات من كوكب آخر هي إمكانية ضعيفة. بل إننا لا نعرف ما إذا كانت الحياة ممكنة على كواكب أخرى. لكننا نستطيع أن نتخيل أنك تقفين أمام نفسك. قد يحصل أن تتوقفي قليلًا ثم تشعرين فجأة أنك اختفيت كليًا.

    يمكن أن يحصل هذا، بالتحديد، خلال جولة في الغابة.

    -إنني كائن غريب... مخلوق خرافي، تقولين في نفسك.

    لكأنك مثل «الجميلة النائمة في الغابة» تستيقظين من غفوة طويلة. وتسألين نفسك، من أنا؟ أنت تعرفين فقط أنك تزحفين على هذه الكرة، في الكون، ولكن... الكون... ما هو الكون؟

    إذا رحت تدركين نفسك بهذه الطريقة، تكونين قد اكتشفت شيئًا لا يقل سحرًا عن المخلوق المريخي الذي كنا نتحدث عنه. ولا تكونين قد رأيت واحدًا من هذه الكائنات التي تسكن الكون، بل تكونين قد شعرت بعمق، أنك، أنت نفسك، واحدة من هذه المخلوقات الغريبة.

    ها، ما زلت تتابعينني يا صوفي؟ حسنًا، سنقوم بتجربة أخرى:

    إنه الصباح، الأم، والأب، وتوماس الصغير يتناولون طعام الإفطار في المطبخ، تنهض الأم... وعندها... يستفيد الأب من كونها تدير لهما ظهرها ليرتفع في الهواء، ويطير أمام عيني توماس الجالس مكانه.

    ما الذي سيقوله توماس، برأيك؟ ربما أشار بأصبعه إلى أبيه قائلاً: «أبي يطير!».

    لا شك في أن ذلك سيفاجئه قليلًا لكنه لن يثير عنده استغرابًا فائق الحدّ. فالأب يقوم، على أي حال، بأعمال غريبة كثيرة، مما لا يجعل دورة تحليق في الهواء، تغير شيئًا في نظره. فهو يراه كل يوم يحلق ذقنه بألة غريبة، كما يراه أحيانًا يتسلق السطح ليغير اتجاه هوائي التلفزيون، أو يدخل رأسه في محرك لسيارة، ليخرجه بعد قليل أسود قاتمًا.

    الآن نأتي إلى الأم، لقد سمعت ما قاله توماس، فاستدارت بحزم. فكيف ستكون برأيك ردة فعلها على منظر الأب محلقًا في الهواء؟

    لا شك أنها ستفلت إناء المربى، مطلقة صرخة قوية، وربما لزم الأمر استدعاء طبيب، بعد أن يعود الوالد إلى كرسيه.

    لماذا كانت ردّتا فعل، الأم وتوماس، مختلفتين بنظرك؟

    إنها قصة عادة. (احفظي هذا جيدًا!) لقد تعلمت الأم أن الناس لا يستطيعون الطيران، بينما لم يتعلم توماس ذلك. إنه لا يعرف، بعد، جيدًا ما هو الممكن عمله في هذا العالم، أو لا.

    ولكن، ماذا بشأن العالم نفسه يا صوفي؟ هل تجدين أنه كما يجب؟ إنه يحلق في الفضاء هو أيضًا.

    المحزن، أننا نتعود، ونحن نكبر، على أشياء كثيرة غير جاذبية الأرض. ونخلص لأن نرى كل شيء طبيعيًا.

    ويبدو أنه مع العمر، لا يظل هناك ما يدهشنا. لكننا نفقد بذلك شيئًا أساسيًا هو ما يحاول الفلاسفة إيقاظه في داخلنا. ذاك أن صوتًا في عمق أعماقنا، يقول لنا إن الحياة لغز كبير. وهذا ما جربناه قبل أن يعلمونا إياه بكثير.

    ولنحدد. مع أن الأسئلة الفلسفية، تخص كل البشر، إلا أنهم لا يصبحون كلهم فلاسفة. لأن أكثر الناس، ولأسباب مختلفة، مشغولون بحياتهم اليومية، إلى حد لا يترك لهم وقتًا ليندهشوا أمام الحياة. (وإذا شئت، نقول إنهم يغوصون في فرو الأرنب، ويستقرون هناك نهائيًا، مرتاحين جدًا).

    أما بالنسبة للأطفال، فإن العالم - وكل ما فيه- هو جديد جذريًا، يصيبهم عميقًا بالدهشة. وليس ذاك هو الحال مع البالغين جميعهم. إذ إن أكثرهم لا يجدون في العالم شيئًا من الغرابة.

    هنا، يشكل الفلاسفة استثناء مشرفًا. فالفيلسوف هو إنسان لم يستطع يومًا أن يتعود على العالم. والعالم، يظل بالنسبه له شيئًا غير قابل للتفسير، شيئًا غريبًا، ملغّزًا. وهكذا يملك الفلاسفة والأطفال، صفة كبيرة مشتركة، ويمكننا القول إن الفلاسفة يحافظون، طوال حياتهم على جلد رقيق، كجلد الأطفال.

    لك أن تختاري، عزيزتي صوفي: هل أنت طفل لم يكبر بعد، بما يكفي ليصبح متعودًا على العالم؟ أم أنت فيلسوف يستطيع أن يقسم على عدم الوقوع أبدًا في هذا المطب؟

    إذا كنت تهزين رأسك رافضة التطابق مع الطفل أو مع الفيلسوف، فذاك لأنك صنعت لنفسك عشًا صغيرًا طريًا، فلم يعد العالم يدهشك. في هذه الحالة هناك حاجة ملحّة. ولذا تتلقين هذه الدروس في الفلسفة. وسيلة اختبار كونك لست على الطريق الخاطئ. أنا لا أريد أن تكوني واحدة من البشر المائعين أو اللامبالين. أريدك أن تعيشي مفتحة العينين.

    ستكون الدروس كلها مجانية. لن نستوفي شيئًا إذا لم تتابعيها. إذا شئت التوقف لن يكون هناك ما يمنعك. لا تحتاجين إلى أكثر من كلمة تضعينها في صندوق البريد. أو تضعي لي ضفدعًا خضراء، شرط أن تكون خضراء بلون الصندوق، كي لا تخيف الساعي.

    باختصار: إن أرنبًا أبيضَ يخرج من قبعة الساحر. ولأنه أرنب ضخم، فإن جلسة السحر هذه ستحتاج إلى مليارات السنين، وكل أطفال البشر يولدون على طرف الشعرات الدقيقة في فروته، مما يجعلهم يدهشون مباشرة، من جلسة الشعوذة المستحيلة. ولكنهم يكبرون ويغرقون أكثر فأكثر في عمق فروة الأرنب. حيث يمكثون، ويشعرون بالراحة بحيث لا يعودون أبدًا إلى امتلاك شجاعة تسلق الشعرة.

    وحدهم الفلاسفة يمتلكون شجاعة السير في الرحلة الخطيرة التي تقودهم إلى أقصى حدود اللغة والوجود. بعضهم يعود إلى الوقوع في القاع، لكن آخرين يتشبثون بشعرات الأرنب، ويشجعون كل البشر، الذين لا يفعلون شيئًا في الأسفل، إلّا الشرب، وملء الكأس من جديد، على اللحاق بهم.

    -سيداتي سادتي نحن نطوف في الفضاء، هكذا يعلنون.

    لكن أحدًا لا ينتبه إلى تحذيرات الفلاسفة.

    -أُفّ لهؤلاء، كم يستطيعون أن يقرقعوا آذاننا!

    هذا ما تصرخ به أصوات غارقة في دفء الفروة. لا تلبث أن تتابع:

    -آه. هل تسمح وتناولني صحن الزبدة؟ ما هي أحوال البورصة؟ كم سعر البندورة اليوم؟ هل تعلم أن الليدي ديانا حامل؟

    عندما عادت الأم، آخر النهار كانت صوفي لا تزال تحت تأثير الصدمة. لقد خبأت، بعناية فائقة، في كوخها، العلبة التي تحتوي على رسائل الفيلسوف المجهول. عبثًا حاولت أن تكتب واجبها المدرسي، إلّا أن فكرها لم يكن يتوقف عن التساؤل عما قرأته.

    غريب أنها لم تفكر أبدًا بكل هذا قبل اليوم! إنها لم تعد طفلة. لكنها ليست أيضًا شخصًا بالغًا. الآن أدركت صوفي أنها كانت قد بدأت تغرق في فروة الأرنب الذي خرج من قبعة الكون.

    لكن الفيلسوف جاء يوقف غرقها. إنه - أو إنها- قد أمسك بها من جلدة عنقها، ووضعها حيث كانت تلعب وهي طفلة. ومن هذا المكان، من على طرف الشعرة الدقيقة، استعادت نظرة جديدة إلى العالم.

    لقد أنقذها الفيلسوف. هذا ما لا شك فيه، لقد سحبها الشخص المجهول، من لا مبالاة اليومي.

    عندما عادت أمها، قرابة الساعة الخامسة، جرتها صوفي إلى غرفة الاستقبال، ودفعتها إلى إحدى الأرائك.

    -أمي، ألا ترين أنه من الغريب أن نحيا؟

    فوجئت الأم بحيث لم تجد ما تجيب به. فهي معتادة على أن تجد صوفي، لدى عودتها من العمل، منكبّة على واجباتها المدرسية.

    -آه، أحيانًا... قالت:

    -أحيانًا؟ لكن ما أردت قوله... ألا تجدين أنه من الغريب أن يوجد عالم؟

    -ولكن... ما الذي جرى لك يا صوفي، لتتحدثي هكذا؟

    -ولم لا؟ هل تجدين أنت أن العالم طبيعي تمامًا؟

    -أجل، على الأقل في خطوطه العريضة.

    أدركت صوفي أن الفيلسوف كان على حق. البالغون يرون أن كل شيء في العالم يتم من تلقاء نفسه. لقد غرقوا نهائيًا، في الخدر الذهني الهادئ لروتينهم اليومي.

    -لقد اعتدت على رفاهيتك الصغيرة، بحيث لم يعد يدهشك شيء في العالم.

    -ماذا تخرفين؟

    -أقول إنك ضجرة كثيرًا. وبتعبير آخر أنت مفلسة تمامًا.

    -أنا أمنعك من التحدث إليّ بهذه اللهجة.

    -إذن فلنقل إنك أخذت مكانك الدافئ في داخل شعيرات فروة أرنب أبيض خرج من قبعة الكون.

    لكن. صحيح. نسيت. عليك أن تضعي البطاطا على النار. ثم عليك أن تقرئي صحيفتك. وبعد قيلولتك لنصف ساعة، عليك أن تستمعي إلى الأخبار.

    غام وجه الأم. ونهضت إلى المطبخ، ووضعت البطاطا على النار. ثم عادت إلى قاعة الجلوس. حيث أجبرت، بدورها صوفي على الجلوس.

    -لدي ما أقوله لك.

    أدركت صوفي من نبرة صوت أمها، أنها تريد أن تقول شيئًا جادًا.

    -قولي لي يا حبيبتي. ألم تجربي المخدرات بعد؟

    أحست صوفي برغبة في الضحك. لكنها فهمت لماذا تتناول أمها هذا الموضوع تحديدًا الآن، وعلقت:

    -هل أنت جادة فيما تقولين؟ لو كان ذلك، لما كنت بهذا النشاط الفكري.

    بعدها. لم تذكر كلمة واحدة عن المخدرات أو الأرنب الأبيض.

    الأساطير

    ... توازن هش بين قوى الخير

    وقوى الشر...

    لم يحمل صباح اليوم التالي أي رسالة لصوفي.

    في المدرسة، أحست طوال النهار بالضجر، وتعمدت أن تكون لطيفة مع جورون خلال الاستراحات. في طريق العودة قررتا أن تذهبا إلى الغابة بمجرد أن تجف الأرض قليلًا، ومعهما خيمتهما.

    ثم وجدت نفسها أمام صندوق البريد. فتحت أولًا رسالة صغيرة مرسلة من مكسيكو. كان فيها بطاقة من والدها. إنه يشعر بالحنين إلى الوطن، وإنه غلب، لأول مرة، شريكه في لعبة الشطرنج، ويضيف إنه قد استنفد الكيلوغرامات العشرين من الكتب، التي حملها معه من سفرته الأخيرة.

    وجدت أيضًا ظرفًا أصفر كبيرًا يحمل اسمها! فأسرعت تضع حقيبتها والبريد في البيت، ثم تقفل الباب خارجة، لتجري إلى كوخها. تخرج أوراقًا أخرى مطبوعة على الآلة الكاتبة، وتشرع في القراءة:

    التصور (التمثل) الأسطوري للعالم

    مرحبًا صوفي! كل شيء جاهز. فلنبدأ دون تأخير.

    إن مصطلح فلسفة يطلق على أسلوب في التفكير، رأى النور في اليونان نحو 600 ق.م وكان جديدًا بشكل جذري. قبل ذلك، كانت عدة ديانات قد أخذت على عاتقها الإجابة عن كل الأسئلة التي طرحها الإنسان. وكانت هذه التفسيرات المثيولوجية، تنتقل من جيل إلى جيل بصورة أساطير.

    فالأسطورة هي قصة موضوعها الآلهة، تحاول أن تفسر الظواهر الطبيعية والإنسانية.

    وطوال آلاف السنين، عرف العالم كله ازدهار التفسيرات الأسطورية للمسائل الفلسفية. إلى أن جاء الفلاسفة الإغريق، يحاولون البرهنة أنه على البشر ألا يثقوا بهذه الأساطير.

    لذا، علينا أن نمتلك تمثلًا أسطوريًا للعالم، كي نفهم سلوك الفلاسفة الأوائل. ويكفينا لذلك أن نتفحص بعض الأساطير، ولتكن أساطير شمالية (فالأفضل أن أتحدث عما أعرفه جيدًا).

    لا شك أنك سمعت شيئًا عن (تور) (TOR) ومطرقته. إذ كان أهل النرويج، قبل المسيحية يعتقدون أن (تور) يعبر السماء في عربة يجرها تَيْسان، وكلما كان يدق مطرقته، كان يثير العاصفة، والصاعقة، وتعني الكلمة النرويجية توردون (العاصفة) وتتركب من مقطعي (تور- دون) أي «ضجيج تور». أما في اللغة السويدية فالكلمة التي تعني العاصفة هي (أوس- كا) ومعناها الحرفي «رحلة الإله» في السماء.

    الحديث عن البرق والرعد، يعني الحديث عن المطر، إذ كانت كل هذه الأفعال، ضرورية وحيوية في عصر الفايكنز. لذا كان (تور) يُعبد كإله للخصب أيضًا.

    وتقول الأسطورة إن (تور) كان يرسل المطر، بطرقة من مطرقته. وإذ ينزل المطر ينمو كل شيء، وتكون المحاصيل جيدة.

    لم يكن ممكنًا أن يُفهم فعل نمو كل شيء من الأرض وإثماره، كفعل تلقائي. لكن المزارعين أدركو أن لذلك علاقة بالمطر. وكغيرهم كانوا يعتقدون أن (تور) هو إله المطر، لذلك كان واحدًا من أهم آلهة الشمال.

    سبب آخر، كان يجعل من تور إلهًا مهمًا، سبب متعلق بنظام العالم.

    كان الفايكنز يرون أن العالم المأهول هو أشبه بجزيرة تهددها باستمرار مخاطر خارجية. وكانوا يسمون هذا الجزء المأهول (ميدغارد). كلمة معناها إمبراطورية الوسط. كان (ميدغارد) يضم (إسغارد) أي مقر الآلهة. وعلى أطراف (ميدغارد) تأتي (أوتغارد) أي الإمبراطورية التي تقع خارجًا. وفيها يسكن الجبابرة الخرافيون الخطرون، الذين يحاولون بحيل ماهرة أن يدمروا العالم. ويطلق على هذه الشياطين الشريرة اسم «قوى الفوضى» (JOTNARNA).

    وهكذا فإن البشر قد استشعروا، سواء في الأدب النرويجي أم في سواه، التوازن الهش بين قوى الخير وقوى الشر.

    ولتدمير ميدغارد يحاول الجبابرة مثلًا، أن يخطفوا آلهة الخصب (فريّا). وفي حال نجاحهم فإن شيئًا لا ينبت في الأرض، ولا تعود النساء قادرات على الحمل. لذلك كان من الأساس أن تحبط آلهة الخير سعيهم.

    هنا، أيضًا يلعب (تور) دورًا كبيرًا. فمطرقته ليست فقط لاستدعاء المطر، وإنما تشكل بذاتها سلاحًا ممتازًا في الصراع ضد آلهة الفوضى، لأنها تؤمّن له القدرة المطلقة. يكفيه أن يرميها على الجبابرة الخرافية، لتموت فورًا.

    أما هو فلم يكن يخاف الخسارة أبدًا، لأن هذه المطرقة تعود دائمًا إلى صاحبها.

    هكذا كان التصور الأسطوري للظواهر الطبيعية، وللصراع الأبدي بين الخير والشر. وهذا النوع من التفسير، هو بالتحديد ما يرفضه الفلاسفة.

    لكن ثمة شيء آخر، أبعد من هذه الاختلافات.

    لا يمكن للبشر أن يظلوا جالسين، مكتوفي الأيدي، منتظرين تدخل الآلهة، كلما وقع لهم شر، سواء بشكل قحط أو وباء. إن مسؤوليتهم أن يبادروا، ويمسكوا بزمام الأمور، ويخوضوا معركتهم ضد قوى الشر. وقد كان هذا يتم بأساليب مختلفة؛ ممارسات دينية أو طقوس.

    الممارسة الدينية الأكثر شيوعًا لدى قدماء السكندينافيين، هي عادة التضحية. فتقديم الضحية لإله، يجعله أقوى. ولذا فعلى البشر أن يقدموا ضحاياهم لإله الخير، كي يتمكن من الانتصار على قوى الفوضى. ومن أجل هذا الهدف غالبًا ما يُضحى بحيوان. لـ(تور) كان يُقدم تيس أو كبش، أما لـ(أُودين) فقد تقدم أحيانًا ضحايا بشرية.

    لقد وصلتنا الأسطورة الأكثر شيوعًا في النرويج، عن طريق قصيدة (تريمسكفيدا). التي تخبرنا أن تور قد استيقظ يومًا، ليكتشف أن مطرقته قد سُرقت منه. غضب غضبًا شديدًا، جعل يديه ترتجفان ومثلهما لحيته.

    بصحبة صديقه (لوكي) ذهب إلى فريّا، ليستعير أجنحتها لـلوكي، كي يتمكن من الطيران إلى (جوتنهيمن) أي (بيت الجبابرة) ويتحقق مما إذا كان الجبابرة هم المذنبون.

    يلتقي لوكي بـ(تريم) ملك الجبابرة الذي يؤكد له الفعلة الشنعاء، متباهيًا بأنه خبأ المطرقة، على عمق ثمانمئة متر تحت الأرض. وأضاف: لن تسترجع الآلهة المطرقة، إلا إذا تزوج هو من فريّا.

    أما

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1