Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

لا تخبر الحصان
لا تخبر الحصان
لا تخبر الحصان
Ebook466 pages3 hours

لا تخبر الحصان

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

بعد عشرين عاماً من العمل ينهي "سالم" خدمته في خيالة الدرك، ويعود إلى بيته وأسرته في دير القرن، جالباً معه الرفيق الوحيد الذي ظل معه كل تلك السنوات: حصانه.
تتباين مشاعر أفراد الأسرة نحو هذا الضيف الذي سيصبح الآن جزءاً من العائلة.
تدور سلاسل الحكي بين الأبناء الخمسة والأم، وفيما هي تدور تنسج حكايات، وتبني عوالم.
في روايته هذه، يكتب "ممدوح عزام"، بأسلوب جديدٍ ومختلف عن رواياته السابقة، حكاية عن عائلةٍ بسيطة تعيش طمأنينتها وخوفها، تسليمها ورفضها، سلامها وصراعاتها، لتحرّك في دواخلنا تساؤلات وتأملات لا تنتهي، فيما الحرية تكتب بمعناها الفسيح فصل النهاية.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933540753
لا تخبر الحصان

Read more from ممدوح عزام

Related to لا تخبر الحصان

Related ebooks

Related categories

Reviews for لا تخبر الحصان

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    لا تخبر الحصان - ممدوح عزام

    لا تخبر الحصان!

    رواية

    ممدوح عزّام

    لا تخبر الحصان! - رواية

    تأليف: ممدوح عزّام

    تصميم الغلاف: تمّام عزّام

    978 - 9933 - 540 - 75 - 3 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2019

    Table

    جميع الحقوق محفوظة للناشرين دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأي طريقة دون موافقة الناشرَين الخطية.

    لماذا تركت الحصان وحيداً؟

    لكي يؤنس البيت، يا ولدي.

    محمود درويش

    لا تخبر الحصان!

    حين بانت المنازل الحجَريّة الزرقاء، في أعلى تلّ الغزلان، كان سالم النجّار متأخّراً أكثر من ثمانية أشهر على الزمن الذي ذكره لزوجته في آخر رسالة كتبها، قبل أن ينهي خدمته في خيّالة الدرك، بعد عشرين عاماً من العمل. ظهرت منازل آل الهدهد، ثم آل عمران، ثم ظهرت في الخلفية، التي كانت لا تزال تغرق في زرقة الفجر، ملامحُ منازل آل النجّار. كان الآن يتسلّق السفح الجنوبي لتلّ الصخور الذي يُشرف على دير القرن، ثم ينحدر بحصانه نحو سهل الغراب، فتظهر أنساق الحصّادين الذين كانوا يزحفون وراء سنابل القمح. سمع غناءً يأتي من جهة الشرق، ورأى رجلاً يلوّح له، وهو يحمل شميلة قمحٍ، بيده. فحيّاه، ولكز الحصان، فمضى يخبُّ به، مثيراً قليلاً من الغبار في الطريق الترابية التي تتجه نحو مجرى الوادي الشتوي. وحين صارا في السهل الذي يسمّونه غدير الفضة، راح الحصان يمشي الهوينى، كأنما كان يعرف أن الطريق صارت في نهايتها، وأن المسير المتاهيّ الطويل آيلٌ إلى التلاشي. ودون أيِّ حسابٍ أو إذنٍ، وقف فجأة، وصهل بصوتٍ ممطوطٍ سعيد، مُزيحاً عن كاهله صمت الأيام الأربعة الأخيرة التي عبرها دون أن يُبدي أيَّ صوت. كان المنزل يظهر الآن واضحاً، مغطّى بأشجار الكينا الضخمة التي زرعها سعيد النجّار، والده، قبل سبعين عاماً، لطرد البعوض. قهقه سالم النجار، وربّت بكفّه السمينة الثقيلة على عنقه، وراح يقول له: «عفارم يا ولد!».

    كانت تلك طريقته في التحبُّب، فكلُّ من يقترب من جهة القلب، كان يُدعى ولداً، في الغياب، أو في التخاطب. وعلى الرغم من أن الحصان كان رفيقَ عُمْرِ سالم النجّار، فإن فارق السنّ بينهما، كان يسمح له أن يطلق عليه اسم «ولد» دون مصاعب أو كلفة.

    بدأت الشمس تصعد ببطء من خلف الجبال البعيدة، حين عبرا معاً الترعة المهدّمة من حجارة السور الذي يحيط بكرم الزيتون خلف الدار. وبفضل رقّة التراب الأحمر، لم يسمع أحدٌ هناك صوت دعسات حوافر الحصان، إلى أن صارا وسط باحة الدار المرصوفة ببلاطاتٍ من الحجر. كانت الدار صامتة، وكانت تأتي من جهة البيوت الغربية رائحة خبزٍ وجزل، عندئذ صاح: «يا سليمة!»، فيما كان يترجّل عن صهوة الحصان.

    ***

    كانت تحلم أنها تلد، وقبل أن ترى رأس مولودها، استيقظت مذعورةً حين سمعت نداءه. أخذت نفَساً طويلاً من الهواء وهي تشكر ربَّها، وتنهض مسرعةً للقائه. وما لم تتوقّعه هو أن ترى الحصان إلى جانبه، ففي كلّ الأوقات التي عاشتها، في الأشهر الثمانية التي انتظرت وصوله، عبر رسائل البريد، أو أخبار قيادة الدرك، لم تكن تفكّر بالحصان قطّ. وما كان لهفةً وشوقاً، تحوَّل فجأةً، في الثواني القليلة الفاصلة بين بصرها والحصان الذي كان ينضح عرقاً، ولهاثاً، إلى خواء. ما أغضبها أوّلاً هو أن تكون الطريق الطويلة، التي قطع فيها مئات الكيلومترات بعيداً عن الأخبار المطَمْئنة لها، كانت بسبب الحصان. الحقيقة هي أنها كانت تخبِّئ له حكاياتٍ كثيرة عن شهور الانتظار الطويلة التي اختفى فيها، بعد رسالته الأخيرة التي وصلت في بداية الشتاء، إذ ظلت ترسل نوفل كلّ شهرٍ إلى المنارة كي يستفسر عن رسالة، أو ترحل إلى المدينة كي تحثَّ قيادة الدرك الذين تنصّلوا من تبعات الدرَكيّ المتقاعد، لتتبُّع أخباره. كانت ابنة المدينة، التي جاءت إلى هنا زوجةً للدركيّ سالم النجار، قد وعدت نفسها، منذ أن قبلت بالعريس القادم من القرى، أن تجعل موطنه درجةً في سلّم الحياة التي حلمت بها. وعلى الرغم من أنها لم تنجُ قطّ من حياة الريف، وهي تتبع صهيل حصان سالم النجار المتجوّل في القرى، فإن حلم المدينة التي نشأت فيها ظلَّ يفسد أيَّ مَيلٍ يمكن أن يبنيه عقلها لمبدأ الاستقرار في دير القرن. هكذا عاشت تفكّر وتخطِّط. وحين اضطرّت للمجيء إلى هنا، قبِلت قرار سالم، بالحكمة التي منحتها إياها فراسة المجرِّب، حين قدّرت أنه مجرّد عبورٍ مؤقت ستنتشل نفسها منه في ما بعد. وقد وجدت سالم يقرُّ لها بالسكن في الدار العتيقة، دون أن يرضخ لاقتراحات أخيه فريد ببناء منزلٍ يليق بدركيٍّ قادم من غربة الخيّال المتنقّل.

    في تلك الأيام، كانت قد أقسمت أن تتجنّب الدخول في حكايات دير القرن، في ما تبقّى لها من العمر. وبفضل ذلك، لم تقترف أيَّ مخالفة تمنح مجالس الشتاء القروية فرصةً لتأكيد الأقاويل. فالأقاويل تصبح حكايات، وفي الغالب لم تكن تأبه لأيّ حكاية، إذ اعتادت أن تقول إنها الزيادات التي تنتجها عطالة نساءٍ أو رجالٍ تأكلهم عناكب الوقت الضائع، في أشهر الشتاء الطويلة التي لا يعمل فيها الفلاحون أيّ شيء. وبدل ذلك شنّت هجوماً مضادّاً مقاوماً للحكايات السامّة، بتأليف قصّةٍ رصينةٍ ترى في تأخّر وصول سالم مجرّد زيادةٍ في الخدمة ارتآها أحد رؤسائه، وقد أدرجت فيها خلاصاتٍ مستمدّة من تاريخ الدركيّ الذي عاشت تتنقل معه في أرياف سورية، قبل أن تستقرَّ هنا مع الأولاد.

    وحين رأت الحصان، عرفت لماذا كانت تحلم ذلك الحلم. فمن جهةٍ، كانت محنة العيش لا تستطيع احتمال شدقٍ كشدق حصان، ومن جهةٍ ثانية، أدركت أن الدركي المتقاعد سيعيش ما تبقّى لهما من العمر في أمجاد التذكّر المتبقّية له من الماضي البائد.

    وما زاد في فزعها أن الحصان كان يقف وسط فناء الدار، بكامل أبّهته وجماله الفردوسي الذي لا يضاهى: سرجه الجلدي الذي بلون الخرّوب، ومرشحة اللبّاد الصفراء، والرِّكاب النحاسيّ، وأحزمة اللجام المشدودة، كأنما كان هو الذي أقنع سالم بالبقاء معاً. فكان أول ما خطر ببالها هو أن تقول له: «فكّرت رَح تجِبلي السوارة يلّي وعدتني فيها!». كان عمر ذلك الوعد عشرين عاماً. فسالم النجار الذي رغب في تقديم مكافأة عينية للفتاة التي تحدّت رغبة أخيها، وأعلنت قبولها به، قدّم هذا الوعد مشفوعاً بقسَمٍ مؤجَّل مرتبطٍ بيُسر الحال، في أيّ وقتٍ قادم. والراجح أنه نسي الأمر حين باتا زوجين، بينما وضعته سليمة حطّاب في صندوق عقلها، وأغلقت عليه بمفتاح الأمان الأبديّ. ودون أن تتمكّن من استرداد الجملة التي بدا فيها الأسى غالباً على الأشواق، أضافت بحزن: «ويمكِن بدل هيك نصير نطعمي الولاد شعير!».

    الحقيقة أن الخيبة هي التي كانت تُملي عليها الكلام، أكثر من الرغبة في تذكيره بالوعود المهدورة. ففي كلّ السنوات التي أمضتها هنا، كانت تخشى من ضمور روحها في ذلك الانتظار المبهم، الذي تتّقد بداخله نيران الظنون التي لم يكن سالم نفسه يقصِّر في تغذيتها بحطب غيابه الطويل دون أخبار، وفي كلّ المرات التي كان يعِدها فيها بالمجيء، كان يُخلِف وعوده، ويدنّس انتظارها بالكذب، أو التسويف، أو الذرائع التي يتكئ فيها إلى أوامر رؤسائه الذين يمنعون عنه الإجازات.

    لم تكن تفكّر بالحصان، بل بالوجود المحتمل لامرأةٍ أخرى تشاركه قرار التأجيل مثلاً، أو بيان الكذب، دون أن تفكّر لمرّةٍ واحدة أن تنفِّذ غارةً ما على مقرِّ إقامته البعيدة. لم تكن هذه من خصالها، وقد فكّرت فيها مرّةً واحدة، حين تأخر في الوصول، ثم دفنت الفكرة داخل رماد النسيان والتجاهل، وهي ترفض أن تلوِّث تقاليدها، أو حياتها، بأيّ حقيقةٍ يمكن الحصول عليها باتّباع مسالك حقيرة.

    الأمر الوحيد الذي سوف تندم عليه طوال حياتها هو أنها لم تعانقه، وبدل ذلك قالت بصوتٍ خالٍ من فضائل العواطف: «رَح سخِّن الحمّام». وسمعته يقول من الجانب الآخر لكتلة الحصان الجبلية الغاطسة في عرق التعب: «رح حمِّم الحصان قبل».

    كامل

    اصطففنا نحن الخمسة في رتلٍ أحاديّ للسلام عليه. كان يقف هناك في المضافة مرتدياً جاكيتاً رماديّاً، فوق قميصٍ ملحيّ أبيض وبنطلونٍ فحميٍّ أسود، وينتعل حذاءً لامعاً، وقد حلق ذقنه، ومشط شعره ولمّعه بالبريانتين التي لفاضل. تقدَّمنا واحداً بعد الآخر، فاضل أولاً، ثم تبعه نوفل، ثم أنا، ثم جاء واصل، ثم كاملة. وقبّلنا يده السميكة المشعرة، ووضعناها على رأسنا، كما كانت عادتنا منذ أن وعينا على الدنيا. لم يكن يقبِّلنا، بل ينتظر مادّاً يده، هازّاً رأسه هزّاتٍ متوالية. كانت يده ثقيلةً حين حملتُها، وبدت لي قاسيةً ولها ملمس الحجر. كنّا نسلِّم ونعود إلى النسق الذي بدأه فاضل، في الجهة المقابلة لأبي، حتى إذا انتهى السلام، قال لنا بصوته الخشن الذي يشبه المبرد: «كيفكن يا أولاد؟!».

    لم أقل شيئاً، تمتمت مردِّداً لغة حمارٍ غبيّةً مبهمة، وأنا أشعر أن رعشةً باردة تخترق جسدي من جهة الخاصرة اليمنى، وتلهب عنقي. وخرجت الحروف من حلقي الناشف، دون أن تُفهَم. فراح أخي الصغير واصل يضحك. كان ذلك الفتى يضحك بلا قيد، يخترق أيَّ مكانٍ، أو أيّ زمانٍ، أو أيّ جلسة حديثٍ، بضحكٍ صاخب أرعن يضعنا جميعاً في الحرج والحيرة. وبسبب غبائه، وقلّة عقله، فإن أبي (وكذلك أمي أيضاً) لم يكن يسأله عن السبب، فالمتوقّع، استناداً إلى صخب واصل، أن أحدنا قد ارتكب واحدة من الرذائل الوقحة التي دفعت واصل البريء للضحك. وهكذا فقد تغيّرت سحنة سالم النجّار، فعبس، وصار لون بشرة وجهه قاتماً، واتّقدت عيناه. وها هو ذا يطردنا من المضافة جميعنا: «أنجاس!» سمعته يقول خلفنا، بالصوت الخشن الغاضب الملول.

    وفي الباحة، صفعني فاضل على قفا رقبتي وهو يقول: «يا جحش! إذا ما بتعرف تحكي، ليش تحكي؟!». فقد سمع، كما عرفت في ما بعد، تمتمتي الخفيّة المخذولة، وعجزي عن الكلام في حضرة سالم النجار. ولأن فاضل كان أخي الذي يكبرني بأكثر من ثماني سنوات، فقد واجهت قدري باستسلام، حين أمرني بالذهاب إلى التنّور.

    أُرغمت على الركوع هناك، حيث كانت رائحة الرماد، ولم يسمَح لي بالخروج إلا حين يبلغني بذلك. كنت أعرف الإجراءات التي جرّبتها من قبل، وكان فاضل يعتبرها خلاصة السلطة الممنوحة له في غياب أبي. والعجيب أنه يستخدمها الآن، في حضور الوالد ذلك اليوم.

    لم أكن قد رأيت الحصان، ولا عرفت شيئاً عن وجوده في الدار، إلى أن سمعت حمحمته في الداخل، حيث كانت الباكة القديمة التي بناها جدُّ أبي قبل سبعين عاماً. اعتقدت أنني أحلم، أو أن الصوت الآتي من المكان الذي ظلَّ مغلقاً طوال السنوات الماضية، كان صوت سعلاةٍ مجنونة تتقمّص حمحمة حصان. شعرت بالرعب، وأردت أن أنادي أخي نوفل الذي يستطيع مواجهة المفاجآت الطارئة. كنت معجَباً بنوفل دائماً، وكان يلبّي نداءات الاستغاثة، أو طلبات المعونة، دون تأخير. وفي مواجهة السعلاة أو الرصد، كنت متأكّداً من أنه الوحيد القادر على كبح تلك المخلوقة الشيطانية التي ترصد تحركاتنا.

    غير أنني حين سمعت صوت الحمحمة مرّة أخرى، متبوعةً بدقِّ الحوافر على الأرض، أيقنت أن الحصان هنا في الباكة القديمة. وقلت إنني سوف أتسلّل إليه وأراه حين تنتهي مدّة العقوبة المقرّرة. كنت أحبّه منذ أن ذهبت برفقة أبي إلى إسطبل خيل الدرك، قبل سنواتٍ طويلة، في مخفرٍ على الحدود التركية. قال لي أبي حينذاك إن عليّ أن أربّت على كفَل الحصان أولاً، إذا أردت أن أكسب رضاه. ولكي أفعل ذلك رفعني، وأوقفني على الجدار الذي يحمي المعلف من جهة الباب الخارجي للإسطبل، وقال لي: «المس ظهر الحصان كأنّك عم تلمس حبيبتك!». لم أفهم الجملة، ولكن كان بوسعي أن أتخيّل أنّ على الإنسان أن يمرّ من هناك كما لو كان يلامس عصفوراً. وبدا لي أن الحصان كان متوتراً وهو يراقبنا، فمرّر رعشةً صاعقة في جلده جعلتني أجفل وأتراجع مذعوراً. صار أبي يضحك، وربّت على الكفل ذي الوبر الأحمر الكثيف، ثم زجرني قائلاً بحزم: «لا تخاف ولك!». لم يكن في وجهه أيُّ ظلٍّ من الرحمة أو التعاطف، وكان يرغب فقط في إرغامي على المرور في هذه التجربة التي كان يراها تعبيراً عن التقرّب الحميميّ من ذلك الحيوان الذي يقدّره. وفي ما بعد، تمكّنّا، أنا والحصان، من إنشاء طريقةٍ للتفاهم، تختلف عن طريقة أبي التي تقدِّس اللمس، إذ صرنا نتبادل النظرات، ونفهم كلانا، ماذا يريد الواحد من الآخر. أما في ذلك اليوم الذي كنت محبوساً فيه، فأنا متأكّد من أن الحمحمة القادمة من خلف الباب الخشبي الضخم إنما كانت رسالة تنبيهٍ وإعلام، أرسلها لي حين شمّ رائحة وجودي بالقرب منه.

    سرَّني هذا، ومكّنني من احتمال الساعة التي سُجنت فيها، إذ أمضيتها وأنا أفكّر بالأيام السعيدة القادمة التي ستكون برفقة الحصان في شعاب دير القرن. وحين أبلغني فاضل بانتهاء محكوميّتي، خرجت وأنا أبتسم. كنت أبتسم لأفكاري وأخيلتي، لمناكفة فاضل الذي صار يهزّ رأسه مهدِّداً، وهو يكظم غيظه، وقد تشنّج فكّاه، وظهرت آثارهما في جلد الحنك.

    لم أقل له أيَّ شيءٍ عن الحصان، ولم أذكر كلمةً عن رسالة الحمحمة التي وصلتني، وقد تناولت الغداء وحدي، حين وجدت أنهم تركوا لي بقيّة الطبيخ مع المليحية وقليلاً من لحم الخروف الصغير الذي عرفت أنهم ذبحوه تكريماً لعودة والدي، وإحالته على التقاعد. أعرف أن هذه هي الوليمة الأولى التي تقيمها سليمة للترحيب بسالم، وسوف تعقبها وليمةٌ أخرى يُدعى إليها وجهاء الدير جميعهم، وأن حرباً صغيرة ستقوم حينئذ بينهما، حين يصرّ على أن تذبح الكبش الذي تسمِّنه منذ أول الربيع، من أجل عيد الأضحى، أو تدعه حتى يحين وقت تحويله إلى مؤونة الدهن التي سيُعبِّئون بها الخوابي الفخارية العسلية.

    أشعر بالرعب حين أذكر معاركهما.

    وطوال ما بعد الظهر رفضت أن ألعب مع واصل، على الرغم من ضراعته، وبكائه. كنت أكرهه في تلك الساعة، وأكره وجهه المنتفخ وعينيه الضيقتين وشفتيه الرفيعتين، وكنت مستعدّاً لشتمه وتعييره باللقب الذي يكرهه: «منغولي». لكنني لم أفعل شيئاً، فقد كنت أنتظر أن يأتي المساء بسلام. وفي ذلك الوقت، تسلّلت من خلف شجرة الكينا، ثم حبوت حافي القدمين، إلى أن صرت قرب الحائط الغربي المجاور لباب الباكة، ورحت أنصت: كان وجيبٌ بعيدٌ هادئ مطمئن يأتي من الداخل حيث العتمة.

    في تلك اللحظة سمعت خطاه ورائي، كان سالم النجار يحضر عشاء الحصان. رأيت بياض التبن والشعير في الغربال الذي يحمله، بينما كنت أندسّ بين كومةٍ من الأكياس الفارغة. رأيت يديه الغليظتين المشعرتين، ووجهه العابس الذي يخترقه أخدودان عميقان من الأعلى إلى جانب الذقن. بدا حزيناً، وأنا أكاد أختنق من الخوف ورائحة القنّب.

    نوفل

    أكره ذلك المخلوق الذي صار يصهل علناً، ويدقّ بقوائمه في أرض الدار بوقاحة، منذ أن بدأ والدي يخرج برفقته إلى السهل.

    كانا يمضيان صباحاً، بعد ساعة الفطور، ويعودان قبل الغداء بقليل، يرتاح أبي في المضافة وحيداً، حيث كنت أسمع سعاله الصاخب بسبب التدخين، أو عطسه السعيد بسبب النشوق الذي يأخذه مساءً، حين يجلس على الطواطي الحجرية في شرفة المضافة. أُقسِم إنني لن أدخّن حين أكبر أبداً، إذ كان هذا الأمر يدفعني دائماً إلى هامش الموت. وأنا أخشى عليه من هذه الشراهة التي يظهرها في التدخين أو شمّ النشوق، خاصةً حين أعجز عن التحدّث إليه. فسالم النجار يجلس بعيداً عنا، يأكل وحيداً، وفي أوقات محدّدة اختارها بنفسه، وأمر أمي أن تلتزم بها، دون أن يشاركنا، وقلّما يكلّم أيّ واحدٍ من بيننا، وإذا احتاج إلى أمرٍ ما، نادى أمي، وقال لها: «قولي لفاضل أن يفعل كيت وكيت!». اللعنة على هذه الطرق الحمقاء التي لا يُسمَح لك فيها بالاستفسار عن العمل الذي ستقوم به! بمثل هذه اللغة المبرّدة كان فاضل يعترض على الأوامر. ينفِّذ ما يصله، ثم ينفجر بواحدٍ منا، غاضباً طائشاً، مستهتراً بكلّ شيء. ومرّةً قال لي إنه قد يسمِّمنا جميعاً ذات يوم، ثم اكتفى بالقول إنه سوف يسمِّم الحصان، قال إنه سيضيف الزرنيخ إلى سطل الماء الذي يشرب منه ذلك الحيوان المعدوم الضمير وينتهي كلّ شيء. وفي إحدى المرّات قال لي، إنه سمع أبي يقول إن الحصان واحد من أسرتنا، كان يقول هذا لسليمة التي اشتكت من انتهاء مؤونة الشعير. قال فاضل إن الحل هو أن نطلق الرصاص على رأس هذا الشريك الملفق من مسدّس «البراوننغ» الذي جلبه أبي معه. ثم صار يضحك ويطلب أن أتخيّل ما الذي يمكن أن يحدث حينئذٍ. كان ينظر ناحيتي بخبثٍ، واستخفاف، وكان وجهه يبدو وحشياً. غير أنني لا يمكن أن أوافق، لا أحبّ طريقة فاضل في معالجة المشاكل، فالحل الدائم لديه هو القتل، هذه طريقة جبانة في معالجة الخصومات، وقد شعرت بالخوف من ذلك الضحك الذي يداعب الموت، وتلك الملامح القاسية. وكنت أظن أن أخي الكبير قد ورث هذه الطباع من جدّي، ومن أبي، غير أنني شاهدته يهرب من المواجهة في ساحة دير القرن حين علقنا مع شبّان آل شمال، بينما كان جدّي محارباً في جيش الشرق، وكان أبي يرعب المهرّبين وقُطّاع الطرق والحرامية حين كان في الدرك. المضحك أن فاضل، الذي يخيفنا، لا يجرؤ على الخروج للسهر خارج البيت لأنه يخاف من الليل. يخاف من كلّ شيء، حتى من خيال أذنيه، كما يقال. ومع هذا فهو يريد أن يثبت أنه الأخ الأكبر، ولم يترك لنا مساحةً للحرية، ولا للّعب، ولم نُسَرّ بالعمل معه قطّ. ولم يتوقف عن ضربي إلا حين صار صوتي خشناً، ونبت لي شعرٌ فوق شفتي، وعند سوالفي، وهدّدته بأني سأكسر يده إذا تجرّأ على ضربي مرّةً أخرى. هكذا يقال في لغة التهديد، وقد صدّقها فاضل بسبب جبنه، أو بسبب صوتي الذي خشن فجأة. هذا محزن، فلا يزال يصفع كامل وواصل وكاملة كلّما خالفوا أوامره. وأنا لا أريد أن أشكوه لأبي، كي لا يقول إنني صرت مخبراً.

    لكننا كرهنا الحصان معاً. فمنذ أن وصل إلى هنا، وأنا أسمع بين الحين والآخر شجاراً فاحشاً عنيفاً بين والديّ، وأرى سليمة ساخطةً مهانة لا تستطيع أن تضحك، وتصير وحيدةً يوماً بعد آخر، خاصةً حين تقول لأيّ واحدٍ من بيننا: «كلّكم مثله!». لا تبدو مقتنعةً بجملتها، بل حزينةً ومحبطة بسبب رعبها من أن تكون صحيحة.

    كنت أظنّ أن فاضل وحده سيكون مثل أبي، وأن الوحدة والانطواء من طبيعة وجوده، غير أنني أشعر بالرعب من أن يكون كلام سليمة صحيحاً، فنكون مثله، نسخةً أخرى من الرجل الوحيد. في مرّاتٍ أخرى، ينتابني الأمل بأن نصير فعلاً مثل سالم النجار: قويّاً، وصامتاً، ومضمّخاً بالحكايات الغريبة التي جمعها خلال عشرين سنة من التجوال على ظهور الخيل في أنحاء البلاد.

    هل أصرّ على الاحتفاظ به لهذا السبب؟ كان هذا الحصان هو الشاهد الوحيد الذي رافقه في نصف البلاد خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، والشاهد الوحيد الذي رأى وعاش وعرف كل ما يلزم عن مغامراته. لا نعرف ما الحكاية، ولكني أكاد أسمع بكاء سليمة حطّاب الصامت كما لو كانت تنتحب في جوفي.

    ***

    لم يكن يفكّر بالأعمال، وقد أعلن أنه سوف يتسامح مع نفسه مانحاً الجسد المتعَب من التجوال الطويل إجازة قعودٍ مناسبة. ولهذا فقد اتخذ منذ البداية صفات المتقاعد: طلا جدران المضافة بلون سماويّ، وأمر بتنجيد الفرش بصوفٍ جيّد اشتراه من بدويّ، وأمر بإصلاح مساند القشّ، واشترى وجوهاً ملوّنة للوسائد، وأعاد تأهيل عدّة القهوة المُرّة بإضافاتٍ حلمية من الدِّلال النحاسية بلمعانٍ ذهبيّ، وفناجين صينية مزخرفة، ووضع المهباج القديم الذي ورثه عن والده كتعويذة مُضافة، دون أن يكون في نيّته المساس به، وباع مسدّس البراوننغ الذي كان بحوزته، محاولاً أن يضع ماضي الدركي في سلّة الذكريات، آملاً أن يتمكّن من ترميم الصدوع التي تسبّب بها الغياب بينه وبين أهالي دير القرن.

    وفي كلّ صباح، كان يفضِّل أن يغلي قهوته، ويملأ دلّة النحاس الصغيرة، وهو تقليد أراد أن يعيد إحياءه، بعد أن بدأت الأباريق الصينية تغزو المضافات، ثم يشعل نار المدفأة الجديدة التي اشتراها قبل عامين حين بدأ الشتاء، ويتناول طعام الفطور وحيداً، إذ سيكون جميع الأولاد قد مضوا إلى المدارس، ويرتدي أفضل ما لديه من الملابس، ثم يروقه أن يتكئ على وسائده في المضافة مثل متبطّل عريق في انتظار زوّار الصباح.

    في البدايات، زاره أهالي القرية كلُّهم مهنّئين، على دفعاتٍ عائليّة. ولهذا كان ينتقي لهم حكاياتٍ خاصة تليق بكلّ واحدةٍ من تلك العائلات التي تجاور عائلته في جهات دير القرن. حكى لآل الهدهد عن نوم الدركيّ، ففي كلّ السنوات التي قضاها عاملاً، كانت روح الحارس هي التي تهيمن على جفنَيه. ينام مثل غزال، في انتظار المباغتات التي كانت خبز البلاد في تلك السنوات. يذكر سالم النجار أنه نام مرّة حين كان في إحدى الدوريات التي تراقب المهرّبين الذين يعملون على الحدود التركية. لا يعرف متى أغمض جفنيه، وربما كانت تلك هي أكثر لحظةٍ سعيدة في حياته، إذ أغفى فجأةً بلا هواجس. وقد أقسم لزملائه، في ما بعد، إنه استيقظ حين شعر بتغيُّر الهواء. كان أحد المهرّبين قد اخترق المسافة الفاصلة بين الحدود وتسلّل إلى الداخل، وقد تسبّب مروره في خلخلة الهواء الذي يتنفّسه الدركيّ سالم النجّار، فاستيقظ، وصاح: «قف!». كان قد رآه أيضاً في اللحظة الفاصلة بين النوم واليقظة، وأحسّ بأنّ هواءً ساخناً مُميتاً يندفع نحوه، عندئذٍ رأى نفسه واقفاً، وكانت لديه العزيمة والقوّة، والخبرة التي راكمها من سنوات خدمته، ومعرفته بالخيل، فترك الحصان المهاجم يمرّ قرب جسده، بضعةً من مسافة، ثم أمسك العنان وشدّه نحوه. ارتدّ الحصان وهو يئنّ من ألم اللجام الذي كسر أسنانه، وكبا نحو الجانب، ثم انطرح أرضاً، وتحته كان الفارس الليليّ الذي كانوا يسمّونه أبو جهنّم. وحينئذٍ سمع، هو ورفيقه في الدورية، صوت رجلٍ يهتف لاجئاً إلى اسمه: «بوجهك يا نجّار! يا بو فاضل!». وفي ما بعد عرف الدرك والمهرّبون القصّة، فإذا كان سالم مسيَّراً في أيّ دوريّة، فإن الحدود تصبح آمنة، ويمكن للمهرّبين السرّيّين أن يأتوا للسهر والمسامرة مع درك الحدود أيضاً. بعد ذلك صار وجوده يخلّف شحوباً في الحضور، وسواء كان الموجودون لصوصاً مختبئين في أزياء السكان، أو مجرمين متخفّين في ثياب ساهرين، فإن الشحوب سيكون مخيّماً على وجودهم بين سلطة الدرك. ليس على الدركي أن يُطمْئن أحداً، فوجود الشحوب ضروريّ لاستمرار كلّ الأشياء كما أودعها الله بين البشر.

    وحكى لآل النجار عن حصانه، ولآل عمران عن الجبال التي تؤوي رجالاً ملثّمين لا يخرجون إلا في الليل، ولآل التلّ عن الإيزيديّين، ولآل الطير عن المُرشديين، وحين بدأت تستهويه الحكايات، أخذ يبتكر لهم ولنفسه حكاياتٍ جديدة مؤلّفة من شراذم القصص

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1