Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

دراسات في الحب
دراسات في الحب
دراسات في الحب
Ebook304 pages2 hours

دراسات في الحب

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تبرز في عنوان هذا الكتاب خاصية إنتاج المؤلف، كله ف "دراسات" تعني بحثاً وتأملاً ونظرية، بينما تعني كلمة "حب" حدثاً دائماً في الحياة البشرية، وشعوراً تراه الفلسفة العقلية خليطاً مشوشاً وغامضاً لا يمكن أجراء بحث فكري حوله.
لكن الكاتب هنا يفي بالواجب الآمر الذي صاغه: "يجب على النظرية أن تفتح عينها الصافية على الحياة الذاتية من حين إلى آخر، فالمشاهد يخمن وينظر، لكن ما يردي أن يراه هو الحياة كما تتدفق أمامه".

يعزل الكاتب في دراسته هذه ماهية الحب وينقيها، نازعاً عنه الإضافات كلها التي تعتم على حقيقته الواقعية وتعقد سيرورته، إنه الحب المفسر استناداً إلى بحث سيكولوجي وظاهراتي في آن وحتى إلى بحث اجتماعي، لما عد الاختيار في الحب أحد العوامل الأكثر فعالية في التاريخ.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933540906
دراسات في الحب

Related to دراسات في الحب

Related ebooks

Related categories

Reviews for دراسات في الحب

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    دراسات في الحب - خوسه أورتغا إي غاسيت

    دراسات في الحبّ

    خوسِه أورتِغا إي غاسّيت

    ترجمه عن الإسبانية:

    علي إبراهيم أشقر

    Chapter-01.xhtml

    مقدمة

    هذه الطبعة لـ«دراسات في الحب» لأورتِغا إي غاسّيت Ortega y Gasset هي أكمل الطبعات، فقد ضمّت أعمال المؤلّف الخاصة بالحبّ كلّها، والمبعثرة في كتب أخرى وفي طبعات أخرى للعمل ذاته، ما عدا تلك التي تشكّل جزءاً كاملاً وأساسياً من مؤلّفات أخرى. ولقد نُشرت أول طبعة إسبانية عام 1940 بعد الترجمة الألمانية بعنوان: über die liebe. والطبعة الحالية هي الثالثة عشرة. ويبيّن هذا المُعطى شهرة هذا العمل الدائمة. عمل تبرز في عنوانه خاصية إنتاج المؤلّف كلّه. فـ«دراسات» تعني من جهة، بحثاً وتأمّلاً ونظرية؛ و«حبّ» تعني من جهة أخرى حدثاً دائماً في الحياة البشرية، وشعوراً لا يمكن أن يكون في نظر الفلسفة العقلية السابقة غير خليط مشوّش وغامض، لا يمكن إجراء بحثٍ فكريّ حوله. وفي هذه «الدراسات»، كما في عمل المؤلّف كلّه، يفي أورتِغا إي غاسّيت بالواجب الآمر الذي كان قد صاغه في المجلد الأول من المُشاهِد El Espectador (1916): «يجب على النظرية أن تفتح عينها الصافية على الحياة الذاتية من حينٍ إلى آخر... فـالمُشاهِد يخمّن وينظر؛ لكنّ ما يريد أن يراه هو الحياة كما تتدفق أمامه».

    ويقول في المجلد ذاته من المُشاهِد: «إني أتبنّى الاعتقاد أنّ عصرنا سوف يهتمّ بالحب بجدٍّ أكبر قليلاً مما هو معتاد... فقد كانت الإيروسية خلال العصور كلّها خاضعة لنظام من الإخفاء. والمشاهد يرفض قبول وجود منطقة محظورة في مشهد الحياة. سوف نتكلّم إذاً، بشكل شائع عن هذه الأشياء، وهي الأشياء الوحيدة التي كان سقراط Socrates يعلن عن نفسه اختصاصياً فيها».

    ولقد تحدّث عن الحب كثيراً فيلسوفُنا المُفتقد طيلة عمله الفكري كلّه، لكنه يعزل في هذا الكتاب ماهية الحب وينقّيها، نازعاً عنه الإضافات كلّها التي تعتّم على حقيقته الواقعية وتعقّد سيرورته. إنه الحبّ المُفسّر استناداً إلى بحث سيكولوجي وظاهراتي في آن، وحتى إلى بحث اجتماعي، لمّا عدَّ الاختيار في الحبّ أحد العوامل الأكثر فعالية في التاريخ.

    الناشرون

    ملاحظة

    لقد خضع ترتيب فصول الكتاب لتغييرٍ بسيط، لأنّ المؤلّف رتّبها حسب تسلسل صدورها الزمني في الصحف والمجلّات. فرأينا أن نرتّبها حسب تسلسل الموضوع والإحالة إلى ما سبق. وصارت هكذا: ملامح الحبّ، سيكولوجيا الرجل الجذّاب، الحبّ عند ستندال، الاختيار في الحبّ، من أجل تاريخ الحبّ، خاتمة لكتاب «من فرنسيسكا إلى بياتريس»، منظر مع ظبية في الخلفية.

    ملامح الحبّ

    فَلْنتكلّم عن الحبّ؛ لكن، فلنبدأ بألّا نتكلّم عن «غراميّات»، لأن «الغراميّات» قصصٌ عارضة إلى حدٍّ ما تحدُث بين رجال ونساء، وفيها تتدخّل عوامل عديدة تعقّد سيرورتها وتُربكها إلى درجة تبلغ أن تُوجد في معظم الحالات «غراميّاتٌ» من كلّ ضرب، عدا ما يستحقّ أن يسمّى في الواقع حبّاً. وإنه لذو أهمّية كبرى أن نحلّل «الغراميّات» تحليلاً نفسياً مع بعض قضاياها الخلقية الطريفة. لكننا قد نسيء الفهم إذا لم نتحقّق من قبل مما هو حبّ بحقٍّ وصفاء. وفوق ذلك، قد يكون تهويناً من شأن الموضوع إذا قصرنا الدراسة على الحبّ الذي نشعر به بعضنا نحو البعض الآخر، رجالاً ونساء. والموضوع أوسع من ذلك كثيراً. وكان دانتي Dante يؤمن أنّ الحبّ يحرّك الشمس والنجوم الأخرى.

    ومن المناسب أن نتنبّه إلى ظاهرة الحبّ في عموميّتها كلّها، من غير أن نصل إلى هذا التوسّع الفلكي في الإيروسية. فلا يحبّ الرجل المرأة، ولا المرأةُ الرجلَ فقط. وإنما نحنُ نحبّ الفنّ والعلم، وتحبّ الأمّ الابنَ، ويحبّ الرجل المتديّنُ اللهَ. وهذا التنوّع الجمّ في هذه المواضيع والبُعد في ما بينها والتي ينتظمها الحبّ تجعلنا حذِرين، فلا نعدّ من أسس الحبّ صفاتٍ وشروطاً تأتي على الأغلب من الأشياء التي يمكن أن تكون محبوبة.

    منذ قرنين والكلام جارٍ عن الغراميّات كثيراً وعن الحبّ قليلاً. فإذا كان للعصور كلّها منذ العصر اليوناني، نظرية كبرى عن المشاعر، فإنّ هذين القرنين الأخيرين قد خَلوَا منها. فقد نحا العالم القديم نحْو نظرية أفلاطون Platón، ثمّ نحْو نظرية الأبيقوريّين. وتعلّمت العصور الوسطى نظرية القدّيس توما Tomas والعرب. ودرس القرن الـ 17، بحماس، نظرية الانفعالات لديكارت Descartes وإسبينوزا Spinoza. ولا نجد فيلسوفاً كبيراً في الماضي لم يحسب نفسه مُلزماً بأن يُعدّ نظريّته. أما نحن فلا نملك بحثاً من طرازٍ كبيرٍ لنظْمِ المشاعر في نسقٍ ما عدا أعمالاً لابْفاندر Pfander وشيلر Scheler حرّكت الموضوع حديثاً.

    لذلك لا يكفي أن نلجأ إلى هذه النظريّات ذات الصلة، وكذلك الفكرة التي يعرضها لنا القدّيس توما عن الحبّ، بعد تلخيصه التراث الإغريقي. وهي فكرة خاطئة بوضوح. إذ الحبّ والبغض، في نظره، شكلان من أشكال الرغبة والشهوة أو القوّة الشاهية. فالحبّ رغبة في شيء حسن، بصفته حسناً –concupiscible circa bonum-؛ والبغض رغبة سلبية ونفور من الشرّ بصفته شرّاً -cncupiscible circa malum-. ويُلاحظ هنا اختلاط الشهوات أو الرغبات والمشاعر التي عاناها ماضي علم النفس كلّه حتى القرن الـ 18؛ اختلاط سنلحظه مرّةً أخرى في عصر النهضة منقولاً بصورة جيدة إلى المجال الجمالي. وهكذا يقول لورنزو Lorenzo الرائع: «l'amore è un appetito di belleza: إنّ الحبّ شهوة للجمال».

    لكنّ ذلك أحدُ أهمّ الفروق الذي نحتاج إلى إدراكه، لكي نتجنّب أن يهربَ من بين أصابعنا ما هو نوعيّ وجوهريّ في الحبّ. فلا شيء في حياتنا الحميمة خصبٌ كما الشعور بالحبّ. هو جدّ خصب حتى صار رمزاً لكلّ خصوبة. إذاً، من الحبّ تُولد لدى الفرد أمور كثيرة: رغبات وأفكار، وإرادات وأفعال. لكنّ كلّ هذا الذي يولد من الحب كمحصول بذار، ليس الحبّ ذاته؛ بل هو بالحَرا يقتضي وجودَ هذا الحب. وإنّ ما نحب هو بمعنى من المعاني ما نرغب فيه أيضاً. لكننا في المقابل، نرغب بشكل ذائع، في أشياء كثيرة لا نحبّها ونقف حيالها لا مبالين على المستوى العاطفي، لأنّ الرغبة في خمرٍ جيّد ليست حبّه. والمُدمن على المورفين يرغب في المخدّر ويبغضه في آنٍ واحد لأثره الضارّ.

    لكنّ هناك سبباً أكثر صرامةً ودقّة لفصل الحبّ عن الرغبة، لأنّ الرغبة في شيء هي في نهاية المطاف ميلٌ إلى امتلاك هذا الشيء، حيث الامتلاك يعني بشكلٍ أو بآخر، أن يدخل الشيء في مدارنا ويشكّل ما يشبه جانباً منا. لذلك تموت الرغبة آلياً إذا حُصل عليها، وتتلاشى عند إشباعها. أما الحبّ، فهو، على العكس، عدمُ إشباعٍ دائم. وللرغبة طابع سلبي، وما أرغب فيه عند رغبتي هو في الواقع، أن يأتي إليّ. فأنا مركز جاذبية أنتظر أن تسقط عليه الأشياء. والعكس صحيح، ففي الحبّ كلّ شيء نشاط كما سنرى. وهو لا يكمن في أن يأتي الشيء إليّ، بل أنا أذهب إلى الشيء وأكون فيه. والشخص في فعل الحبّ يخرج من ذاته. وربّما كانت تلك المحاولة القصوى التي تقوم بها الطبيعة، لكي يخرج كلّ امرئ من ذاته ذاتها نحو شيء آخر، فلا ينجذب الشيء باتجاهي وإنما أنا أنجذب باتجاهه.

    وقد استطاع القدّيس أغسطين Agustin، وهو أحد الرجال الذين فكّروا أعمق تفكير في الحب، وربّما كان أعظم ما وُجد من ذوي الطباع حبّاً، أن يتحرّر أحياناً من هذا التفسير الذي يجعل من الحبّ رغبة أو شهوة. وهكذا يقول في عرض شعري: Amor meus, pondus meum; illo feror quocumque feror («حبّي ثقلي؛ وبه أسعى حيثما أسعى»). والحبّ انجذاب نحو المحبوب.

    لقد حاول إسبينوزا أن يصحّح هذا الخطأ، فأبعدَ الشهوات باحثاً في الشعور بالحب والبغض عن قاعدة عاطفية. فالحبّ في نظره هو الفرحُ المقترن بمعرفة سببه؛ والبغض في المقابل، هو الحزن بمعرفة مسبّبه. فإذا أحببنا شيئاً أو أحداً، فذلك أن نكون ببساطة فرِحين ومدركين في آنٍ واحد أنّ الفرح يأتينا من هذا الشيء أو هذا الشخص. وهنا نجد مرّةً أخرى، الحبّ مختلطاً بنتائجه الممكنة. فمن يشكّ في إمكانية أن يتلقّى المُحبّ الفرحَ ممّن يحبّ؟ لكن، لا يقلّ عن ذلك صحّةً أنّ الحب يكون أحياناً حزيناً، حزيناً كالموت وعذاباً كبيراً وقاتلاً. وأزيد: إنّ الحب الحقيقي يُدرك نفسه، أو بالقول هكذا: يقيس نفسه ذاتها ويحسُبُها بقدرتها على الألم والمعاناة. فالمرأة العاشقة تُؤْثِر ضروب القلق التي يسبّبها لها الرجل المحبوب على اللامبالاة غير المؤلمة. ونقرأ في رسائل الراهبة البرتغالية ماريانا ألكوفورادو Mariana Alcoforado جملاً موجّهةً إلى مُغويها الخائن كهذه: «أشكر لك من أعماق قلبي اليأسَ الذي سبّبته لي، وأكره الهدوء الذي كنت أعيش فيه قبل أن أعرفك». «إني أرى بوضوح ما عساه يكون علاج آلامي كلّها وأحسّ بنفسي متحرّرة منها لو تخلّيت عن حبّك. لكن، أيّ علاج هو! كلا. إني أؤثر العذاب على نسيانك. آي، أوَهذا الأمر مقيّد بي؟ لا أستطيع أن ألوم نفسي على أني لم أتخلّ عن حبّك لحظة واحدة. وفي نهاية المطاف، أنتَ أجدر بالشفقة منّي، وخيرٌ لي أن أعاني كلّ ما أعانيه من تمتّعي بالملذّات التي توفّرها لك عشيقاتُكَ في فرنسا». وتختتم الرسالة الأولى: «وداعاً؛ أحببني دائماً واجعلني أعانِ أيضاً أكبر الآلام». وتكتب الآنسة ده ليبيناس Lespinasse بعد قرنين من ذلك: «أحبّك كما يجب أن أحبّك: باليأس!».

    ولم يُحسن النظر إسبينوزا. لأنّ الحبّ ليس فرحاً. فمن يحبّ الوطن، ربّما يموت في سبيله، والشهيد يسقط حبّاً. والعكس صحيح. فهناك أحقاد تتلذّذ بذاتها وتسكر على شكل جزيل بالشرّ الحاصل للمبغوض.

    فإذا كانت هذه التعاريف اللامعة لا ترضينا، فمن الخير لنا أن نحاول وصف واقعة الحبّ مباشرة، بتصنيفها كما يفعل عالم الحشرات بحشرة يصطادها في الغابة؛ وآمل أن يكون القرّاء يحبّون أو كانوا أحبّوا أحداً ما. ويمكنهم الآن أن يُنشبوا شعورهم بالأجنحة الشفّافة ويبقوه ثابتاً أمام النظرة الداخلية. وسوف أعدّد الخصائص الأعمّ والأكثر تجريداً لهذه النحلة المرتعشة التي لها علمٌ بالعسل وتلسع. وسوف يحكم القرّاء على صيغي ما إن كانت تتطابق أم لا تتطابق مع ما يرونه داخل أنفسهم.

    الحب في بدايته يشبه الرغبة يقيناً، لأنّ موضوعه –أكان شيئاً أم شخصاً- يحثّه على ذلك. فالنفس تشعر أنها مثارة ومجروحة في نقطة معيّنة على شكل ناعم بحافز يأتي من الموضوع إليها. ولهذا الحافز، إذاً، اتجاهٌ جاذب إلى المركز: هو يأتي من الموضوع إلينا. لكنّ فعل الحب لا يبدأ إلا بعد هذه الإثارة، وخير من ذلك، الحثّ. وينبع الحبّ من هذا المسامّ الذي فتحه سهم الموضوع الحاثّ، ويتّجه بفعالية نحوه: هو يسير إذاً، باتجاه معاكس للحاثّة ولكلّ رغبة. إنه يذهب من المحبّ إلى المحبوب –ومنّي إلى الآخر- في اتجاه نابذ عن المركز. وهذا الطابع في أن يجد المرء نفسه في حركة، وفي الطريق نحو الموضوع، والسير باستمرار على شكل حميم من كياننا إلى كيان الغير، هو أمر جوهري في الحبّ وفي البغض. وسنرى فيمَ يختلفان كلاهما. وهذا لا يعني مع ذلك، أننا نتحرّك فيزيقياً نحو المحبوب الذي نحاول الاقتراب منه والتعايش الخارجي معه. وهذه الأفعال الخارجية كلّها تنشأ يقيناً من الحبّ كآثارٍ له. لكنها لا تهمّنا في تعريفهِ، وعلينا أن ننحّيها تنحيةً كاملةً عن المحاولة التي نقوم بها. ولا بدّ لكلماتي كلّها من أن تشير إلى فعل الحبّ في حميميّته النفسية بوصفها عملية تحدث داخلَ النفس.

    فلا يمكن الذهاب إلى الله الذي يُحبّ، بساقَي الجسد، ومع ذلك، حبّه هو في الذهاب نحوه. ونحن نتخلّى في الحبّ عن الهدوء وعن حكمتنا الداخلية، ونهاجر بشكل مُضمر نحو الموضوع. وكونُ المرء مهاجراً باستمرار، هو كونه محبّاً دائماً. لأنّ فعل التفكير والإرادة وقتيّان، وقد لوحظ ذلك. فنحن نبطئ إلى هذا الحدّ أو ذاك، في تحضيرهما، لكنّ تنفيذهما لا يدوم. بل هو يحدث في مثل فتح العين وإغماضها؛ إنهما فعلان فوريّان. إني أفهم جملة، إنْ فهِمْتها، فجأة وفي لحظة واحدة. أما الحبّ، فعلى العكس، يمتدّ في الزمن. ولا يكون في سلسلة من اللحظات الفجائية، ولا في سلسلة من النقاط التي تشتعل وتنطفئ كالشرارة في المحرّك الانفجاري. وإنما يُحَبّ المحبوب باستمرار. وهذا الأمر يحدّد علامة جديدة من علامات الشعور الذي نحلّله؛ والحبّ سَيَلان وتدفّق من مادّة نفسانية، وسائلٌ يفيض باستمرار كما من ينبوع. ونستطيع القول، إذا بحثنا عن تعابير مجازية قد تبرز في الحدس، وتحدّد الطابع الذي أشير إليه الآن، نستطيع القول إنّ الحبّ ليس طلْقة، وإنما هو فيض مستمرّ وإشعاع نفسيّ يذهب من المحبّ إلى المحبوب. هو ليس دفقة واحدة، وإنما تيّار.

    لقد ألحّ ابْفاندر بدقّة كبيرة على هذا المظهر السيّال والمستمرّ للحبّ والبغض.

    ولقد أبرزنا ثلاثة ملامح أو ثلاث علامات مشتركة بين الحبّ والبغض: إنهما نابذان، وهما ذهاب مُضمر باتجاه الموضوع، وهما مستمرّان وسيّالان.

    لكننا نستطيع الآن أن نحدّد الفرق الأساس بين الحبّ والبغض.

    فلهما كليهما الاتجاهُ ذاتهُ، لأنهما قوّتان نابذتان، ويتّجه الشخص فيهما نحو الموضوع؛ لكنهما يحمِلان داخل هذا الاتجاه الوحيد معنىً مختلفاً وهدفاً معاكساً. في البغض يتمّ الاتجاه نحو الموضوع، لكنّ الذهاب يكون مضادّاً له؛ فمعناه سلبيّ. وفي الحبّ يتمّ الاتجاه أيضاً نحو الموضوع، لكنّ الذهاب يكون في صالحه.

    وهناك ملاحظة أخرى تطلع لنا عرضاً، كخصيصة مشتركة بين هذين الشعورين وتعلو على الفروق بينهما، وهي التالية: إنّ التفكير والإرادة يَخلوان مما يمكن أن نسمّيه درجة حرارة نفسية. وعلى العكس منهما الحبّ والبغض اللذان نجد فيهما حرارة، وهما ساخنان مقارنةً بالتفكير الذي يتصوّر نظرية رياضية. وتتمتّع نارهما فوق ذلك، بأكثر الفروق الحرارية صِغراً. فكلّ حبٍّ يجتاز مراحل من درجات حرارة مختلفة؛ وتتكلّم اللغة المتداولة بدقّة عن غراميّات تبرد، ويشكو المحبّ فتور المحبوبة وبرودتها. ويقودنا هذا الفصل من درجة الحرارة العاطفية، إلى أن نلحظ محطّات علم نفسية مسلّية. إذ تظهر فيها وجوه من التاريخ العالمي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1