Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أوراق برلين
أوراق برلين
أوراق برلين
Ebook321 pages2 hours

أوراق برلين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

متنقّلاً بين أسواق حلب الأثريّة وبين بارات برلين، يُعيد بطل رواية "أوراق برلين" اكتشاف نفسه مرّةً بعد مرّةٍ، ويفتح يديه لتجاربَ متنوّعةٍ، وأناسٍ جُدد، ويصيخ السمع منتظراً أن يقصّ عليه أحدهم حكايةً جديدةً كي يدوّنها، ونراه يهرب من قصّة حبٍ مخفقةٍ عبْر استكشاف تاريخ ألمانيا في الحربَيْن العالميّتيْن: الأولى، والثانية، ليضيع في الذكريات، والصور، والخرائط، بين حلب الغربيّة والشرقيّة وبين برلين الغربيّة والشرقيّة، ويقلّب في لوحات الرسّام الألمانيّ أوتو ديكس، التي جسّدت بشاعة الحرب العالميّة الأولى؛ كي ينسى صور الدمار والقتل التي احتفظت بها ذاكرته.
يتجوّل نهاد سيريس في روايته بخفّةٍ بين الأماكن، والأشخاص، والأحداث، ضمن نصٍّ متدفّقٍ واحدٍ، ويتخفّى عمله وراء طابعٍ توثيقيٍّ ينقّب في تاريخ الحروب وعمارة المُدن، وبعدئذٍ يفاجئ القارئ بجرعةٍ غير متوقّعةٍ من الخيّال عن أعاجيب وقوى خارقة تُعين الناس على تجاوز ويلات الحرب هرباً نحو بداياتٍ جديدة.
فهل يمكن للمرء الفرار من حربٍ في بلاده عبْر الغرق والتنقيب في تاريخ حربٍ أُخرى وقعت في زمانٍ ومكانٍ آخرين؟
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933641399
أوراق برلين

Related to أوراق برلين

Related ebooks

Related categories

Reviews for أوراق برلين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أوراق برلين - نهاد سيريس

    الغلافtitlepage.xhtml

    أوراق برلين

    أوراق برلين - رواية

    تأليف: نهاد سيريس

    تصميم الغلاف: قهوة غرافيكس

    978 - 9933 - 641 - 39 - 9 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2021

    دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع

    سوريا - دمشق - ص ب: /9838/

    هاتف-فاكس: /6133856/ 11 00963

    جوال: 00971557195187

    البريد الإلكتروني: addar@mamdouhadwan.net

    الموقع الإلكتروني: addar.mamdouhadwan.net

    fb.com/Adwan.Publishing.House twitter.com/AdwanPH

    جميع الحقوق محفوظة للناشر دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأية طريقة دون موافقة الناشر الخطية.

    إن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع غير مسؤولة عن آراء المؤلف وأفكاره. وتعبر وجهات النظر الواردة في هذا الكتاب عن آراء المؤلف وليس بالضرورة عن رأي الدار.

    awraq_barlen_split1.xhtml

    نهاد سيريس

    أوراق برلين

    رواية

    إلى جين وميخائيلا

    عدت إلى البيت في وقتٍ متأخّرٍ من الّليل، وضعت المفتاح في قفل الباب، ثمّ أدرته، فدار بسهولةٍ هذه المرّة، في العادة يحتاج إلى عدّة محاولاتٍ قبْل أنْ يدور، والسبب على ما أظنّ هو سوء صنع المفتاح. كنت قد قرّرت عدّة مرّاتٍ أنْ أذهب إلى ورشة صنع المفاتيح لبَرْده وإصلاحه، ولكنّني أنسى دائماً، ولا أتذكّر إلّا عندما أحاول أنْ أفتح الباب من جديد فيَحْرن. كان البرد شديداً في الخارج، فقد كان ذلك في شهر كانون الأوّل، وبرلين باردة في هذا الشهر، وفي الشهر الذي بعده، والذي بعده، ولا يتحسّن الطقس إلّا في نيسان. أشعلت النور، ثمّ خلعت معطفي الذي اشتريته في السنة الفائتة من محالّ «غاليريا»، وخلعت الّلفحة، وعلّقتهما معاً، ثمّ جلست على المقعد أمام التلفاز. كنت أنتظر وصولي إلى البيت لكي أشعل غليوني؛ إذْ لا يمكنني التدخين شتاءً في الشارع، فتدخين الغليون يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ، كما أنّني أكره التدخين وأنا أسير، بلْ أحبّ التدخين، وأنا جالسٌ ومرتاحٌ على مقعدي.

    جلست ساكناً لمدّة ساعةٍ، حشوتُ خلالها غليوني عدّة مرّاتٍ، وكانت الغرفة دافئةً، وكنت أتمتّع بهذا الدفء، فلمْ أشغّل التلفاز، ولمْ أنهض لأغيّر ثيابي، كنت أفكر، والتدخين يساعدني على التفكير؛ كنت في بعض الأحيان أجول بنظري أنحاء الغرفة، خاصّةً في اتّجاه تلك الّلوحة المعلقة، التي تمثّل امرأةً جالسةً على مقعدٍ في أحد شوارع برلين، بينما أخفتْ رأسها في كيسٍ بلاستيكيٍّ، كانت المرأة قد فتحت قميصها، فبانت حمّالات صدْرها، بينما كشفتْ عن فخْذيها، في حين ظهرت في الخلفيّة واجهةٌ زجاجيّةٌ لدكّان تصليح أجهزة الحاسوب، ويبدو أنّ الصورة قد التُقطت في التسعينيّات؛ لأنّني أرى فيها شاشة حاسوب بي سي من طرازٍ قديم. كريستا هي التي علّقتها هنا هديّةً لي في مناسبةٍ لمْ أعد أذكر ماذا كانت، وقالت لي: إنّها هي التي التقطتها، فقد كانت قد خضعت لدورةٍ في التصوير الفوتوغرافيّ حين كانت شابّةً، واشتركت في عدّة معارض، باعت خلالها عدّة لوحاتٍ، ثمّ سافرت برفقة أحد زملائها إلى كولومبيا ليبحثا عن عوالم مختلفةٍ، فصوّروا الغابات، والسكّان، والحيوانات التي تسكن غابات أميركا الجنوبيّة، وقد عادا بذخيرةٍ هائلةٍ وفريدةٍ من الصور المُلتقطة، فحصلا بذلك على درجاتٍ عاليةٍ في نهاية الدورة، إلّا أنّ ما جرى لها هناك كاد يجعلها شهيدة الفنّ الفوتوغرافيّ.

    ناما في أكواخ السكّان في القرى المتطرّفة والبعيدة عن الحضارة؛ إذْ إنّه لا يمكن إيجاد ما يستحقّ تصويره إلّا في تلك الغابات. كولومبيا بلدٌ رائعٌ للتصوير؛ بسبب طبيعته، وبسبب الحيوانات الغريبة التي تعيش فيه، والتي تُقدَّر بعُشْرِ الأنواع التي تعيش على الكرة الأرضيّة، وقد قرأت في إحدى الموسوعات التي وجدتها في إحدى المكتبات، بعد أنْ سمعت قصّة كريستا، أنّه في كولومبيا عشرات الآلاف من الأنواع النادرة من الحيوانات والحشرات: من قرودٍ، وفراشاتٍ، وخنافس، وطيورٍ، وسحالٍ، وأسماكٍ، وتماسيحَ، وضفادعَ، ونملٍ، وغيرها، وقد رَعبتني صورةٌ لحشرةٍ تسمّى «حريش الأمازون»، وهي حشرة أمّ أربعة وأربعين، يصل طولها إلى خمسٍ وعشرين سنتيمتراً، تقتل فرائسها من الحشرات الأُخرى حين تعضّها، وتحقن فيها سمَّها، الذي هو عبارة عن مادّةٍ شديدة السمّيّة، مكوّنةٍ من عدّة موادّ كيميائيّةٍ تشكّل مجتمعةً سمّاً خطيراً لا يمكن لهذه الحشرات الهرب من مصيرها المحتوم؛ أمّا إذا عضّت إنساناً ما، فإنّ هذا السمَّ يسبّب له آلاماً فظيعةً، وكذلك الحمّى، والاحمرار، والقشعريرة، والتقيّؤ، والضعف الشديد، وهذا ما حصل لكريستا حين عضّتها حشرةٌ مثل هذه.

    في إحدى الّليالي، وبينما كانت كريستا نائمةً، عضّتها حشرةٌ ما في رجلها، فاستيقظت وهي تتألّم من جرّاء تلك العضّة، وفي الأيّام التالية، وبعيداً عن الأطبّاء والمشافي، احمرّ فخْذها، وتضخّم مكان العضّة، ولمْ تعُد تستطيع السيْر، ثمّ بدأ الاحمرار ينتشر إلى أماكن جديدةٍ في فخْذها، نزولاً إلى ركبتها، وصاحَبَ ذلك حمّى وارتجاف، فشعرت كريستا حينها بأنّها ستموت، إلّا أنّ امرأةً عجوزاً تعيش في القرية راحت تعالجها بمراهم من صنعها، وتسقيها سائلاً أخضرَ الّلون، من جرّاء الموادّ والأعشاب التي نُقعت فيه. تحسّن حال كريستا قليلاً، فأصبح باستطاعتها الصمود والسفر في قاربٍ مصنوعٍ من جذع شجرة «ماهوغاني»، عبْر النهر الذي يجتاز الغابات، إلى أقرب قريةٍ تحتوي على مستوصفٍ، وهكذا أُنقِذتْ، وأُنقِذتْ –أيضاً- رِجْلُها من البتْر.

    عادت كريستا إلى برلين، وفي جعبتها لفائف لألف صورة نيغاتيف، فانشغلت في الأشهر التالية في إظهارها وطبعها، ثمّ قامت بوضعها كلّها في صندوقٍ، ورفعته إلى أحد الرفوف من دون أن تفكّر بالاستفادة منها، أو عرْضها، أو إرسال بعضها إلى مجلّة ناشونال جيوغرافيك، التي كانت قد راسلتها قبْل سفرها، ووافقت المجلّة، وطلبت منها إرسال ما تراه مناسباً من الصور بعد العودة، على أنْ تُرفق معها قصّة مغامرتها. كانت كريستا آنذاك في العشرين من عُمرها؛ إذْ سرعان ما غيّرت اتّجاه تفكيرها نحو المسرح.

    لَحظتُ أنّ الساعة قد اقتربت من الواحدة، فنهضتُ وخلعتُ ثيابي، ثمّ استلقيت، وفتحت رواية «الحارس في حقل الشوفان» لسالنجر، واستكملت قراءتها ابتداءً من الفصل الثاني عشر، حين استقلّ هولدن كولفيلد، بطل الرواية، سيّارة أُجرةٍ في وقتٍ متأخّرٍ من ليل نيويورك، وسأل السائق عن البطّ في حديقة السنترال بارك. كان كولفيلد يتساءل: أين يذهب البطّ في الشتاء القارس؟ فاستشاط السائق غضباً، وفقد أعصابه بسبب السؤال. ابتسمتُ، وتابعت القراءة حتّى نهاية الفصل، ثمّ أغلقتُ الكتاب، على الرغم من استعدادي لمتابعة القراءة حتّى الصباح، وأطفأتُ النور ونمت.

    في اليوم التالي، لمْ يكن لديّ أيّ شيءٍ أقوم بفعله، ولمْ تكن لديّ رغبةٌ بالكتابة، فقد كنت أشعر بكسلٍ ناعمٍ، ثمّ إنّه كان يوم أحد، وفي أيّام العطلة لا أحبّ أنْ أعمل، فلمْ يؤنّبني ضميري كثيراً. في الصباح، ارتديتُ ثيابي، ووضعتُ معطفاً سميكاً، فقد كنت قد قرأتُ في الحاسوب أنّ درجة الحرارة اليوم ستكون ثلاثة تحت الصفر، فوضعتُ قبّعتي الصوفيّة على رأسي، ولففت رقبتي بالشال، وخرجت. لمْ يكن الطقس غائماً، بلْ كان بارداً فقط. مشيتُ حتّى الشارع الرئيس، فوجدتُ محلّ المعجّنات مفتوحاً، دخلتُ، فطلبتُ قهوةً بالحليب من القياس الكبير في كوبٍ كرتونيٍّ، واشتريت قطعة كرواسان بالجبنة، ثمّ خرجت حاملاً الكيس والقهوة. سرْتُ مسافة مبنيَيْن، ثمّ انعطفت يميناً في اتّجاه نهر «هافل».

    جلستُ على مقعدٍ في مواجهة النهر، ورحتُ أقضم الكرواسان، وأرتشف القهوة. إلى اليمين، كانت هناك عدّة سُفنٍ طويلةٍ مصطفّةٍ إلى جانب الرصيف، وهي سُفنٌ خاصّةٌ بنقل الرمل والحصى، أو الوقود. هذه السفن تمنع رؤية النهر جيّداً لمنْ يجلس على المقاعد؛ لهذا فإنّني لا أجلس، أو أمشي في الاتّجاه الأيمن. إحدى هذه السفن يعيش صاحبها فيها، وقد جهّز لذلك غرفة معيشة، كأيّة واحدةٍ في أيّ مبنى عاديّ، حتّى إنّه وضع أصُص نباتات الزينة في مساحةٍ بجانب الغرفة، فتحوّلت إلى ما يمكن تسميتها بالشُّرْفة.

    لمْ يكن في النهر أيّ بطٍّ يسبح، أو يبحث عن الطعام، فرحتُ أتساءل مثلي مثل بطل سالنجر: أين يكون البطّ الآن؟ حتّى إنّ المتنزّهين كانوا قلّة، ولكنّ مركباً صغيراً مرّ من أمامي، وفيه رجُلٌ وامرأةٌ، وقد ارتديا ثياباً سميكةً، وكانا ينظران إليّ، فرفعتُ لهما كوب القهوة، فرفعا يديهما يردّان على تحيّتي، ومرّ -أيضاً- قطارُ الضواحي الأحمر على جسر سكّة الحديد على يساري، منطلقاً في اتّجاه مركز المدينة.

    أسكن في منطقة شبانداو، التي تقع في الطرف الغربيّ من مدينة برلين، على بُعد ربع ساعةٍ من مركز المدينة على متن ذلك القطار الأحمر. أحببت السكن في هذه المنطقة؛ لأنّها هادئةٌ، وأناسها طيّبون، وفي الّليل تكون ساكنةً سكون الصحراء، والناس فيها ينامون بدءاً من الساعة التاسعة، ويستيقظون قرابة الفجر؛ للذهاب إلى أعمالهم، حتّى إنّني أسمع الأصوات الصادرة عن حمّام جارتي في الرابعة إنْ لمْ يكن أبْكر. صوت خروج بولها المديد، وسقوطه في ماء التواليت لا يوقظني إنْ كنت نائماً، ولا حتّى صوت جريان ماء الدوش حين تستحمّ، وأنا لا أعرف اسم جارتي التي تحتلّ الشقّة المجاورة لشقّتي؛ لأنّها كتبت على الباب اسم عائلتها، وليس اسمها، إلّا أنّها شديدة الّلطف، وتريدني أنْ أتحدّث إليها بالإنجليزيّة من أجل التمرين، ولذلك فإنّنا غالباً ما نفتح حديثاً قصيراً حين أصادفها على الدرج، أو خارج المبنى. لديها قطّة تكون في انتظارها خلف الباب حين تعود من عملها، وفي كلّ مرّةٍ كانت تصحّح لي بأنّ القطّة «هو» وليست «هي». وفي إحدى المرّات سألتها: ماذا تفعل بالقطّة حين تسافر، فقالت: إنّ أباها، الذي يسكن في مكانٍ قريبٍ، يأتي للعناية بها، وهو الذي نصب شبكةً في الشُّرفة لكيلا تقفز القطّة (القط) إلى الأسفل، فنحن نسكن في الدور الرابع الأخير للعمارة.

    والعمارة ليست قديمةً، ولا حديثةً؛ مكتوبٌ على مدخلها أنّها بنيت في عام 1960؛ أي: قبْل بناء الجدار بين برلين الشرقيّة وبين برلين الغربيّة، وبُنيت أيضاً على عَجَلٍ من دون أيّة ديكوراتٍ، وعلى نحوٍ شديد البساطة، فقد كانت برلين تعيد بناء نفسها بسرعةٍ بعد دمارها شبه الكامل في الحرب. بعض الأبنية لم يُدمّر بالكامل؛ فكثيرٌ منها دُمِّرت بعض أدوارها، وسلمتْ الأدوار الأُخرى، ولذلك حين شرعوا بإعادة البناء لمْ يكن عندهم وقتٌ لإعادة الواجهات كما هي في الأدوار السليمة، فأزالوا الزخارف منها لكي تتشابه مع ما يُبنى من جديد، وهذا ما يلْحظه كلّ من يمرّ في شوارع «شارلوتنبرغ» السكنيّة مثلاً؛ فهناك أبنيةٌ بزخارف جميلةٍ، بينما الأبنية المجاورة ملساء، وتخلو من الزخارف التي تحيط بالنوافذ، بلْ هي مجرّد فتحات، وقد عرفتُ أنّ القصف الجويّ الذي حدث بين عامَيْ: 1941، و1945 قد دمّر ما يقرب من ستّمئة ألف شقّةٍ في برلين وحْدها.

    كنت قد أمضيت ما يقارب الساعة جالساً بجانب النهر، فشعرتُ كأنّني كنت أتجمّد، فنهضتُ، ومشيتُ على الطريق الترابيّ على طول النهر، الذي يستعمله المتنزّهون وسائقو الدرّاجات الهوائيّة. أردتُ أنْ أسير في اتّجاه شبانداو القديمة، التي كانت في الماضي بلدةً منفصلةً عن برلين، ويقال: إنّه جرى فيها استفتاءٌ فيما إذا كانت ستنضمّ تنظيميّاً إلى برلين أم ستبقى بلدةً منفصلة، ويقال: إنّ السكّان فضّلوا البقاء منفصلين، إلّا أنّ امتداد العمران جعلها حيّاً من أحياء المدينة، حتّى إنّه تجاوزها بكثيرٍ إلى حدود غابة شبانداو.

    عبرتُ أسفل الجسر، كان هناك بعض المتنزّهين والعشّاق يحتلّون بعض المقاعد، وكان هناك رجُلٌ يجلس بمفرده، وهو يشرب البيرة من فم الزجاجة، عرفتُ الاسْم التجاريّ للبيرة، كانت من ماركة «بِكس». كان الرجُل يتابعني بعينيه قابضاً على الزجاجة، بينما أراحها على فخْذه. كان في أواسط الأربعينيّات، متعبَ الوجه، وغير حليقٍ، بينما ارتدى معطفاً سميكاً ذا لونٍ عسليّ. ابتسمتُ له، ورَجَوْتُ له يوماً سعيداً، ولكنّه لمْ يردّ. على المقعد التالي جلست امرأةٌ ترتدي معطفاً من الفراء الصناعيّ، في حين ارتدت قبّعةً ذات رفرافٍ صغيرٍ، وخبّأت يديها بكفوفٍ جلديّةٍ، وكان يجلس إلى جانبها رجُلٌ عجوزٌ يسعل ويتمخّط على الدوام، وكانت المرأة تنظر إليه بينما خبّأت أنفها بيدها؛ فقد كانت تخاف العدوى. نظرت إليّ، وقد رسمت على وجهها تعبيراً لطيفاً كأنّها كانت تعتذر من تمخّط زوجها، فابتسمت لها، ورفعت كتفيّ، وأنا أتجاوزهما.

    وضعت كوب القهوة والكيس الفارغَيْن في الحاوية برتقاليّة الّلون، والمعلّقة على عَمود إنارةٍ، التي تحتوي على ملصقٍ يطلب إلى الناس وضْع أيّ شيءٍ يرغبون بالتخلّص منه، حتّى الأكياس السوداء التي يستعملها أصحاب الكلاب لِلَمّ براز كلابهم في أثناء اصطحابها للنزهة، ثمّ تابعتُ مسيري حتّى جسر السيّارات على شارع «آم يوليوستورم»، وذلك قبْل أن يخرج من النهر فرعٌ صغيرٌ يحيط بالمنطقة من الطرف الأيسر، فتتحوّل شبانداو القديمة إلى جزيرة. انعطفت نحو اليسار مبتعداً عن النهر، وبعد عدّة مبانٍ أصبحت أمام كنيسة سانت نيكولاي، وهي كنيسةٌ قوطيّةٌ من القرون الوسطى، دُمّر بُرجها، وأجزاءٌ منها في قصف الحلفاء الرهيب للمدينة القديمة في اليوم الثامن والعشرين من شهر آذار 1945، فقد لحق بالمدينة دمارٌ واسعٌ، بينما سَلِمَ الكثير من السكّان من موتٍ محقّقٍ؛ بسبب وجود ملجأٍ متطرّفٍ في «ساحة فولدريش»، وكانوا يهرعون إلى هذا الملجأ حين سماعهم لصافرات الإنذار، حتّى إنّهم كانوا يبيتون فيه في الّليالي الخطِرة.

    اعتدتُ في بداية سكني في المنطقة المجيء إلى الكنيسة أيّام الخميس؛ حيث تُنظّم أمسياتٌ موسيقيّةٌ، ففي هذه الكنيسة أورغن رائع، واعتاد عازف أورغن أنْ يأتي كلّ أسبوعٍ للعزف عليه، بينما تُوزعّ كلمات الأغاني على الحضور للمشاركة في الغناء، هذا الشيء يخلق جوّاً ممتعاً وروحانيّاً، وكنت أخرج في نهاية الحفلات ممتلئاً بموسيقا باخ. إلى جانب الكنيسة، وملحق بها، هناك متحفٌ، ومقهى، ومكتبة «شباندوفيا ساكرا»، وهي تحتوي على أوراق الكنيسة وغيرها من الوثائق التي تعود إلى القرون الوسطى، وإلى عام 1539 تحديداً، حين أعلن الأب يواكيم الثاني إقامة التجمّع البروتستانتيّ فيها.

    أخذت قطار الأنفاق لزيارة بيت كريستا، التي تسكن في شارع «شبيشرن». كان علي أن أغيّر القطار في محطة «ساحة فربللينر» إلى قطار الأنفاق رقم 3 باتجاه ساحة «فيتنبرغ». نزلت في المحطة القريبة من بيتها، ثم مشيت عشر دقائق، فوصلت إلى هناك. لمْ تكن كريستا في البيت، ففتحت أمّها الباب. غالباً ما كنت أرى هيلدا بالثياب المنزليّة، فهي في الثانية والثمانين، وتمكث في غرفتها باستمرارٍ، لتشاهد التلفاز. إنّها امرأةٌ مثقّفةٌ، وتحبّ مشاهدة البرامج الحواريّة، وتكره مسلسلات الإجرام، وكانت قد أصيبت قبْل عشر سنين بجلطةٍ دماغيّةٍ أثّرت على نطقها، وعلى تحكّمها بنفسها، إلّا أنّها ماتزال تمتلك ذاكرةً

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1