Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

صبوات ياسين
صبوات ياسين
صبوات ياسين
Ebook461 pages4 hours

صبوات ياسين

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في هذه الرواية "صبوات ياسين" سنرى الشخصية الروائية للمثقف وهي تنقسم إلى شخصيتين، الشخصية التي صنعتها الدولة، وفبركتها، وقدمتها على أ،ها الحقيقية. والشخصية الأصلية التي هربت من هذا المصير الحالك إلى بيت الأهل المتدينين الذين كان قد حاول الهرب منهم، ثم إلى مجتمع اللاقبلان، وهم قبيلة ينشدون السلام ولا حلم لديهم إلا الهرب من القبلان أبناء قابيل القاتل الأبدي.

يهرب ياسين ويهرب، ولكن الدولة أكبر، وسنقرأ في الرواية: "أعاد النظر إلى المرآة.. الوجه ياسيني حقيقي، لا ريب ولا ليس ولا هم فيه. ولكن ماذا عن هذا العدد الكبير من الياسينات في المرايا، ياسين الوجه، ياسين القذال، ياسين اليمين، ياسين اليسار، ياسين القذالي في القدام، وياسين اليميني في اليسار".

صبوات ياسين صورة للمثقف المتشظي بين الحلم بثقافة كونية، وبين مجتمع مقموع
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933540777
صبوات ياسين

Read more from خيري الذهبي

Related to صبوات ياسين

Related ebooks

Related categories

Reviews for صبوات ياسين

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    صبوات ياسين - خيري الذهبي

    صبوات ياسين

    رواية

    خيري الذهبي

    صبوات ياسين - رواية

    تأليف: خيري الذهبي

    تصميم الغلاف: نجاح طاهر

    978 - 9933 - 540 - 77 - 7 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2019

    Table

    جميع الحقوق محفوظة للناشرين دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأي طريقة دون موافقة الناشرَين الخطية.

    1

    انحنى بحركةٍ يكرِّر فيها ما قام به عشرات المرّات من قبل. انحنى فوق بسطة بائع الجرائد، فاشترى الجرائد اليومية المعروضة. لم تكن كثيرة. كانت أربع جرائد فقط. انتصب. نظر عبر الزجاج. حاول جعل تحرُّكه عادياً، ونظر. رآهم. كانوا هناك متحلِّقين يثرثرون على عادتهم. كانوا: جابر، ونمري، وممتاز، ومصباح و.. شهق. وكان ما يخافه أكثر من الموت.

    هناك في القلب من الشلّة، يقصُّ عليهم إحدى نكاته ويلوي حنكه وشفاهه. إنه يقلِّد واحدة من اللهجات المحلية ولا شكّ، كان يُرقِّص حاجبَيه مستجيباً لطرافة النكتة، ووجد ياسين نفسه يتجمّد يراقب المشهد مسحوراً ناسياً أنه يرى الآخر. يرى ياسين يقوم بدوره القديم. وفجأة انطلقت عاصفة من القهقهات، والطبطبات على الأفخاذ وعلى الظهور، وتلوِّيات الإعجاب، والتواءات الأحناك والشفاه والعيون.

    لم يكن المشهد غريباً على ياسين رغم تجمُّده وانسحاره أمامه، فلقد عاشه عشرات المرّات، مئات المرّات. يلقي بالنكتة، فيقهقهون ويهنّئون ويطبطبون، ويديرون وجوههم عن الروّاد الآخرين في المقهى، الذين يرمقونهم في غبطة وحسد. هنيئاً لهم! انظر إلى سعادتهم.. هذه القهقهات الصادرة من القلب!

    هذه التجربة عرفها وعاشها واستمتع بها كثيراً، ولكن كيف؟ كيف جاء هذا الآخر؟ كيف أتقن اللعبة؟ كيف استقطب الشلّة؟ كيف أقنعهم أنه ياسين؟! أعوذ بالله! إن كانت أسيمة قد اقتنعت بأنه ياسين، فهل يعجب إن اقتنع الغرباء الآخرون، الخارجيون؟ ياسين بالنسبة لهم رجل الطرافة والظرف، رجل الميلان بجذعه مقرِّباً رأسه من أذن الآخر، ينقل إحدى الدسائس والأخبار السياسية التي لا تُنشر ولا تعرف خارج كواليس السياسة. ياسين، بالنسبة لهم، هو الرجل الذي يهزّ رأسه في جدٍّ ووقار ليؤكّد لهم أن النميمة التي رواها لهم لتوّه هي الحقيقة المطلقة، الخارجة ساخنة من مطابخ السياسة التي لا يعرفها إلا الله والعارفون ببواطن الأمور.

    اصطدم به مارٌّ متعجِّل، فكاد يرميه فوق بسطة الصحف، أحسّ بشذوذ وقفته وأنها ستلفت إليه الأنظار، فاختار أن يمضي. مشى إلى الأمام. قال: سأجلس في الحديقة أتشمّس وأقرأ الصحف، وأهضم هذه التجربة التي لم تكن على البال.

    لم يكن له عادة الجلوس في الحدائق، ولكنه مضى إلى الحديقة. تأمّلها بعينٍ تبحث عن مكانٍ آمن، ووجد نفسه ينساق إلى شجرة صفصاف تطلّ على بحيرة اصطناعية، فيجلس تحتها. أمسك بالجريدة الأولى يقلّبها، ولم يفاجأ حين رأى مقاله الأسبوعي على الصفحة الأخيرة متوَّجاً بصورته السعيدة يحمل الضحك والفرح وبهجة الحياة. كانت مقالة طريفة تستقبل الحياة بكلّ مفاتنها، تتحدّث عن الحظّ الذي يعيشه الناس في بلدٍ سعيد وشعب سعيد وطبيعة سعيدة. كان كلّ ما في المقال ينضح بالسعادة.

    رفع حاجبه مستغرباً، لم يكن استغراب مادّة المقال، فهو يذكر أنه كان يكتب شيئاً كهذا، ولكن الاستغراب كان في أن توأمه - هه! وهل لمثله توأم؟! أناه الآخر، صورته التي لم تطارَد، سمِّه ما شئت - قد استطاع كتابة ما يقنع بأنه ياسين الكاتب.

    كان قد أقنع ليلى بأنه يجب أن يقتلع جذوره من المدينة، فلقد اكتشف أن جذوراً غامضة ما تزال تربطه إلى المدينة، ولمّا لم تفهم تعبير «جذوراً غامضة»، حدّثها عن الضرس المقتلع من الفكّ، ولكن المقتلع بطريقة قاسية، الكسر مثلاً. إنه دائماً ما يترك وراءه جذوراً متشبّثة بالفكّ تسبّب الالتهاب والألم. صحيح أنها خفيّة لا تُرى، فهي مغروسة عميقاً في الفكّ، ولكن ليس المهمّ الرؤية، بل الفعل، فها هي ذي الالتهابات والآلام تشير إلى وجودها، ولا بدّ من اقتلاعها.

    وفهمت أنه في حاجة إلى مراجعة نفسه، والمضيّ إلى المدينة لاتخاذ قراره النهائي بأن ينسى المدينة والقُبلان، ويعود إليها العاشق المختار. جاءته بثيابه، ونقوده، وسيكتشف في المدينة أنها ضاعفتها بنقودها، و.. اكتشفا فزِعَين أن أوراقه الأخرى، الهوية والصور وكلّ ما يدل على شخصيته قد ضاعت ملامحها وحبرها وألوانها في مستنقع النهر الأسود، فلم يكن في المحفظة إلا أوراق لا تُقرأ، ومعلومات لا تُفهم. أحنى رأسه في هزيمة، فقد عرف أنّ عليه أن يكافح منذ اليوم للحصول على هوية سبق أن حازها آخر.

    نظر إلى صورته في الجريدة، ياسين الوسيم الضاحك، المشرق، حامل الفرح. تنهّد. كيف استطاع أن يكون هذا الرجل؟ كيف استطاع أن يعيش كل هذه السنين ولا عمل له إلا أن يطبِّل ويغني ويزمِّر للأقوياء الماضين؟! لِمَ فعل ذلك؟ أكلّ هذا ليثبت للخال والجدّة والأمّ أنه نجح؟ أنه اختار طريقاً مخالفاً لهم.. ونجح؟!

    2

    عاد إلى غرفته على السطح، وكان قد اشترى صحف اليوم. قال: أتابع ما يكتبون، وأعرف ما يجري في البلد. تناول مقالاً موقّعاً باسم صديق العمر ممتاز الأسعد، قرأه وشهق مندهشاً، كان في المقال شيء غريب، شيء جعله يحتقن بإحساسٍ أقرب إلى الحدس منه إلى المنطق الذي يمكن التثبّت منه. أعاد قراءته، ولم يستطع التقاط الشيء الغريب في المقال الذي جعله يتوقف أمامه. كان المقال ممتلئاً بالفرح والدعوة إلى السعادة، كان مقالاً يجسّد البهجة والنصر، وضعه جانباً وحسٌّ بالدهشة والاستغراب يتخلّله. قرأ التوقيع ثانية؛ ممتاز الأسعد، الصورة الشابّة الموحية بالثقة والتفاؤل. أمسك بالجريدة الثانية. قرأ التعليق وكان موقّعاً باسم جابر عبد المولى، كان مقالاً حُشدت فيه الأرقام والإحصائيات والمقتبسات لتؤكّد صدق الموقف العام، والنجاح الهائل الذي أحرزته الحكومة في دفع البلد إلى الأمام. نظر إلى الصورة، إنه صديقه التاريخي جابر، ولكن، لا. ليس المألوف من جابر الاستشهاد بالأرقام والإحصائيات، فكيف؟ ولماذا؟ وما الذي تغيّر فيه؟

    كان قد طلب صحف الشهر الماضي، أو ما يمكن توفّره منها، من بائع الصحف العتيقة، يبيعها بالكيلو، فقرأها، وأعاد قراءتها. قرأ مقالات موقّعة باسمه وقد علتها صورته، قرأ مقالات أصدقائه مصباح وجابر، ونمري، وقرأ حتى مقالات يوسف السعيد.

    قصّ المقالات، جمعها في مجموعات. مقالات كلّ كاتب على حدة. أراد أن يتأكد من الحقل الذي يعمل عليه كلّ كاتب منهم، أعاد قراءتها محاولاً قراءة تبدّلات وتطوّرات كلّ منهم في غيابه، ولكن المفاجأة كانت جارحة. صدمته القراءة الأولى، ثم لم يملك نفسه، فانطلق يقهقه. أهذا معقول؟ كان أصدقاؤه الأكارم، أصدقاء الشلّة يلعبون لعبة الكراسي الموسيقية متنقّلين بين صفحات الجرائد، الداخلية والأخيرة. كانوا يتبادلون المواقع والمقالات والتواقيع والصور... كانوا يكرّرون نشر المقالات نفسها بعد تغيير الأسماء والصور. أهذا معقول؟ صرخ غير مصدّق: أين رؤساء التحرير؟! سكرتيرو التحرير؟ المحرّرون؟ القرّاء؟!

    ألم ينتبهوا لهذه اللعبة السخيفة؟ فمقال ياسين الذي قرأه لمن يفترض أنه ياسين، والمنشور يوم السبت، ها هو ذا يُنشر مرّة ثانية باسم جابر عبد المولى، مع تغيير في السطر الأول من المقال فقط، أما مقال جابر الذي نُشر يوم الأحد، فها هو ذا يُنشر باسم مصباح، ثم مقال مصباح باسم يوسف، ثم...

    أعوذ بالله! ما الذي يجري؟ أين القرّاء ليحتجّوا؟ أليس من قارئ متابع يكتشف ما يفعلون؟ وضع الصحف جانباً مثقلاً بِحيرة لم يختبرها سابقاً. مقالات لو قرأت كلّ واحدة منها على حدة، ودون أن تنسبها إلى كاتبها أو إلى معيد كتابتها، لما كان لك عليها أيّ لوم، ولكن. ما الذي أوحى إليه بتجميعها، وقصّها، ومقارنتها؟ أيّ شيطان أشار عليه بهذه اللعبة المشؤومة التي وضعته فجأة على مفصل اللعبة؟!

    اعتاد منذ اليوم الثاني لاستئجاره الغرفة، بعد تخلّيه عن جنّة ليلى، التسلّل عبر الحارات والجادّات الملتفّة إلى مقهى البرازيل، ليراهم في جلستهم تلك متحلّقين حول ياسين الآخر، كان يلقي نكاته وكانوا يقهقهون، ويتمايلون، ويطبطبون، ثم كان أحدهم يميل على الآخر المسمّى بياسين، فيميل المسمّى بياسين برأسه ويبدأ بالهمس، ويبدؤون بالميلان نحوه والاستماع في اهتمام، وحين يقول ما يتمنّون سماعه، كان إشراقٌ عجيب يحلّ على وجوههم، لقد عرفوا السرّ الذي كانوا يتوقون إلى سماعه. ثم يميل جابر على المسمّى بياسين، فيطلب إليه تغيير الجوّ وإلقاء نكتةٍ ما، وهكذا يبدأ المسمّى بياسين بإلقاء نكتة لم يكن لياسين أن يسمعها، ولكنه كان يستطيع أن يقدّرها، ويقدّر طرافتها، من حسن الاستماع، ثم من الانفجار المقهقه السعيد بهذه النكتة التي - فكّر ياسين – لا بدّ أن تحوم على تخوم السياسة، فإن لم تكن السياسة، فهي تحوم على تخوم الجنس، ولا شكّ.

    أحسَّ في المرّتين الأوليين وهو يراقب ياسين، ويراقبهم، بشيءٍ من الغيرة، بل ربّما الحسد. إنهم سعداء. تمنّى لو سمع نكاتهم ليقيّمها، فهو خير من يحسن تقييم النكات، وتنهّد. أتُراه، بعد كلّ هذا السواد والتشبيح والتخفّي وسكنى المستنقعات، أتراه ما يزال القادر على إلقاء النكات وتفكهة الحاضرين؟ أحسّ بالغيرة والمرارة، فمن هذا الياسين الآخر؟ وكيف استطاع الحلول محلّه؟

    كان قد تسلّل إلى حديقة الجيران، فالسّور المطلّ على بيته. بيته؟ ورآه، ورآها، ورآهما. رأى الحركات الأليفة المملّة، شطف بلاط باحة البيت. حمل الكرسيين والطاولة الصغيرة. دولة القهوة، كأس الماء البارد، الفنجانين. زهرة الفل في كأس الماء، السيجارتين تشعلان من جمرتيهما في ما يشبه قبلة السكائر. كل تلك الحركات الأليفة.. المعادة التي لم يكن يعرف متعتها حتى رأى الآخر يقوم بها، فانفجر فيه حنين غير مسبوق. وقد أكره نفسه أكثر من مرّة على الرجوع عن القفز إليهما ليصرخ: أنا ياسين! ألا تريان؟! ما الذي يجري؟ كيف سرقتماني منّي؟ ولكنه في جزء صغير منه كان يدرك أنه لو فعلها فلن يكون إلا المُقدِم بنفسه لأولئك الذين وضعوا الجوائز للقبض عليه. ولكن، ها هو ذا ياسين أمامهم، فلِمَ لم يقبضوا عليه؟!

    كان السؤال معجزاً محيِّراً، لا يملك جواباً عنه، ولا يملك سؤال أحد يجيب عنه.

    في المرة الثالثة، وهو يراقب المسمّى بياسين وشلّته، لاحظ شيئاً مألوفاً يقومون به، يميل مصباح على المسمّى بياسين ويسأله (وهذا واضح من تعابير الهمّ والاهتمام على وجهيهما، وياسين يعرف هذه التعابير جيداً) عن آخر أخبار ما يُعدُّ في مطابخ السياسة، وعندئذ يحلّ ما يشبه الوقار والإحساس بالأهمية على وجه المسمّى بياسين، ويبدأ بالهمس، ويبدؤون بإجحاظ العينين، وعقد الحاجبين، وتجعيد الجبين. أعوذ بالله! أيّ خبرٍ سياسيّ مهمّ جداً يلقي عليهم الآن؟! ثم.. يحلُّ عليهم ما يشبه آلام الهضم على من ابتلع طعاماً عسر الهضم، وها هو ذا يستجمع كلّ قواه ليهضمه، ثم بعد اجتياز محنة هضم الخبر المزلزل، يميل جابر على المسمّى بياسين مداعباً وقد كسا وجهه بأرقّ تعابير التعاطف والرجاء أن يغيِّر الجو الكئيب ويُسمعهم واحدة من نكاته الطريفة. ويستجيب المسمّى بياسين ويتحفّزون ويستجمعون الأنفاس، ثم ينطلقون في قهقهة مريعة تنفّس كلّ حزن وكلّ خيبة وكلّ انكسار أدخله الخبر السابق في حياتهم، وكان ياسين عندئذ ينسحب من المقهى، ثم يحمل جرائده ويعود إلى غرفته... ولكنه في هذه المرة قرَّر البقاء قليلاً. كان يعرف أن أحداً لن يتعرّف إليه في جلسته المتطرّفة في الركن نصف المعتم، البعيد عن النوافذ والإضاءة، ومراقبة العابرين في الشارع، ومراقبة الداخلين إلى المقهى، والخارجين منه، والتسلّي بالتعليق عليهم صراحة وضمنياً. كان في جلسته المنعزلة تلك يحقّق هدفين مهمّين له: العزلة عن روّاد المقهى، فهو يخاف التعرّف عليه رغم تنكّره الشديد، والقدرة على مراقبة شلّته في نشاطها اليومي.

    في هذا اليوم قرَّر ألا ينسحب، بل يكمل تدخين أركيلته التي كان يتذرّع بها لدخول المقهى، وكان لا يدخِّن منها إلا بضعة أنفاس، ثم يتركها بعد قهقهات شلّة ياسين ويمضي. في هذا اليوم، كان يشعر بقدرٍ من السأم أكبر من المعتاد، فقرّر تدخين أركيلته حتى النهاية، حين رأى مصباح يميل على المسمّى بياسين، ولدهشته رأى الوقار والإحساس بالأهمية الشديدة على وجه المسمّى بياسين، ثم يبدأ بالهمس، ويبدؤون بالانحناء قريباً من مهمسه، ويأخذون بإجحاظ العينين وعقد الحاجبين وتجعيد الجبين... أعوذ بالله! كأنهم فعلوا هذا قبل قليل. ولم يكمل فكرته حتى رأى جابر يميل على المسمّى بياسين مداعباً، كاسياً وجهه بتعابير التعاطف والرجاء لتغيير الجو الكئيب، ويُسمعهم واحدة من نكاته الطريفة، ثم لدهشة ياسين الصارخة، رأى وجه المسمّى بياسين وقد تحوّل فجأة من الوقار الصارم، وناقل الأخبار الخطيرة إلى وجه المهرّج حامل النكات التي تغسل الهمّ عن القلوب، ثم رأى القهقهات ورأى الطبطبات، ورأى وجوههم وقد زالت عنها تعابير الهمّ.

    كان المشهد محيِّراً تماماً لياسين، فما الذي يجري؟ أهو سيناريو مكرّر، أم هم يتناقلون بالفعل أخباراً سياسية خطيرة، ثم يتخلّصون من تأثيرها الضارّ بهذه النكات؟! ونظر من حوله في رعب: أتراهم لا يخافون العيون المراقبة؟ أتراهم لا يخشون من الملاحقين والمطاردين والمهدّدين؟! ما الذي يجري؟ أكان ما سمعه، عن الهجمات الليلية، ومطاردات الفجر، مجرّد إشاعات؟ وهاهم أولاء يجرؤون الآن على كل محرّم وليس من يتعرّض لهم؟

    أقام ياسين في المقهى لساعة أخرى، فشهد مصباح يميل على المسمّى بياسين مرّتين، ويرى ياسين يلقي بقنبلته السياسية الخطيرة، فيخيفهم ويرعبهم ويهمّهم، ثم يرى جابر يميل على المسمّى بياسين، فيطلب إليه تغيير الجو وتلطيفه بنكتة، وكان ياسين يستجيب وكانوا يقهقهون ويطبطبون ويسعدون.

    أسند ياسين ظهره إلى ظهر المقعد يفكِّر. مقالات يعاد نشرها مع تغييرات بسيطة في العناوين والمقدّمات، وتغييرات أساسية في أسماء الكتّاب وصورهم، وكأن كاتب المقالات واحد، أو كأنه لا علاقة حقيقية لهم بما ينشر باسمهم، وجلسة في المقهى تشبه جلسات الأيام الخوالي، ونمائم عن أسرار سياسية، وهموم ثقيلة، ثم نكات طريفة تتلوها قهقهات وطبطبات وسعادة.

    هتف غير خائف من أن يسمعه أحد، فقد كانت غرفته على السطح، ولا جيران قريبون، ولا بيوت قريبة، ولا عسس ولا متطفّلون، هتف: كأنهم غير حقيقيين. ما أرى غير معقول، ياسين الذي ليس أنا ولكنه يفعل كل ما كنت أفعل، وأسيمة التي لا أدري ما إن كانت أسيمة أو شبحاً لها كشبحي المسمّى بياسين، ومصباح، وجابر، ويوسف... أعوذ بالله! ما الذي جرى في غيابي عن العالم؟

    دُفع باب الغرفة دون قرع، ولكن الباب العتيق لم يخيِّب ياسين، فصرَّ، والتفت ياسين مرعوباً، لم يكن الرعب، بل الهزّة، فقد تصوّر أنهم قد وصلوا أخيراً. وها هم قد سمعوه يصرخ. التفت ياسين وربما لو شككته بإبرة في تلك اللحظة لما وجدت فيه قطرة دم. كانت امرأة محجّبة بملاءة سوداء ومنديل «بونيه»، ولم يختفِ رعبه حين همست: أستطيع الدخول؟

    انتصب من مجلسه على السرير الحديدي تاركاً قصاصات مقالات أصدقائه تتساقط على الأرض. انتصب لا يعرف ما إن كان التهذيب هو ما نصبه، أم الخوف، أم المفاجأة. كان يتوقّع أحداً ما، وبطريقةٍ غامضة كان يتوقّعـ..هم. ولكن، امرأة؟ ومحجّبة؟ دخلت دون أن تسمع إذنه بالدخول، ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام. وكان يراقب ما يجري مدهوشاً متجمّداً. رفعت المنديل ورأى وجه امرأة نَصَف قد تشوّش حاجباها لقلّة العناية، ونبت على شفتها العليا ما يشبه الشارب الخفيف.

    حدّقت فيه طويلاً، وحدّق متجمّداً. كان صمتٌ سحريّ قد حلَّ عليهما لا يجرؤان على اختراقه، وكان يمكن لهذا الصمت أن يستمرّ لولا أنّ بائعاً جوّالاً أطلق نداءه، فانكسر جدار الصمت. قالت: ياسين الأرفعي؟ ولم تنتظر جوابه، بل تنهّدت مسلّمة باستجابته. قالت: الحمد لله! وأخيراً، واحد من العهد القديم.

    أعمل مخّه، ذاكرته، واعيته، ولكنّه لم يستطع مطابقتها مع أيٍّ ممّن يعرف. نزعت قميص الملاءة الأسود، فتبدّت في قميصٍ نسائيّ لم يكن تحته صدرية نسائية، ولم يكن هناك ما يشي بأن أمامه امرأة، أم فتى متخفٍّ. قالت: أكل القطّ لسانك؟ لمَ لا تتكلّم؟!

    فتمتم بصوتٍ حلقيّ جافّ: من أنت؟ و...

    أشاحت بيدها في غير اكتراث: هل تغيّرت إلى هذه الدرجة؟ هيه! ربما كنت على حقّ، فما مررت به كفيل بتغيير كلّ شيء.

    كرَّر وما يزال حلقه على جفافه: من أنت؟

    فصرخت في نفاد صبر: غيِّر هذا السؤال إكراماً لله! ألم تعرف صوتي؟ أنا دلال الحلبي! أنسيتني؟

    تسارع الوجه بلا مساحيق، والحاجبان المهوشان، والشاربان المهوشان، إلى التطابق مع الوجه الجميل للديريّة الحسناء التي طالما فتنته، وطالما تجاهلت مداعباته ومغازلاته الخفيّة. أعوذ بالله! دلال؟

    هزّت رأسها في استسلام: نعم، دلال! ثم ضاحكة: ثم لا تتظاهر بالدهشة الشديدة لما وصلت إليه! انظر إلى نفسك! أليس لديك مرآة لترى ما فعل بك الزمان؟

    وفجأة تذكّر. لا، الأمر غير معقول. صحيح أنها تشبه قليلاً - بل ربّما كثيراً - دلال، الأستاذة الجامعية، والمحلّلة السياسية، وصديقة السهرات التي كانت تهرب إليها من جفاف حياتها، بعد طلاق استعانت إليه بالأصدقاء حتى نالته. ولكن.. لكن لقد رآها منذ أيام، وكانت في كامل أناقتها ونداوتها وطراوتها وضحكتها المغناج. كانت، أعوذ بالله! كانت في السهرة الأسبوعية عند.. وضحك.. ياسين وأسيمة، فكيف؟!

    جلست على الكرسي الوحيد المقابل للسرير. قالت: تابعت قدومك إلى الحارة، سكناك في هذه الغرفة منذ اليوم الأول. شككت كثيراً في هويّتك. أتراك أحد المكلّفين بملاحقتي، وهتف: ماذا؟ أنا.. ألاحقك؟

    تابعَت دون اكتراثٍ باعتراضه: لم أعرفك في البداية. ثيابك، طريقة مشيتك، الحزن الهابط عليك. كتفاك المتهدّلتان. وكنت أستعدّ للانتقال إلى مخبأ آخر، أو قتلك إذا اضطررت وحوصرت، فلم أكن على استعداد لجعلهم يقبضون عليّ.

    كان يسمع ويسمع ولا يصدّق أن هذه دلال، رغم أن طريقتها في الحديث، وهذا التصميم والخوف يقولان إنها صادقة، رغم الإهمالات والانهيارات في مظهرها، ولكن الأخرى.. دلال السهرة، عند أسيمة والمسمّى باسمي، أكثر صدقاً وأكثر إقناعاً وأكثر شبهاً بدلال.

    قالت: لم تكن أخرس! فما الذي يخرسك الآن؟

    قال يحاول المزاح: طول لسانك يقول إنك دلال، ولكن أناقة الأخرى وضحكتها المغناج يؤكدان لي أنها أكثر منك دلال.

    - الأخرى؟ ما الذي تعني؟

    وكان عليهما أن يشربا الشاي معاً، وأن يتغدّيا معاً، وأن يشربا القهوة مرّتين، وهو يحدّثها عن دلال الأخرى وياسين الآخر، وعن المقالات لا يعرف كاتبها والمتغيّرة التوقيع والصور وبعض السطر الأول، أو الأخير منها. كان عليه أن يحدّثها عن السيناريو الذي يؤدي به شلّة الأمس حدث اليوم. ياسين الآخر مع الشلّة، والنميمة السياسية لما يجري في كواليس البلد، ثم عن جابر وكيف يميل علَـ.. ـيَّ/ ـه طالباً تغيير الجو وترطيبه بنكتة، وعن قهقهاتهم للنكتة وطبطباتهم السعيدة، ثم عن تكرار المشهد بعد قليل في ميكانيكية نسخية غريبة.

    كانت تسمع وتسمع حائرة مندهشة غير فاهمة، وأخيراً قالت: شيء غريب. هل تعرف أن جابر عبد المولى قد قُتل في زوريخ منذ ثلاثة أشهر؟

    - ماذا؟ قُتل؟! أأنت متأكدة؟

    - تأكُّدي من وجودك أمامي.

    - ولكن - قال حائراً - ما معنى هذا؟

    فأضافت: أما مصباح فقد لجأ إلى السعودية، وهو مجاور في الحرم المكّيّ لا يلقى أحداً، ويرفض التواصل مع الجميع.

    - وماذا عن نمري وناديا وملك و...؟

    - اختفوا جميعاً. عبروا الحدود... ماتوا، غيَّروا هوياتهم في البلاد الأجنبية. إن كل من عرفت اختفوا. أنت لم تستطع تقدير دهشتي حين رأيت كتفيك المتهدّلتين وأنت تتسلّل محاولاً التشبّح في الحارة. أقول الحق. في البدء قلت إنهم وصلوا إليّ وأنت الطليعة، ولكني حين رأيت بؤسك وتحديقك في الأرض والابتعاد عن الناس، قلت إنه الخداع، ثم بدأت مراقبتك ومطاردتك وأنا أنتوي الشر، ولكن... قالت بعد نفخة سخرية: اكتشفت أن من كنت أطارده ليس إلا ياسين.

    فقال في بؤس: أضعت أوراق هويتي، وكلّ ما يدلّ على شخصيّتي.

    ضحكت في حزن وقالت: الإنسان لا يُعرف بأوراق هويّته.

    وضحك في حزن أشدّ: حين تكون الحكومة صاحب الحقّ الوحيد في إعطاء الهويّة، يصبح الإنسان الهويّة – وأطلق نفخة سخرية – أنا الآن لا شيء، ويمكن لك، أو لهم إعطائي الهويّة التي يشاؤون.

    تشدّدت دلال فجأةً وقالت: هويّتك ثقافتك! قلمك! استعِدْهُما!

    ولمّا أراد الإمعان في التباكي على النفس، حدّثته عن استعادتها هويّتها عبر الكتابة: أنا أرسل ما أكتب إلى الصحافة العربية في الخارج.

    - ويسمحون لك؟

    - أرسلها إلى أصدقاء في الخارج، وهم يوصلونها إلى الصحف.

    - لا شك أنهم يبحثون عنك.

    - أعرف، وأنا أيضاً طوّرت أشكالاً كثيرة للتخفّي.

    تأمّل الوجه الناشف بلا مساحيق ولا أصباغ ولا كحل على العيون ولا تسريحة شعر مجنونة مما كانت تفعل، تأمّل الحاجبين المشوّشين، والشاربين الخفيفين. ولاحظت بسمة التعاطف الساخر على وجهه. قالت: عند الطوفان عليك أن تحفظ رأسك فوق الماء. هذا هو المهمّ.

    صمتا يجرعان قهوتهما، وينتظران هطول الليل، فقد وعدها أن يُريها قرينتها وضرّتها وبديلتها: دلال.

    على الطريق، وكانا قد غيّرا ثيابهما بثياب شائعة لغلامين في البنطلون الجينز والقميص قصير الكم، قال وقد أرهقه الصمت ليصدمها: إن كان لديهما الهوية تثبت شخصيتهما ولم يكن لدينا، وكانا يقيمان في بيتنا، ولم نكن نقيم، وكانا يفعلان كلّ ما يعرفه الناس عنا، ونحن لا نفعل، فمن الأصيل فينا، ومن الشبح؟

    نظرت إليه مواجهة في حدّة: إياك! إنك إن بدأت التشكّك تكون قد أوصلتهم إلى نصف ما يسعون إليه.

    أعجبه تماسكها، وأحسَّ حسداً صغيراً يعتمل فيه، وصَغاراً كان يضايقه منذ إعجاب الجدّة والأم بالخال قارئ المولد ومنشد الصلاة على النبي، الصَّغار في أنه ينقصه شيء كان بإمكانه تداركه ولم يتداركه.

    عبرا حديقة الجار مطأطئي الرأس مصاغري الظهر، حتى وصلا إلى السور المطلّ على بيته، أرادت السخرية من فعلتهما: راشدان مثقفان يتحوّلان إلى مغامرَين متسلّلَين يتلصّصان على الآخرين.

    كانت الباحة مضاءة جيداً، وكانت طاولة ممّا يطوى كبيرة قد حُملت إلى الباحة المبلّطة، وكانوا قد اجتمعوا لسهرتهم الأسبوعية في ثياب السهرة، وكانت أسيمة في ثوبها الأسود مكشوف الظهر، ولكن، أين دلال الأخرى؟ كانوا جميعاً هناك. ها هو جابر. وهمست دلال: أعوذ بالله! أنت على حقّ! إنه جابر، فكيف أبلغوني بمقتله في زوريخ؟ انحنى رجل على سيّدة كانت ترشف من كأسها، ودعاها للرقص. فلبَّت، ودارا دورة وصلا بعدها إلى دائرة الضوء. أعوذ بالله! قال ياسين وهو يلتفت إلى جارته. كانت الراقصة دلال. دلال التي يعرفها الجميع، دلال بظرفها وأناقتها ورشاقة رقصها.

    قالت تفحُّ فحيحاً من الصعب تمييز مخارجه: من يصدّق أني دلال، وأمامه دلال بكامل تفاصيلها؟!

    وكان عليهما أن ينتظرا قليلاً ليريا ياسين وأسيمة ينضمّان إلى الزوج الراقص. شحبت دلال حتى ما قبل السقوط في حديقة ياسين. لا أصدّق! تمتمت منكسرة. وفجأة أحسَّا كفَّين قاسيتَين تقبضان على ذراعيهما المتمسّكتَين بالسور، قبل التدلّي إلى حديقة ياسين. التفتا خائفَين في وقت واحد، ولكن لم يُتَح لهما الاحتجاج، أو الصراخ، فقد أُلبسا فجأةً كيسَين أسودين على رأسيهما، وحُملا بقسوة إلى حديقة الجار، فالشارع الخلفي، فالسيارة المغلقة تنتظرهما.

    3

    كانت العربة تتقلقل بهما على الطريق، وكانت العتمة مسيطرة على أحاسيس ياسين، عتمة حمله إليها الكيس الأسود ألبسوه إيّاه حالما قبضوا عليهما معاً، عند السور المطلّ على حديقة بيته، وكانت رائحة عفونة رطبة تتسلّل إليه، وكان السؤال يتردّد: أهي عفونة الكيس، أم عفونة من ألبسوه الكيس قبل هذا، أم هي عفونة الخوف؟

    كان يريد أن يتواصل مع العالم خارج عزلة الكيس الأسود غطّى الرأس والرقبة وانغلق عليهما، فقطع كلّ صلة لهما بالخارج.

    تقلقلت العربة ثانية، فمال إلى اليسار، وأحسّ فخذها إلى جواره، كانت فخذاً مشدودة طريّة، وأدركته ضحكة حبستها عزلة الكيس: كم اشتهى لمس هذه الفخذ! كم اشتهى أن يربّت عليها! كانت تتحدّى كلّ رجال الشلّة بمؤخّرتها المشدودة الصغيرة المستفزّة، ولكنها كانت تستطيع إيقافهم عن التمادي، بنظرةٍ متعالية واحدة.

    كانت، وهو يدرك ذلك الآن، المشتهاة المستحيلة. اتّكأ ثانية على الفخذ الطرية المشدودة إلى جواره. قال: لا بدّ أن كيساً يلفّ رأسها كما يلفّ رأسي الآن، وفجأة دهمته الفكرة: كيف؟ كيف وهو المختطف، المطارد، المطلوب، المحروم من حقوقه المدنية والسياسية، ضائع

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1