Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

عباد الشمس
عباد الشمس
عباد الشمس
Ebook424 pages3 hours

عباد الشمس

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لم تحمِ الرقّة، الشابّةَ العشرينية النبيلة إيڤيلين من خيبات الحب، فتهجر بودابست ذاهبةً إلى منزل أجدادها في قريةٍ على ضفاف نهر تيسا، علّها تحظى هناك بالسكينة وتنعم بالهدوء. لكن شعورها بالطمأنينة يهتزّ مع تصاعد شكوكها بوجود شخصٍ يطوف حول منزلها. أتراه حبيبها كالمان؟ لا تعرف ما إن كانت تأمل ذلك أم تخشاه!
تغرق إيڤيلين في عالم غرائبي يختلط فيه الأموات بالأحياء، والواقع بالأسطورة، فيبدو كل ما هو مستغرب شديد الاعتيادية؛ فتاة تعشق شجرة، رجلٌ يتمدّد في تابوته ويقرأ كتاب الصلوات، وأشباحُ عشاقٍ خائبين يطاردون عشيقاتهم...
في "عبّاد الشمس" يعتمد الكاتب الهنغاري "جولا كرودي" اللغة الوصفية والتداعي الحرّ الذي يختلط فيه الحلم بالحقيقة، ليُدخل القارئ في أعماق شخصياته ويجعله يرى الطبيعة بعيونهم، راسماً صورة الريف المجريّ الذي يمضي فيه الناس حياتهم باحثين عن الحب، كما تتحرّك زهرة عبّاد الشمس بحثاً عن الضوء.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933641863
عباد الشمس

Related to عباد الشمس

Related ebooks

Related categories

Reviews for عباد الشمس

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    عباد الشمس - جولا كرودي

    الغلاف

    عبّاد الشمس

    رواية

    جولا كرودي

    ترجمها عن الهنغارية:

    نافع معلا

    Y9789933641863-02.xhtml

    Jelen mű kiadása a Petőfi Literary Fund (www.plf.hu)

    magyar irodalmat népszerűsítő célkitűzése szerinti együttműködés keretén belül valósult meg.

    نُشر هذا العمل في إطار التعاون مع صندوق Petőfi الأدبي

    (www.plf.hu) الذي يهدف إلى الترويج للأدب الهنغاري.

    - 1 - إيڤيلين الملموسة

    استلقت الفتاة في سريرها تقرأ روايةً قرب الشمعدان. سُمِعَتْ في المنزل ضجّةٌ خفيفة كأنّ أحداً يتنقّل في الغرف الأخرى. وضعت الكتاب من يديها، وأصاخت سمعها. كان عقرب الساعة يقترب بكللٍ من منتصف الليل، كحياة تتسلّق جبلاً.

    كانت الآنسة إيڤيلين في العشرين من عمرها. وقد بكتْ حبّها الأول، وتجاوزت آثاره تقريباً، ولكن بعضاً من صور ذكرياتها، مع الشاب الذي أراد أن ينهي حياته بيده، كانت تخفق في ذاكرتها خفقان جناحَيْ نورسٍ يتأرجح في الرياح الشمالية. وعلى أيّ حال، كانت إيڤيلين امرأةً جادّة، وهادئة، ومعافاة، تخرج صيفاً بثياب بيضاء، وشتاءً بثياب سوداء. كانت متديّنة، وترتاد في الخريف كنيسة الفرنسيسكان، وفي فصل الصيف تعزق بمنتهى الوقار في حقولها الريفية. وكانت تظن أنها على نحوٍ ما ستكون في غاية السعادة، الأمر الذي جعلها تنظر إلى مرور الأيام باطمئنان.

    أجفلتها ضجّة منتصف الليل.

    فجأةً تذكّرت أنها لم توصد باب غرفة نومها. لكن الباب الملبَّس بورق الجدران، المفتوح على الحمّام، كان غير مغلق بالتأكيد. نظرت إليه بثبات، ثم خرجت بهدوء من تحت الغطاء، وتسلّلت حافيةً نحو الباب. هنا فطنت مذعورة إلى أن المفتاح في الجهة الأخرى من الباب. وقبل أن تتمكّن من التفكير بالأمر، تحرّك المزلاج النحاسي بهدوء. هبط إلى الأسفل بتؤدة وصمت أشبه بهبوط تابوت في حفرة قبر. يبدو أن يداً خبيرة تمسك بالمزلاج وتجيد التعامل مع الأقفال بلا إصدار ضجة.

    نظرت إيڤيلين حولها مرّة أخرى؛ كانت نافذتها تطلّ على حديقة شهر كانون الأول. فيما كانت على النافذة الأرضية شبكة من القضبان المعدنية على طراز الأبنية القديمة في مدينة يوجف البودابستية.

    بحثت عن سلاح يمكّنها من الدفاع عن نفسها أمام اللصّ المتسلّل. لم تقع عيناها على مدية قصّ الورق التركية، لكنّها عثرت على مخرزٍ معدني.

    كان المزلاج قد أُنزل تماماً، وحانت الآن اللحظة التي يحاول فيها المجهول أن يفتح الباب.

    تحرّك الآن الجدار الورديّ اللون.

    عندئذٍ صرخت إيڤيلين ملء رئتيها بصوتٍ غريب، هي نفسها لم تتعرّف إليه.

    - كالمان! انهض، اللصوص يجولون في المنزل!

    ومن شدّة ذعرها راحت بكلّ ما تملك من قوة تقذف بوسائد الخياطة على النافذة، فتصدّع زجاجها.

    عاد المزلاج إلى مكانه.

    اصطفق بابٌ في مكانٍ ما كشتيمةٍ مقذعة.

    ثم سُمع في الشارع المجاور تهاوي خطوات متحسّرة، متأمّلة سهرانة.

    سارعت إيڤيلين إلى النافذة وقد اشتدّت خفقات قلبها. كانت الحديقة بيضاء كالمقبرة، والأشجار القديمة تنتصب بلا حراك ملتحفةً بمعاطف الثلج، والسور الحجري في البعيد متوشّح بالبياض كأنه نهاية العالم.

    عاد المنزل إلى هدوئه كمفكّرة ذكريات مغلقة انتقل أبطالها إلى العالم الآخر.

    ارتدت الفتاة رداءً طويلاً ناعماً من الفرو، التصق بقميص نومها كقطّة مداعبة. أخرجت النعال من تحت السرير. نظرت في المرآة. رمقتها من هناك امرأةٌ سوداء ذات عينين صغيرتين ووجه طباشيري البياض. وقفت هنا طويلاً بلا حركة، وبضربات قلب قاتلة، وجبين متعرّق. ولمّا ولّى الخطر، لم تدرِ ماذا تفعل. اكتفت بالوقوف مستنفرة، غافلة عن كلّ ما في الحياة.

    «لو كان هو؟» - فكّرت.

    خطر لها خطيبها السابق - كالمان يعرف كلّ زوايا المنزل، ويستطيع التنقّل في أرجائه حتى في الظلام وفي الممرات المتعرّجة بين الأبواب يميناً وشمالاً. يعرف السلّم الحلزوني الذي يقود إلى الحديقة من منزلها في الطابق الأرضي المرتفع، الذي بُني منذ أن كان اليعاقبة(*) يتوارون في بودابست، وكان صاحب المنزل أحد عناصر المؤامرة. كانت قصور الكونت في الجوار قصوراً مهيبة كصور الرحلات في ألبوم. واحد من هذه الأبنية هو منزل أرضيّ ذو سقف، فرنسيّ الطراز، انتصب هنالك كامرأة عجوز تحرس كنوز العائلة الفضيّة. هذا المنزل القديم ليس بمقدور لصٍّ عاديّ أن يخوض فيه. وحده كالمان هو زائر الليل المحتمل.

    ولكن ما الذي كان يبغيه؟ لا سيما أن بوسعه المجيء نهاراً والإفصاح عن رغباته، كما فعل غير مرة وقصدها حين أفلس على طاولة القمار، أو فوق عشب ميادين سباق الخيل، فلم تخذله الفتاة وبادرت إلى مساعدته كقريبة سخيّة محسنة. ما إن مَثُلَ كالمان في الغرفة المطلّة على الحديقة في مثل هذه الساعات غير المعتادة، حتى تهامست الصكوك في الخزنة المصنوعة من خشب الورد. تناولت أصابع الفتاة البيضاء الرقيقة أكبر الأوراق بالسهولة التي تتناول بها منديلاً، وأخرجتها من الخزنة. ولأنها متطيّرة وتنساق للخرافة، كانت على الدوام تطلب من كالمان أن يعيد كرايتساراً واحداً من النقود تفادياً لفقدان الفأل الحسن من المنزل. وقد قصدها كالمان في أوقات أخرى أيضاً، حين أساءت إليه النساء وأَذينه، وتخلّين عنه، وخدعنه. وفي مثل تلك الحالات كانت الخزنة من موقعها في الركن ترمق الرجل المطأطئ الرأس بعين الشفقة. وكان لأصابع الفتاة البيضاوات كالثلج عملها في مسح الغمام عن جبين كالمان.

    مضى عامان ولم يأتِ كالمان.

    تُرى ما الذي يريده؟

    هل ألمّت به كوارث أخرى نتيجة تصرّفاته العبثية؟ مع أنها، قبل أن ينفصلا نهائياً، قد أوفت ديون الشاب كافّةً بحيث يبدأ حياة أخرى جديدة سعيدة معافاة، وينسى إيڤيلين، ويتسنّى للفتاة أيضاً أن تسعى للسكينة.

    كانت إيڤيلين تجلس قرب النافذة حتى الصباح، تشاهد إشراقة النور على الأشجار. كان الفجر يفِد إلى بودابست كالحليب من القرى. تمايزت أقزام الشجيرات خارجة من العتمة كأطفال ذاهبين إلى المدرسة، غطّت الثلوج قبّعاتهم بعد مسيرهم الطويل. شجرة سرو كئيبة برزت عند الفجر متلفّعة بثوبها الأبيض الأسود، كمُقامر عائد إلى الوطن.

    فتحت إيڤيلين النافذة.

    لمحت آثار أقدامٍ في ثلج الحديقة.

    كان الثلج ما يزال يندف خفيفاً، وآثار الأقدام تتلاشى كالذكريات. مثلما يتقن الصيّاد تمييز آثار أقدام الذئاب عن بقية الآثار، كذلك تعرّفت إيڤيلين على آثار زائر الليل، فضغطت قلبها بيديها. قفزت فجأة وجرت مسرعة عابرةً غرفة الحمّام حتى السلّم الحلزوني. نزلت، وخرجت إلى الحديقة. لم تُلقِ بالاً للأبواب المفتوحة.

    وعلى رؤوس أصابعها، مثلما تختلس السير نحو فراشات في قيلولة الظهيرة، اقتربت من الآثار. جثت كأنها أمام مذبح. انحنت وقبّلت الثلج حيث مسّته قدما زائر الليل.

    قبّلتْ كعبي القدمين حيث يقع ثقل الجسم، والقوة، والشجاعة، والجرأة. لامست بشفتيها أثري القدمين حيث الارتكاز على ركابَيْ سرج الخيل الغائبين الآن، اللذين يحميان الفارس من السقوط، ويوجّهان الخُطا المغامرة يميناً وشمالاً، ويقودان أحياناً إلى مفاجآت غير مرتقبة، وإلى مطارح غريبة مجهولة حيث تنتظر الرجل هناك نساء يفُقن التصوّر بابتساماتهن الكاذبة، وركبهن الفاسقة، وصدورهن النجسة كحجارة الأرصفة. الركابان ذاتهما هما اللذان يصحّحان مسار الخُطا المرهقة، من حشرجة الكمان إلى صوت القلب: من صراخ المهرجان إلى موقد النار الهادئ؛ إلى دروب الحديقة النظيفة المروية، التي تفرقع فوقها الحجارة بخفوت، وتتنفّس أشجار الدلب بشدّة كالعذارى النائمات. أوه، لا بدّ لهذين الركابين أن يستحكما يوماً بالقدمين الحائرتين. من يدري أين سيمضيان بالضائعين؟

    قرع جرس الكنيسة في مدينة يوجف يعلن موعد قداس زمن المجيء، وكان يتناهى إلى الأسماع من خلف السور الحجري سعال النسوة العجائز المتوشّحات المحدودبات مثل الكعك المملّح.

    جاءتها عند العصر رسالة من البريد.

    عرفت إيڤيلين خط كالمان. وكان في الرسالة زهرة إكليل الجبل متجمّدة.

    «اعذريني لأني سرقت حديقتك! ندمت لأني ارتكبت هذا الذنب. وها أنذا أعيد لك زهرتك، فليس من حقي أن أحتفظ بها».

    تفتّحت زهرة إكليل الجبل في الغرفة الدافئة، كعصفور كان في حالة خدر، ونشرت عطرها الجليدي الطازج البديع في غرفة إيڤيلين، كحياة بدأت من جديد.

    ***

    أثلجت السماء في بويدوش على نحوٍ يختلف عمّا في بودابست.

    في الأيام التي تلت الزيارة الليلية، حزمتْ إيڤيلين أغراضها ورحلت إلى بويدوش، في جوار نهر تيسا الأعلى. لطالما فعلت ذلك كلّما دهم الحزن وفرسان الدخان المنزل في مدينة يوجف وأقاموا في ربوعه. هربت خلسةً من أمام الأشباح الجامدة ذات الوجوه القاسية، ولجأت إلى المنزل الريفي، ولم تجرؤ أن تفتح عينيها قبل أن تصل إلى بيت الحراسة في بويدوش.

    كان الشتاء نقيّاً وصادقاً هنا. أثلجت كلّ يوم كما في الحكايات. بساتين تيسا، وأدغال القصب، والعروق، وأدغال الثعابين، كلّها لجأت إلى دفن نفسها في فصل الطبيعة الشتائي، كما تستسلم نساء مبتهجات لعشّاق وثنيين. نهض المشهد كحلم. ونامت بلاد المجر هنا في هدوء الفقراء، والبسطاء، والسعداء. هنا تختفي تحت الثلج سكّة حديد الشمال الشرقي، وليس لأعمدة التلغراف في المنطقة إلا مهمّة وحيدة: أن تدلّ التائهين على الدروب. وخلف النوافذ الصقيعية لقطار الركّاب الليلي بشرٌ غرباء، يسافرون لهدف مجهول كالمجانين أو الملعونين.

    قامت الحياة في بويدوش كرجل ثلج في زاوية الفناء.

    كان المنزل الريفي دافئاً تحت قبّة السماء. وأطلت النوافذ بهدوء على المنطقة. تكّت الساعة، وانتشر صداها هنا كغناءِ قريبٍ قديمٍ بقي صوته يتردّد في المنزل. الخادمات متقدّمات في السن، يخدمن هنا منذ نعومة أظفارهن، ويعرفن أسماء كلّ زهرة، وشجرة، وطريق، وجواد، وكلب، لأنهن ينحدرن من عائلة بويدوشية. الغربان معارف موغلون في القدم. القدّيس الحجري على جانب الطريق يردّ تحيّات أهل الأرض بلغة إنسانية مفهومة. الأشباح تعود من المقبرة بكلّ هدوء، وكلٌّ منها يجد غليونه في مكانه.

    هنا ولدت إيڤيلين، وهنا كانت سعيدة.

    أمكنها أن ترى من خلال بوّابة السرداب ذات القضبان المعدنية تابوتَي الحجر الرملي لأبيها وأمها. حيّتهما فردّا تحيّتها. حيّاها الناس، والأحصنة، والكلاب، وكأنها مليكتهم. من جزيرة الحلم جاء أندرو آلموش على ظهر جواده عابراً نهر تيسا المتجمّد، وقرع، وهو فوق السرج، نافذة غرفة الطعام كما كان أبوها وجدّها يفعلان، ويسألان: ما الغداء لهذا اليوم؟

    كان آلموش هذا عالماً قرويّاً، بعمر الأربعين تقريباً. كان عازباً نحيل القامة، صغير الرأس، لطيف الهيئة. اعتزل على جزيرة بين تعرّجات نهر تيسا، وأحاط نفسه ومنزله هناك بجدار حجري بعيداً عن الناس والمياه الربيعية. ألِف أن يتكلّم بهدوء، ولم يسمعه أحد يضحك بصوتٍ عالٍ. نظراته هادئة كنظرات الغروب على هذه المنطقة. كان سعيداً بصمت الشتاء، وفي الربيع كان يحب التدخين والاستماع إلى الأغنيات المنبعثة من القوارب؛ لم يكن غريب الأطوار، ولا مجنوناً. استقرّ فوق الجزيرة مثل ثعلب الماء. كان عالماً طبيعياً، لكن اسمه لم يرد قطّ في الطباعة. كان المذكور حلقة من حلقات جيل السادة المجريين الأسلاف، الذين كانوا يتعلّمون اللغة الإنكليزية أو الفرنسية من الكتب، لتسلية أنفسهم في الشتاءات الطويلة. وفي السبعينيات من أعمارهم ينشغلون بعلم الفلك. كانوا يحفظون هوراسيوس وبرجني عن ظهر قلب، ولكنهم لم يصوّتوا حتى في اجتماعات المقاطعة، بسبب ضجرهم من سياسة المرشّحين في محاولاتهم الترويج لأنفسهم. كانت كلاسيكيات الكتب ذات الأغلفة من جلد الخنزير تحمل تواقيعهم المصفرّة، كما كان من السهل معرفة صفحة الكتاب الأخيرة التي كانوا يقرؤونها وهم على فراش الموت. أحبّوا المرأة كزهرة في أصيص. كانت المرأة في المنزل كائناً مهدّئاً، عطراً، أبيض، تعمل في النهار أعمالها المريحة بقليل من الضجيج والقلق، إلى أن يجيء المساء، فتتفرّغ لتسليتهم. غراميات لطيفة مريحة، بطيئة وطويلة كالساعة القروية، تبعث على النوم الهنيء، والأحلام الهادئة. الطفل هو ثمرة موعودة عزيزة، كحلول يوم العيد المحتّم في مفكّرة الأيام. في هذه المنازل القديمة المليئة بالسعادة. وأمام غرام دون كيشوت، ومرارة مانون ليسكو، وحتى أمام أشعار السيّد كيشفالودي الحزينة، كانوا يهزّون الرؤوس بهدوء كما هي الحال لدى المسافر القادم من بلاد بعيدة.

    لم يقل أندور آلموش قطّ إنه مغرم بالآنسة إيڤيلين. كان أمراً مفهوماً من تلقاء ذاته، كما الصداقة في سن الطفولة التي تعبر الحياة بهدوء ولا أحد يسأل: لماذا؟ كان طبيعياً كألفة الطيور، كانجذاب الحيوانات المنزلية نحو بعضها في الربيع، كالزهور البيضاء لأشجار الفاكهة. الرياح الشرقية التي تجلب الربيع، وتكدّر دغل القصب، وتجفّف المياه، تداعب العشب كيدٍ طيّبة.

    «هل اعترتك الكآبة مجدّداً؟» - سألها الفارس لمّا نفض الثلج عن كتفيه، وطبع قبلة على جبينها البارد.

    لاحت الدموع في عيني إيڤيلين وهي تنظر بهدوء إلى أندور، كما لو أنه أخٌ أكبر جدير بالثقة.

    - أفكّر مجدّداً بذلك الـ ... عديم القيمة.

    لوّح آلموش متجهّماً:

    - عليك البقاء هنا حتى الربيع. بل طوال عام كامل. بويدوش تشفيك. إنها المكان الوحيد حيث يمكنك استعادة نفسك. يا لك من فتاة مسكينة سيّئة الحظ! لن أسأل عمّا حصل. لا بدّ أن أمراً ما قد أثقل عليك كي تتركي بودابست في الشتاء. لكن، رجاءً، لا يدفعني الفضول لأعرف أيّ شيء.. لا عن الشاب كالمان، ولا أيّ مغرم آخر. لن أسمح لك بالعودة حتى تتعافي.

    ابتسمت إيڤيلين بثقة، وكأنّ طفولتها تجلجل في مكانٍ ما حول المنزل، كجرس فتيان بيت لحم. الفصل شتاء. وسوف يتزلّجان.. وينحران خنزيراً.. ويجولان بين بساتين نهر تيسا في الظهيرة المتلألئة كالحياة. وسيجلب ساعي البريد كتباً لها رائحة الثلج، والمجلّات التي جمّدها البرد، وجرائد عيد الميلاد التالفة بعد الرحلات الطويلة، ويتصفّحانها معاً.. ويتفحّصان الحسابات التي كتبها وكيل الأرض.. ويتحدّثان عن الأهل الأموات، عن الأصدقاء العجائز في العالم الآخر، عن النساء الفاسدات، وعن بودابست كسرٍّ من الأسرار. نبح كلب الحراسة طويلاً. لعلّ شيخ الموت طاف في المنطقة مع هبوب الثلج، لكنّه لم يلحظ المنزل القديم هنا. لوسادة الرأس رائحة أزهار ذابلة، فيا لها من لذّةٍ تلك التي يمكن العثور عليها في كتاب الأحلام القرويّ! ماذا تقول المفكّرة؟ رائحة عيد الميلاد، ورأس السنة الجديدة تعود بنا إلى أحلى الذكريات في سني الصبا المليئة بالتفاؤل، الغزيرة بالأماني، حين تلاشت الكتب المدرسية واستحالت إلى أجسادنا. ومن خلال نظّارات الحلم يقوم المعلّمون المتوعّدون بإنزال وشاح أمام أعيننا، وشاح سعيد.. لا علاقة له بما سوف يحدث في الحياة الآتية.

    أمسكت إيڤيلين يد صديقها العظميّة.

    - تخلّيت عني مرّاتٍ عديدة، كطفل يقذفون به للضياع. لا تدعني الآن أرحل، لأني قد لا أعود مرّة أخرى.

    مسح أندور آلموش على شعر الفتاة.

    - أنا أعلم أنك مخلوق طيّب لا يرتكب أفعالاً رديئة، ولهذا كنت مطمئناً على الدوام حتى حين لم أكن أراك. قلبك طيّب لأنه لم يتحتّم عليك الانشغال بالخسيس المنحطّ من الأمور. وروحك نقيّة غير ممسوسة، لأن الفقر المُحزن، والأرق الثقيل، والإفلاس الذي يوسوس لارتكاب الخطايا، كلّها لم تقرَبْك في يوم. أنت طيّبة وهادئة كالمرأة الشابة التي جلّ ما تفعله أن تحلم أمام النار عند الغروب مُطرقةً في الأرض، مصغية لنشوة سقوط الثلج. لكن فرسان الأحلام، والغراميات السحرية والتحليقات فوق سطح المنزل، ما هي إلا أجنحة سنونوات سرعان ما تختفي عند إشعال المصابيح. الصباح والنهار موزونان، رصينان، مليئان بالرضا، كالمياه الطازجة. سماؤنا في الشتاء رمادية في الغالب كحياتنا، لكنها دافئة كفراء الأرانب في الشتاء. أنا لا أخشى عليك يا ملاكي الحلوة، لأنك ستعودين إلى هنا على الدوام، لأن لديك هنا كلّ ما يستحقّ أن يُعاش من أجله. منزلك، قبرك، سماؤك، وأرضك شريان حياتك. أنت فتاة قروية، يا إيڤيلين، زهرة إكليل الجبل القروية مهما تصوّرت نفسك أحياناً سيّدة من مدينة كبيرة. سقوط الثلج، الرياح الطلقة، أوراق الشجر الخريفية المتطايرة، ربيع نهر تيسا الأخضر، هي عالمك أنت. في المدينة الكبيرة التي تلفّها الكآبة لست سوى زبون في فندق، يرمق العابرين بضجر، ويتثاءب في سأم غرفته، على الرغم من ابتهاجه أول الأمر لطبل هواء الفندق. ما الذي تنتظرينه من الناس الغرباء؟!

    - لا أحبّهم، لكنهم مع ذلك يهمّونني، كأدب الرحلات عن القارّات المجهولة. الحياة في المدينة الكبيرة تعرُّف دائم لا ينقطع، سماع أصوات جديدة، حفظ أسماء جديدة، قَمع وجوه إنسانية جديدة، وإبعادها. حتى المصافحات مختلفة، والكذب هو أجمل الحكايات. الجميع يكذبون.

    تحرّك العازب في غرفة الطعام بحرية كأنه في بيته. قطّع شريحة اللحم المقدّد، تشمّم الخبز، وراح يأكل بهدوء وأنانية.

    - لا يساوي الناس شيئاً. أنت الآن في عمر الثانية والعشرين. تحبّين السفر، المسافرين، المعارض، الباعة من النساء، المعاطف الجميلة، الأضواء. عودي عدّة مرات إلى حضور الحفلات الكئيبة. خيبات الأمل كالعواصف ضرورية جداً لمتابعة الحياة السعيدة. حاولي أن تتحرّكي يساراً ويميناً، وامرحي، واضحكي، تألّقي وارقصي، حتى يُتعبك التنكّر. أنا أنتظر. أنا هنا ولن أتزحزح من مكاني. وإن لم تعودي إلى هنا مرة أخرى، سيسوءُني الأمر كثيراً.

    قال أندور آلموش، ثم ودّعها ومضى في طريقه.

    وسرعان ما غابت في البياض الهائل هيئته الثلجية فوق ظهر الجواد.

    وبعد ثلاثة أيام أرسلت إيڤيلين رسالة إلى الجزيرة تمنّت فيها من آلموش أن يأتي حالاً، فلديها أخبار هامة.

    ترك العازب ثعالب الماء المروّضة وجاء. كانت إيڤيلين تجلس شاحبة قرب المدفأة كمن تعاني من ضعف القلب.

    - ألاحظ عن نفسي أنني جبانة، ولا تمرّ ليلة إلا وأسمع وقع خطوات حول المنزل. أصاب بالذعر، وأحدّق في الباب كأنّ أحداً هناك لا يدعني أنام. أخاف سكون ليل الشتاء القابع تحت الوقاء الزجاجي، أخاف دخان النار الصامت، أخاف ظلال الأثاث القديم، والأكواخ القروية الموحية بالقتل، وأخاف الكلاب والخادمات الخمولات، اللواتي قد يجرؤن على قتلي.

    غمغم أندور آلموش: «ستعتادين على الهدوء. ولن تسمعي في ما بعد أزيز الرياح. ما زلت لا تقوين على نسيان المدينة الكبيرة».

    - رفيقتي مونتمورنسي تنام بعمق كراهبة عانس. والعمّة تحلم بفرسان صباها. وخادماتي يكتبن الرسائل إلى بودابست. ووكيل الأرض يشرب كلّ يوم حتى الثمالة. وأنا وحيدة. أحدهم يطوف حول البيت. لصّ، خارج عن القانون، أو...

    «أما الحب» -ابتسم السيّد آلموش- «فسنتدبّر أمره في ما بعد. عند حلول الليل سأمتطي جوادي وأطوف حول المنزل».

    في الليلة التالية توهّج القمر كمجنون المهرجان. وتألّقت المنطقة المغطّاة بالثلوج بما بثّته نجومها الداخلية من ألق. وكمنت البساتين في أغطيتها. كانت ليلة شتائية بهيجة. وعوى الذئب بهدوء كتائهٍ عجوز في طريقه الغامض. تحلّقت الخادمات حول المدفأة. والديك ما يزال يصيح دونما انقطاع مؤذناً بالفجر. يمكن أن تموت مئة مرّة حتى ذلك الحين. هيئة لصّ خيّال برزت أمام المنزل، عاين المناظر الطبيعية المضاءة بنور القمر، وأطلق جواده سحباً دخانية في الهواء البارد. وسُمعت بعدئذٍ لعلعة طلقٍ ناريّ هزّت زجاج النوافذ.

    فتحت إيڤيلين النافذة مرتعدة.

    - هذا أنت سيّد آلموش؟

    «أنا» -أجاب الخيّال بصوت أجشّ- «يمكنك الآن أن تنامي بطمأنينة، يا ملاكي! لقد قضيت على الشبح».

    - أعطِني يدك، يا سيّدي الطيّب!

    ومدَّ السيّد آلموش يده عبر قضبان النافذة.

    انتزعت إيڤيلين بتؤدة قفّاز الفرو عن اليد الممدودة، وراحت تقبّلها ممتنّة.

    «شكراً!» - قالت لاهثة.

    دفء الرداء الليلي، ولمسة القبلة الطرية، ومصافحة الفتاة الودود، وعطر الليل، كلّ ذلك عمل على إرباك الفارس الكهل. مال عن السرج، وراح يرمق الفتاة الشابة بعينين متألقتين.

    «ملاكي!» - قال وقد اكتسى بالاحمرار، ومسح على جيد الفتاة العاري.

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1