Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الجنود يبكون ليلاً
الجنود يبكون ليلاً
الجنود يبكون ليلاً
Ebook312 pages2 hours

الجنود يبكون ليلاً

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يقرّر "مانويل" بعد عودته إلى الجزيرة التنقيبَ في الماضي لاستعادة تفاصيل مقتل الرجل الذي تبنّاه، كما يحاول التعرّف أكثر على زوجة "خثا"، ذلك الرجل الغامض الذي لم يلتقه إلا لماماً، لكنه ترك أثراً كبيراً في داخله. فـ"خِثا" الرجل الغائب، هو الأكثر حضوراً في الرواية، وحضوره هذا سيقلب مصير حياة شخصياتها، وبضمنهم امرأته، التي تركت إلى غير رجعة حياتها السابقة، ومضت تعيد اكتشاف نفسها بعد لقائها به.
تعمد "آنا ماريا ماتوته" في رواية "الجنود يبكون ليلاً" إلى تجريب أساليب سردية جديدة قوامها خلط أصوات الرواة ليبدو كلام الشخصيات كلّها بصورة أو بأخرى حواراً متصلاً واحداً. ستبقى أطياف شخصيات هذه الرواية الكثيفة وشديدة الحساسية والرقة تلاحق القارئ وتحفّزه على إعادة قراءة الكتاب الذي انتهى قبل أوانه تاركاً الكثير من الأسئلة المعلّقة.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933641610
الجنود يبكون ليلاً

Related to الجنود يبكون ليلاً

Related ebooks

Related categories

Reviews for الجنود يبكون ليلاً

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الجنود يبكون ليلاً - آنا ماريا ماتوته

    الجنود يبكون ليلاً

    رواية

    آنا ماريّا ماتوتِه

    ترجمها عن الإسبانية: علي إبراهيم أشقر

    الجنود يبكون ليلاً - رواية Los soldados lloran de noche

    تأليف: آنا ماريّا ماتوتِه Ana María Matute

    ترجمها عن الإسبانية: علي إبراهيم أشقر

    تصميم الغلاف: نجاح طاهر

    978 - 9933 - 641 - 61 - 0 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2023

    © Ana María Matute, 1969 and Heirs of Ana María Matute.

    جميع حقوق الترجمة محفوظة للناشرين دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأي طريقة دون موافقة الناشرَين الخطية.

    Y9789933641610-1.xhtml

    تمّت ترجمة ونشر هذا الكتاب بدعم من مبادرة أضواء على حقوق النشر التي أطلقها معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2021 والذي ينظمه مركز أبوظبي للغة العربية دون تحمّلهما أية مسؤولية عن محتوى الكتاب أو جودة الترجمة.

    الجنود يبكون ليلاً

    لا الصليب يكفي ولا الطفولة

    ولا مطرقة الجلجلة،

    ولا الذاكرة الملائكية،

    لتدمير الحرب.

    الجنود يبكون ليلاً

    قبل أن يموتوا.

    إنّهم أقوياء ويسقطون صرعى

    على أقدام الكلمات التي تعلّموها

    في ظلّ أسلحة الحياة.

    إنّهم أرقام مُحِبّة وجنود،

    وضوضاء مجهولة الأصل، من دموع.

    سَلڤاتوري كوازيمودو Salvatore Quasimodo

    I الرمل

    رجل كان يُدعى خِثا

    في أواخر عام 1934 وصل إلى الجزيرة ذات يومٍ ماطر، ويوم عيدٍ حسب التقويم الكنسي، رجلٌ يُدعى ألِخاندرو ثاركو (وكان الأصدقاء ومعارفه وحتّى أعداؤه يدعونه باسم خِثا)، جاء بمهمّة لمراقبة أنشطة الحزب قليلة النجاح في تلك المنطقة. وكان خثا رجلاً طويل القامة ونحيلاً، وشعره أشيب قبل الأوان، وعيناه زرقاوين. وقد عرّف نفسه إلى أشخاص قليلين جدّاً: إلى خوسِه تارونخي، وإلى الأخوين سيميون وزكريّا. لم يأتِ بغاية أن يكون من النشطاء: وإنّما ببساطة لكي يحلّل ويكتب تقريراً إلى اللجنة المركزية في مدريد بهدف التخطيط لزيادة الأنشطة. ولمّا انفجرت الحرب بعد عام من ذلك ونيّف، سقط في الدفعات الأولى خوسِه تارونخي والأخوان سيمون وزكريا كلاهما. وبعد مدّةٍ ما أرسل رسائل إلى اللجنة المركزية بواسطة رجل كان عائداً إلى بلده ويدعى هربرت فرانز. طلب فيها تعليماتٍ ورجالَ ارتباط. وبعد وقت لاحق وصل إلى الجزيرة عمّال مراجل وبحّارة وخدم قوارب، جاؤوا من المرافئ الإيطاليّة وأقاموا اتّصالاً مع ألِخاندرو ثاركو.

    ولعلّ أحد رجال الارتباط هؤلاء باغتته الشرطة. فلربّما أقام طاقماً للحراسة في الميناء حيث كانت تُعقد الاجتماعات أخيراً. ولقد داهمتهم الشرطة. فسُجن ألِخاندرو ثاركو، تحديداً في اليوم الخامس من شباط عام 1937. كانت الشمس ما تزال تسطع، وتنطلق بعض قوارب صيد السمك. وكانت النساء يبسطن الشِّباك على الرمل. وكان الماء يبدو هادئاً وديعاً كأنه حيوان راقد.

    - 1 -

    كلّ الأشياء التي كانت تثير مشاعره أخذت تسقط، كمطرٍ من الرمل، يخلِّفه جافّاً لم يُمسّ. إنّما يُحسّ به كالغرانيت يُرخي بثقله عبثاً على الأرض. وعلى الجانب الآخر من النافذة كان الخريف بالمرصاد والصيف يموت باهتاً رطباً. وثمّة نارٌ غير منظورة تُلهب جدران البيوت بعيداً عن هنا.

    «أَجِبْ، يا بُنيّ!» - كرّر رئيس الدير.

    ونظر إليه مانويل أوّل مرّة.

    - «ليس لديّ ما أقول».

    ولقد فوجئ بصوته ذاته. وكان يُدرك أنّه طليق، وأنّ كلّ ما يحيط به له جمالٌ بعيد: كان شيئاً منسيّاً عفِناً كأوراق الشجر الساقطة. والدير هو الدير المعهود دائماً. وهناك في الخارج السماء الشاحبة ذاتها. كرّر رئيس الدير اسمه مرّة أخرى: «مانويل، مانويل، يا بُنيّ!».

    ووضع يده على كتفه. ولمّا التفت برأسه جانباً نظر إليها. وفي تلك اللحظة، وبسبب ذلك الاحتكاك الخفيف اشتعل فيه غضبٌ ضئيل قاسٍ كأنّه ومضةٌ أخيرة. وكانت كلمات رئيس الدير ما تزال تطفو أمام عينيه كنيران عارضةٍ هروبة، وذوات زكزكة:

    (لقد مات خورخِه دِ صون مخور. وخورخِه دِ صون مخور كتب وصيّةً ويعترف فيها أنّك ابنٌ له، ووارثٌ شرعيّ لبيته وأملاكه كلّها، ويطلب منك أن تحضر مراسم جنازته. وبذلك أصلح خورخِه دِ صون مخور خطأه آخر الأمر).

    «لقد قتلوا والدي منذ مدّة» -قال مانويل- «ولا أعي شيئاً آخر الآن».

    وعَبَر النافذةَ المفتوحة عصفوران صاخبان، وبدا على رئيس الدير أنه قد جفل.

    - «لكن، يا بُنيّ، يا بُنيّ...».

    (أنا وجدت جسمَ رجلٍ محطّماً ومقطّع الأوصال كأنّه دمية مهرّج كبير وحزين ومُغربل بالرصاص على الرمل. وظهرت الدمية الكبيرة، المهرّج الأسيان فجأةً جليّاً واضحاً عند قدميّ بكلّ تخشّبه، إنّه المسكين خوسِه تارونخي الذي وهبني نسبته، صارخاً على الأرض بملامات خُرس أليمة. إنّه جثمانه المُهان. حتّى لم يستطع الحقدُ أن ينقذه وسط موته. فلقد ساوره الخوف أيضاً في اللحظة الأخيرة. مسكين خوسه تارونخي. لقد قطعوا بغتةً وبفظاظة خيوطه كلّها، حتى الحقد لم يستطع أن يمنحه القوى لكيلا يموت مُقتنَصاً كالأرنب وهو يفرّ عبر الأرض الركامية تحتُ). وكان يسيطر عليه الآن الغضب الذي يبدو مشتعلاً في الخارج، في شمس أصبحت غير موجودة، يسيطر عليه، على مانويل (عليّ أنا، الفتى المسكين كما كنت دائماً، عليّ أنا الشيطان المسكين المُقْتَنَص أيضاً كما حالي دائماً. مُقْتَنَص هي الكلمة الملائمة. والصورة تلاحقني، ذكرى خوسه تارونخي، وفمه وعيناه المفتوحتان بشكلٍ قاسٍ، ودمه الذي جفَّ على قميصه وهو منبطح على الرمل باحثاً عن ملاذ عند بطن القارب. أنا لم أنسَه).

    «قُتل منذ فترة بعيدة» -ألحَّ. ولكنّ صوته رنّ الآن ليّناً لا نكتة فيه- «ولا أدري من أُكرّم في مراسم جنازته».

    وزادت يد رئيس الدير من ثقلها على كتفه. كانا جالسين كما فعلا مرّات كثيرة من قبلُ، أحدهما إزاء الآخر، بين الجدران المطليّة بالكلس، وتحت صليب الأرز الكبير. (مانويل، السيّد دِ صون مخور يكرمك بتقديره لك. لقد أرسل إليك اليوم رزمةً جديدة من الكتب. فاشكر الله لإكرام هذا السيّد النبيل لك كثيراً!). وانطلقت سخرية متمرّدة وطفلية كانت ككرة طفل، صغيرةٍ تقفز من ركن إلى ركن.

    - «كنت طيّب القلب دائماً، يا مانويل. أنا لم أفقد ثقتي بك قطّ، وأنت تعلم ذلك».

    فبحث مانويل عن عينيه بفضول بارد. (أنا لا أعرف هذا الرجل). هو رجلٌ ذو عينين بنيّتين مشعّتين في وجهه الضامر، مع باقة من الغضون وأعشاش الزمن في ما حول فمه. وكان ينحدر بدءاً من ذقنه خطّان عميقان تقطعهما ياقة الثوب الكهنوتي.

    - «كذلك أيضاً لمّا أُخذت إلى الإصلاحيّة؟».

    «كلّنا نكفّر عن خطايا الآخرين» -قال رئيس الدير- «كلّ المُختارين: ألا تتذكّر يا مانويل؟ ألم يكن ذلك جميلاً، يا مانويل؟! تذكّر نفسك ذاتها، هنا في هذا المكان، يا بُنيّ. لمّا كنت أقول لك: ربّما اختارك الربّ لتطهّر آثام الأرض!. أجل، يا مانويل. لقد كنت صالحاً دائماً!».

    (هو رجلٌ مجهول. ولقد كنت آنَسُ بالزنزانة البيضاء وتمثال المسيح والأعشاش الفارغة المتدلّية من الطنف أكثر مما كنت آنسُ بهِ). وكان يصّاعد ذهولٌ طويل يغزوه صياحُ العصافير وأصوات فتيانٍ ورائحة ورق شجر محروق. (لكنّ أبي مات ولقد التقطته عن الأرض. مسكين خوسِه تارونخي، لقد أعطاك الموت وزنك الحقيقي!).

    وأخذت نار أيلول اللامنظورة تُلهب غرف الدير، وأوراق الشجر المخمليّة التي لا تموت كأنها غناء الأرض، الأصمّ.

    - «أنا أتحدّث عن أبيك الحقيقي، يا مانويل. شكراً لله، يا بني، أنْ أصبح منصفاً. لقد أخرجتُك من الإصلاحيّة، وأوكّد لك أنّك لن تعود إليها أبداً. حضِّر نفسك لتكون جديراً باسمه!».

    وأوقفت ابتسامة مانويل كلماته.

    «أبي اغتاله الأخوان تارونخي قريباه» -كرّر بعناد خبيث- «ولقد عُدَّ هذا الرجل أبي. وقد حملته في قارب دونيا براكْسِدِس ونقلته إلى البيت. ولقد غسلت أمّي جثمانه ودمه وسرّحت أيضاً شعره. وأنا أتذكّر ذلك جيّداً جدّاً. إذْ ذهبَتْ إلى الخزانة وأخرجت قميصاً نظيفاً وخلعت حذاءه. وفي اليوم التالي دفنّاه نحن أنفسنا بعيداً بحيث لا يُلحق الإهانة بأحد».

    فخفّض رئيس الدير عينيه وعقد يديه فوق بطنه، وظهرت رعشةٌ خفيفة على أرنبتي أنفه.

    «انزل، يا مانويل!» -قال- «خارج هذه الجدران التي لا يمكن لأيّ امرأة أن تدخلها، هناك أحدٌ ما بانتظارك. اذهب وكن رؤوفاً بها!».

    (رؤوفاً بها). فمنذ مدّة من الزمن، لا يدري منذ متى، إن كان منذ ذلك البطن ذاته حيث أخذ يضطرب، أو منذ الساعة الآن ذاتها التي انتهى فيها رئيس الدير إلى القول: «كن رؤوفاً بها»، أخذ يغزوه كرهٌ غامض، كره قديم خفيّ (كالكره الذي يجب أن تشعر به الأرض نحو آلاف الأشكال التي تؤذيها وتعذّبها وهي التي تمدّها بالغذاء في آن واحد). كره سلبيّ ومن غير غضب ولا يخلو من حبّ كان يجعله يتبدّل. فقد رأى الأشجار تبدّل أوراقها وتتخلّى عن قشرتها. وهو أيضاً راح يتخلّى ببطء وبشكلٍ لا محيد عنه عن طفولته البريئة، وعن آخر سُباتٍ من الحلم. (هو هذا الكره السلبيّ من غير حقد وحتّى من غير نتائج، الكره الذي قد يسبق الحبّ البشري أو البغض، والذي يطلع بدقّةِ انتظام النجوم السحري أو العشب). هي التي لا يمكن أن تُلام على شيء بدءاً من ضميرها البشري، لكنّه هو ذاته، لحماً وعظاماً وضميراً، ملامةٌ حيّة وخافقة. (أنا لست فتى صالحاً، بل أنا فتى ضالّ وغير منضبط، لا يتبع القوانين ولا التكريم، ولا الحِداد ولا الفرح ولا الغطاء المنطقيّ والمحتشم الذي يغطّي الأطهار الذين يعيشون هنا. أنا لست فتى صالحاً. بل أنا متمرّد على العنف وعلى الكذب الذي يغطّي بشكلٍ جيّد على ذنوب الأرض والعار والتعاسة. أنا لست فتى صالحاً، بل أنا تلميذٌ وقحٌ للحقيقة ونبّاش لا أخلاقيّ).

    منذ مدّة طويلة لم يكن يبكي، وإن لم يبكِ قطّ تقريباً (لكن، نعم، بكيتُ ذات مرّة أتذكّرها جيّداً. لمّا جاء السنونو على غير توقّع إلى الباب المفتوح صارخاً أنّ الحياة أخذت تستيقظ، وأنا ما كنت أعلم ذلك، وقد كان لي من العمر عشرة أعوام فقط. وكنت أقرأ قصصاً تزعم أنها تحدّد الحياة الحقيقية، خارج جدران الدير؛ وكنت أرتدي عباءةً بنّيّة، فيما الأطفال الآخرون يسخرون من شعري الأحمر، شعر اليهودي. فقال لهم رئيس الدير: والمسيح كان شعره أحمر أيضاً، فخرسوا وشعرت بالزهو بشكلٍ أخرق ككرة تُوشِك أن تنفجر بين السحب، كطُعم الصلاح والطيبة، كسمكة حمقاء سمينة تبلع دودة هلاكها ذاته). فنظر إلى رئيس الدير الرجل الذي ربّما احترمَه حتّى تلك اللحظة أكثر ما احتُرِمَ في حياته. وراح رئيس الدير يتحدّث الآن عن موت أبيه. يتحدّث عن الموت. (لكن، لا إنسان محترم، حتّى ولا القدّيسين، ولا المجانين ولا الأطفال الذين يلعبون بالحجارة قرب الآبار وهم يصيحون صيحة الحرب ببراءة قاسية، متعطّشين إلى بطولة، بطولة لا يعرفونها. لا أحد يستحقّ الاحترام حتّى هذه اللحظة، وإن أُعلن عن السلام والحبّ والحياة الحقيقية). (الحبّ، وأيّ حبّ؟). كلّ شيء أمسى فُتاتاً وكلّ شيء أصبح جافّاً ومطراً من رمل، يسقط على المرء ذاته وله صرير من غير دَوْس عليه، ولا حرق ولا رطوبة ولا أثرٍ ما. رمل يعود إلى الرمل ويظلّ هكذا ممدّداً ذاهلاً يسمح بأن يُلتهَم ويعود إلى الشاطئ بانتظام مثير للغيظ. (كان رئيس الدير يقول: الموت هو القيامة. وأنا ما كنت أعرف شيئاً عن الحياة والموت، اللهمّ إلّا احتراماً غامضاً خجولاً لأهل بيتي: لخوسه تارونخي الذي لا يحبّني، ولأمّي وللطفلين توميو وماريّا. موت وقيامة، ماذا كانا يعنيان حينئذٍ؟ إنّهما شبحان حارّان وذهبيّان على قشرة الأرض البنّيّة المزروعة بالجذور والحباحب. في وسط الدير نافورةٌ ذات مصاريع عريضة. وكان رئيس الدير يقول: مانويل، الموت هو القيامة! وجاء يوم قيامة المسيح، ودُقّت الأجراس بقوّة، وجاء الرهبان يلبسون ثياباً طويلة تدفعها الريح، ريح نيسان بعذوبة، ورئيس الدير يحمل في يمناه أوراق الغار القاتمة التي ما تزال تقطر. وأخذ يقبّلني على جبيني، ويقبّل الفتيان الآخرين كلّهم واحداً واحداً، ويقول: المسيح قام؛ وفي جهةٍ ما كانت رائحة الربيع تنطلق مُشربة برائحة العفن. وأخذ الأخ البستاني يكنس أوراق الشجر التي انتزعتها عاصفة غير متوقّعة من الأغصان؛ فكان كلّ شيء ما يزال مشبعاً بالعاصفة حديثة العهد جدّاً. وبدا أنّ البروق ما تزال تختبئ تحت الأرض، كذلك انفجارات السماء البيض الضخمة التي كانت ما تزال آذاننا ونحن أطفال، تستطيع أن تشعر بها. والرعد الذي يروغ ويندفع حتى قعر البحر والجبال وهو يتنفّس تحت أقدامنا العارية في البستان. ويتلألأ جميلاً مفرطاً في حسنه كالكلس في الشمس. وكان يمكن أن تُحفر الأرض فتكشف عن موادّ هلاميّة نتنة، وبراعم حياة ما تزال تدفنها. وعلى العكس منها، كان الدير يعبق برائحة قرفة كحلواء سبت المجد، التي تمتدّ نحوها أيدي الأطفال بصحونهم الفخارية، أطفال من أبناء صيّادي السمك والفلّاحين الذين يرغبون في التعليم على حساب حلق رؤوسهم الصغيرة والغضّ من أبصارهم؛ وكان شيءٌ ما قديم وصوفيّ ينطلق من النافورة في وسط الدير: شيء حلو وعكِر كالبخّور أخذ يفوح أيضاً برائحة العفن مثلُه مثل قلب الأرض. إنّه الربيع. وكنت أستطيع أن أقرأ في الساعة المحدّدة. إذْ كان هو يرسل إليّ كتب رحلاتٍ دائماً، كتب رحلاته، وخرائط بحريّة، وأحلامَه المجنونة بالجزر -كان يعاملني معاملة خاصّة ويُشكر عليها كثيراً- آه، نعم، هي تلك الكتب المحيّرة التي تتحدّث عن طريق التوابل، وتمتطي متن قوافل ليليّة من السفن مشرعة الأشرعة فوق بحر من الرمل عطشان ومتلألئ. وكانت الحياة تجأر كبقرة عجوز في ما وراء حجرات الدير والأطفال الفقراء الذين يريدون أن يكونوا صالحين، وأنا المتزمّل بردائي البنّيّ صرت أقول لنفسي وغصن الزيتون بين أصابعي: القيامة هي المجد والموت هو الحياة).

    ونهض مانويل. (لِمَ لا يُثير مشاعره استحضار الطفولة التي هي بشكلٍ ما سعيدة دائماً؟ إنّها صحراء قاحلة تنتصب أمام عينيّ. وآثار خُطاً على الرمل وأشباح خطاً ولّت، وسهلٌ أن تذهب مع أوّل هبّة ريح).

    «لمّا أُخِذتَ إلى الإصلاحية» -قال رئيس الدير- «قلتُ لنفسي: إنّ شيئاً ما رهيباً قد حدث، شيئاً حتّى لم أستطع أن أصل إليه. لكنّ طرقات الله، يا مانويل، يا بُنيّ، تتقاطع دائماً، إنّها دروب من الظلمات ومن النور لا نستطيع نحن البشر البؤساء الفانين أن ندركها مطلقاً».

    وكان الصوت ذاته مرّة أخرى، والمفاهيم ذاتها، والحركات ذاتها. (كلّ شيء قديم، ضائع ومعدوم القيمة).

    إنه رمل. إنه عدم.

    «انزلْ!» -قال رئيس الدير- «اعبرِ الباب واخرج! أمّك عند سويحة الكنيسة بانتظارك. كن رؤوفاً بامرأة بائسة يا مانويل!».

    - 2 -

    إنها امرأة مسكينة طال بها العمر (وذوى جمالها وقد دفعت ثمنه بشكلٍ فظّ)، ورأسها مغطّى بمنديلٍ أسود. ولربّما لم تكن سنتان بكافيتين لكي يعود شعر امرأة إلى جماله الأوّل بعد أن حُلق. إنها امرأة

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1