Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الحبشي
الحبشي
الحبشي
Ebook1,025 pages7 hours

الحبشي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في أواخر القرن السابع عشر، يسافر بونسيه طبيب الأعشاب الفرنسيّ؛ ليعيش في القاهرة، أحد مراكز تحالفٍ غير معهودٍ بين السلطنة العثمانيّة وبين إحدى الممالك الأوروبيّة: فرنسا.
وعلى الرغم من عمله في الخفاء؛ لعدم امتلاكه شهادةً قانونيّة، فإنّ شهرته تصل إلى القنصل الفرنسيّ الذي يجد فيه الشخص الأمثل لقيادة سفارةٍ سريّةٍ من الملك الفرنسيّ إلى النجاشيّ ملك الحبشة، مهمّتها المُعلنة علاجُ النجاشيّ، في حين أنّها تسعى إلى استعادة السيطرة الفرنسيّة-الكاثوليكيّة على الحبشة، في زمن الصراعات الدينيّة والتوسّعيّة التي تخوضها الممالك الأوروبيّة فيما بينها.
وسرعان ما يكتشف بونسيه أنّ الظروف الاستثنائيّة لرحلته في تحقيق أهداف ملك فرنسا والبابا، هي –وحْدها- الحلّ للعقبات الاستثنائيّة التي تفصله عمّن يُحبّ.

في عمله الحائز جائزة غونكور للرواية الأولى، وجائزة البحر المتوسّط، لا يكتفي روفان بعرض وقائعَ تاريخيّةٍ، بلْ ينقلنا معه في رحلةٍ زاخرةٍ بالحياة بين أحياء القاهرة، وجبال الحبشة، وقصور فرنسا؛ ليروي مغامرةً مثيرةً عن الحُبّ، والصداقة، والتضحية في عصرٍ ممتلئٍ بالصراعات، والمؤامرات، والخيانات.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933540593
الحبشي

Read more from جان كريستوف روفان

Related to الحبشي

Related ebooks

Related categories

Reviews for الحبشي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الحبشي - جان كريستوف روفان

    القسم الأوَّل أمر الغريق

    الفصل الأوَّل

    كان الملك الشَّمس(*) مُشوَّهاً، إذ أفسدت العفونة في بلاد الشَّرق الألوان الزَّيتيَّة، ودخلت تحت طبقة الحماية وانتشرت يوماً بعد يوم، كان على خدِّ الملك لويس الرَّابع عشر الأيسر -الذي صوَّره الرَّسام ناعماً ملكيَّاً - بقعةٌ داكنةٌ كبيرة على شكل نجمة مقزِّزة، تصل أشعَّتها ذات الَّلون البنيِّ الصَّدِئ إلى الأذن، وعند إمعان النَّظر فيها تُلاحَظ هالاتٍ حول الجسم، لم تكن المساوئ الأخرى مزعجة باستثناء تلك التي كانت تلطِّخ جوربه.

    كانت الَّلوحة تزيِّن قنصليَّة فرنسا في القاهرة، وقد رُسِمت تحت إشراف الرَّسام هياسنته ريغو صاحب الَّلوحة الأصليَّة في مَرسَمه، ومن ثَمَّ أُرسِلت بحراً، ولتكتمل المأساة، لم يكن يُعدَّ حينها رسَّاماً بارعاً، لا في القاهرة ولا في الشَّرق ولا في جواره، وجد القنصل السَّيِّد دو ماييه نفسَه أمام خيار صعب؛ إمَّا أن يترك رسماً للملك يسيء إليه بشدَّة في الصَّالة الكبرى للبناء الدِّبلوماسي على مرأى الجميع، أو أن يضعه بين أيدٍ غير ذات خبرة قد تتلفه كاملاً. قلَّب القنصل هذا الأمر في خلده مدَّة ثلاثة أشهر إلى أن اتَّخذ قراراً جسوراً بأن يُقدِم على إصلاحها.

    اختار السَّيِّد دو ماييه للعمل صيدلانيَّاً مُعتَمَداً في المستعمرة الفرنسيَّة، يُقال إنَّه ماهر في إصلاح اللوحات التي أفسدها المناخ، كان رجلاً جسيماً محدودِباً قليلاً، تغطِّي لحيته السَّوداء التي يتخلَّلها الشَّيب وجهَهُ حتَّى عينيه، وشعره مجعَّد كفرو حَمَلٍ صغيرٍ. كان يحرِّك جثَّته الضَّخمة بعنفٍ ويشقُّ عباب الهواء بأطرافه الطَّويلة، إلَّا أن تحرُّكاته كانت تتَّسم بالدِّقة إذا ما همَّ بعملٍ ما.

    كان يُدعى المُعلِّم جورمي، وكان عيبه الكبير أنَّه بروتستانتيّ، إلَّا أنَّ فكرة أن يُعهَد بصورة الملك إلى متعصِّب دينيٍّ دائم التَّهجم، لم ترُق للقنصل قط، لكنَّ الرَّجل كان معروفاً بأمانته، وهذا أمر رائع وسط هؤلاء السُّكان دائمي الحراك، ولم يكن السَّيِّد دو ماييه يملك خياراً.

    أوضح المُعلِّم جورمي -عندما عاين الَّلوحة- أنَّ العمل سيستغرق نحو عشرة أيَّام، وفي اليوم التَّالي، اعتلى منصَّة العمل بارتفاع مترين وهو يمزج زيت الخشخاش مع التربنتين في وعاء فخَّاريٍّ، وذلك بحضور مسترَقٍّ نوبيٍّ من القنصليَّة. كان القنصل قد طالب بأن يكون حاضراً في كلِّ مرةٍ تُمَسُّ فيها الَّلوحة، كانت عمليَّة المزج تجري كلَّ صباح عند السَّاعة الحادية عشرة، إذ كان يتعيَّن تطبيق هذه المواد وهي طازجة قدر ما أمكن، إذ لا يمكن الاحتفاظ بها من يوم إلى آخر، فيخبر الخدم القنصل ثمَّ يبدأ المُعلِّم جورمي العملَ على إصلاح الَّلوحة أمام ناظريه. بدأ أوَّلاً بالبقع الي كانت تغطِّي الرَّداء الأرجوانيِّ والتي لم تكن لافتة للنَّظر، كانت النَّتائج الأوَّليَّة مُشجِّعة؛ لم تفقد طبقات الألوان بريقَها ولم تفسد درجاتها، ومن جهة أخرى اختفت الهالات اختفاءً تاماً. كان يحقُّ للسَّيِّد دو ماييه أن يكون متفائلاً. ومع ذلك، وفي كلِّ مرَّة كان يقترب فيها المُعلِّم جورمي من الَّلوحة الملكيَّة بفُرَشِه الصَّغيرة، كان القنصل يصرخ كمريض، يزفر فاغراً فاه عند رؤيته طبيب الأسنان حاملاً كلابته، فعطَّل عدَّة جلسات كانت مؤلمة له بشدَّة.

    وأخيراً، وصلنا للسَّرطان الذي كان ينهش خدَّ الملك، كان السَّيِّد دو ماييه مرتدياً رداءه الهنديَّ الخفيف مكشوف الرَّأس ومُتَّكئاً على مقعدٍ صغير أمر بوضعه قبالة اللوحة، كانت زوجته تمسك يده التي تضغط على صدره، جماعة مُتضرِّعة ترنو إلى الأعلى وكأنَّها عائلة ممتَحَنة تشهد صَلب أحد أقاربها. بعد ظهيرة أحد أيَّام أيار/مايو المُثقَل بثلاثة أيَّام من الهواء الحارِّ الذي حمل للمدينة رياحاً جافَّة من الصَّحراء النُّوبيَّة، أمسك المُعلِّم جورمي -الذي كان يعتمر قبَّعةً رماديَّة- فرشاةً صغيرة، ناولها له العبدُ القصير ورفعها نحو الوجه المَهيب، نهض السَّيِّد دو ماييه صارخاً:

    - تمهَّل!

    علَّق الصَّيدلانيُّ حركته.

    - هل أنت على ثقة تامَّة من...

    - أجل سيدي القنصل.

    كان المُعلِّم جورمي يُبدي في أخلاقه التَّناقض ذاته الموجود في مظهره، كانت وساوس الغضب تنهشه، ولكنَّه كان يتمالك نفسَه عبر تركيزه الفائق الواضح على ملامح وجهه، كان يتذمَّر ويتمتم ويصفُر مثل مِرجَلٍ متوهِّجٍ لكن من دون أن ينفجر، بل كان يعبِّر بهدوء مُدهِش مع أنَّه رجل يغلي بعنف في داخله.

    قال: «هذه ليست سوى طبقة تحضيريَّة، انظر سعادتك، فأنا بصعوبة ألمسها...».

    لو كان الأمر عائداً للبروتستانتيِّ وحده للطَّخ أنف لويس الرَّابع عشر بالأحمر القرمزيِّ، ولرسم أذنَي كلب على شعره المستعار، فقد تجرَّع هو وعائلته أشدَّ أصناف الويلات جرَّاء غلطة هذا الملك، لقد كان أمراً لطيفاً جداً منه أنَّه يعامله باحترام كهذا. مرَّة جديدة، أخذ المُعلِّم جورمي عهداً على نفسه في ذلك اليوم، أن يترك هذا العمل إذا لم يثمر.

    كان على القنصل أن يدرك العواصف الهوجاء التي تطوف في عينيِّ المرمِّم البرَّاقتَين. جلس وقال وقد أغمض عينيه قليلاً متوجِّساً واضعاً يديه في فمه:

    - حسناً، ليكن ذلك إن كان ضروريَّاً.

    في تلك الَّلحظة، دوت قرعتان عنيفتان على الباب، جفل الرسام ووجَّه المسترقّ السُّودانيُّ، عينيه البيضاوين للأعلى، وفتح السَّيِّد دو ماييه عينيه المُحمَرَّتَين من الانفعال، خيَّم صمت ثقيل مدة قصيرة في الغرفة كما لو أنَّ الملك العظيم بنفسه قد ألقى في السَّموات رعوداً مُرعِبة بسبب غضبه من الإساءة التي كانت تُحضَّر له، طُرِق الباب من جديد ثلاث طرقات أقوى من السَّابقتَين.

    يجب الرُّضوخ للوضع الرَّاهن، مع أوامر القنصل الرَّسميَّة بعدم إزعاجه خلال جلسات التَّرميم هذه، سمح أحدهم لنفسه أن يطرق الباب الخشبيَّ ذا المصراعين المُؤدِّي إلى الرُّدهة والمكاتب، بعد أن تأكَّد الدِّبلوماسيُّ من أن رداءه مغلق، توجَّه نحو الباب بخطىً وئيدة وفتحه بغِلظة، ظهر السَّيِّد ماسيه في الفُرجة وأمام مظهر رئيسه الغاضب، انحنى حتَّى كاد ينشطر إلى نصفين بكلِّ معنى الكلمة بانحناءة جريئة ومجنونة من وجهة نظر هندسيَّة، إذ اضطُّر بذلك إلى أن يمسَّ وجهه الأرضَ، استقام بسرعة بفضل رشاقته بالنُّهوض وقال بتواضع وحزم معاً، وذاك ما جعله ينجح أمام مديره:

    أرسل آغا الإنكشاريَّة رسالة لسيادتك، وأوضح أنَّها مستعجلة جدَّاً، للأتراك كلمة يعبِّرون من خلالها عن هذا النَّوع من الأشياء التي لا تحتمل أيَّ تأخير، لم أستطع أن أترجمها سوى بالضَّرورة الماسَّة، فوجدت أنَّه عليَّ أن أتجاوز أوامرك الرَّسميَّة.

    كان السَّيِّد ماسيه «ابن الُّلغات»، أي أنَّه كان طالباً في مدرسة الُّلغات الشَّرقيَّة، كما هي حاله، كان يُرسَل المتخرِّجون فيها إلى السَّفارة قبل أن يصبحوا دبلوماسيِّين أو مترجمين.

    كان القنصل يكنُّ له احتراماً على أساس رضاه برؤيته يملأ مركزه، مع أنَّ السَّيِّد ماسيه لم يكن رجلاً نبيلاً، كان يتناول الأمور بتحفِّظ يُظهِر حدودَه والوعي الحصين الذي كان لديه تجاهها.

    - هل هناك رسالة؟

    - لا سعادتك، لقد رفض مَبعوث الآغا النُّزول عن صهوة جواده، وأعلمني أنَّ سيَّده ينتظر سعادة القنصل في قصره الآن.

    قال السَّيِّد دو ماييه مغتاظاً:

    - هؤلاء الهمج يستدعونني! آمل أن تكون لديهم أسباب وجيهة، وإلَّا سأخبر الباشا ذاته بذلك.

    اقترب السَّيِّد ماسيه من القنصل، ثمَّ التفَّ وجلس إلى جانبه وأدار ظهره لبقية الموجودين في الغرفة، صار ابن الُّلغات يهمس كما لو أنَّه سيكشف للعلن سرَّاً من أسرار الدَّولة.

    لاحظ المُعلِّم جورمي وهو ينهض الفظاظة المتوارية وراء السُّلوك الجيِّد، والتي تشكِّل الوجه الآخر للدِّبلوماسيِّين.

    همس السَّيِّد ماسيه قائلاً:

    - لقد وضع الآغا تحت تصرُّف سعادتك سجيناً فرنسيَّاً أُوقِف البارحة في القاهرة.

    - حسناً، وهل هذا سبب كافٍ لمقاطعتنا؟ في كلِّ أسبوع يلقون القبض على الأقلِّ على أحد هؤلاء المساكين البائسين الآتين ليجرِّبوا حظهم هنا، هذا لا يهمُّني.

    همس السَّيِّد ماسيه بهدوء أكبر، لدرجة أنَّ على القنصل أن يفهم ما يريد أمين السِّرِّ قوله من حركة شفاهه:

    - هذا لأنَّه ليس سجيناً عاديَّاً، إنَّه الرَّجل الذي ننتظره والذي يحمل رسالة الملك.

    صاح السَّيِّد دو ماييه مندهِشاً وقال بصوت عالٍ:

    - بهذه الحال يجب ألّا نضيع لحظة واحدةً.

    ثمَّ قال مُوجِّهاً كلامه إلى المعلِّم جورمي أوَّلاً:

    - سادتي، سنعلِّق الجلسة.

    خرج القنصل من الغرفة بادياً عليه الوقار والغمُّ، مع أنَّه في داخله يفضِّل أيَّ شيء على العذاب الذي قاطعه هذا الحادث الطَّارئ.

    سبَّ المُعلِّم جورمي الذي أصبح وحده، ولعن وعبَّر عن استيائه، ورمى ريشته بعنف في الإناء رميةً جعلت المرهم الزَّهري الثَّمين المُخصَّص للوجنة الملكيَّة يتناثر قطراتٍ على جبهة المُسترَقِّ الشَّاب السَّوداء.

    *

    في ذاك الزَّمان كان من الممكن لمشَّاءٍ جيد أن يُتِمَّ جولته في القاهرة خلال ثلاث ساعات، إذ لم تكن حينها سوى مدينة صغيرة اتَّفق الأجانب على أنَّها قبيحة ومتداعية وتخلو من السِّحر. من بعيد، كان تشابك مآذنها الرَّفيعة مع تمازج النَّخل الباسق النَّامي من حدائقها يضفي عليها طابعاً خاصَّاً، ولكن عند دخول شوارعها الضَّيقة تَحدُّ الرُّؤيةَ بيوتٌ بُنِيَتْ طبقاتُها من دون تزيينها سوى بأحواضٍ خشبيَّة تطلُّ على المارِّة بخطر، حتَّى القصر الحكوميُّ والقلعة نفسها التي كان يقيم فيها الباشا، والتي تنفتح من أحد جوانبها على ساحة رمليَّة والكثير من المساجد، كلها كانت تختفي في الخليط بينها كافَّة، هذه المدينة السَّابحة بلا فضاء وبلا أفق والمَحرومة من الهواء والنَّور، أبعدت الجمال والسَّعادة والأهواء خلف أسوار عمياء وشباك مُعتِمة، ما عدا محيط السُّوق أو قرب بعض الأبواب التي كان يدخل منها التُّجار القادمون من الرِّيف، حيث يُرى القليل من النَّاس. كانت خيولٌ سوداء ملفوفة بالقماش، تمرُّ حاثَّةً الخُطى لتتخلَّى عن هذه الأزقَّة للمُتسوِّلين والكلاب الجرباء التي ليس لها مكانٌ آخر تعيش فيه. كان من النَّادر جدَّاً مُشاهدة أجنبيٍّ يُخاطِر بوجوده في أحياء القاهرة القديمة، إذ كان الأوروبِّيُّون منذ القرن السَّادس عشر يتمتَّعون بالحماية التي كان يقدمِّها لهم الصَّدرٌ الأعظم العثمانيُّ وفقاً للمعاهدات التي وقَّعها خير الدِّين بربروس مع فرنسا، ولكنْ لم يشعر المسيحيُّون بأنَّ التَّهديدات قد قلَّت، مع أنَّهم كانوا يستطيعون التِّجارة بحرِّيَّة ويتمتَّعون ببعض الحقوق.

    كانت النِّزاعات تمزِّق المصريِّين، فالباشا يناصب العداء للجيش المحليِّ، والإنكشاريُّون ضد الباشوات، والباشوات ضد أئمَّة المساجد، وأئمَّة المساجد ضد الباشا، إن لم يكن هذا بالاتجاه المعاكس تماماً، عندما كانت الفرق الإسلاميَّة تتَّفق على هدنة، وتتظاهر بأنَّها قد صالح بعضها بعضاً أبداً يكون ذلك للتَّوحُّد ضدَّ المسيحيِّين. لا تكاد الأمور تمضي قُدُماً فتُسحَق واحدةً أو اثنتين منها، وسرعان ما يعود كلُّ شيء للنِّظام المعتاد، أي للتَّناحر، كان هذا سبباً كافياً للفرنجة، كما كانوا يُسمَّون في ذلك الزمان، لكي يتجنَّبوا الخروج من الحيِّ المُخصَّص لهم.

    كانت الأريحيَّة التي يمشي بها الشَّاب بعد ظهيرة ذلك اليوم في أزقَّة القاهرة القديمة مُذهِلة، خرج منذ برهة من منزل ذي طراز عربيٍّ تقليديٍّ مُغلِقاً وراءه باباً خشبيَّاً بسيطاً، وأخذ يشقُّ طريقه في متاهة المدينة بحماية عائلة أحد سكان المدينة الأصليِّين، إذ كان ظاهراً للعيان أنَّه إفرنجيٌّ ولم يكن يريد إخفاء ذلك.

    هبَّت الخماسين طيلة مدَّة ما قبل الظُّهر برياحها الحارَّة المُحمَّلة بالرِّمال، كان الهواء خانقاً وجافَّاً حتَّى في الظِّلال المَمدودة في الشَّوارع الضَّيِّقة. مضى الشَّابُّ مرتدياً قميصاً رقيقاً مفتوح الياقة وسروالاً من الكتَّان وحذاءً بسيطاً، تاركاً رأسَه مكشوفاً، وحاملاً على ذراعه صدريَّة من جوخ أزرق بحريٍّ، صادفه عربيان مسنَّان أمام مسجد حسَّان وسلَّما عليه، وردَّ عليهما بكلمة واحدةٍ بلغتهما من دون أن يتوقَّف، ومع أنَّه لا شيء رسميَّاً بخصوصه لأنَّه لم يكن عثمانيَّاً، إلَّا أنَّ الجميع في المدينة يعرفون أنَّ هذا الشَّاب يُدعَى جان باتيست بونسيه، وأنَّه يقوم بمَهمَّة مرموقة في القلعة لدى الباشا.

    كان قويَّ البنية، مفعَماً بالنَّشاط، عريض المنكبَين قويَّ الرَّقبة، ولطالما تساءل لماذا لم يسعده القدر الذي وصل به إلى هذه المكانة من المال؟

    على هذا الهيكل القويِّ والرِّقة غير المتوقَّعة يأتي رأس مُتطاوِل شابٌّ بوجه ناعم يحيط به الشَّعر الأسود، تلمع من خلاله عينان خضراوان، ملامحه ينقصها التَّناظر، فوجنته اليسرى كانت أعلى قليلاً من وجنته الأخرى، وعيناه تتموضعان في وجهه بطريقة غريبة فتبرز تلك الحالة حدَّة نظرته، كان عدم انتظام الملامح هذا يمنح بساطته القوَّة والغموض.

    كان جان باتيست بونسيه يعيش في القاهرة منذ ثلاث سنوات، وأصبح أشهر الأطباء فيها، خلال شهر أيار/مايو 1699 أصبح عمره 28 عاماً.

    وهو يمشي، كان يؤرجح بطرف يده حقيبة صغيرة تحتوي بعض الأدوية التي كان يصنعها بنفسه بمساعدة معاونه، كانت القوارير تصدر قرقعةً يكتمها الجلد عندما تصطدم بعضها ببعض، كان جان باتيست يستمتع بإعطاء إيقاع مرح لهذا الجرس البلوريِّ الذي يرافق خطاه، كان ينظر أمامه مبتسماً وادعاً من دون أن يقلق من الذين يلاحقونه من وراء الكثير من هذه الكوَّات والشَّبابيك الخشبيَّة.

    كانت معظم المنازل تستقبله إمَّا ليكشف على مريض، أو على الأغلب بوصفه ضيفاً، حيث كان يشارك مضيفيه الشَّاي أو العشاء.

    بمعرفته جزءاً كبيراً من أسرار المدينة الصَّغيرة –وأحياناً جزءاً صغيراً من أسرارها الكبيرة- كان مُعتاداً أن يكون أحد المواضيع المفضلة للحشريَّة الهائلة التي تثير الجميع، لاسيما النِّساء في غرف الحرملك المُعتِمة حيث تعتلج الرَّغبة والدَّهاء، كان يتناول الأمور من دون اهتمام ولا شغف، ويلعب -ربَّما بشغف أقلَّ من السَّابق- دور الحيوان الطَّليق الذي تطارد آلافً العيون الصَّيادة المختبئة أقلَّ تحرُّكاته.

    مرَّ في طريقه قرب سوق العطور، ثمَّ وصل أخيراً الى ضفَّة كاليش، ثمَّ بعد برهة حاذى المَجرى شبه الجَّاف للجدول الذي يهتاج بسبب الأمطار في الفصول الأخرى سريعاً، فيغمر الجسر الواصل بين الضِّفَّتين والمؤدَّي إلى المنازل المحاذية له. دائماً يتركَّز في ذلك المكان بعض الزِّحام، إذ كان هذا الممرُّ الضَّيق هو الوحيد الذي يربط القاهرة القديمة بالأحياء العربيَّة، ولكن في ذلك اليوم كانت الحركة ملحوظة بوجه استثنائيٍّ، وهذا ما جعل جان باتيست يواجه صعوبة كبيرة في شقِّ طريقه. علم أنَّ شيئاً غير عاديٍّ قد طرأ عندما وصل إلى منتصف الجسر، إذ رأى دخاناً كثيفاً يتصاعد من أحد البيوت هناك. قيل له إنَّ موقداً أرضيَّاً قد تناثرت جمراته لدى تاجر قماش، وللسَّيطرة على الحريق ألقى بعض المصريِّين دلاءً من ماء سحبوه من بئر قريب يحملونها وهم يركضون ويصيحون. سار الأمر على ما يرام ولم يكن هناك ما يُخشَى منه، ولكنَّ الأحداث النَّادرة في هذه المدينة جعلت هذا الحريق العارض يتسبَّب بازدحام، وهذا ما جعل المرور شبه مستحيل. واصل جان باتيست محاولاته في العبور والتَّقدم، وعند مَدخَل الجسر من الجهة المُقابِلة له كانت عربة يجرَّها حصانان عالقةً داخل الزِّحام، وعندما وصل إلى أعلى الجسر، اكتشف جان باتيست أنَّ العربة لحرس القنصل الفرنسيِّ، ممَّا دفعه ليحثَّ الخطى ويدفع المُتسكِّعين في الطِّريق بخشونة حتَّى لا يقف وقتاً طويلاً في هذا المحيط.

    كان بونسيه مقيماً بوصفه صيدلانيَّاً، إلَّا أنَّه لا يحمل أيَّ شهادات، وكان يمارس الطِّبَّ بصفة غير قانونيَّة، ولم يتمكَّن الأتراك من كشف حقيقته، إلَّا أنَّه كان عند أبناء جلدته مَشكوكاً فيه، لاسيَّما عندما يبرز بينهم أطبَّاء نابغون –ولحسن الحظ لم تكن هذه هي الحال في القاهرة في ذلك الحين– ولهذا السَّبب كان قد اضطرَّ إلى مغادرة مدينتَين أخريَين سابقاً من دون توقُّف خوفاً من الوشاية به. كان يتطلَّب الحذر منه أن ينأى بنفسه على الدَّوام، بعيداً عن ممثِّل القانون، والذي كان في كلِّ ما يخصُّ الفرنجة، القنصل.

    في الَّلحظة التي كان يتجاوز فيها العربة ورأسه منضوٍ بين كتفيه ملتفِتاً التفاتة خفيفة إلى النَّاصية الأخرى، سمع أحدهم يناديه بغطرسة بالَّلغة الفرنسيَّة:

    - يا سيِّد، المعذرة، يا سيَّد! هل في إمكانك أن تردَّ عليَّ؟

    خشي جان باتيست أن يكون ذلك صوت القنصل، ولكن لحسن الحظِّ كان الصَّوت صوت أنثى، فاقترب، كان الزُّجاج مفتوحاً، وقد أخرجت السَّيِّدة رأسها من الباب وقد جعلتها الحرارة الخانقة تغرق بعرقها، وأحمر شفاهها يسيل ويكشف تشقُّق مسحوق التَّجميل الأبيض الذي طلت به وجهها، هذه الحيل المخصَّصة لتأخير ما أفسدته السُّنون قد صدمته، ومع أنَّ التَّجميل المتردِّي قد أساء لها جداً، إلَّا أنَّ المُتأمِّل لوجهها يرى سيدة بالخمسين من عمرها بسيطة وباسمة ما زالت تحافظ على بقيَّة جمال في عينيها الزَّرقاوَين، وكذلك ملامح من الطِّيبة والرِّقة والحنان.

    - أتستطيع أن تقول لي ما الذي يؤخِّر العربة؟ هل هناك أيُّ خطر علينا؟

    تعرَّف جان باتيست إلى السَّيِّدة، إنَّها زوجة القنصل التي كان قد سنحت له الفرصة لكي يلمحها عدَّة مرَّات في حديقة المفوَّضيَّة.

    - إنَّها بداية حريق سيِّدتي، وقد أدَّت إلى احتشاد النَّاس، لكنْ كلُّ شيء سيعود لما كان عليه.

    لاحظت السَّيِّدة ارتياح جان باتيست، وبعدها شكرته باحترام وعادت إلى العربة، وجلست في كرسيها وأخذت تحرِّك مروحتها، وهنا رأى أنَّها لم تكن وحدها، كانت تجلس في الاتجاه المقابل لها شابَّةٌ تتَّجه إليها أشعَّة الشَّمس المنعكسة من مَجرى كاليش.

    يمكن القول إنَّ عيوب الأولى قد خدمت ميِّزات الأخرى؛ لقد كانتا متناقضتَين تناقضاً تامَّاً، فمقابل الطِّلاء المُفرِط الذي يتسبب بانتفاخ جلد السيدة الأكبر سناً، كانت النضارة النقية تشع من السيدة الشابة. قلق السيدة المصحوب بضرب الأرض بقدميها كان يعارضه هدوء الشابة ورصانتها. كيف كانت؟ لم يستطع جان باتيست الرَّد على ذلك، والأهمُّ من ذلك كان الجمال عندما أطلَّت أوَّل مرَّة، شعر بكلِّ ذلك، كان يبرز منها جزءٌ واحدٌ فقط سخيف ومُحبَّب، لقد عقدت شرائط حريريَّة زرقاء في ثنايا تسريحتها، نظر جان باتيست إلى الشَّابة وهو مذهول ذهولاً تامَّاً، ومع أنَّه كان في حالة ارتياح تامٍّ إلَّا أنَّ المفاجأة لم تسمح له أن يغيّر ملامحَ وجهه. انطلقت العربة بقوٍّة إثر ضربة سوط الحوذيِّ مُقاطِعةً هذه المحادثة الصَّامتة بين العينَين، تاركةً جان باتيست مُتسمِّراً وحيداً على الجسر، مَلجوماً ومُضطرباً والسَّعادة تغمره.

    خاطب نفسه قائلاً: «يا لشقاوتي! لم أرَ شيئاً كهذا من قبل في القاهرة».

    واصل مسيره أبطأ مما سبق حتَّى بلغ الحيَّ الإفرنجيَّ حيث كان يسكن.

    (*) لقب الملك لويس الرَّابع عشر. (المترجم).

    الفصل الثَّاني

    كان القنصل السَّيِّد دو ماييه من أصول نبيلة، ولد شرق فرنسا حيث تعود بعض جذور شجرة عائلته الهزيلة، لا يمكن القول إنَّ آل دو ماييه قد خسروا كلَّ شيء لأنَّهم لم يكونوا يملكون شيئاً بالأصل، كان يحيط بهم البرجوازيُّون المتنمِّرون والفلَّاحون المزدهرون، في حين أنَّ هؤلاء النَّبلاء يتباهون كَّل التَّباهي بعدم فعل شيء ويتفاخرون كلَّ الفخر بعدم امتلاك شيء. الشَّيء الوحيد الذي كان يمنعهم من أن يُقارنوا أنفسَهم بغيرهم ويتعذَّبوا هو نسبهم النَّبيل، مع أنَّه كان مُتواضِعاً، لكنَّه كان يغيِّر ملامحَ ما تبقَّى من ضعف حالهم.

    لم يشكُّوا يوماً في أنَّ الخلاص قادِم إليهم من السَّماء، وأنَّه سيأتي يوماً ليتحقَّق من دون شكٍّ عبر أحد أفراد العائلة، حتَّى لو كان من أبعد الأقرباء عن نسلهم، فسيرفع بمكانته شأن كلِّ أقاربه. تحقَّقت المعجزة بعد طول انتظار عندما ارتبط بونشارتران بابنة عمِّ أمِّ السَّيِّد دو ماييه غير المباشرة، والذي أصبح وزيراً ثمَّ مستشاراً لدى الملك، إذاً في رأس هرم السُّلطة، لا أحد يرتقي إلى علوٍّ كهذا وحده، ولكن في الوقت نفسه وحدها استحقاقات الشَّخص هي التي تقوده إلى هناك.

    يلزم التَّأكد من الأشخاص ووضعهم في مراكزَ معينَّة مراراً، ورعايتهم حتَّى يأتي يوم تشغيلهم ووضعهم في الخدمة، وهكذا يترسَّخ لديهم أنَّهم لم يكونوا شيئاً قبل أن يُصنَع منهم شيء، كان بونشارتران يعرف ذلك جيِّداً ولم ينسَ أبداً استغلال عائلته.

    كان السَّيِّد دو ماييه مع نهاية شبابه الورِع والمُترَف قد تعلَّم القليل من الكتب والأقلَّ من الحياة، سحبه عمُّه واسع السُّلطة من هذا الجو المُعدَم ليمنحه قنصليَّةَ القاهرة.

    يُكِنُّ المحميُّ لحاميه دوماً امتناناً مشوباً بالقلق لأنَّه يعرف أنَّه لن يستطيع وحده وفاء هذا الدَّين، كان عليه أن ينتظر اليوم المُخيف الذي قد يطلب منه الرَّجل القادر على كلِّ شيء -بما في ذلك أن يعيده إلى العدم- شيئاً كبيراً قد لا يكون قادراً على إنجازه بلا مُخاطرة، إلَّا أنَّ السَّيِّد دو ماييه لم يكن يحبُّ المخاطرة أبداً.

    كانت قنصليَّة القاهرة إحدى أكثر الأماكن المرغوبة في الشَّرق، فقد كانت رقابة السَّفير الفرنسيِّ بالقسطنطينيَّة بعيدة بما فيه الكفاية، لم تعد مدينة القاهرة تشكِّل ممرَّاً؛ لقد تضاءلت أهمِّيَّتها كثيراً. كان يجب فقط السَّيطرة على جماعة مُتمرِّدة من بضع عشرات من التُّجار والمغامرين، هؤلاء الرِّجال الذين أخفقوا هناك في خضمِّ الظُّروف العامَّة الاستثنائيَّة كانت لديهم الجرأة لعدِّ الشَّجاعة فضيلةً والمال سلطةً وقِدَم منفاهم عنواناً لمجدهم. كان القنصل يعرف كيف يذكِّرهم أنَّه لا سلطة سوى القانون الذي لا يؤيِّدونه أبداً ولا فضيلة سوى النَّبالة، التي لا يملكون منها شيئاً، لكنَّ الأمر الجوهريَّ الذي ألحَّ عليه السَّيِّد دو بونشارتران بشدَّة كان التِّعايش الأمثل مع العثمانيِّين، كان ينطلق من السِّياسة العليا لفرنسا –والتي تفضِّل التَّحالف العثمانيَّ ضد الإمبراطوريَّة، مع أنَّ ذلك سرِّيٌّ– إضافة إلى الأمان الاجتماعيِّ لم يكن هناك ما يحافظ على هدوء القوميَّة الإفرنجيَّة مثل معرفتها أنَّه في أيِّ لحظة وبإشارة فقط من القنصل سيرحل العثمانيُّون مثيري المشاكل من فورهم.

    يُضاف إلى ذلك أنَّ القنصل لم يكن يدفع إيجاراً ويتلقَّى أربعة آلاف ليرة سنويَّاً وستَّة آلاف وخمسمئة ليرة ثمن الطَّعام وطاقم العمل، وله الحقُّ في إدخال مئة برميل نبيذ سنويَّاً بإعفاء من الجمارك بقرشين ونصف، ممَّا يجعلها عائدات جيِّدة. كان السَّيِّد دو ماييه ممتنَّاً جدَّاً لهذه الفوائد التي جعلته غنيَّاً، فكان يجدِّد ولاءَه لحاميه كلَّ شهر في رسائلَ يرسلها عبر سفن شركة الهند المارَّة بالإسكندريَّة، جوهر هذه الرَّسائل كان المديح والثَّناء، ولكن كي لا يسبِّب هذا «الكلام الَّلزج» التُّخمة أو حتَّى التَّقزُّز كان القنصل يخفِّفه بمواد أخرى تدور حول الوضع المحليِّ. كان الكلام -في حال دُعِمَ جيداً- يأخذ شكل مذكَّرات قصيرة كتلك التي تتناول منفعة حفر قناة تربط البحر المتوسِّط بالبحر الأحمر؛ فخره واعتزازه الكبير مع أنَّه لم يكن يوماً واثِقاً من نتائجها. كان السَّيِّد دو بونشارتران يردُّ دائماً على هذه الرَّسائل، فيعلِّق عليها ويضيف أحياناً بعض التَّعليمات السِّياسيَّة، في رسالته الأخيرة والتي يعود تاريخها إلى أكثر من شهر مضى، ذكر الوزير وللمرَّة الأولى ما يشبه التَّعليمات المُباشَرة، أعلم القنصل أنَّ عليه أن يستعدَّ لاستقبال زائر يسوعيٍّ قادِم من فرساي مروراً بروما، أمر الوزير السَّيِّد دو ماييه بتنفيذ ما ستأمره به الكنيسة وأنَّ عليه عدَّ هذه الأوامر وكأنَّها أوامر المجلس أو الملك ذاته.

    كان السَّيِّد دو ماييه قلِقاً من هذه العمليَّة، كان عليه أن يُبقيَ هذه الأوامر سريَّةً فيعهد بها إلى مبعوث ويتجنَّب المخاطرة بإرسال بريد مكتوب، على كلِّ حال، اطمأنَّ القنصل إذ لم يبدُ اليسوعيُّ أبداً معتقداً أنَّ سياسة الملوك شيءٌ غامض وقد تغيَّر مسارها باستمرار، لا بدَّ أنَّ دسائسَ أخرى كشفت هذه وأخذت باليسوعيِّ إلى أماكن أخرى، إلَّا إذا كان تائهاً في الطَّريق.

    ظهر هذا المسافر غير المتوقَّع شبه عارٍ مقيَّداً لدى آغا الإنكشاريَّة، لم يكن لدى الباشا العثمانيِّ أيُّ مشكلة في تسليم سجينه للقنصليَّة إذ إنَّها ستكفله، لكنَّ هذا الأمر أثار الفضول، فالباشا وجميع الجاليات الأجنبيَّة لن يهدأ لهم بال حتَّى يكشفوا سرَّ هذا الرَّسول من الملك الشَّمس، والذي وصل مُغطَّى بالوحل متهوِّراً بما يكفي ليصيح بأنَّه يحمل رسالة سياسيَّة.

    كان السَّيِّد دو ماييه يتناوَل هذه الأفكار المُقلِقة وهو يمشي في القاعة الكبرى في القنصليَّة، كان قد جهَّز المائدة لضيفه وتناول عشاءه معه من فوره وحدهما، زوجته وابنته حضرتا لتسلِّما على الرَّجل المُقدَّس فحسب قبل أن تتركاهما بمفردهما. كانت تُسمَع أصوات خطى مُسرِعة صاعدة ونازِلة على الأدراج؛ كان الخدم النُّوبيُّون يحملون دلاء الماء النَّقيَّ لحمَّام المسافر، خلد الأسير السَّابق إلى الرَّاحة من فوره، أغضب ذلك السَّيِّد دو ماييه قليلاً، توقَّف عن التِّجوال وجلس على المقعد المقابِل للَّوحة الجاري ترميمها وقد اندهش ممَّا رأى؛ كان وجه الملك سليماً تماماً فقد اختفت البقعة وظهرت نضارة الرَّسم الأصليِّ بكلِّ نقاء.

    اقترب القنصل، عند التَّأمل بتركيز كبير، يُرى في المكان الذي كان مُلطَّخاً منطقة أكثر احمراراً من باقي الوجه.

    علامة كهذه على وجنة طفل يمكن التَّخلص منها بنفخة، أمَّا على وجه الملك الجليل المهيب، فهذا الظلُّ البنفسجيُّ لا يمكن أن يكون سوى مسحوق تجميل فائض مُدَّ شهادةً على صحَّة الملك وإبداء تفاؤله أمام شعبه.

    ظنَّ السَّيِّد دو ماييه أوَّل وهلة أنَّه يشهد أعجوبة، ظهور اليسوعيِّ واختفاء البقع بدت وكأنَّها تجلٍّ لوجود العناية الإلهيَّة التي تكتنف المنزل برمَّته برعايتها، ثمَّ عاد إلى الواقع واندفع إلى الحبل ليرنَّ الجرس.

    قال للبوَّاب صارخاً: «قل للمعلم جورمي أن يأتي غداً صباحاً إلى هنا».

    كان الكافر الوقح قد تجرَّأ على إكمال التَّرميم من دون وجوده! لكن النَّتيجة مرضيةٌ. يا للحظِّ السعيد! ويا لها من كارثة تمَّ التَّخلص منها! إنجاز العمل يستحقُّ أجراً–كان القنصل قد فاوضه عليه مقدَّماً– ولكنَّ عصيان الأوامر يستوجب عقاباً، هذا هو واجب السُّلطة مع هؤلاء الأوغاد، غداً، سيترك القنصل الخيار للصَّيدلانيِّ؛ إمَّا السِّجن ثمانية أيَّام أو دفع غرامة، وهكذا سيقلُّ أجره، ولا شكَّ أنَّه سيختار الغرامة، أصبح لدى السَّيِّد دو ماييه الأمل بعدم دفع الأجر بالإضافة إلى رضاه بنجاح التَّرميم، وهكذا استقبل الأب فيرسو بمزاج ممتاز عندما دخل.

    صاح اليسوعيُّ ممسكاً بكلتا يدي القنصل: «صديقي! صديقي! استقبالك لي يثير مشاعري، أشعر أنَّني عدت للحياة، هذا الحمَّام وهذه الثِّياب النَّظيفة وهذا المنزل الهادئ، لو تعلم كم حلمت بهذا كلِّه».

    دمعت عيناه عرفاناً، وكما يؤكِّد مكيافيللي، إن كان يمكن حبُّ شخص بسبب المعروف المُقدَّم منه، فمن غير الُمستغرَب أن يفوز القنصل بإعجاب شديد من رجل سيجود عليه بطيبته.

    قال الأب: «لقد سلَّمت على السَّيِّدة دو ماييه في الرُّدهة وعلمت أنَّها لن تتناول معنا طعام العشاء، لا أريد إخلال نظام هذا المنزل».

    - أبداً، أبداً، علينا أن نتكَّلم على انفراد، لنعُدَّ هذا العشاء جلسةَ عمل في الوقت نفسه.

    - حسناً، كما صادفتُ الآنسة ابنتك وأهنِّئك على جمالها وتحفُّظها، كيف استطعت تربيتها جيِّداً في أرض غريبة قلَّما وُجِدَ فيها مدرِّسون أو مؤسَّسات تعليميَّة على حدِّ علمي؟

    - لقد بقيت في فرنسا حتَّى بلغ عمرها أربعة عشر عاماً لم نأت بها إلى هنا إلا في السنوات الأخيرة.

    لا يكادان يعرفان بعضهما لكن الحديث جرى حول أمور عائلية. أعجب اليسوعي بصورة الملك «وبالمحافظة عليها في هذا المناخ بهذا الشكل الممتاز». كما وجه سؤالين أو ثلاثة بكل حنان حول صحة القنصل وعبء منصبه. ختاماً، جلسا إلى المائدة ووصلا للأمور الجدية.

    - أبتاه أتحرَّق شوقاً لمعرفة تفاصيل رحلتك، قلت لي إنَّ الغرق هو الذي أودى بك إلى هذه الحالة المزرية؟

    - غرق السَّفينة وأكثر من ذلك، كان يجب أن أكون ميتاً في ذلك الوقت، لكن وحدها العناية الإلهيَّة بخيرها المُطلَق أنقذتني.

    روى له مليَّاً كيف غادر روما وكيف حاولوا الوصول إلى الشَّرق من دون استعانة بسفينة إيطاليَّة، كان على متن سفينة يونانيَّة في أحد الأيَّام على سطح السَّفينة، وقد اكتشف مذعوراً عدم كفاءة القبطان والطَّاقم.

    على مرأى من قبرص، تحطَّمت السَّفينة على المياه الضَّحلة، عند رؤية الغرق الوشيك رمى اليسوعيُّ قارب النَّجاة في الماء وجلس فيه مع عدَّة أشخاص أخرين، ذهب بهم المركب الذي دفعته التَّيارات بالقرب من شاطئ صخوره مدبَّبة تضربه الأمواج، اندفع القارب وتحطَّم بالأمواج، لأوَّل وهلة أسِف الأب فيرسو لعدم وجود قبر له على اليابسة، إذ يجعل ذاك بعثه مع الأموات يوم الحساب أقلَّ تأكيداً كما يعرف الجميع، لكنَّه وضع هذه المشكلة بين يدي الرَّبِّ وكذلك حياته ومصير رهبنته واستسلم لمصيره. كانت آخر ذكرى لديه هي هذا الموت في الماء البارد الذي تحرِّكه فقاعات سوداء كبيرة، استفاق فيما بعد على رمل خليج صغير مُمسِكاً بين ذراعيه قطعةَ خشب رماه البحر بواسطتها، كان وحيداً وعارياً ومذعوراً ومخدَّراً مثل آدمَ يوم خُلِق، لكنَّ الله لم يتخلَّ عنه، كان الشَّاطئ مأهولاً بالصَّيَّادين الذين أنقذوه وألبسوه حسب استطاعتهم، وبعد يومين أخذوه معهم بالمركب نحو شواطئ مصر حيث كانوا يذهبون ليرموا شباكهم، أنزلوه على شاطئ صخريٍّ قرب الاسكندريَّة حسب طلبه، و بحكم أنَّه دخل إلى ديار العثمانيِّين من دون إذن مرور، فضَّل الأب فيرسو تجنب المدينة الكبيرة وقام بالتفاف عبر الصحراء حتى يعاود الالتقاء بنهر النيل أسفل المدينة. كان قد تجرَّأ على المفاوضة مع المراكبيِّين على سفره بالسَّفينة حتَّى القاهرة مع علمه أنَّه لم يكن يملك أيَّ مال.

    قال بخجل: «أنت تعرف بقيَّة القصَّة».

    كان السَّيِّد دو ماييه قد أظهر ألف تعبير تعجُّب ودهشة وذعر خلال هذه القصَّة، كان ينظر إلى هذا الرَّجل الواهن النَّحيل وكأنَّه عصا خفيفة تحوَّلت إلى حزمة عيدان وكان يتساءل كيف له أن يتغلَّب على كلِّ هذه المحن.

    تابع الكاهن متَّخِذاً هيئة أكثر حزماً:

    - لا تستحقّ مغامرتي أهميَّة إلَّا لتفسير وجودي هنا والوسائل التي جئت من خلالها إليك، ولكن علينا أن ندخل صلب الموضوع الذي ليس هذا هو.

    - «نعم صحيح، رسالة الملك». قال السَّيِّد دو ماييه.

    عدَّل الأب فيرسو جلسته على الكرسيِّ وغمز ببطء بعينيه وأضفى على حديثه إجلالاً. ألقى السَّيِّد دو ماييه نظرة نحو الصُّورة التي كانت تبدو وكأنَّها تخون الوجود الجسديَّ للملك فوقهم.

    قال الكاهن:

    - حتَّى أتكلَّم بدقة فأنا لا أحمل رسالة.

    - قلت لي...

    مدّ الرَّجل ذو الرِّداء الأسود يده وكان يلزمه بعض الوقت.

    - رسالة بمعنى رسالة رسميَّة.

    لم يكتب الملك شيئاً ولا حتَّى تفوّه بشيء مباشرة، هذا الاحتياط مدعاة للسُّرور ويتناسب معك، فمع أخذ الحوادث التي أصابتني بعين الاعتبار كان من الحذر ألَّا أنقل شيئاً كهذا.

    - «أتَّفق مع ذلك». قال السَّيِّد دو ماييه.

    - ولكن وإن لم يكن هناك رسالة، لدى الملك نيَّة واضحة جدَّاً وعاها بضميره وعهد بها إلى مديرها.

    - معترفه، الأب دو لاشيز؟

    أغمض الكاهن عينيه وبقي السَّيِّد دو ماييه فاغراً فاه مثل طفل فُتِح أمامه صندوق مليءٌ بالكنوز.

    تابع الأب فيرسو:

    - هذا الرَّجل المقدَّس الذي ينتمي إلى رهبنتنا كما تعلم، شارك الملك نواياه في مجموعة مغلقة كليَّاً من الأشخاص الموثوقين: السَّيِّدة مانتونون التي تدافع بحماسة شديدة عن الإيمان في البلاط في فرساي، والسَّيِّد دو بونشارتران، والأب فلوريو قائد تجمُّعنا في كلِّ مستعمرات المشرق، وأنا نائبه ومساعده وممثله، أنت الآن.

    نكس السَّيِّد دو ماييه رأسه ليُظهر أنَّه خاضع لإرادة القادة وليخفي دموع العرفان التي انهمرت من عينيه.

    - تختصر المسألة في عدَّة كلمات، تعرف الحرب التي تشنُّها اليوم المسيحيَّة ضدَّ أعدائها ومنهم العثمانيُّون، فيجب مواصلة العمل للظَّفر بها، إنَّها تتحضَّر، ولكن في صميم من يدَّعون الحياة من أجل المسيح تتبدَّى أكبر الأخطار، فالإصلاح القميء قد تجرَّأ على نخر عمل الرَّبِّ نفسه من الدَّاخل. لقد قاوم ملك فرنسا في كلِّ مكان، في بلاده، ألغى معاهدات الاستسلام التي عُقِدَت سابقاً مع المسيحيِّين الهوغونوتيِّين الفرنسيِّين، أمَّا في جميع أنحاء أوروبا، فقد واجه -مُخاطِراً بتاجه- مؤامرة الأمراء البروتستانت التي يقودها الخائن ويليام الصَّامت.

    لكنَّ هذه المعركة لم تعد معركة الماضي ذاتها عندما كان العالم محدوداً بالبحر المتوسِّط وحوضه، فقد انجرَّ كلُّ العالم إلى هذه المعركة، علينا أن نحمل رسالة المسيح إلى جميع الأراضي المعروفة ونعيدها إلى جادَّة الصَّواب وحتَّى الأراضي المجهولة، تلك العوالم الجديدة التي بزغت خلال القرنَين المُنصرِمَين، وهي كذلك مسارحُ جديدة للمعارك كُرمى للمسيحيَّة؛ الأمريكيَّتان والهند والصِّين وأقاصي الشَّرق. في كلِّ مرَّة، نواجه التَّحديات ذاتها؛ في البدء، مقاومة الشُّعوب التي تعيش خارج الإيمان للحقِّ المُبين من دون أن تدرك الفراغ والخطر القاتل الذي يجعلها هذا النَّقص عرضة له نسبة للأبديَّة، بل أيضاً، التَّنافس مع هذا الإصلاح المزعوم الذي ليس سوى محاولة شيطانيَّة لإبعاد أولئك الذين نحاول أن نقدِّم لهم الإنجيل الحقيقيَّ.

    كان السَّيِّد دو ماييه يبدي من وقت إلى آخر أمارات الإيجاب برأسه ليظهر أنَّه يتابع الحديث، الحقُّ يُقال، كانت فصاحة هذا الرَّجل صغير الحجم تأسره، لا سيَّما أنَّها انطلقت فجأة من الَّلحظة التي تطرَّق فيها الحديث لقضايا السِّياسة والدِّين.

    تابع رجل الكنيسة:

    - تعلَّم ملك فرنسا الكثير خلال حكمه الطَّويل، يعرف كيف يتجرَّد من طوارئ التَّاريخ، يميِّز بوضوح المعنى العميق لمعركته ومبرِّر قوَّته ممَّا يثير إعجاب معترفه أكثر به، هذا الصِّراع الكونيُّ بين قوى الإيمان الحقيقيِّ والقوى الغارقة في الظُّلمات يشغله كليَّاً. إنَّه مُصِرٌّ تمام الإصرار على قيادة هذا الصِّراع حتَّى آخر نفس، بعض هذه المعارك أقلُّ إلحاحاً لشنِّها من الأخرى، كما قلت لك، مع العثمانيِّين، كلُّها مسألة وقت. نحن حاضرون ونحضِّر عدَّة مسيحيِّين يحملون الشُّعلة هنا، وعندما يتصدَّع البناء العثمانيُّ سيغرقهم من خلال هذه الثَّلم، لكنَّ الموعد لم يحن بعد، في المقابل، وبالقرب من هنا، بلد ينادينا، بلد عظيم أبقاه التَّاريخ والجغرافيا الرَّائعة الجبليَّة بعيداً عنا، بلد في الظِّلِّ، ولكنَّني أجرؤ على القول إنَّه قريباً سيطلب الانضمام إلينا، لقد كسبت المسيحيَّة هذه الأرض، لكنَّ الإيمان هناك لم يلقَ العناية المُناسِبة فنما باتَّجاه خاطئ.

    قال السَّيِّد دو ماييه وكأنَّه مُخدَّر: «الحبشة!».

    - أجل، الحبشة، هذه الأرض شبه المجهولة وشبه الضَّالة، تلك الأرض التي ابتلعت كلَّ من حاول دخولها حتَّى الآن، ولكنَّها مع ذلك تنادينا.

    انحنى الكاهن للأمام وقد تبعثرت على الطَّاولة أمامه بقايا الوجبة الموضوعة في أطباق قصديريَّة، وأمسك يد السَّيِّد دو ماييه وقال له:

    - يجب أن يتمكَّن ملك فرنسا من أن يضيف إلى أمجاده مجد هداية هذه الأرض إلى الكنيسة، إنَّ جلالته يكلِّفك بإرسال بعثة إلى هناك.

    الفصل الثَّالث

    كان جان باتيست بونسيه والمُعلِّم جورمي يتشاركان المهنة نفسها بوصفهما صيدلانيَّين والمنزل نفسه الذي كانا يستخدمانه ورشةً في طرف المستعمرة الإفرنجيَّة في زقاق مُنعزِل مناسِب لسريَّة أعمالهم.

    صرخ جان باتيست دافعاً باب مدخل سكن العزاب مُقتحِماً الفوضى العارمة التي تسيطر على المكان:

    - مرحباً، هل أنت هنا أيُّها المُشعوِذ العجوز؟

    وصل صوت الدَّمدمة من أعلى المنزل، رمى سترته التي كان لا يزال يحملها بيده على ظهر الكرسيِّ وصعد لينضمَّ إلى صديقه، كان هناك في الأعلى شرفة واسعة تطلُّ على فسحة سماويَّة جدرانها بلا نوافذ، وجميع النَّوافذ الأخرى تبقى كوَّاتها مغلقة إن لم تكن مسدودة بجدار أساساً، وجد بونسيه البروتستانيَّ متَّكِئاً على الدَّرابزين ناظراً بغموض وسيفه بيده.

    - ماذا تفعل هنا وحدك ومعك هذا السَّيف؟

    - «قتلت القنصل منذ قليل». قال المُعلِّم جورمي.

    - حقَّاً؟

    كان جان باتيست يعرف جيِّداً كيف يحرِّك مشاعر شريكه في المؤامرات.

    - حقَّاً، لقد قتلته اثنتا عشرة مرَّة، أتريد أن ترى؟ انظر.

    على وقع هذه الكلمات تصنَّع العملاق ضرب السَّيف ومقارعة خصم كان يتراجع بسرعة، عند وصوله للجدار، أحدث شقَّاً وأصدر صوتاً كأنَّما كان يخترق جسداً ما بصعوبة، انغرست ذروة السَّيف في الجصِّ فأدَّت إلى انتزاع صفيحة منه وظهور الجوف الأحمر للَّبِنَتَين.

    قال جان باتيست مصفِّقاً بيده:

    - مرحى! كان يستحقُّ ذلك، هل هدَّأ هذا من روعك؟

    - جدَّاً.

    - حسناً، لأنَّك هادئٌ هكذا، ستتمكَّن من شرح كلِّ شيء لي.

    أخذ جان باتيست كرسيَّاً حديديَّاً وجلس، بينما بقي الآخر واقفاً مواصِلاً الحراك ضارباً بسيفه على رجله.

    - لقد نفد صبري من هذا القنصل، فرؤيته وحدها تثير لديَّ نوازعَ القتل.

    - «هذا ليس جديداً، وأظنُّ أنِّي قد نصحتك من البداية ألَّا تقبل هذا العمل». قال جان باتيست مبتسماً.

    - لا أقبل! لقد استدعاني.

    - «لو استدعاني أنا، ما كنت سأذهب»، ردَّ جان باتيست.

    - أنت مضحك جدَّاً! هل يجب أن أذكِّرك أنَّك لست بروتستانتيَّاً لتكون بمنأى عن كثير من الأشياء؟ عدا أنَّ الباشا يستشيرك ويقرِّبك لأنَّك طبيبه بينما أنا لست إلَّا مُحضِّر نباتات. بكلِّ الأحوال، لم يكن هذا موضوعنا، استدعاني دو ماييه، فذهبت إليه تعهَّدت بالعمل والآن أنجزته وانتهى.

    روى المُعلِّم جورمي لشريكه كيف استغلَّ غياب القنصل لينتهك الحظر ويُنهي ترميم الَّلوحة.

    سأله جان باتيست: «هل نجح الأمر؟».

    - أظنُّ ذلك.

    - إذاً، كلُّ شيء يسير نحو الأفضل.

    - آه! أنت لا تعرفه؟ أنتظر بين لحظة وأخرى أن يبعث بحرَّاسه ليبحثوا عني، لقد كان مشغولاً جدَّاً ولم يلاحظ بعدُ لمستي الأخيرة.

    - ماذا عساه يفعل؟ ليس إنجاز العمل بجريمة.

    - لا شكَّ، لكن هذا السَّيِّد يريدنا أن نطيعه، سيُظهِرني بمظهر المُخطِئ وله علينا سلطة من الأعلى وشرطة وضيعة؛ إنَّه الخصم والحكم، ولأنَّه وضيع سيجعلني أدفع غرامة وسيقلِّص أجري كذلك.

    - ادفع إن كان ذلك من أجل ألَّا تسمع شيئاً من هذه التُّرَّهات.

    - أبداً! أفضِّل أن أقتله وأهرب.

    عند هذا الحديث المالي أحسَّ المُعلِّم جورمي بمعنى العدالة الهوغونوتيَّة البروتستانتيَّة، لم يحصل يوماً أن امتلك أيَّ مال إلَّا بعرق جبينه، ومن جهة أخرى لم يسامح يوماً ألَّا يُدفَع له المبلغ الذي اتِفُّقَ عليه.

    - اهدأ يا جورمي، لا يحقُّ له إكراهك على دفع غرامة، إذ ينصُّ قانوننا على إعطائنا الخيار بين دفع غرامة ماليَّة أو عقوبة السِّجن، اضرب بخله بدلاً أن تبقر بطنه، هذا سيؤلمه كثيراً، اصنع من نفسك سجيناً وابقَ يومين في زنزانته واستغنِ عن أيِّ عمل معه.

    استسلم المُعلِّم جورمي للفكرة الرَّائعة بأن يصعق القنصل بدل أن ينتزع منه الرِّضا التَّام، وأدرك الحكمة والدَّهاء في النَّصيحة التي قدَّمها له صديقه، التزما الصَّمت لحظة. كان الهواء الحارُّ قد توقَّف منذ منتصف ما بعد الظُّهر، الغبار النَّاعم الذي كان يحمله نزل كطبقة رقيقة غطَّى سواد الحديد الملتوي، ولطَّخ أوراق أشجار البرتقال المزروعة بالأحواض. ذهب جان باتيست ليُحضر جرَّة ماء من داخل المنزل وكوبَين قصديريَّين وشربا.

    قال: «كان هناك بداية حريق منذ قليل على جسر كاليش ممَّا أحدث اضطراباً كبيراً، حتَّى زوجة القنصل علقت بالزحام في عربتها».

    - «آه!». قال المُعلِّم جورمي من دون إبداء أيِّ اهتمام.

    قال جان باتيست وهو يصبُّ الماء في كأسه: «لمَّا كنت تتردَّد على القنصليَّة...».

    رفع البروتستانتي أكتافه بازدراء.

    - هل تعرف تلك الشَّابة التي ترافق السَّيِّدة دو ماييه؟

    - كيف تبدو؟

    خجل جان باتيست من أن يعترف أنَّه لا يتذكَّر منها سوى شرائط شعرها.

    - لم أرها جيداً.

    - شقراء وعيناها زرقاوان كبيرتان حزينتان جدَّاً.

    قال الشَّاب بحماس: «يبدو لي ذلك، نعم إنَّها هي».

    - إنَّها ابنة هذا القنصل القميء.

    قال جان باتيست متأمِّلاً: «علينا التَّيقن من أنَّ الطَّبيعة تمنح عفوها بسهولة».

    - غريب جدَّاً أنَّك رأيتها، عادة، لا تخرج هذه الآنسة أبداً، منذ أن جاءت إلى هنا قبل سنتين لم يلمحها أيُّ شخص، أنا نفسي لم أقابلها إلَّا عند انعطاف الرُّدهة، لكن كما أظنُّ نحن في عيد العنصرة، عليها أن تحضر القدَّاس لدى عائلة فيزيتاندين، يجب أن يكون هذا هو السَّبب، فباستثناء المناسبات الكبرى يواريها أبوها في منزله كأنَّها كنز.

    - «معه حقٌّ، إنَّها كنز». قال جان باتيست.

    أضاف المُعلِّم جورمي بنبرة كلامه الكئيبة التي يمكن أن تُفهم على أنَّه عاد لاجترار غِلِّه الشَّخصي: «هذا القنصل وحش».

    مدَّ جان باتيست رجليه وقاطعهما على الدَّرابزين مُتمدِّداً على كرسيه، أعلى المنازل، مال لون الفسحة المربَّعة المكشوفة تحت السَّماء والتي تغطِّي الشُّرفة إلى الَّلون البنفسجيِّ، وخطوط طويلة من الغيوم ممدودة من جدار إلى آخر مال لونها إلى الزَّهريِّ بسبب الغروب، ذكَّره هذا الِّلقاء العابر المُبهِر بشابَّة ليست من طبقته، بفينوس وبارما وليشبونة. لكن هناك، كان كلُّ شيء ممكناً...

    أدرك جان باتيست مبكِّراً جدَّاً أنَّ تجوال المسافر الذي يحرِّره من تراتبيَّة الطَّبقات يمنحه كرامة الرَّجل الحرِّ، والقدرة على التَّكلم مع الجميع سواسية، من أيِّ مكان كان، يمكن للمتشرِّد إن كان فطناً أن يصبح صديقاً لأمير أو عشيقاً لأميرة، على الأقلِّ يمكنه تخيُّل ذلك. بونسيه الذي لم تكن تنقصه الفطنة ولا الخيال، خاض مرَّات ومرَّات التَّجربة في المدن التي كان فيها حرَّاً، لكنَّه ما إن أخذ مركزه في هرميَّة أمَّته، كما هي الحال في هذه المستعمرة الافرنجيَّة في القاهرة، حتَّى بذل بعض الجهود لإخفاء أصوله، إذ لم يكن سوى ابن خادمة من أبٍ مجهول، عاد تباعد الطَّبقات ليصبح عقبة محطمِّة، ويحرمه حتَّى من أن يتمتَّع بالحلم بتحقيق السَّعادة أمام طلعات مشابهة. منذ أن وصل مصر، كانت هذه الِّلقاءات نادرة جداً، لم يكن ليتحسَّر عليها إذ كانت تجعله في غاية الحزن.

    قال جان باتيست: «إلَّا ترى أنَّنا بدأنا نملُّ هذه المدينة؟».

    أجاب المُعلِّم جورمي الذي أفضت أفكاره الخاصَّة به إلى ما يقرب من هذه النَّتيجة: «أغيِّرها بكلِّ سرور، لكن أين سنذهب؟».

    كانا يعرفان أنَّهما سيلاقيان في كلِّ مستعمرات الشَّرق نفس التَّضارب المتولِّد ليس عن الغربة بل بالعكس من الحضور المألوف جداً والطَّاغي لممثِّلي دولتهم، كان الوضع المثاليُّ هو العودة إلى أوروبَّا، لكنَّ ممارستهما للطِّبِّ هناك كانت مستحيلة دونما شهادة إذ سيعرِّضهم للاضطهاد الدَّائم.

    قال جان باتيست: «علينا الذَّهاب إلى العالم الجديد».

    بدت لهما الفكرة رائعة وليتكلَّما عن ذلك براحتهما، عادا أدراجهما بمرح مشياً في القاهرة القديمة وتناولا العشاء في خان عربيٍّ يقدِّم لحم حمل رضيع لا مثيل له.

    *

    استأذن الكاهن ليأخذ قسطاً من الرَّاحة في غرفته وانسحب، بقي السَّيِّد دو ماييه وحده مضطرباً واضعاً مرفقيه على الطَّاولة، توقَّف عن سماع التَّفسيرات من رجل الدِّين حين تحدَّث عن السَّفارة، كانت الصَّدمة عنيفة، ميَّز القنصل النَّتائج بجهد كبير، وما إن أصبح بمفرده حتَّى تحرِّر من الأسر وأطلق صرخة مختنقة، هرع إليه أحد الخدم وساعده بالوصول إلى مقعد واسع حيث ارتمى متداعياً.

    في هذه الَّلحظة عادت زوجة الدِّبلوماسيِّ وابنته من حجِّهما عند آل فيزيتاندين وهرعتا نحو البائس.

    كانت السَّيِّدة دو ماييه نادراً ما تخرج من منزلها، حيث كانت لها غرفة مخصَّصة رتَّبت فيها زاوية للصَّلاة ووضعت في باقي الزَّوايا أعمالاً للخياطة والسَّجاد كانت تعمل عليها بالتَّناوب، كانت تنذر لزوجها عبادة خالصة تغذِّي تفاؤلها باستمرار. كانت الزَّوجة المسكينة تتخيَّل الهموم التَّافهة التي تقتصر عليها عادة حياة القنصل أخطاراً مرعبة، لكن السَّيِّد دو ماييه نقلها لزوجته بمبالغة محضة حتَّى يرعبها، كانت تتحضَّر منذ زمن بعيد لاحتمال أن ينتهي كلُّ هذا بمصرعه من دون أن تفكِّر، على الرّغم من ذلك، فيما ستفعله في هذه الحال، انحنت وأخذت تئنُّ، كان عقل ابنتها حاضراً أكثر إذ حلَّت بأصابعها النَّاعمة عقدة القبَّة من الدَّانتيل التي كانت تخنق أباها.

    انسلَّ السَّيِّد ماسيه لداخل الحشد عند رؤيته حالة القنصل، واقترح استدعاء طبيب وهو ما أيَّدته السَّيِّدتان.

    سألت الآنسة دو ماييه بخجل: «نعم، لكن مَن؟».

    قال السَّيِّد ماسيه متردِّداً: «بلاكيه؟».

    اعتدل القنصل صارخاً: «ليس هذا!». ثمَّ جلس منتصباً مُدَّعياً أنَّ كلَّ شيء على ما يرام.

    كان هذا الأثر شبه الإعجازيُّ لاسمه وحده، كان الطبيب بلاكيه جرَّاحاً قديماً لدى البحريَّة وبقي في القاهرة، حيث فشل في قصَّة حب عاشها مع ممثِّلة كوميديَّة، ماتت السَّيِّدة وبقي الجرَّاح. منذ اختفاء آخر طبيب منذ أربع سنوات جدير بحمل هذا الَّلقب على مستوى المستعمرة الإفرنجيَّة في القاهرة، بقي بلاكيه الممارس الرَّسمي الوحيد، للأسف! كانت أساليبه الطَّبيِّة قديمة جدَّاً ومليئة بالثَّغرات، إذ كان يمارس مهاراته بوحشيَّة لم يُرِد أحد الُّلجوء إليه بسببها، فقد سحبت الأمَّة الفرنسيَّة مرضاها المُهدَّدين بسبب عدم كفاءة تدخُّله المروِّع كما يُسحب النَفَس على أمل عدم الاختناق بسببه، من ثَمَّ، لجأ التُّجار والنَّاس العاديُّون أكثر فأكثر إلى أشخاص آخرين؛ دجَّالون ويهود وعثمانيُّون وصيدلانيُّون كان أشهرهم جان باتيست بونسيه، لكن القنصل كان قد منع رسميَّاً أيَّ استشارات عبر هؤلاء المخالفين للأنظمة. كان يجب عليه أن يكون قدوة ويأمل عدم حصول فرصة لاستشارتهم خلال السَّنوات القليلة التي يجب أن يقضيها في مصر، إذ قد يتوجَّه إلى القسطنطينيَّة عند الحاجة إن كان الأمر خطيراً، أمَّا الُّلجوء إلى بلاكيه، فمستحيل.

    هنَّأ الحاضرون بعضهم بمعافاة القنصل

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1