Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

رؤيا العين
رؤيا العين
رؤيا العين
Ebook368 pages2 hours

رؤيا العين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في إطارٍ صوفيّ تمسك به حفيدة العطّار، تدور أحداث هذه الرواية في الفترة الحرجة التي تعيشها مصر قبل ظهور الدولة الفاطمية وفي بداياتها، فتصوّر الحالة الاجتماعية للشعب المصري آنذاك، والصراعات السياسية المتخفّية تحت عباءة الدين.
ينسج «مصطفى موسى» في «رؤيا العين» حكايتين متوازيتين تسيران جنباً إلى جنب، وتتشابكان مع حكاية تراثية ثالثة ترويها «عبلاء» على امتداد سنوات طويلة. تتقاطع المصائر وتُرسم الأقدار وتتكشف حقائق نزاعٍ سيبقى أبد الدهر.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933540708
رؤيا العين

Related to رؤيا العين

Related ebooks

Related categories

Reviews for رؤيا العين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    رؤيا العين - مصطفى موسىي

    رؤيا العين

    رواية

    مصطفى موسى

    رؤيا العين - رواية

    تأليف: مصطفى موسى

    تصميم الغلاف: نجاح طاهر

    978 - 9933 - 540 - 70 - 8 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2018

    Table

    جميع الحقوق محفوظة للناشرين دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأي طريقة دون موافقة الناشرَين الخطية.

    إهداء

    إلى ألِفِ الحَياةِ ويائِها...

    1 جبل الأعراف

    لم يدرِ تاجر القطن أيَّ حياةٍ يزهقها وأيّ حياةٍ يترك فيها الروح؛ فالحياتان غاليتان. تتوتّر ملامحه وتحتقن بالعجز كلّما مرَّ الوقت والقابلة أمامه، لا تعرف ماذا تفعل. أعيتها كلّ الطرق لإنقاذ مَن ترقد وسط بركةٍ من الدماء ومخاط الرحم وماء السّلى، أتعبها رأس الجنين المعكوس، تدفع بيدها إلى ماعون الحياة كي تعدِّل رأسه، فتُفاجَأ بجنينٍ آخر يصعِّب عليها مهمّتها. لم تفكّر في الخمسين ديناراً التي وعدها بها الشيخ مالك، حين علم أن من يسكن أحشاء زوجته الثانية هو ذكرٌ سيحمل اسمه، بعد حرمان سنوات طويلة. يعلو الصراخ ويشقّ سكون الدار ثانيةً، ينهار عزم القابلة وإصرارها على إنجاز ما أتت من أجله، يملؤها خوفٌ لا مُعين عليه، في تلك اللحظات، سوى الله. مدّت يدها مرّة أخرى داخل رحم كوثر المنقبضة، تشعر ببدء ارتخائها المخيف كأنها تودّع صاحبتها، صرخت بها القابلة مرّةً واثنتين، ثم استسلمت في الثالثة. خرجت لتخبر الزوج الملهوف على سماع صراخ ولديه. خيَّرته بين الأمّ وما يرغب فيه، فليس ثَمَّة أملٌ لكلَيهما. بإمكانها أن تمزِّق رحم الأم أو تخنق الطفلين بحبلهما السرِّي، فهي امرأة قادرة، قسا قلبها من كثرة ما مرَّ بها في مهنتها الموروثة عن الجدّات، لكنها لن تُقدم على أيّ حلٍّ من تلقاء نفسها؛ فالأب هو صاحب القرار.

    حاول مالك أن يجيبها، فوقفت الكلمات في حلقه كحجارةٍ من نار، زاغ بصره بين السماء وباب غرفة زوجته التي اختفى صراخها. لم يُنجده سوى صوت عبلاء، زوجته الأولى وابنة عمّه، نظر إليها نظرَ الملهوف إلى غيثٍ لم يتوقّعه. أغلقت باب غرفتها المقابلة لغرفة ضرّتها، يفصل بينهما صحن الدار الكبير، أشارت للقابلة أن تتبعها، تحمل في يدها قناني وأوعية وأخراجاً، فيها أعشاب وزيوت وسوائل نفَّاذة الرائحة. دلفت إلى الحجرة الدافئة بروائحها المختلطة القابضة، أمرت إحدى النساء أن تخفي المرآة المعلّقة على الحائط برداءٍ أسود. بركة من الدماء في المكان، شراشف المخدع وكليم الأرض، وقدرٌ من الرعب والهيجان يلطّخ وجوه الجميع. قالت إحداهن بصوت مرتعش:

    - لقد رحلت في غيبوبة ولا تستطيع أن تدفع أكثر.

    نهرتها عبلاء بحزم، ثم أخرجت بعض الأعشاب، نقعتها في الماء الساخن، سحقت بعض الخرزات الحمراء في معجونٍ أبيض، فتحوَّل إلى اللون الأرجواني في لحظة، دهنت به فم كوثر، ثم غسلت أسفل بطنها بمنقوع العشب. مدّت عبلاء يدها داخل الرحم، بعد أن دهنتها بالمعجون نفسه، حتى لامست أوّل جنين، فانزلقت قطعة اللحم الحمراء تحت أصابعها، خرج الوليد بصراخه وكأنه يحتفل بنجاته، لكنّ الأمّ كانت في مقامٍ آخر؛ تقف على الحدّ الفاصل بين عالمين، نزفت دماً كثيراً حتى بهت لونها وامتقع وجهها بصبغةٍ زرقاء.

    زجّت عبلاء بيدها مرّة أخرى لتلتقط الوليد الثاني، فانزلق هو الآخر بسهولةٍ وصمت، تقطع حبله بسرعة، وتقذف به إلى إحدى النساء المتحلّقات حولهما في خشوعٍ ورهبة. تدسّ إصبعها في قنّينة خشبية، فتفوح في المكان رائحة الزنجبيل والنعناع والفلفل الأحمر، يسعل الجميع عندما تقترب من أنف من اختارت العالم الآخر. ترفع كوثر رأسها في تلك اللحظة، تصرخ وهي مستلقية مغمضة العينين، كانت صرخة هادرة لا تشبه صرخة امرأة من قبل. تشنّج جسدها وتلوّى، ظنّت الواقفات حولها أنها تنازع النزعة الأخيرة، وحدها عبلاء عرفت أن كوثر في طريقها إليهن مرة أخرى، فقد ضحكت وكأنها اجتازت جبل الأعراف إلى جنَّةٍ ليس فيها سوى فرحةٍ بصراخ الوليدين، اقتربت ثم شخصت إلى عين ضرّتها باسمة:

    - إنهما ولدان يا كوثر، ولدان يا امرأة!

    هدأ الجسد وتلقّفت الأمّ طفليها تُلقمهما ثدييها. تركتهم عبلاء، بعد أن اختفت القابلة لتنال نفحة البشرى من مالك.

    - وحقّ من رفعها سبعاً وبسطها سبعاً، لن أرضى بأقلّ من مئة دينارٍ عباسيّ أبيض.

    انتصبت القابلة بزهوّ أمام من تُلجم الفرحة لسانه، هزَّت البشارة قلبه فسقط عنه الكمد، ولم يجد بُدّاً من إلقاء كيسٍ صغير في كفّها، يدور بعينيه خلفها، يستكشف بلهفة أمر مَن بالحجرة.

    تظهر عبلاء على عتبة الباب، أنهكها مجهودٌ لم تعتَده من قبلُ، منذ زواجها من ابن عمّها الذي اختارته دون أخيه داوود، ورضيت بما قسمه الله لهما، أحبّته وصبرت عليه كما صبر هو عليها، وكرهت أخاه داوود كراهة التحريم والخوف في آنٍ واحد حدَّ الجزع كلّما رأته، بعد حادثةٍ وقعت بين الثلاثة في طفولتهم، تجفل نفسها وهي في هذا العُمر العشريني كلّما ذُكر اسمه أو رأته. علمت كلّ أسرار الأعشاب منذ صغرها؛ فوالدها عطّار ابن عطّار، سليل عائلة يعرفها الجميع، كانوا يقصدونه في استشاراتهم الغريبة والعجيبة، تسمعه وهي طفلة يصف للمأزوم والعليل والمجذوم والمجذوب، حتى قاطعة الحَبَل والعِنِّين الخالي من الماء المهين. لم يبخل عليها والدها في أن تتعلّم القراءة والكتابة، أتى لها بمعلّم حفظت على يديه القرآن الكريم والحديث؛ فهي الابنة الوحيدة، وزهرة أبيها، في دارٍ تجد سعادتها فيها بين أرفف الكتب، والمخطوطات الموروثة من جدّتها زوجة العطار الأكبر. كانت تفاجئ أباها في دكّان عطارته، تجلس معه حتى المساء، على غير عادة الفتيات، إذ يكُنّ، غالباً، مغرَماتٍ بالجلوس في الدار وتعلُّم فنون الطبخ من أمّهاتهن.

    فرحة مالك الصغير لم تخفَ على العطّار الأب، يراها آتية من بعيد في ردائها المحبوك على جسدها المخفيّ تحت حرمل فضفاض. فيدبّ النشاط في جسده، يقلب حانوت عمّه رأساً على عقب؛ فالفوز بقلبها هو أهمّ ما في حياته. يمسح الأرفف الخشبية ويضع القوارير والأجولة في أماكنها مرّة أخرى، على الرغم من عشقه للتجارة لم يترك دكّان مَن ربَّاه هو وأخاه، بعد موت والدهما. وحتى شبَّا إلى مرحلة الصبا، لم يتأخر الأب قبل أن يرحل في تزويجها لمن اختارته قبل أن يختارها.

    يأبى مالك أن يستمرّ في العمل عطّاراً، تغويه التجارة بفنونها وحيلها. يجوب البلاد لجمع القطن، يسافر من جنوب مصر في سوهاج وأسيوط، إلى بلاد الشام والحجاز وبغداد. وتنقل عبلاء ثروة من غرفة أبيها إلى قاعتها الواسعة، من كتبٍ ومخطوطات، خصّتها لتكون خلوتها مع عجائب النباتات والتوابل وبذور الأرض، التي لم تفلح في أن تأتي لها بولدٍ يقرّ عينَي مالك الصائم بدنه عن الإنجاب بعد أربعة أعوام من الزواج.

    استسلمت أخيراً لنصيبها في الدنيا، وأزاحت عبئاً كانت تحمله وتكافح ضدّه، حين رضيت. وبقي مالك الحزين يناطح قدره، كأنه كبشٌ حرون، يفتقد الشجاعة كعادته، يخفي ما في صدره فتبوح به عيناه الفضَّاحتان، إلى أن كان ذات مساءٍ بارد، اقترب من عبلاء يلتمس منها الدفء، اقترب أكثر فالتفتت إليه، تجده ينقّب وجهها اللامع الذي يشبه بريق النجوم، كانت تعشقه، والعشاق كالكواكب، تستدرج الأفئدة لتملأها فرحة حتى في أشدّ الأوقات حزناً. يستغرق في الصمت حين دفَّأته. تحتضن رأسَه بذراعيها، بعد أن ملأت وجهه بالشبع، كما بدا على وجهها الارتواء، تختفي نظراته بين نهديها، لا يعرف كيف يخبرها أنه يحبّها. تضع يدها على رأسه والأخرى تلمس بها صدره، وكأن باللمس يختفي التوتر. تنطق كما تعوّدت منه دائماً؛ فهي أشدّ جرأةً وأكثر تسامحاً عندما تنظر إلى عينيه تحدّثه، أما هو فلا يستطيع أن يلاحق الزمن، يبقى حائراً مرتعباً. تخبره أن الرحم الجافة لا أمل فيها كالثمرة المعطوبة، وليس في العمر انتظار للّحاق بما يريد، لا وقت باقٍ ليضيّعه في الصمت، تطلب منه أن يتزوج ويملأ الدار الواسعة بأطفاله. ستحبّهم كما تحبّه، وستحبّ زوجته كما تحبّ أطفاله.

    أزاحت عبلاء ما يجثم على صدره، فشعر مالك حينئذٍ أنه خفيف الوزن، ثَمَّة خفَّة في كلماتها أسكنته، صدّقها ضميره بتلك العفوية التي راحت تتكلّم بها معه، فمحت شعوره بالذنب. ويتمُّ الأمر كما أراد مالك، ومن قبله عبلاء. حين أتى بكوثر اليتيمة إلى الدار في الليلة الأولى، كان يتبختر في مشيته بكبرياء الطواويس، وحوله أهل درب العطّار من الرجال والشباب، وبقيت عبلاء في صومعتها رابطة الجأش هادئة في استكانة غريبة. تسمع التهاني والدعوات الخافتة، كأن من ينطقون بها يخشون على امرأة يعرفون سخاءها وقدْرَها، فلا يرغبون في نكء جرح كرامتها، لم يعلموا أن النار لا يشعر بها إلا القابض عليها، فلا أحد يتوجَّع نيابة عن أحد. كلّما أطلّت الغيرة عليها ذكّرت نفسها بأنها تردّ له السعادة التي منحها إيّاها بأكثر منها.

    يهدأ حال بيت العطار، الذي تحوَّلت فيه عبلاء، خلال أيامٍ قليلة، من زوجةٍ صاخبة إلى امرأة هادئة، تستغرق وقتها في قراءة الكتب ومعرفة أسرار الأعشاب وصنع الأمزجة والمعاجين والسوائل. كلّ شيء قريب منها في محرابها الذي كدّست فيه مخطوطاتٍ قديمة لوصفاتٍ تعالج بها الأوجاع. ورثتها من أبيها كما ورثها الأب عن الجدّ وجدّ الجدّ. يقرع أهلُ الدرب بابَها في أي وقت، يستغيثون بها، يطلبون وصفة شافية، أو عُشباً يداوي أمراضهم وأبناءهم.

    تجاهلت عبلاءُ بُعدَ مالك عنها مع عروسه الجديدة. راحت تشتري القدور والقناني والأوعية، تخلط وتمزج وتعبّئ في أحقاق ما ندر من الأعشاب وما جفَّ. تطحن وتسخِّن وتبرِّد، لا تعرف أن عين الوافدة الجديدة تراقبها، ثم تخشاها بجهلها لما تعتقد أنه سحر. فأيُّ امرأةٍ راجحة العقل تفعل ذلك؟! لكنها قَبِلَتها على مضض في آخر الأمر، أسكتت شيطان الغيرة، بعدما قال لها مالك مازحاً إن ابنة عمه تمارس السحر الحلال الذي لا يضرّ، بل ينفع. ربما قبلتها لكونها هي الزوجة الثانية الغريبة عن أبناء العم، ولن يُسمح لها بخوض الحروب مع ضرَّة لها شأن في قلب الزوج، شأن لم تعرف له حدّاً منذ أول ليلة مع مالك؛ فهو لم يتزوجها حبّاً في النساء؛ فعبلاء جميلة، مكتحلة العينين، بوجهٍ صبوح، وبدنٍ معطّر بمسحة المسك والياسمين. كانت تراها كثيراً في حمّام النساء، حين تدلف من بابه إلى البركة والحوض الرخامي، تضع «بُقجتها» المصرورة في صندوقٍ كبير مستطيل، تحمله قوائم من خشب الجوز فترتفع به عن الأرض شِبراً، حُفرت عليه غصون نباتاتٍ تتمايل، تنفصل وتتصل في ما بينها بمثلثاتٍ ومربعات من العاج يداعب لون الخشب العتيق، كما يداعب الماء جسدها الأسمر بلون الأبنوس الأفريقي. تُخرج من «بُقجتها» أعشاباً معطرة، وقارورة زيتٍ تدهن به جسدها، بعد أن تنزع عنها ملابسها تحت القبّة، تجلس على المصطبة تتأمل المِشكاوات، متجاهلة نظرات حريمٍ عاريات في أحواض الماء الساخن، تغوص في الماء المخلوط بما تحمل، في حوضٍ ليس فيه من النساء غيرها، فيرتفع بخار الماء والحرارة، تزيل عن جسدها رائحة الياسمين القديم لتستبدل به جديداً. كُنَّ يحسدنها ويضعن ملابسهن في الصندوق الخشبي لتتعطّر بما يحتويه من أشيائها. يتأمّلن جسدها الأسمر اللامع تحت ضوء القناديل، يتلمّظن عليها وعلى نهديها القويّين باستدارةٍ يفتقدنها في أثدائهنّ المتهدّلة وسيقانهنّ المنفرجة.

    2 سرُّ الليل

    على ربوةٍ عالية غرب مدينة الفسطاط، بنى العطّار الأكبر داره من حجارةٍ جلبها له البنَّاؤون من المباني القديمة، أسفل أهرامات الفراعين العماليق. تطلّ الدار على النيل من بعيد، تحيط بها أشجار الزيتون والتين من كل جانب، كان بيتاً عتيقاً كأنه بُني لأجيالٍ متعاقبة. تتكاتف بجواره بيوتُ مَن جاوروه من أصحاب الحرف والمهن، الذين أبوا أن يسكنوا في مدينة القطائع؛ حيث لكلّ حِرفة قطيعةٌ يسكن فيها عاملوها. حتى من أتى من نسلهم بقوا في درب العطّار ولم يتركه أحفادهم.

    بيوتهم متلاصقة كما هي حياتهم. آياتٌ من القرآن مكتوبة على الأبواب لتجلب الخير وتردّ كيد الحاسدات، أو تردّدها النساء في أيام خصبهنّ ليتمّ حملهنّ. تهبُّ في وجه القادم إلى الدرب رائحة ثمار التين وصوت حفيف أشجار الزيتون. تحت إحداها كان مالك ساجداً لله شكراً، برَّ بنذره الأول، فأطعم الجوعى وكسا كلّ من يعرفهم من الفقراء. كثر وجوده في الدار، ليس من أجل طفليه إسماعيل وهارون فقط، بل من أجل عبلاء؛ فهو يشعر بامتنانٍ نحوها، وحبٍّ زاد بعد قدوم ولديه إلى الدنيا، كأنها هي مَن منحتهما له. وبقيت علاقتها بكوثر كوترٍ مشدود، تقفز إلى ذهن الزوجة الثانية ما فعلته ضرّتها من أجلها وهي تتأرجح بين الكفَّتين، فيرتخي الوتر لأيّامٍ قليلة ثم يعود كالسابق.

    لم تلتفت عبلاء لغيرة كوثر؛ فوقتُها لا يكفي الصغيرين وانشغالَها في صومعتها التي باتت أكثر ازدحاماً، بعد أن تمنَّعت عن مالك مراراً، حين ولج غرفتها ذات يوم يلتمس ما اعتادا عليه، ونظره معلَّق بوجه عبلاء، فغمرته بابتسامة عاتبة. تصنَّع فحص الأشياء المحيطة به بحركاتٍ ولهى، اقترب من الفراش، لامسه بكفّ يده ثم رمقها بنظرة متواطئة، متسائلاً عن أحوال الصغيرَين معها. أجابته وهي تطوي ملابس تصفُّها في صندوقها الخشبي:

    - إن لهما طعماً ورائحة يا بن عمي، أتريد أن تأكل شيئاً؟

    ضحكت فضحك مالك، وأكملت بدلالٍ معلوم له، بعد أن أدركت نظرة اللهفة:

    - بك رغبة يا بن العم؟

    مضى مالك تجاه الباب، تأكّد من غلقه، ثم أسدل ستارة النافذة، أمسك بيد عبلاء وتقدّمها إلى الفراش، توقفت لدى وصولها إلى منتصف الغرفة، نزعت يدها ورفضته، فاحتار في سبب نفورها منه.

    - اشتقت إليكِ يا عبلاء!

    - ليس أكثر من شوقي يا بن العم.

    - فلماذا صدُّك عني؟ أوَليس اللُّقا هو الحبّ؟

    - اللُّقا نوعٌ من الحبّ وليس كلّ الحبّ يا بن العم.

    انزعج واغتاظ صائحاً بغضب:

    - ما بال «ابن العم»؟ أنسيتِ اسمي أم هذه غيرة النساء؟

    تململت من كلماته، أولته ظهرها تلفّ جسدها بإزار تقي به نفسها من برودةٍ انتابتها فجأة. قالت له بحزنٍ تعرف وجعه منه:

    - أستحي يا مالك من لُقا الشوق وهناك من يعلم خارج جدران غرفتنا.

    - أنتِ زوجتي كما هي زوجتي.

    - ولكنّي حبيبتك قبلها، يا بن العم!

    - ابن العم ثانية يا عبلاء! حسناً، سأبني لكوثر داراً أخرى و...

    قاطعته عبلاء بغضب قائلة وهي تدقّ على صدرها:

    - وتأخذ منّي إسماعيل وهارون! لا أسامحك إن فعلتها، ورأس جدّي!

    ظلَّ مالك صامتاً، ثم بدأ يحرّك ذراعيه كأنه يتعارك مع الهواء. تتطلّع إليه عبلاء بنظرة تفضح وميضاً لخيبة رجائه حين خرج وصفق الباب خلفه، فزاد البعد وطلَّ الزهد، لم يخفّف حدّته إلا إسماعيل وهارون، يملأان الدار صخباً. يؤنسان أوقاتاً تقضيها في غرفة كانت لها فيها ذكرى مع زوجها، لكنها أضافتها إلى قاعتها في الأيام التالية، هدمت الجدار الفاصل بينهما فتاهت معالمها. لم يعترض مالك ولم يُبدِ انزعاجاً؛ فهو ينام الآن في حجرة كوثر والطفلين، وهي لا حاجة لها إلا أن تشعر بالراحة والرقاد بين أشيائها الثمينة.

    تعوَّدت كوثر على ازدحام الدار من جيرانٍ وصديقات ضرَّتها، تأتي أقدم جارة وصديقة الطفولة وقت الضحى، فَتِيحَة، زوجة الشيخ «أبو بكر» إمام المسجد العتيق، تجلس تحت ظلّ شجر التين ومعها ابنتها فاطمة. يلعب الصغار حولهن، يفكّر ثلاثتهن في ما سيطهونه لأزواجهن، فتفوح القدور على الكانون في الظهيرة بروائح توابل عبلاء، وتخرج الأطباق في بعض الأيام إلى بيوت جيرانهن، أو تنضمّ إليهن زوجات الفخار و«أبو ميرا» والحُصريّ في أيامٍ كثيرة، يغيب فيها مالك عن الدرب، بعد أن كثرت قوافل تجارته، يرحل مع بضاعته ويدفع المال للرجال كي يحرسوا بضاعته من نهب قُطَّاع الطرق؛ فقد انتشرت السرقة والقتل في ما بين الحجاز وبغداد، بعد أن ضعفت قبضة الخليفة العباسي، لكنه لم ينسَ باقي نذره الذي لم يعرف به أحد، حتى زوجته وابنة عمه، نذرٌ أقسم فيه أن يحجّ وزوجته وابناه إلى مكة، يطعم طير الكعبة قبل البشر، فلمَّا اشتدّ عودا الصغيرين وقويا على السير، أفصح مالك عن رغبته لزوجتَيه. فرحت كوثر، ولم تبالِ بمشاقّ الرحلة وفي حجرها الطفلان، وصمتت عبلاء، ثم كان رفضها بغصّة أنثى لم تثنِ مالك عن عزمه. استعدّ بتجهيز قافلته بجمالٍ وأحمال وتجارة أيضاً في كنف تابعٍ له. أعدّ الصغيرين وزوجته كوثر للرحلة المشهودة.

    في تلك الليلة لم تنَم عبلاء، ظلّت مستلقية على الفراش ما بين عتمة المساء وظلمة الليل، مفتوحة العينين بين أرفف القوارير والأجولة والمخطوطات، تحملق في فراغٍ أسود، يراودها إحساس بالوحدة عميق، وخوف لا تقوى على دفعه خارج رأسها. كان بإمكانها أن تسمع أنفاس كوثر ومالك وولديه عبر صحن الدار، ومن خلف باب الحجرتين.

    لم تنَم إلا بعد أن سفَّت مسحوقاً يهدِّئ ذلك القلق القابض على أحشائها،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1