Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

آخر الشهود
آخر الشهود
آخر الشهود
Ebook529 pages3 hours

آخر الشهود

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كُتب الكثير عن بطولات ومآثر الحروب، وعن مدى الحاجة إليها بوصفها وسيلةً لتحقيق أهداف قد تُعدُّ نبيلة. لكن بقي السؤال الدائم: هل يوجد تبرير للسلام ولسعادتنا وحتى للانسجام الأبدي، إذا ما ذُرفت دمعةٌ صغيرةٌ واحدة لطفلٍ بريءٍ في سبيل ذلك؟
في الحرب العالمية الثانية، قُتل وجُرح وهُجِّر أكثر من مئة مليون شخص في حرب هي الأكثر دموية –حتى الآن – في تاريخنا البشري. وقد كُتب الكثير عن مآسي ونتائج هذه المرحلة القاتمة من تاريخنا. ولكن كيف رآها آخر الشهود الأحياء؛ أطفال هذه الحرب؟
بعد أكثر من ثلاثين عاماً على نهاية تلك الحرب تُعيد سفيتلانا في كتابها آخر الشهود مَن بقي من أبطال تلك المرحلة إلى طفولتهم التي عايشت الحرب، لتروي على لسانهم آخر الكلمات... عن زمان يُختتم بهم...
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933540227
آخر الشهود

Read more from سفيتلانا أليكسييفيتش

Related to آخر الشهود

Related ebooks

Reviews for آخر الشهود

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    آخر الشهود - سفيتلانا أليكسييفيتش

    آخر الشهود

    لحن منفرد

    لصوت

    طفل

    سفيتلانا أليكسييفيتش

    ترجمها عن الروسية:

    د.عبد الله حبه

    Chapter-001.xhtml

    آخر الشهود Последние свидетели

    تأليف: سفيتلانا أليكسييفيتش Светлана Алексиевич

    ترجمها عن الروسية: د.عبد الله حبه

    التدقيق اللغوي: عمر الخولي

    الإخراج: فايز علام

    تصميم الغلاف: ليلى شعيب

    978 - 9933 - 540 - 22 - 7 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2016

    دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع

    سوريا - دمشق - ص ب: /9838/

    هاتف-فاكس: /6133856/ 11 00963

    جوال: 00971557195187

    البريد الإلكتروني: addar@mamdouhadwan.net

    الموقع الإلكتروني: addar.mamdouhadwan.net

    fb.com/Adwan.Publishing.House twitter.com/AdwanPH

    ©by Svetlana Alexievich 2013

    جميع حقوق الترجمة العربية محفوظة للناشر دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأية طريقة دون موافقة الناشر الخطية.

    بدلاً من المقدَّمة

    استشهاد واحد ...

    في فترة الحرب الوطنية العظمى (1941-1945) قُتل ملايين الأطفال السوفيت: روس وبيلاروس وأوكرانيون ويهود وتتار ولاتفيون وغجر وكازاخ وأوزبيك وأرمن وطاجيك...

    (مجلَّة «دروجبا نارودوف»، 1985، العدد 5)

    سؤال واحد لكاتب كلاسيكي روسي ...

    في وقتٍ ما طرح دوستويفسكي السؤال التالي: هل يوجد تبرير للسلام ولسعادتنا وحتى للانسجام الأبدي، إذا ما ذُرفت دمعةٌ صغيرةٌ واحدة لطفلٍ بريءٍ من أجل ذلك، ومن أجل إقامة الأساس المتين؟ وأجاب بنفسه قائلاً: إن هذه الدمعة لا تبرِّر أيَّ تقدُّم، وأيَّ ثورة، وأيَّ حرب.

    فهي أكثر قيمة دائماً.

    إنها دمعةٌ صغيرةٌ واحدة.

    كان يخاف الالتفات إلى الوراء

    جينيا بلكيفتش – 6 أعوام .

    الآن – عاملة.

    حزيران/يونيو عام 1941...

    لقد تذكَّرت. كنتُ صغيرةً جدَّاً، لكنني أتذكَّر كلَّ شيء...

    إن آخر ما تذكَّرته من الحياة السلمية حكايةٌ كانت أمِّي تقرؤها ليلاً، حكايتي المفضلة – حول السمكة الذهبية. كنت دائماً أطلب شيئاً ما أيضاً من السمكة الذهبية وأقول: «أيَّتها السمكة الذهبية... عزيزتي السمكة الذهبية...». كما كانت شقيقتي تطلب راجيةً شيئاً ما. لكنها كانت تطلب بشكل آخر: «بإرادة سمكة الكراكي، وبإرادتي...». كنا نريد أن نسافر إلى جدَّتنا في الصيف، وأن يسافر بابا معنا. فهو مرحٌ جدَّاً.

    في الصباح استيقظت مرتعبة، بسبب أصواتٍ غريبةٍ ما...

    كان ماما وبابا يعتقدان بأننا نستغرق في النوم، بينما كنت أرقد إلى جانب شقيقتي وأتظاهر بالنوم. ورأيت: قبَّل أبي أمِّي قبلةً طويلة، قبَّل وجهها ويدها، فعجبت: إنه لم يقبِّلها قبل ذلك هكذا أبداً. وخرجا إلى الباحة، متماسكي الأيدي، وقفزتُ إلى النافذة، تعلَّقتْ ماما برقبة بابا ولم تسمح له بالذهاب. فأبعدها عنه وانصرف، فلحقت به ومنعته من الذهاب مجدَّداً، وراحت تصرخ بكلامٍ ما. وآنذاك صحتُ أيضاً: «بابا! بابا!».

    استيقظت أختي وأخي فاسيا، ورأت أختي كيف كنت أبكي، فصاحت بدورها: «بابا!». وهُرعنا جميعاً إلى الشرفة: «بابا!». ورآنا أبي، وكما أذكر الآن، غطَّى رأسه براحتي يديه ومشى، بل حتى أخذ يهرول. كان يخاف أن يلتفت.

    أنارت الشمس وجهي. شعرت بالدفء الشديد... حتى الآن لا أصدق بأن أبي ذهب في ذلك الصباح إلى الحرب. كنت صغيرةً جدَّاً، لكنني أعتقد بأنني كنت أدرك أنني أراه لآخر مرَّة، ولن ألقاه أبداً. كنت صغيرة... صغيرة جدَّاً.

    وهكذا ترسَّخ في ذاكرتي أن الحرب تعني غياب أبي.

    ومن ثمَّ أذكر السماء السوداء والطائرة السوداء. وأمِّي مستلقية على جانب الدرب وقد بسطت ذراعيها. لقد رجوناها أن تنهض لكنها لم تفعل. ولفَّ الجنود ماما في المعطف الواقي للجنود ودفنوها في الرمال في المكان نفسه. نحن صرخنا وتوسَّلنا: «لا تدفنوا ماما في الحفرة. إنها ستستيقظ، وسنواصل السير». كانت تمشي خنافس كبيرة ما فوق الرمال... ولم أستطع أن أتصوَّر كيف ستعيش ماما معها تحت التربة. وكيف سنجدها فيما بعد، وكيف سنلتقي؟ ومن سيكتب الرسائل إلى أبينا؟

    سألني أحد الجنود: «يا بنية، ما اسمك؟». لكنني نسيت اسمي. «يا بنية، ما هو لقبك؟ ما هو اسم أمك؟». لم أتذكَّر... جلسنا إلى جانب قبر ماما حتى حلول الظلام حتى أخذونا وأجلسونا في عربة. كانت العربة مليئة بالأطفال. كان يقودها شيخ ما يجمع الأطفال في الطريق كافَّة. ووصلنا إلى قرية ما، وجرى توزيعنا على بيوت يقطن فيها أناس غرباء.

    بقيت فترة طويلة لا أتحدث مع أحد. بل كنت أنظر فقط.

    وفيما بعد أتذكر الصيف. صيف متألِّق. امرأة غريبة تطبطب على رأسي بلطف. وطفقت أبكي... الحديث عن ماما وبابا. كيف هرب بابا منا دون أن يلتفت... كيف رقدت ماما على الأرض بلا حراك.. وكيف زحفت الخنافس على الرمل...

    كانت المرأة تطبطب على رأسي بلطف. في تلك اللحظات أدركت: إنها تشبه أمي...

    سيجارتي الأولى والأخيرة

    جينيا يوشكيفتش – 12 عاماً

    الآن – صحفي.

    في صباح اليوم الأول للحرب...

    الشمس. هدوء غير طبيعي. صمت غير مفهوم.

    خرجت إلى الباحة جارتنا زوجة عسكري وهي تذرف الدموع. وهمست بشيء ما لأمِّي، لكنها أشارت بايماءةٍ منها إلى وجوب السكوت. كان الجميع يخشون أن يقولوا بصوتٍ عالٍ ما تم إبلاغه فعلاً. لقد كانوا يخافون، لكي لا يوصَفوا بالعملاء السريين، وبكونهم من مثيري الفزع. وهذا أكثر فظاعة من الحرب. لقد كانوا خائفين... أنا الآن أعتقد ذلك... وطبعاً لم يصدق أحد شيئاً ممَّا يُقال. كيف؟! جيشنا على الحدود، وزعماؤنا في الكرملين! البلاد محمية، إنها محصَّنة ومنيعة على الأعداء! هذا ما كنت أفكِّر فيه آنذاك... لقد كنت من أفراد الطلائع.

    أدرنا زر المذياع. انتظرنا خطاب ستالين. ثمَّ خطب مولوتوف. أصغى الجميع إليه. قال مولوتوف: «الحرب». مع ذلك لم يصدِّق هذا أيُّ أحد. أين ستالين؟

    هاجمت المدينة الطائرات... عشرات الطائرات عليها علامة الصليب. لقد غطَّت السماء، وغطَّت الشمس. شيء رهيب! تردَّدتْ أصوات انفجار القنابل... كانت أصوات الانفجارات تسمع بلا توقُّف. قرقعة. كان كل شيء يبدو كما لو أنه في الحلم، وليس في اليقظة. لم أكن يومئذ صغيراً، وبقيت في ذاكرتي جميع مشاعري. فزعي الذي سرى في جسدي كله، في جميع الكلمات والأفكار. فاندفعنا خارجين من البيت، وهرولنا في الشوارع على غير هدى... وبدا لي أن المدينة لم تعد موجودة، بل هناك الخرائب فقط. دخان... نيران. قال أحدهم: يجب الذهاب إلى المقبرة لأنهم لن يقصفوا المقبرة. فما الفائدة من قصف الأموات بالقنابل؟ كانت توجد في منطقتنا مقبرة كبيرة لليهود تنمو فيها أشجار عتيقة. واندفع الجميع مهرولين إلى هناك، وقد تحشد هناك الآف الناس. كانوا يحتضنون الأحجار، ويحتمون بالألواح الحجرية.

    جلست مع أمِّي هناك حتى هبوط الليل، ولم ينبس أي أحدٍ حولنا بلفظة الحرب، لكنني سمعت عبارة أخرى: «العمالة السرية». كان الجميع يردِّدونها. وكان الحديث يدور حول أن قوَّاتنا ستهاجم بعد قليل، وأعطى ستالين الأمر. ونحن صدَّقنا ذلك.

    كانت صفَّارات المصانع تهدر طوال الليل في أطراف مينسك...

    القتلى الأوائل...

    أول قتيل رأيته هو حصان صريع... وبعده امرأة قتيلة... وقد أثار ذلك دهشتي. فقد كنت أتصوَّر أن الرجال فقط يقتلون في الحرب.

    استيقظت صباحاً... أريد أن أنهض، ومن ثم أتذكَّر الحرب، فأُغلق عيني. لا أريد تصديق ذلك.

    توقَّف إطلاق النار في الشوارع، ومن ثم ساد السكون. وانصرمت عدَّة أيَّام غمر فيها الهدوء المدينة. ومن ثمَّ بدأت الحركة بغتة... على سبيل المثال يمشي رجل أبيض، كله أبيض من الجزمتين وحتى شعر الرأس، كما لو كان الدقيق يغطِّيه. ويحمل على كتفيه كيساً أبيض. وثمة رجل آخر يهرول، وتتساقط من جيوبه المعلبات. حلوى... علب التبغ... وأحدهم يحمل قبعة فيها سكر، وآخر يحمل قدراً فيه سكَّر. هذا شيء لا يوصف! ويسحب أحدهم لفافةً من القماش، بينما يمضي الآخر ملفوفاً كله بقماش شيت أزرق وأحمر... شيء مضحك، لكن لا أحد يضحك، فقد قُصفت مستودعات المواد الغذائية. ويوجد متجر كبير بالقرب من بيتنا، فهُرع الناس إلى الاستحواذ على ما بقي فيه. وفي مصنع السكَّر غرق عدة أشخاص في أحواض دبس السكر. شيء رهيب! المدينة كلها تقزقز حبوب عباد الشمس. فقد عُثر هناك على مستودع للحبوب. وانطلقت أمام سمعي وبصري امرأة إلى المتجر: لم يكن معها كيس أو حقيبة مشبكة، فنزعت الرداء السروالي، والجوارب الطويلة، وملأتْها بحبوب الحنطة السوداء وانطلقت بها... وجرى هذا كله بصمت؛ لم يقل أي أحد شيئاً.

    وعندما أخبروا ماما لم يكن قد تبقى هناك سوى معجون الخردل في القناني الصفراء. وردتني أمي قائلة: «لا تأخذْ أيَّ شيء». وفيما بعد اعترفت بأنها شعرت بالخجل لأنها علَّمتني طوال عمري شيئاً آخر. وحتى عندما عانينا من الجوع وتذكَّرنا تلك الأيَّام، لم نرغب في أخذ أيِّ شيء. هذا كان حال أمي.

    في المدينة... كان الجنود الألمان يتجوَّلون بطمأنينة في شوارعنا. وصوَّروا كلَّ شيء بكاميرا سينمائية. كانوا يضحكون. كانت لدينا قبل الحرب لعبة مفضَّلة؛ هي رسم الألمان. كنا نصوِّرهم بأسنان كبيرة... بأنياب. بينما هم يتجوَّلون هنا، شبان ووسيمون... لديهم قنابل يدوية جميلة مدسوسة في فتحات جزمهم المتينة الصنع. إنهم يعزفون على آلة الهارمونيكا بشفاههم، وحتى يتمازحون مع فتياتنا الجميلات.

    عجوز ألماني يسحب صندوقاً ما وراءه، فاستدعاني وأشار إليَّ لكي أساعده. وكان في الصندوق مقبضان فحملنا الصندوق بهما. وعندما وصلنا إلى المكان الذي يقصده أخرج من جيبه علبة سجائر، وقدَّمها لي كأجرة عمل.

    رجعت إلى البيت وقد نفد صبري، جلست في المطبخ وبدأت بالتدخين. ولم أسمع صوت فتح الباب، فدخلت أمِّي: «هل تدخِّن؟».

    * «ممم... ممم...».

    - «من أين هذه السجائر؟».

    * «إنها ألمانية».

    - «تدخِّن، زدْ على أنها ألمانية. هذه خيانة للوطن».

    لقد كانت تلك أوَّل وآخر سيجارةٍ لي.

    وحدث مرَّةً أن جلست أمِّي إلى جانبي وقالت: «أنا لا أطيق وجودهم هنا، منذ الأيَّام الأولى. هل تفهمني؟».

    كانت تريد أن تناضل، منذ الأيَّام الأولى. وقرَّرنا البحث عن رجال المقاومة السرية، ولم يساورنا الشكُّ في وجودهم. لم نشك في ذلك لحظة واحدة.

    قالت ماما: «أنا أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا. هل تفهمني؟ هل ستغفر لي إن حدث شيء ما لنا؟».

    لقد أحببت أمِّي، وصرت أطيعها بلا تردُّد. وفيما بعد بقيت محتفظاً بهذا طوال حياتي.

    ردَّدتْ جدَّتي الصلوات راجية أن تعود روحي

    ناتاشا غوليك – 5 أعوام.

    الآن – مدققة في مطبعة.

    لقد تعلَّمت تلاوة الصلوات... وغالباً ما أتذكَّر كيف تعلَّمت الصلاة في زمن الحرب... قالوا لي: الحرب، لكنني – وهذا شيء مفهوم – لم أدرك أية صور في سن خمسة أعوام. لم تكن هناك أية مخاوف. وكنت أغفو بسبب الخوف، الخوف بالذات. وبقيت نائمة طوال يومين؛ بقيت مستلقية طوال يومين كالدمية، واعتقد الجميع بأنني فارقت الحياة. كانت أمِّي تبكي، أما جدَّتي فكانت تصلي. ودعوتها قائلة: «جدَّتي... جدَّتي». لكنها لم تلتفت إليَّ، لم تصدق بأنني أدعوها. بينما أنا استيقظت... وفتحت عينيَّ...

    ثمَّ سألتها: «جدَّتي، كيف صلَّيت حين كنت أنازع الموت؟».

    * «لقد رجوتُ أن تعود روحك إليَّ».

    وبعد مرور عام تُوفِّيتْ جدَّتي، وكنت قد تعلَّمت أداء الصلاة. كنت أصلِّي راجيةً أن تعود روحها...

    لكنها لم تعد.

    كانوا راقدين على الجمرات الوردية

    كاتيا كوروتايفا – 13 عاماً.

    الآن – مهندسة منشآت مائية.

    سأتحدث عن الروائح... وما هي رائحة الحرب.

    OEBPS/آخر_الشهود-7.xhtml

    أنهيت قبل الحرب ستة أعوام في المدرسة، وكان النظام السائد آنذاك هو أن يؤدي جميع التلامذة الامتحانات اعتباراً من العام الرابع، ويومئذ أدَّينا آخر امتحان. كان ذلك في شهر حزيران/يونيو. وفي عام 1941 ساد البرد في شهري أيَّار/مايو وحزيران/يونيو. ولئن كانت أزهار الليلك تتفتح عندنا في أيار/مايو فإنها تفَّتحت في ذلك العام في أواسط حزيران/يونيو، ولهذا ارتبطت بداية الحرب لدي دائماً بعبير أزهار الليلك، وبعبير أزهار بطمة الشمال. إن رائحة هذه الأشجار تذكِّرني بالحرب دائماً...

    كنا نعيش في مينسك، وولدت في مينسك. أبي قائد جوقة عسكري. وكنت أذهب معه إلى العروض العسكرية. ضمَّت أسرتنا أيضاً أخويَّ الأكبر سنَّاً مني. طبعاً كان الجميع يحبِّونني ويدلِّلوني باعتباري الأصغر سنَّاً، علاوةً على كوني شقيقتهما.

    أمامنا الصيف، وأمامنا العطلة المدرسية. كان هذا مبعث بهجتنا البالغة. كنت أمارس الرياضة وأرتاد نادي الجيش الأحمر حيث أمارس السباحة، حسدني أقراني، وحتى الصبية في صفِّي حسدوني. وكنت أتفاخر بأنني أُجيد السباحة. وفي الثاني والعشرين من حزيران/يونيو، في يوم الأحد، كان المقرَّر افتتاح بحيرة الكومسومول. وقد حُفرتْ وشُيِّدتْ منشآتها خلال فترةٍ طويلة، وحتى أن تلامذة مدرستنا ذهبوا إلى العمل الطوعي هناك في يوم السبت، وكنت أعتزم أن أكون أوَّل من يسبح فيها. ولكن..!

    جرت العادة أن نذهب في الصباح لشراء الخبز الطازج، وكان هذا من ضمن واجباتي. وفي الطريق التقيت صديقتي التي قالت إنَّ الحرب بدأت، علماً أن شارعنا فيه حدائق كثيرة، وبيوتنا تغوص وسط أصص الأزهار. وفكَّرتُ: «أي حرب؟ ما لها تختلق الأقوال؟».

    في البيت أعدَّ أبي السماور1... وقبل أن أقول أيَّ شيء هُرع إلينا الجيران، وعلى شفاههم جميعاً كلمةٌ واحدة: «الحرب! الحرب!». وفي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي استلم أخي الأكبر تبليغاً من مكتب التجنيد. وعند الظهر توجَّه إلى مكان عمله حيث استلم نقوده وأنهى عمله معهم. جاء إلى البيت حاملاً هذه النقود وقال لماما: «أريد الذهاب إلى الجبهة، وأنا لست في حاجةٍ إلى أيِّ شيء. خذي هذه النقود، اشتري فستاناً جديداً لكاتيا». علماً أنني حالما انتقلت إلى الصف السابع أصبحت في عداد تلامذة الصفوف العليا. وكنت أحلم بأن يكون لديَّ معطف بوستوني أزرق ذو ياقة من فرو استراخان الرمادي، وكان يعرف رغبتي هذه.

    ما زلت أتذكَّر أنَّ أخي أعطاني النقود لشراء المعطف قبيل ذهابه إلى الجبهة، علماً أننا كنا نحيا حياة متواضعة، وميزانية العائلة كانت تعاني من كثيرٍ من النواقص. وكان في وسع أمِّي أن تشتري لي هذا المعطف ما دام أخي قد أراد ذلك، بيد أنها لم تُفلحْ في شرائه، فقد بدأ قصف مينسك، وانتقلنا مع ماما للعيش في قبو حجري مع الجيران. كانت لديَّ قطَّةٌ أحبها جداً، كانت متوحِّشة جدَّاً، ولم تكن تذهب أبعد من الباحة، لكن لدى بدء القصف كنت أهرول من الباحة إلى الجيران والقطة ورائي. علماً أنني كنت أطردها قائلة: «اذهبي إلى البيت!». لكنها كانت تتبعني. لقد خافت أيضاً أن تبقى لوحدها. القنابل الألمانية تتساقط بصوت يشبه العويل، وأنا صبية ذات موهبةٍ موسيقية، وقد أثَّر هذا فيَّ كثيراً. هذه الأصوات... كان هذا فظيعاً للغاية، وسرت الرطوبة في راحتي يدي. جلس معنا في القبو صبي في الرابعة من العمر، لكنه لم يكن يبكي. بل فقط يحدق بعينيه.

    في البداية التهمت النيران بعض المباني، وفيما بعد احترقت المدينة كلها. إننا نهوى التطلُّع إلى النار، وإلى الشعلة في الموقد، لكن الأمر فظيع حين يحترق المبنى، وألسنة اللهب تنتشر في الأنحاء كافَّة، ويغطِّي الدخان السماء والشوارع. في بعض الأماكن تكون الإنارة ساطعة بسبب النيران... وأذكر ثلاث نوافذ مفتوحة في بيتٍ خشبيٍّ على رفوفها زهور صبَّارٍ رائعة. لم يكن هناك أناس في هذا البيت، بل هناك نبات الصبَّار المزهر وحده... وغمرني شعور بأنها ليست زهوراً حمراء بل ألسنة لهب. الزهور تحترق...

    هربنا...

    في الطريق كان يجري إطعامنا الخبز والحليب، إذ لم يكن هناك أيُّ طعامٍ آخر غير هذا لدى الناس. ونحن بلا نقود. وقد غادرت البيت بمنديل رأس، بينما كانت أمِّي بمعطف شتوي وحذاء ذي كعبٍ عالٍ. كانوا يطعموننا مجَّاناً، ولم ينبس أحد بكلمة بشأن النقود، فقد زحفت جموع اللاجئين.

    وفيما بعد صرخ أحدهم بأن راكبي الدراجات النارية الألمان قد سدُّوا الطريق أمامنا، فأسرعنا عائدين بمحاذاة القرى ذاتها، والنساء حاملات أوعية الحليب ذاتها. وهرولنا إلى شارعنا... كانت هناك قبل أيَّام أشجار وأعشاب خضراء، وزهور؛ أمَّا الآن فقد احترقت كلُّها، ولم يتبقَّ شيء حتى من أشجار الزيزفون المعمرة مئات السنين. واحترق كل شيء وبلغ حتى الرمل الأصفر. إذ اختفت في مكان ما التربة السوداء التي نمت فيها النباتات كافَّة، وبقي الرمل الأصفر الشديد الصفرة فقط، وبدا كما لو أننا أمام قبر حُفر لتوِّه...

    بقيت مداخن المصانع، وكانت بيضاء، وقد تصلَّبت بفعل النيران الشديدة. ولا يوجد أي شيء آخر مألوف لدينا... لقد احترق الشارع بأسره. احترق الشيوخ وكثيرٌ من الأطفال الصغار، لأنهم لم يهربوا سويةً معنا، وظنوا أن الألمان لن يمسُّوهم بأذى. لكنَّ النيران لم ترحم أحداً. إذا ما شاهد المرء في الطريق جثَّةً محترقة، فمعنى ذلك أن رجلاً عجوزاً قد احترق. وإذا رأى بعيداً شيئا صغيراً وردياً؛ فمعنى ذلك أنه طفل. إنهم يرقدون فوق الجمرات بلون وردي...

    نزعت ماما المنديل وربطته على عيني... وهكذا حتى بلغنا بيتنا، أي المكان الذي كان فيه بيتنا منذ عدَّة أيَّام. لم نجد البيت، واستقبلتنا القطَّة التي نجت من الموت بأعجوبة، فالتصقت بي، هذا كل ما هناك. لم يستطع أحدٌ قول شيء... حتى القطة لم تكن تموء. كانت صامتة خلال عدَّة أيام، وأُصيب الجميع بالذهول.

    رأيت أوائل الفاشيين، أنا لم أرهم بل سمعتهم، كانت أحذيتهم جميعاً بنعل معدني، ويُسمع طرق أقدامهم بصوت عال، كانوا يدقُّون أرض شارعنا، وبدا لي أن الأرض تشعر بالألم حين يمشون فوقها.

    ما أروع أزهار الليلك في ذلك العام! وكيف أزهرت بطمة الشمال...

    -1 وعاء يستخدم لغلي الماء وتحضير الشاي.

    مع هذا أريد ماما

    زينا كوسياك – 8 أعوام

    الآن – حلاقة.

    الصفُّ الأوَّل...

    أنهيتُ الصفَّ الأوَّل في أيَّار/مايو عام 1941، وأخذني والداي إلى مخيَّم الطلائع غوروديشه بضواحي مينسك. جئت إلى هناك وسبحت مرَّةً واحدةً، وبعد يومين بدأت الحرب. فنُقلنا إلى القطار وانطلق بنا. ظهرتْ في الجوِّ الطائرات الألمانية، فصرخنا مرحِّبين بها: «هوراه!». ولم ندرك احتمال أن تكون الطائرات غريبة، علماً أنها لم تقصف وقتها... وآنذاك اختفت الألوان كافَّة... جميع الألوان. وظهرت أوَّل مرَّة كلمة الحرب، وصار الجميع يردِّدون هذه الكلمة غير المفهومة. بينما لم يكن الآباء والأمَّهات بالقرب منا.

    عندما غادرنا المخيَّم استخدموا أغطية الوسائد، البعض وضع الحبوب، والبعض السكَّر. وحتى الصغار لم يستثنوا من ذلك، وأعطوا الجميع شيئاً ما. لقد أرادوا حمل أكبر قدرٍ من المواد الغذائية في الطريق، وتمّ حفظ هذه المواد الغذائية الضرورية. لكننا رأينا في القطار الجنود الجرحى. كان عددهم يُقدَّر بالمئات، ويعانون من الآلام الشديدة، وأردنا أن نعطي كلَّ ما لدينا للجنود. ونحن سمَّينا ذلك: «إطعام الآباء». ونحن سمَّينا جميع العسكريين من الرجال باسم بابا.

    حدَّثونا عن أن مينسك كلَّها احترقت، وهناك الألمان، ونحن نتوجَّه إلى ما وراء خطوط الجبهة... نتوجَّه إلى حيث لا توجد حرب.

    واصلنا الرحلة أكثر من شهر. أرسلونا إلى مدينة ما، ولكننا حين وصلناها لم يستطيعوا إبقاءنا هناك لأنَّ الألمان قريبون من المكان. ووصلنا إلى موردوفيا.

    كانت المنطقة جميلة جدَّاً، في كلِّ مكانٍ توجد كنائس. البيوت واطئة والكنائس عالية. لم توجد أسرَّةٌ ننام عليها، كنا ننام على التبن. وحلَّ الشتاء ولم يكن لدينا إلا زوج من الأحذية لكل أربعة أطفال. وبعد ذلك بدأ الجوع، وعانى من الجوع، ليس ملجأ الأطفال فقط، بل جاع الناس حولنا أيضاً، لأنهم أرسلوا كلَّ شيء للجبهة. كان يعيش في الملجأ مئتان وخمسون طفلاً، وحدث مرَّة أن دعونا إلى الغداء، بينما لم يوجد ما يؤكل. جلست هناك المربِّيات والمدير وعيونهم تتطلَّع إلينا. كانت الدموع تترقرق من عيونهم. كان لدينا حصان اسمه مايكا... كان حصاناً مُسنَّاً، ولطيف الحاشية جدَّاً، وكنا ننقل بواسطته الماء. في اليوم التالي ذبحوا هذا الحصان، مايكا. لكنهم أخفوا ذلك عنا. فلو عرفنا ما كنا لنأكل لحمه... أبداً ولأي سبب! كان الحصان الوحيد في الملجأ. كما وُجد قطَّان جائعان أيضاً، مثل هياكل عظمية! وفكَّرنا لاحقاً: لحسن الحظ أنهما هزيلان إلى هذه الدرجة، حيث لا نستطيع أكلهما. لا يوجد هناك ما يؤكل.

    كنا ببطون منتفخة، فأنا مثلاً أستطيع تناول دلو من الحساء، لأنه لا يوجد شيء في هذا الحساء. وكنت آكل وآكل كل ما يضعونه لي في الطبق. أنقذتْنا الطبيعة، كنا مثل الحيوانات المجترَّة. وفي الربيع لم تورق الأشجار حول ملجأ الأطفال على مسافة عدَّة كيلومترات... فقد أكلنا جميع البراعم، وانتزعنا حتى الجذور النضرة. أكلنا العشب، وأكلنا كلَّ ما يقع تحت أيدينا. وأعطونا سترات عسكرية، فصنعنا في هذه السترات جيوباً وضعنا فيها العشب، وكنا نمشي ونمضغه. أنقذنا هذا الأمر في الصيف، أما في الشتاء فكان الوضع صعباً جدَّاً. أُسكن الأطفال الصغار، وعددنا نحو أربعين، في جناح منفصل. وتردَّد العويل في الليل. كانوا ينادون الأمَّهات والآباء. وسعى المربُّون والمعلمون إلى عدم تلفُّظ كلمة ماما أمامنا. وكانوا يروون لنا الحكايات ويختارون الكتب التي تخلو من هذه الكلمة. وإذا ما نطق أحدهم بكلمة ماما يبدأ العويل فوراً... عويل شديد.

    ذهبت للدراسة في الصف الأول مجدَّداً. كنت قد أنهيت الصفَّ الأوَّل بدرجة امتياز، لكن في ملجأ الأطفال سألوا من يجب عليه إعادة امتحانه، أجبت بنعم. ظنَّاً مني أن إعادة الامتحان تعني درجة الامتياز. في الصف الثالث هربت من ملجأ الأطفال، وذهبت للبحث عن ماما. ووجدني الجدُّ بولشاكوف في الغابة جائعةً وبلا حولٍ ولا قوَّة. وعندما عرف أنني من ملجأ الأطفال أخذني إلى أسرته. كان يعيش مع الجدَّة لوحدهما. وعندما استعدت عافيتي أخذت أساعدهما في الأمور المنزلية: جمع الأعشاب واستئصال الأعشاب الضارة من بين البطاطا. مارست الأعمال كافَّة. هناك أكلنا الخبز، لكنه خبز يحتوي على القليل من الخبز! إنه مرٌّ، شديد المرارة؛ إذ كان يُخلط بالدقيق كلُّ ما يُمكن طحنه: السرمق وزهور الجوز والبطاطا. وأنا لا أستطيع حتى الآن النظر بهدوء إلى العشب الدسم وآكل الكثير من الخبز. لا أستطيع أن أشبع به أبداً... خلال عشرة أعوام...

    ثمة أشياء كثيرة أتذكَّرها. أنا ما زلت أذكر الكثير..

    أذكر الصبيَّة الصغيرة المجنونة التي جاءت إلى حديقة أحدهم ووجدت جحراً وصارت تحرس فأراً هناك. لقد أرادت الصبيَّة أن تأكل. أنا أذكر وجهها، وحتى فستانها الريفيَّ الطراز الذي كانت ترتديه. وحدث مرَّةً أن اقتربتُ منها، وراحت تروي شيئاً ما

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1