Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الضفة المظلمة
الضفة المظلمة
الضفة المظلمة
Ebook499 pages3 hours

الضفة المظلمة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

أستاذٌ جامعي يرى في أحد المتاحف لوحةً رُسم فيها شخصٌ شديد الشبه بوالده، ويشعر شعوراً عميقاً بأن الشبه لا يقف عند حدود التناظر في الوجهين فحسب، فيستيقظ بداخله حدسٌ مخيف، ويحاول مقابلة قريبٍ من سلالة رجل اللوحة.
يدخل بطل الرواية متاهة الحلم واليقظة، ومتاهة الذاكرة بتشعّباتها مستحضراً حكايات يختلط فيها الواقعي بالمتخيّل، ورويداً رويداً نجد أننا أمام روايات عدّة، كلّ واحدةٍ منها تُدخلنا في ضياع جديد، حتى نصبح نحن أنفسنا نسير على الحد الفاصل بين الحلم واليقظة.
في «الضفة المظلمة» يكتب «خوسِه ماريّا ميرينو» عن الآخر أو القرين، وعن الماضي والذاكرة، في بنية متاهية بديعة، ضمن زمن شاسع يقع على هامش الساعات والنبضات، ويقدّم لنا متعةً صافية تستفزّ مخيّلتنا وحواسّنا.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933641207
الضفة المظلمة

Related to الضفة المظلمة

Related ebooks

Related categories

Reviews for الضفة المظلمة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الضفة المظلمة - خوسِه ماريا ميرينو

    الضفّة المظلمة

    خوسِه ماريّا ميرينو

    رواية

    ترجمها عن الإسبانية:

    علي إبراهيم أشقر

    الضفّة المظلمة - رواية La Orilla Oscura

    تأليف: خوسِه ماريّا ميرينو José María Merino

    ترجمها عن الإسبانية: علي إبراهيم أشقر

    تصميم الغلاف: نجاح طاهر

    978 - 9933 - 641 - 20 - 7 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2020

    Table

    © José María Merino 1985

    جميع حقوق الترجمة محفوظة للناشرين دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأي طريقة دون موافقة الناشرَين الخطية.

    الأهداء

    إلى سابينو أورداس،

    معلّماً وصديقاً.

    I. في المتحف

    بريقٌ خفيف انبعث في العتمة وتلاشت رؤاه كلّها: سواء أكان فراغ الباب إلى جانب مصطبة تفضي إلى فسحة في الغابة؛ أم الموزّع الذي يمتدّ إلى ما بعد الكومودا تحت لوحتين قاتمتين، ثم يختلط بدربٍ تحفّ به أحراجٌ كثيفة وجذوع ضخمة؛ وكان وهجٌ في العمق ينسكب متزامناً والضياء الشتيت بين طيّات ستارة رمادية اللون، في مجال من غير نبات حيث التوريق الزخرفي الكثيف كان يحافظ مع ذلك على هيمنة ظلّه. وكانت ترتعش في الهواء تكتكةُ ساعةٍ يتضاءل إيقاعها المتَّسق بسبب الصدى، حتى صارت في آنٍ واحدٍ حفيفَ أجنحةٍ وصخبَ نعيقٍ طويل وخريرَ ينبوعٍ غامض.

    وفكّر: «ربما لأنك كنت تحلم، وإن كنت ترى أنك مستيقظ». وفتح عينيه حينئذٍ، واكتشف النهار. فقد كان الليل الذي ذوّب تلك الصور، ينبسط في الجانب الآخر لمّا كان جفناه مطبقَين منذ لحظة خلت. لكن، يبدو أن هذه الحركة البسيطة في شقّ جفنيه أدّت أيضاً إلى فتح خزّانات النور متيحةً السبيل لقدومه المفاجئ. وكان النور يُغرق كلّ شيء، ويرشّ السطوح وينفجر في حلية البناء، ويدوّم حول المنضدة الصغيرة حتى حوّلها إلى جزيرة صغيرة مختصرة. وهكذا كانت الأشياء كلُّها محدّدة بحضورٍ ساطع جداً حتى كان مُحالاً التفكيرُ في ماضٍ كانت الظلماء تخفيها فيه، أو في مستقبلٍ ستختفي فيه من جديد بعد أن ينطفئ الضياء مرّة أخرى.

    إنه الصباح، وقد جاء النهار بغتةً كما يجيء كلّ يوم في مثل هذه المناطق من غير شروق، حتى يمكن الافتراض أنّ أحداً ما أشعل الضوء بتشغيل قاطعٍ كهربائي بسيط. وأبقته حالة ضوء المصباح البكر، اللبنيّة، وحلقةٌ رمادية اللون كانت تخمّد من انعكاسه والوسخ الخفيف الذي يلفّه، أبقته في تلك الفكرة، وجعلته يتصوّر عن يقين أن الأمر ليس أمرَ شمسٍ تسبح في فضاء كوكبيّ حتّى تغمر الشارع وتبلغ النافذة وتنسكب في الحجرة، وإنما هو سنا مصباحٍ بعيد أخذ يضيء أفنيةَ بناءٍ فُتحت حديثاً. الأمر، إذاً، يتعلّق بنورٍ صناعي يشعّ داخل حجرة. وفكّر من ثمّ لو أن تلك الساحة التي تنبسط عند قدم النافذة جزء من مكان مسقوف فحسب، لكان هذا المكان، بلا ريب، ذا حجمٍ ضخم وأبعادٍ شاسعة: ربما كان الوقت ما يزال ليلاً في أقصى الأرض، وخارج جدرانٍ بعيدة وضخمة أيضاً؛ ربما كانت تنقضي ليلة هي أطول ليلة مما يعرفه عادة وأحلكها، ليلة بمقياس تلك الأبعاد الشاسعة.

    وتصوّر أنّ النور الذي اشتعل فجأة كان الإشارة التي تسبق الحركات الخاصّة بالنشاط اليوميّ، وساوره شكّ في أن ذلك المكان الضخم كان فعلاً مخزناً سرّياً ومتحفاً غريباً تُخزّن فيه كائنات وأغراض من مصادر شتّى. وفكّر في أنّه هو نفسه ربّما كان يشكّل جانباً من تلك البضاعة التي لم تكن حجرته سوى وعاءٍ يحفظها.

    أخيراً، أوحى إليه ذلك التصوّرُ عن المخزن الضخم الهادئ ليلاً، الذي كان أضاءه فجأة مصباحٌ أبيض اللون، بفكرةٍ جديدة عن حجمه ذاته؛ وكان على يقينٍ مفزع من أنّ حجمه لو قورن بمقاييس تلك الأجواء الخارجية، لبدا له ضئيلاً. وأدرك حينئذٍ أنّ الفندق كلّه يكاد يكون دُرْجاً متوسّط الحجم موضوعاً على الرفّ؛ وأنّ كائناتٍ أُخَر، مماثلةً له ودقيقة وضعيفة، محتبسةٌ داخل علب صغيرة تشبه هذه الحجرة، ومُعدّة لتُنقل إلى مكان مجهول، ما تزال محفوظة مثله على الرفّ ذاته من رفوف أفنيةٍ ضخمة.

    فندق مكوّم في مخزن لا يمكن قياس أبعاده، أو مصنّف حسب قواعد مجهولة في متحف سريّ. فكرة المتحف التي بدا له أنّها أضاءت إضاءةً خفيفة مظاهرَ معيّنة من حدسه، أعادته إلى اليقظة الوشيكة: فأبعد الغطاء باسطاً ساقيه، وجهد في أن يؤمن بأنّ رعشته وهميّة، وأن القضيّة تعود إلى تصوّرات ما تزال عالقة في وعورة الحلم، وكانت حميدةً في النهاية. وصار مطمئناً إلى أن تهديدها غير ممكن. وترك نفسه ينساق وراءها يحدوه منطقُ الأرقّ الرجراج. وكان حجمه يتناسب، ولا ريب، وقامةَ القاطنين الآخرين ومظهرهم والمجال الذي يطوّقهم جميعاً.

    وأدرك أن زياراته الملحّة لمتحف المدينة، بدافع دعاوى غامضة ما تزال راقدةً في الضمير، كانت السبب الذي أوحى بذلك التحوّل الفظيع: «لن أعود إلى المتحف»، هذا ما استقرّ عليه عزمه. «لن أعود إليه أبداً، أبداً»، همس وهو يحرّك شفتيه بقوّة كيما يُظهر أهداف تفكيره ببلاغة.

    لبث ساكناً وعيناه محدّقتان في نقطةٍ ما في الخارج، لكنّه خمّن، وهو ما يزال تحت تأثير الدوار الفريد، أن ذلك الضوء ربما لم يكن ضوءاً، وإنما هو لون مادّةٍ صلدة فحسب؛ لأنّ الضياء المتراكم خلف الزجاج كان يشي بكثافةٍ خاصّةٍ غير مصنوعة من ضوء وفضاء وكتلٍ من السُّحب، بل من شيءٍ مصمتٍ وقريب ومضغوط داخل قطعة قماش رمادية اللون، من رزمة ضخمة سقطت من السماء وظلّت معلّقةً بين أوراق الشجر الخضر الغامقة، وأزهار الزينة الحمر التي تنتصب وسط الساحة ولها مظهر جَنْباتٍ غزيرة إذا ما نُظر إليها من السرير وهي تطلّ، بجهدٍ، بتيجانها على حرف الزجاج السفلي وقد فقدت مظهرها، وكأنها نابعة على بعد سنتيمتراتٍ قليلة من الأرض بدلاً من أن تتوّج قامةَ الجذوع الطويلة.

    وهكذا كان شكّه في أنّ الضوء صناعيّ، وأنّ الساحة مكانٌ كبير مسقوف، وأنه هو نفسه كان ضئيلاً، يمتزج بتأمّل تلك الرزمة الساقطة على النافذة تأمّلاً هادئاً حتى خُيِّل إليه أنه موجود في مكانٍ ما تحت الأرض: ربما كانت تيجان أزهار الزينة ببساطة أعشاباً ضارّة طالعة من سطح الأرض، على مستوى إطار النافذة، وأنّ هذا الطابق الثاني قد تحوّل إلى الجزء العلويّ من قبو. لكنّه الآن خارج كلّ حلم، وتلك الأوهام ما هي غير ثمرة كسلٍ في الخيال: وكان النور ما يزال يتراكم منسكباً من الجهة الخارجية كأنه كتلةٌ ناعمة، وكانت الأصوات تدلي بشهادةٍ دامغة على الواقع المنتصر في النهاية على كلّ وهم، وبعيداً عن كلّ مشاهد كابوسه؛ وتحوّلت تكتكة الساعة في صور الحلم الأخيرة، إلى صدى بندولٍ كان هو أيضاً صدى قرقرةٍ وزمجرات وتيارات في غابة، استقرّ الآن على المنضدة الليليّة تقطعه ضوضاء الصباح: سواء أكان المصعد الذي يرتعش في سفره، بعد نحنحةٍ خفيفة عند الانطلاق؛ أم الوشوشة التي تُعلن عن شخير المكانس الكهربائية المتصاعد؛ أم همس الخطا التي تبتعد بعد طقّة مقبض الباب. كان الفندق يبدأ يوماً آخر لا ريب فيه، بينما ظلَّ هو في سريره متأهِّباً ليردّ على الهاتف الذي كان يرنّ بين فينةٍ وأخرى، ليُعْلِمه أن وقت نهوضه من السرير قد حان.

    وسمع في تلك اللحظة أنّةً مكتومة على الجانب الآخر من الحاجز المكوّن من ألواح خشبية متعاقبة حمراء اللون مصقولة؛ كان للصوت الذي ما يزال مبهماً، خاصيّةٌ غريبة جعلته يتذكّر أن الهاتف ما كان يرنّ، لأن اليوم سبت وهو حرّ من الدوام والبرامج، وما كان ينتظره أحدٌ في الجامعة، وتوافق شعوره بالعطلة والراحة، وتلك الأصوات في الحجرة المجاورة، التي كانت تشبه في البدء شكوى طفل يبكي نائماً، ثم أخذت تتصاعد وتتمايز ببطء حتّى مثّلت ما هو عكس البكاء، وصارت ضحكة مخنوقة تزداد حدّةً، وما لبثت في النهاية أن كفّت عن أن تكون كذلك، وتحوّلت إلى علامة على أحاسيس أخرى تختلف عن الضحك كما تختلف عن الفكاهة. وصار الأنين أشدّ هذياناً، وتحوّل إلى كلماتٍ غير مفهومة، وإلى صيحات لها طابع الهدوء والرجاء والطلب بمفردات مفاجئة مقطوعة، حتى أفضت في النهاية إلى الصمت.

    ولمّا كفّ عن سماعها، شكّ حينئذٍ في أنها لا صلة لها بهمساتٍ غرامية، وإنما بأنّاتٍ تُطلق في وقت حرج: وكأنه ضائع حقاً في غابة مرهقة، غابة أحلامه الغريبة قرب وجارِ مفترسٍ فرغ لتوّه من التهام فريسته. لكنه سيطر على الشطط، فجلس وأخذ ساعته وتحقّق من الساعة واليوم في المجاز الصغير المثلث الشكل.

    كان اليوم سبتاً. وحاول أن يستردّ بحرص هذه الفكرة ويطرح عنه كلّ فانتازيا أخرى، وراح يستعرض وعيناه محدّقتان في السقف، الفترة التي خلّفها وراءه، ودُهش لمّا تحقّق أنه مضى عليه ما يزيد على خمسة عشر يوماً، ولم يبقَ له سوى خمسة عشر أخرى لاختتام الحلقة الدراسية: وتختتم بها كلّ المهام المنوطة بفصله الأكاديمي، وينتهي بذلك عامٌ آخر من حياته في ذلك الشاطئ من المحيط، ولسوف يتوجّه في النهاية إلى بلده، مسقط رأسه، في الجانب الآخر من المحيط، ليبدأ عطلته السنوية.

    «لن أعود إلى المتحف»، ردّد مرة أخرى شاعراً باللذّة باتخاذه هذا القرار. «لن أعود إليه أبداً، أبداً!». استيقظ الآن، لكنّه ظلَّ متلفّعاً بالنعاس اللذيذ، فوضع الساعة على المنضدة، وراح يحسب كم تكون الساعة تلك اللحظة في مدينة صباه. وتمثّل وهو راقد صورة الكوكب مستعيناً بالعلامات الجغرافية على مُجسّم كرةٍ أرضية مدرسية محاولاً أن يتلمّس بواسطة خطوط الطول والعرض الطريق الصحيحة التي تقوده إلى المكان الذي كان يقدُم منه ذلك الفجر، في رحلة إلى الخلف من خلال أجزاء الساعة والمواضع المختلفة للشمس، ممّا أثار فيه حيرةً تبعث على الدوار إزاء فوضى الحسابات التي لا مناص منها، ورأى نفسه عاجزاً عن أن يظلّ الوقت الكافي كيما يجد فيها ذيل ذلك الفجر الطالع الساطع نفسه والبعيد جداً والمتزامن مع ذلك، ووقتاً آخر تغشى فيه أشياءَ البيت الأبوي وزواياه الآن أحاديثُ السمر الوانية.

    ولمّا استحضر ذكرى البيت العائلي، أدرك أن رؤيته نفسه يتحوّل إلى كائن دقيق في ذلك الحلم الذي تلاشى مع اليقظة، ونبضِ الساعة الرقيق، والضوضاء الناشئة في الفندق، التي كانت أوحت بأصداء مكانٍ آخر ضخم، كلّ ذلك أخفى قصّة أكثر تحديداً: وعلم أن ذلك الكائن الدقيق الذي كان قد تحوّل إليه، يتوافق وجنديَّاً من تماثيل الجنود الصغيرة المصنوعة من الرصاص أو الباكليت، التي ترقد موضوعة داخل علب، أو ملفوفة بقطع من الورق في قاع رفّ خزانة في غرفة طفولته ذاتها خلف علبة التلوين. وكان واعياً تمام الوعي أن في أحد تلك الجُسيمات وفي سلبيّته ومخبئه تكمن العلامة الحقيقية على التحوّل الذي حدس فيه. ربما كانت العلامة في صورة جندي من أولئك الجنود الإسبان القدامى الذين يلبسون بناطيل قصيرة ذات فتحات أمامية، ويعتمرون خوذات تنتهي بخصلات من الريش، ويرتدون دروعاً لمّاعة، ويتنكّبون بنادق كبيرة ويحملون باليد الأخرى رماحاً مثلّثة السنان. وأدرك أيضاً أن الكرة الأرضية في حساباته المُحالة لم تكن الكرة الصخرية الكبيرة في المتحف الذي كان يقسم إنه لن يعود إليه أبداً، وإنما هي تلك الكرة الصغيرة من الجِبس، التي كُسرت مرّات عدّة وأُعيد بناؤها باللاصق، كرة تضمّ البلدان بألوان صارخة مشيرة إلى أواخر مجد كولونيالي كان اختفى في الوقت الراهن من كل الخرائط.

    وابتسم: لأن أمّه، وإن مرّت السنون، كانت تحفظ في الخزانة مرتّبةً بعناية أغراضه لمّا كان طالباً، وكثيراً من ألعابه لمّا كان طفلاً، سواء أكانت المقالم أم العربات المعدنية، أم الدوّامات والمناظير والبوصلات والفرجارات. وانتقل بخياله مرة أخرى إلى هناك، متلمّساً أماكن سكنى شبابه: فرأى أولاً باب المدخل ذا العين السحرية التي كانت نويفذة زجاجية بيضاويّة الشكل، ثمّ المُوزّع ذا المنعطفات الثلاثة، إلى أن وصل إلى القاعة الخلفيّة التي كان ينساب منها دائماً وهجٌ، وهج الشمس إذا كان الوقت ظهراً، أو وهج المصباح المنتصب مساءً.

    ولو عاد إليه لربمّا انتابه الشكّ في أنه ليس عائداً من مكان بعيدٍ، بَعد أعوام طويلة من الغياب الذي تخلّلَته زياراتٌ صيفية قصيرة فقط، وإنما كان هو نفسه فتى ذلك الزمان القديم، الذي كان خرج هذا الصباح في طريقه إلى المدرسة، وعاد بعد أداء عملٍ روتينيّ يشبه في كلّ شيء روتين مئة يوم منتظمة متعاقبة خلال ماضيه المدرسي. وأبقته على هذا الوهم ذاكرتُه، للحظةٍ كان فيها ذلك الفتى الذي كان بكلّ كيانه من غير تغييرٍ فيه. لكنّه نفض عنه النزوع الميكانيكي للعودة، وتعرّف أخيراً على ذلك المكان البعيد في ضوء اليقظة الذي مثّله له على شكل مختلف: بذلكَ انهار انهياراً تاماً جدولُ حساباته، وعصف للحظاتٍ في رأسه الفارغ القلق إزاء توافق زمنين توافقاً مُحالاً، زمنُ هذا الفجر الحاضر هنا، وزمن سحر العشيّة الماضي هناك، وكأنه فخّ كلّه خطرٌ يختفي وراء الجغرافيا الخالصة.

    نهض من السرير ونظر حينئذٍ من النافذة، فرأى الشارع في الخارج وليس الأجواء الضخمة في المتحف الفانتازي، ولا وجه الأرض، وإنّما الشارع وقد غصّ بالناس. كانت الملامح تتوحّد على تلك المسافة. وكان للجمهور مظهرٌ متشابه من غير أن ينجح اختلاف ألوان الثياب في التمييز بين هيئة السابلة البطيئين الفردية.

    وحثّته رؤية المارّة على الحركة: سيفيد بلا ريب من أيام العطلة، لينجز أخيراً إحدى تلك الرحلات التي جعلته زيارة المتحف المتكرّرة يؤجّلها يومي السبت الفائتين. «لن أعود ابداً إلى هذا المتحف». دندن وتهاوى على السرير شاعراً أن ذلك الاستيقاظ يشبه أن يكون الاستيقاظ الأول الذي أتيح له، وكأنه بداية خروجٍ من حلمٍ طويل ظلَّ غارقاً فيه من أوّل الزمن، حلم تخلّص منه لأسباب يعلم أنه عاجز عن معرفتها، ذلك الفجرَ، إثر تصوّره تصوّراً غامضاً موزِّعاً في بيتٍ كان في آنٍ واحد درباً في دغل الغابة.

    رتّب نفسه وهو في السرير ببطءِ يومٍ لم يكن فيه على عجل، وكأنه يتأهّب لإقامة احتفال يتطلّب منه أن يختار لا الثيابَ الملائمة فحسب، بل أيضاً إيقاعاً محدّداً في طريقة لبسها. وبعد أن ارتدى ثيابه الصيفية المريحة، وحفِظ الوثائق والنقود، جمعَ النشرات التي كانت تشير إلى البراكين الكبرى والشواطئ الرملية البيض وتجمّعات المستعمرات، وإلى الوديان الصغيرة المعزولة التي تتألّق حولها كتلٌ نباتية كبيرة. لأنه، ذلك السبت، سيغادر المدينة أخيراً وسيلتقي أحد المناظر المجهولة. كان الوقت باكراً، وكانت كلّ وكالات السفر ونقاط الانطلاق قريبة من الفندق، وتناول فطوره بشهيّة الأسبوعين السابقين غير المألوفة. وخرج إلى الشارع بهدوء يتلو القرارات الحاسمة.

    تمّ اكتشاف المتحف في نهاية الأسبوع الأول من عمله.

    فقد شُغل في الأيام الأولى باجتماعات شتّى بالأساتذة الآخرين، بينما كان يضع مخطّطاً لمهامّه المقبلة، فلم يكن لديه الوقت ولا العزيمة ليطوف شوارع أُخَر غير ما كان يقوده منها إلى الجامعة، حتى ولا ليتأمّل بإمعانٍ أماكن أُخَر غير قاعة الدرس التي جعل من مقعدٍ مهترئ فيها طاولة عملٍ جماعيّ تبعثرت حولها كراسيّ مختلفة قابلة للطيّ.

    كان يقضي الصباح في القاعة، ثم يستريح لفترة تربو على الساعة كيما يأكل في أحد المطاعم الصغيرة القريبة، ويتابع عمله في المساء إلى أن يهبط الغسق فجأةً كما يهبط الفجر، ويملأ حدائق الحرم الجامعي ظلمةً.

    وذات مساء من تلك الأماسي دخل داراً للسينما بعد عودته من الجامعة، ولبث فيها نائماً على مقعده. أمّا في الأيام الأُخَر، فكان يعود مباشرة إلى الفندق ويغتسل ويتعشّى بهدوء بعد جولة قصيرة في الشوارع المحيطة به، غارقاً في تأمّل الواجهات ولوحات الإعلان من ضجر خالص، ثم كان يعود لينام بعد أن يتناول كأساً في الحانة التي يقوم على الخدمة فيها حانوتيّ أسود ناحل ذو يدٍ سديدة.

    ولمح منذ يوم الجمعة الأول لإقامته كيف أن زملاءه يتفرّقون بسرعة وقد زال عنهم الوقار المألوف، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع.

    «حاوِل أن تستريح، يا دكتور!»، كانوا يقولون له.

    وكان ذلك لطفاً مبالغاً فيه يبدو أنه موجّه إلى رجلٍ ناقِهٍ. ربما بدا لهم أنه أفرط على نفسه في بذل الجهد خلال الأسبوع.

    - «انسَنا، واذهَب بعيداً وتمتّع!».

    بعضهم كان يُبطئ ثواني معدودات متحدّثاً إليه وكأنما يثقل عليه أن يدعه وحيداً.

    - «سأرافقك حتى الفندق».

    - «لا، بل انصرف من فضلك، ولا تهتمّ بي!».

    - «ليس في الأمر أيّ إزعاج. الفندق في طريقي».

    - «أنا أشكرك، ذلك أني أريد القيام بنزهة».

    وظلَّ وحيداً آخر الأمر، محاولاً أن يتذكّر مهمّةً ما ما زال ينبغي له أن ينجزها قبل العطلة. لم يكن من عادته أن يقوم بأعمال بعيداً عن قاعات الدرس اليومية. ورأى نفسه خاضعاً لإحساس بالواجب، مريحٍ وقسريّ في آنٍ واحد وله مذاقٌ تبشيريّ. لكنّه لم يُبقِ شيئاً معلّقاً، ويستطيع أن يستعرض في الفندق كلّ تفاصيل عمل يوم الاثنين التالي. كان لديه، إذاً، فسحةٌ من الوقت وعطلة كاملة لكي يقترب، من غير التزامات أُخَر، من العالم الذي كان يوقظ في روحه أصداء صوفية كثيرة، وكان بدا له مشعَّاً جداً بدءاً من جليد الشمال، ما إن رآه في المصوّرات الجغرافية التي أتاحتها له المكتبة.

    كان ذلك وقت الظهر، وحرم الجامعة يتلألأ بأشعّة الشمس. وكان في وسط الفناء نافورة قديمة جافة ذات حجر قاتم جعل كتلتها منيعةً من انعكاس الضوء عليها. اجتاز الفناء بحثاً عن الظلّ تحت الأقواس. وتردّد صوت خطواته في صمت الرواق، وتقبّل هو الوحدة راضياً متأملاً بإمعانٍ الجدرانَ البيض التي تنفتح فيها كوىً متعاقبة ذات خطوط مختلفة. وبدّلت الأبواب الكبرى مظهرها المألوف بعد إغلاقها، وبدا أن القاعات التي كان دخولها ميسوراً، شُيِّدت الآن في أماكن أُخَر.

    في ذلك المحيط المشيَّد بيدٍ بشرية، حيث السطوح الأفقية والحلية المعمارية ذات الخطوط المستقيمة والمنكسرة وشبه الدائرية تُعلي من أمجاد الهندسة المستوية، كان قفا ما لا يظهر للعيان، يبدو عاطلاً جداً: كالظلّ المضيء الراقد تحت الأقواس حيث يطفو عطرٌ ناعم يصدر عن ربيعٍ دائم يذكّر بسلسلة الجبال الضخمة والأنهار السيلية والغابة المترامية الأطراف. استنشق الهواء ببطء إزاء الشمس الملتهبة فوق الكتل المعمارية، وراح يخترق فوضى الأماكن المتقابلة، مع الهواء الذي كان يدخل رئتيه. وداهمه لأول مرّة ذلك الصباح شكٌّ سرعان ما تبخّر، في أن الأشياء المحيطة به لها طبيعة مختلفة عمّا يوحي به مظهرها، وتبدو خاضعة للزمان وللمكان بنوعٍ من التماسك زائف.

    عاد إلى الفندق راجلاً. لكنّه ظلَّ بعد الطعام في حجرته أسيرَ ضجره من ذلك اليوم الخالي من الواجبات، مستلقياً على السرير وفكره ناشبٌ في كسلٍ أصفر حيث تختلط مشاريعه السياحية ومغامراته السلمية بخططٍ للإفادة من تلك الأيام في تنظيم بطاقاته وملاحظاته حول خواصّ الواقعية في الأدب الإسباني، التزام يتطلّع إليه هو ووثائق أخرى في محفظته. وتخلّى مع ذلك عن كل مشاريعه ونام؛ حتى إذا انطفأ ضوء النهار بتلك الفجاءة من غير شفق، قام بنزهة في الشوارع القريبة قبل أن يدخل إحدى دور السينما. ولمّا عاد ليلاً إلى حجرته دُهش من الطريقة اللامعقولة التي بدّد بها يوم العطلة ذاك، وعزم على أن يبكّر في اليوم التالي ليتعرّف على أبرز معالم المدينة. وهذا ما حدث: فقد استيقظ بإحساسٍ مشابه، بالظلمة والنور المفاجئين المتعاقبين في عينيه. ربما بالصورة ذاتها لموزِّع في بناء حضري كان أيضاً قلب غابة لفَّاء؛ وربما بالشكوك ذاتها حول كونه جُسيماً مصغّراً محفوظاً في مكان سرّي؛ وبالذكرى الغائمة نفسها لموطن بعيد؛ ثم أعادته أصوات الفندق إلى حقيقة الواقع المنتصر في النهاية على ظلمات الأحلام.

    تناول فطوره بشهيّة وانطلق إلى الشارع متأهّباً ليلقى كل ما يزال تحت علمه عن هذا العالم: أيْ كلّ ما يتغذّى من الحكايات التي سمعها في طفولته ممتزجة بقصص الهنود الحمر في مصوّرات التقاويم والبطاقات البريدية المحفوظة في مناديل، وفي مناظر السينما ووجوهها، وفي مجموعة الصور التي يختلط فيها نخيل جوز الهند بالبراكين والغابة المتلألئة والفتيات ذوات الضفائر الثخينة.

    انطلق إلى الشارع، واكتشف صباحاً مضيئاً مفتوحاً على سماء حقيقية دون شبهة من غيم، وغاص في الزحام الذي كان يتأمله من النافذة. وكانت مراكز عدة تعرض بضاعتها على الأرصفة: كالفواكه ذات المظهر الشاحب كأنها مطلية بالورنيش؛ وكومات الأناناس المقطّع إلى شرائح عطرة؛ وكتل حمر ربما كانت حلوى إلى جانب قطع من الكراميل المفتولة الشهب. وكان أحد البائعين يعرض ثمرة «بوميلو» بعد أن يقشّرها بشكل فني نازعاً القشرة الصفراء على شكل شريط حلزوني طويل، بتثبيتها من قطبيها والاستعانة بعمل ذراع تدوير وسكّين صغير؛ ومحار مغطّى بأشنات ناعمة سود كأنها زغب عانة؛ ومثلّجات وعصير، وبذور من أشكال وألوان شتّى. كان عرض الأغذية يتكرّر في كل مجال يسمح بإقامة مراكز بيع بسيطة. وكانت تُعرض أمام الكنائس أفراخ حمام وصور وكتب أدعية، إلى جانب صناديق ماسحي الأحذية والدنان الكبيرة حيث تطفو آنية خزفية مجوّفة حمرٌ خام، كأنها بيض غريب داخل سائل آمينوسي غامض. وكان عرض الفواكه والرخويات والحلوى والأدوات أشبه بكائنات حيّة ترقبه لاهثة من الحصر الصغيرة والأواني. وكان البائعون والمارّة يشكّلون، إزاء كمالها وجودتها وبريقها، جوقةً ضعيفة تحرِّكها لوالب آليّة خالصة.

    تلقّى إبّان الساعات الأُوَل، بحرصٍ بطيء، الانطباعَ بوجود حياة في الأشياء الغريبة. وكانت تظهر له أحياناً في جولته نُصب تحفّ بها أشجارٌ ضخمة وكأنها علامات تشير بوضوح إلى نماذج وأشكال أبنيةٍ دينية، وبيوت نبلاء تقع في ما وراء البحار؛ لكنّه، عوضاً عن أن يتأمل الكنائس والبيوت الكبيرة بإحساسٍ بأنها تتماثل وتلك المباني ذات السقوف من الزنك، والأبواب الملوّنة، كان يجدها مختلفة عنها جداً، وكأن حساسيته آخذة بالتحوّل والاندماج اندماجاً كاملاً بذلك الغموض وفوضى كائنات جامدة وأشياء حيّة تحت النور الخالص، وربما كان الوقت ظهراً أيضاً، لمّا عبَرَ سوقاً مظلمة حيث الفواكه التي كان رآها في الشارع، تتضاعف حتّى لا يمكن حصرها، ومحلَّ حجومها المتراصّة تحلُّ كتلٌ كبيرة متتالية من الخضار متعدّدة الألوان، وكان لها الحضور ذاته، الأزرق والمستدير الذي للعيون الكبيرة في بعض الصور الملوّنة، كأنها نظرات ملتهبة في كهوف وظلمات.

    وكانت تتكدّس في محلات البيع فراريجُ منتوفةٌ ذات شحوبٍ كريه، أو فيها أسماك ذات أجسام طويلة ورخويات خضر وقشريات قاتمة. وكانت محلّات القصابة تعرض بضاعتها من الأحشاء والسقط مقطّعة قطعاً صغيرة معلّقة كأنها رايات صغيرة منفوخة، أو ترقد مسترخية على المنصّات. لكن القطع كلها كانت تبدو أنها تتكوكأ على بعضها وتنتظر.

    كانت محلّات بيع الأغذية تختلط بمحلّات أخرى تعرض جلوداً وأحذية وأدوات منزلية وريفية. وكثيراً ما كان يلقى باراتٍ صغيرة غارقة في زحمة الدكاكين الصغيرة، كأنها سبخات تطلع فجأة، ويجد زوايا رخيصة يُقدّم فيها للزبن وجبات من الأرزّ والفاصولياء. ويعثر بظروف مهملة مستطيلة الشكل ذات ورق أسود، ومبعثرة حول كتلة زيتية؛ وسلطات تختلط فيها البندورة الحمراء بالكرنب الأصفر. وكانت تُخبز في بعض المطاعم الصغيرة رقائق ناعمة بِيض من العجين كأنها قطع كبيرة من خبز القدّاس، وكانت تُترك لتنضج وكأنها تضغط بأجسامها الضعيفة عن عَمد على صفائح معدنية وحجارة محدّبة، وتتنفّس فوقها متأثرة بحرارة أفرانٍ متواضعة، ونيران بدائية، وكانت تُعدّ لتُستعمل لفافات للصلصات متعدّدة الألوان والأصبغة الكثيفة التي كانت تشبه دماء سريّة.

    «كل ذلك ينظر إليّ» -فكّر- «كل ذلك يتأملني ويراني أمرّ». كانت تلك لعبة وفانتازيا أخرى، لكنه وجد نفسه يراقب باهتمام القلوب والموز، مجيباً بغمزات من عينه عن الرسائل الخرس التي ترسلها الأشياء المبعثرة على المنصّات.

    وكانت رائحة متعدّدة الأشكال من لطيفة إلى حامزة، ومن غثّة إلى ناعمة، تقوم هناك بالدور الذي كان يقوم

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1