Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

1984
1984
1984
Ebook477 pages3 hours

1984

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

نبذة عن رواية 1984: تُقدّم الرواية وصفًا دقيقًا لما سيكون عليه الحال في عالم يسوده الطغيان، إذ تُعدّ هذه الرواية من أعظم الروايات في القرن العشرين وفيها هاجم أورويل قبول السياسيين الإنجليز لروسيا كحليف تحت حكم جوزيف ستالين متغاضين عن طبيعة الحليف الفاشية.
جورج أورويل / George Orwell: هو روائي، وصحفي، وناقد بريطاني. (1903-1950) ولد في الهند، موتيهاري، وأثرى المكتبة العالمية بأجمل الروايات السياسية الناقدة، حيث أبرز من خلالها وعيه السياسي للواقع المرير الذي عاصره. ومن أهم أعماله كتاب "الحنين إلى كاتالونيا"، و"الخروج إلى الهواء"، إلا أن أشهرها على الإطلاق "مزرعة الحيوان" ورواية "1984".
Languageالعربية
Release dateJun 9, 2024
ISBN9789778694925
1984

Read more from جوروج أورويل

Related to 1984

Related ebooks

Related categories

Reviews for 1984

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    1984 - جوروج أورويل

    الفصل   السادس

    كتب وستون في مذكراته:

    " حدث ذلك منذ ثلاث سنوات، وكان الوقت مساءً وقد خيم الظلام، وفي إحدى الشوارع الضيقة بجوار إحدى محطات القطار الكبيرة، عند حائطٍ إلى جانب باب، وتحت ضوء قنديل ينبعث منه نور ضئيل، كانت تقف امرأة ذات وجهٍ صغير وضعت عليه طلاءً كثيفًا من النوع الذي يعجبني في بياضه الذي يشبه القناع، وشفتان حمراوان لامعتان – فنساء الحزب لا يطلين وجوههن أبدًا – وكانت الشوارع حينها خالية من الناس ومن شاشات الرصد أيضًا، مدت المرأة يدها وقالت:

    «دولاران..».

    توقف ونستون قليلًا، فقد صعب عليه بواسطة الكتابة.. أطبق جفنيه وضغط عليهما بأصابعه محاولًا أن يمحو ذلك المنظر الذي ظل مطبوعًا في مخيلته. وطغت عليه رغبة جامحة في أن يصيح بأعلى صوته متفوهًا بكلامٍ بذيء، أو أن يضرب رأسه بالحائط، ويركل الطاولة ويلقي بالمحبرة خارج النافذة... أو أن يأتي بأي عملٍ من شأنه أن يولد عنفًا، أو يحدث ضوضاء أو يسبب ألمًا، عسى أن يطمس ذلك تلك الذكرى التي كانت تؤلمه.

    ثم أخذ يردد بينه وبين نفسه: «إن ألد أعدائك هو جهازك العصبي، وما يعتمل في نفسك من توتر قد يورطك في عملٍ لا تحمد عقباه».

    ثم أخذ يردد بينه وبين نفسه: «جهازك العصبي هو ألد أعدائك، وقد يؤدي توترك هذا إلى ما لا يحمد عقباه». تذكر رجلًا مر به في الشارع من عدة أسابيع، كان مظهره عاديًا جدًا عضوًا في الحزب في الخامسة والثلاثين أو الأربعين من عمره، طويل القامة، نحيل الجسم يحمل حقيبة صغيرة، لم يفصل بينهما سوى بضعة أمتار، وعندما رأى الجانب الأيسر من وجه الرجل يتشنج وينقبض على نحوٍ مفاجئ، وتكرر ذلك مرة أخرى عندما مر كل منهما بالآخر، كانت مجرد رجفة أو ارتعاشة سريعة تشبه حركة مغلاق الكاميرا، وكان من الواضح أن تلك الحركة عادة عنده. خطر في باله حينها أن ذلك الرجل المسكين قد انتهى أمره، فالمخيف في الأمر هو أن تلك الحركة يمكن أن تكون مجرد حركة لا إرادية. أما الأكثر خطرًا من ذلك هو أن يتكلم المرء أثناء نومه، ما من وسيلةٍ للاحتياط في تلك الحالة.

    استجمع شجاعته ثم عاد إلى الكتابة:

    «مضيت معها عبر البوابة.. ثم اجتزنا الساحة الخلفية إلى مطبخٍ في قبو، حيث كان هنالك سريرٌ قرب الحائط، وعلى الطاولة قنديلٌ خفض نوره إلى أدنى درجة وهي...».

    ضغط علي أسنانه، وتمنى أن يستطيع أن يبصق، وفي تلك اللحظة وهو مع المرأة في المطبخ، تذكر زوجته كاثرين، لقد كان ونستون متزوجًا في وقتٍ ما، وربما يكون لا يزال متزوجًا حتى الآن، فعلى حد علمه أن زوجته لم تمت بعد، بدأ يشم من جديد رائحة الطعام الساخنة المنبعثة من المطبخ، رائحة تختلط فيها رائحة البق القذرة، ورائحة الملابس القذرة والعطر الرديء، ومع ذلك كان مغريًا، فلا يوجد امرأه مطلقًا في الحزب تستخدم العطر، وحتى لم يكن ممكنًا تصور أنها تفعل ذلك، بل كان هذا السلوك مقتصرًا على عامة الناس، بل كانت رائحة العطر مرتبطة في ذهنه بالجنس ارتباطًا وثيقًا، دون أن يعرف سببًا لذلك.

    كانت ممارسة الجنس مع تلك المرأة هي هفوته الأولى منذ سنتين أو أكثر.. فمن المؤكد أن مجامعة المومسات كانت من المحظورات، لكنها كانت من المحظورات التي قد يستطيع المرء مخالفتها من حينٍ لآخر، إنها مغامرة محفوفة بالمخاطر، لكنها ليست مسألة حياة أو موت، فإذا ما تم القبض على شخصٍ مع واحدة منهن، فيحكم عليه بخمس سنوات فقط من الأشغال الشاقة، هذا إن لم يكن مُدانًا بجرمٍ آخر، فليس شيئًا صعبًا بشرط ألا يتم القبض عليك متلبسًا بهذا الجرم، كانت أحياء الفقراء ممتلئة بنساءٍ على استعدادٍ أن يبعن أنفسهن، فكان يمكن شراء إحداهن بزجاجةٍ من الخمر المحظور على عامة الناس، فلقد كان الحزب يشجع الدعارة بشكلٍ غير معلنٍ لأنها متنفس الغرائز التي لا سبيل لكبتها نهائيًا، لم يكن الحزب يعير للدعارة أي اهتمام، طالما تجري مع نساء من الطبقة المحتقرة المسحوقة في الخفاء، ومجردة من أي شعورٍ حقيقي باللذة، بل الجريمة التي لا تُغتفر فهي ممارستها بين أعضاء الحزب.. بالرغم من أن المتهمين في حملات التطهير كانوا مُجبرين دون استثناء على الاعتراف بجرائمٍ من هذا النوع، إلا أن تصوّر أن الأمر قد حدث فعلًا كان أمرًا صعبًا.

    لم يكن هدف الحزب مجرد منع الرجال والنساء من تكوين ولاءات فيما بينهم، قد يتعذر السيطرة عليها. لقد كان هدفه الحقيقي غير المعلن هو تجريد العملية الجنسية من كل لذة. إذ ليس الحب هو العدو بقدر ما هي الشهوانية، سواء كانت في إطار الزواج أو خارجه. وكل الزيجات بين أعضاء الحزب كان يجب لكي تتم أن تحصل على موافقة لجنة تشكلت خصيصًا لهذا الغرض. وبالرغم من أنه لم ينص صراحة على ذلك المبدأ أبدًا، فإن الإذن بالزواج كان يحجب دائمًا، إذا ما أظهر الشخصان المعنيان أي ميولٍ جنسية متبادلة فيما بينهما. فالغاية الوحيدة المعترف بها للزواج هي إنجاب الأطفال لخدمة الحزب. وكان ينظر إلى العملية الجنسية على أنها عملية تافهة تدعو للاشمئزاز والتقزز، تمامًا كتعاطي حقنة شرجية. ولم يكن يعبر عن ذلك بكلماتٍ صريحة، وإنما بطريقةٍ غير مباشرة حيث كان ذلك يغرس في كل عضو في الحزب منذ طفولته المبكرة. ولذلك أيضًا أُنشِئَت منظمات مثل رابطة الشباب المناهض للغريزة الجنسية، التي كانت تدعو للعزوبة الكاملة لكلا الجنسين.. فكل الأطفال يجب إنجابهم عبر التلقيح الصناعي، وتسمى هذه العملية في اللغة الجديدة (أرتسيم)، على أن يعهد بهم بعد ذلك لمعاهد عامة.

    كان ونستون يدرك تمامًا أن هذا لم يكن مقصودًا بشكلٍ جَدي وكُلي، لكنه يتماشى مع أيدولوجية الحزب الذي كان يحاول وأد الغريزة الجنسية، وإن تعذر ذلك فتشويهها وتحقيرها، ولكنه لم يعلم لماذا كل ذلك، ولكن بدا له أمرًا طبيعيًا أن يكون الأمر كذلك، وبقدر ما كان الأمر متعلقًا بالنساء، فإن جهود الحزب كانت ناجحة إلى حدٍ كبير.

    تذكر كاثرين مرة أخرى، فقد مرت تسع أو عشر سنوات منذ انفصالهما، أو ربما إحدى عشرة سنة، وتعجب من أنها لا تخطر على باله إلا نادرًا، فكانت تمر عليه أيامٌ كثيرة متواصلة ينسى فيها تمامًا أنه كان متزوجًا ذات يوم، لم يبق معها سوى خمسة عشر شهر، فلم يكن الحزب يسمح بالطلاق، لكنه كان يشجع على الانفصال في حالة عدم الإنجاب.

    كانت كاترين فتاة طويلة القامة، ناعمة الشعر، هيفاء القد، رشيقة الحركة، ذات وجهٍ لا يتأثر بشيء، وأنف معقوف، كان وجهها يوحي بالنبل لأول وهلة، لكن إذا حدقت فيه لا تجد شيئًا.. بعيد زواجه بها ومعرفتها عن قرب، وأدرك أن عقلها هو الأكثر بلادة وجهلًا وتفاهة إلى حدٍ لم يعرف له مثيل. فلم يكن في عقلها سوى الشعارات، ما من حماقة واحدة على الإطلاق ليست بقادرة على ابتلاعها ما دام الحزب هو الذي يقدمها.

    «الكاسيت البشري» هكذا كان يلقبها بينه وبين نفسه. ومع ذلك كان بمقدوره أن يتجشم العيش معها لولا علة واحدة هي الجنس.

    كان يُخيل إليه أنها تفزع منه ويتيبس جسدها كلما اقترب منها، فإذا احتضنها فكأنما يحتضن تمثالًا خشبيًا شُد بمفاصل. والغريب أنه كان يشعر وهي تشده إليها، أنها تدفعه بعيدًا عنها في الوقت نفسه بكل قوتها، وكانت صلابة عضلاتها تساعد على نقل ذلك الانطباع إليه. وأخيرًا تستلقي مغمضة العينين فلا تقاوم ولا تتجاوب، بل تستسلم.. وهو الأمر الذي كان في أوله مربكًا له بشدة، ثم تحول بعد فترة إلى شيءٍ فظيع، لو أنها فضت العزوف عن الجنس، لكان ونستون رضي بنصيبه وتحمل العيش معها، لكن العجيب أن كاترين هي التي رفضت ذلك بنفسها متعللة بالرغبة في إنجاب طفل إذا استطاعا لذلك سبيلًا. ومن ثم استمرت العملية تتكرر بانتظام مرة كل أسبوع كلما كان ذلك ممكنًا، كما أنها اعتادت أن تذكره بها في الصباح كشيءٍ يتعين القيام به في المساء ولا يجوز نسيانه. وكانت تطلق على هذه العملية اسمين: أولهما «صناعة طفل»، والثاني «واجبنا تجاه الحزب»، وإنه لحق أنها استعملت هاتين العبارتين. وسرعان ما بات ينتابه شعورٌ بالرعب الشديد كلما حان الوقت المضروب لذلك. لكن من حسن الحظ لم تثمر علاقتهما طفلًا، ولذا فقد كفت عن المحاولة، وسرعان ما انفصلا بعد ذلك.

    تنهد ونستون على الفراش.. وفي الحال وبدون أي نوع من المداعبات وبطريقة في منتهى اللامبالاة والخشونة رفعت تنورتها. وأنا...

    ووجد نفسه واقفًا هناك في ضوء المصباح الخافت وقد امتلأت خياشيمه برائحة البق والعطر الرديء، وفي قلبه شعورٌ بالفتور والانهزام، ممزوجًا بالتفكير في جسد كاترين الأبيض، الذي تجمد إلى الأبد تحت تأثير قوة الحزب المخدرة. لماذا يجب أن يكون الأمر بهذا الشكل دائمًا؟ لماذا لا تكون له امرأته هو بدلًا من هذه «النزوات» القذرة كل بضع سنين؟ لقد كان وجود علاقة حب حقيقية أمرًا لا يمكن أن يخطر ع البال، فقد كانت نساء الحزب متشابهات وكانت العفة مغروسة فيهن كولائهن للحزب. فمن خلال إعدادهن في عمرٍ مبكر، وممارسة الرياضة واستخدام المياه الباردة والتفاهات التي كانت تُغرس في عقولهن في المدارس، وفي رابطة الجواسيس ورابطة الشباب، والمحاضرات والعروض والأناشيد والشعارات والموسيقى العسكرية، كل هذا كان له تأثير في انتزاع الأحاسيس الطبيعية منهن تمامًا. كان المنطق يقول إن هناك استثناءات لذلك، لكن قلبه لم يصدق ذلك، فجميع نساء الحزب محصنات كما أراد الحزب لهن. فكان كل ما يريده هو إزالة حصن الفضيلة ولو لمرة واحدة في حياته، ولأن ممارسة الجنس على طبيعتها أصبحت عصيانًا، فمجرد الرغبة الجنسية تصبح جريمة فكر، وحتى إذا تمكن من ايقاظ رغبة كاترين من سُباتها العاطفي لكان هذا إغواءٌ لها رغم أنها زوجته.

    وإن كان لابد من كتابة القصة فقد أخذ القلم وكتب:

    «رفعت فتيلة المصباح لمزيدٍ من النور. وعندما رأيتها في الضوء...

    فبسبب الظلام الدامس أصبح ضوء المصباح شديد السطوع.. لقد استطاع أن يرى المرأة فعلًا للمرة الأولى، كان قد تقدم تجاهها خطوة ثم توقف مليئًا بالشهوة والذعر معًا. كان مدركًا للمخاطرة التي وضع نفسه فيها بالمجيء إلى هنا إلى حد الألم. وكان من الممكن أن تلقي الدوريات القبض عليه أثناء خروجه من هنا، فلربما ينتظرونه بالخارج في تلك اللحظة، فإن خرج حتى دون أن يفعل ما جاء من أجله..

    لابد من كتابة ما جرى، يجب الاعتراف به.. اكتشف عل ضوء المصباح أن المرأة كانت عجوز، وأن الطلاء على وجهها كان كثيفًا إلى حدٍ جعله موشك على التشقق كأنه قناعٌ كرتوني سيقع بمجرد ملامسته، كما أن الشيب قد خط شعرها، ما كان يبعث عن الخوف فعلًا هو عندما فتحت فمها قليلًا فكشف عن فراغ أسود ليس فيه شيء، فقد كانت بلا أسنان.

    عندما نظرت إليها في الضوء رأيت أنها عجوز لا يقل عمرها عن الخمسين عامًا، لكني مضيت قُدمًا وباشرتها كالمعتاد».

    ضغط بأصابعه على عينيه مرة أخرى. لقد أتم أخيرًا كتابة الحكاية، ولكن دون أن يشعر بأي فرق، فلم يكن هذا علاج ناجح، فلم يخلصه من رغبته الشديدة في الصياح بأعلى صوته مُطلقًا أقذر الكلمات.

    الفصل   السابع

    وكتب ونستون: «إن كان هنالك من أمل، فالأمل يكمن في عامة الشعب».

    إن كان هناك أمل، فلابد أن يكون كامنًا في عامة الناس، فالقوه التي يمكن أن تدمر الحزب تكمن في هذه الكتلة البشرية التي لا يُلتفت إليها، والمهمشة وتمثل 85% من تعداد شعب «أوقيانيا»، فلا يمكن إسقاط الحزب من داخله، فأعداؤه إن كان له أعداء، لا يمكنهم أن يجمعوا صفوفهم أو حتى يتعارفوا، حتى لو كانت أسطورة «الأخوة» موجودة، بل ربما تكون موجودة فعلًا، فمن غير الممكن تصور أن يستطيع أكثر من اثنين أو ثلاثة من أفرادها أن يجتمعوا معًا، فالتمرد يُعرف من نظرة العين أو نبرة في الصوت، أو في الغالب بكلمة يُهمس بها من حينٍ لآخر.. أما عامة الناس إذا استطاعوا أن يدركوا قوتهم، فلا حاجة لهم إلى التآمر، فليس عليهم إلا ان ينتفضوا فيهزون أنفسهم كما يهز الحصان جسمه لطرد الحشرات عنه، فيمكنهم أن يحيلوا الحزب حطامًا بين عشيةٍ أو ضُحاها إن أرادوا ذلك. فلابد أن يخطر ذلك لهم عاجلًا أم آجلًا؟ ومع ذلك...!

    تذكّر دوي صياح لمئات الأصوات «أصوات نساء»، من شارعٍ جانبي على مقربةٍ منه، عندما كان يسير ذات مرة في شارعٍ مزدحم.. لقد كانت صرخة غضب ويأس قوية وعميقة وعالية، أخذت تدوي ويكأنها صدى أجراس تدق.. قفز قلبه من مكانه، وقال في نفسه: «لقد بدأ الأمر! إنه تمرد! لقد انفلتت عامة الشعب أخيرًا من عُقالها»، وحينما وصل لهذا المكان وجد حشدًا من الغوغاء، يبلغ عدده مائتي وثلاثمائة امرأة متجمهرة في السوق حول الأكشاك، كانت وجوهٌ مأساوية، كوجوه ركاب سفينة موشكة على الغرق، غير أنه في هذه اللحظة تحول هذا القنوط الجماعي إلى مشاجراتٍ فردية بين المتجمهرين، واتضح له أن أحد الأكشاك كان يبيع أواني الطبخ المعدنية، وقد كانت مُصنعة من الصفيح رديئة النوع ورخيصة، لكن الحصول على أواني الطهي دائمًا ما كان أمرًا صعبًا أيًا كان نوعها، وقد توفرت فجأة الآن. وكانت النساء الفائزات بالأواني يحاولن الخروج بها وسط تدافع باقي النساء وتزاحمهن. في ذلك الحين أخذت عشرات أخريات في الصياح حول الكشك متهمات البائع بالانحياز واخفاء الأوعية. وتعالت الصيحات من جديد حينما ظهرت امرأتان منتفختان، إحداهما ذات شعرٍ منسدل، ممسكتين بقدرٍ واحد، وكانت كلٌ منهما تحاول انتزاعه من الأخرى، وفي أثناء تجاذبهن للقدر، انخلع مقبض القدر في يدٍ واحدة منهما. كان ينظر إليهما ونستون باشمئزاز، لكنه تعجب للحظة من تلك القوة المخيفة التي ظهرت جلية في تلك الصرخة التي انطلقت من حناجر بضع مئات! فلماذا لا يصرخن مثل هذه الصرخات لشيءٍ ذو قيمة؟

    ومن هنا عاد إلى مذكرته وبدأ يكتب:

    «لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى وإن ثاروا»..

    فكر ونستون في أن من المؤكد أن هذا لابد أن يكون مأخوذًا من أحد كتب النصوص التي وضعها الحزب. كان الحزب دائمًا ما يزعُم أنه حرر عامة الناس من العبودية، فقد كانوا يقعون تحت أبشع صور الاضطهاد من الرأسمالين قبل الثورة، وكانوا يُجلدون بالسياط ويجوعون، وكانت النساء يُجبرن على العمل في مناجم الفحم.. (والحقيقة أنهن ما زلن يعملن في مناجم الفحم!). وكان الأطفال في سن السادسة يباعون إلى المصانع، لكن في الوقت ذاته وعلى نحوٍ يتفق مع مبادئ التفكير المزدوج في الحزب، كانت تعاليم الحزب تقول إن عامة الشعب طبقة متدنية بالفطرة، ولابد من إبقائهم خاضعين كالحيوانات، عن طريق تطبيق بعض القواعد البسيطة، وما كان يُعرف عن العامة سوى القليل، وما كان هناك ما يدعو لمعرفة المزيد عنهم، فتصرفاتهم ليس لها أهمية طالما يعملون وينجبون، فقد تُرك لهم الحبل على الغارب كقطيعٍ من الأبقار التي ترعى في سهول (الأرجنتين)، يعيشون حياة طبيعية بالنسبةِ إليهم، نمط حياة يشبه ما كان عليه أسلافهم، فقد كانوا يولدون ويترعرعون في الأزقة الفقيرة، وفي سن الثانية عشرة يذهبون إلى العمل، ثم يمرون بمرحلة عابرة هي ذروة الجمال والرغبة الجنسية، ثم يتزوجون في العشرين، ويبلغون أواسط عمرهم في الثلاثين، ويموت معظمهم في الستين، كان كل ما يشغل بالهم هو العمل الشاق، ورعاية الأطفال، والعناية بالمنزل، والمشاجرات التافهة مع الجيران، ومشاهدة الأفلام، ولعب الكرة، وشرب الخمر، أضف إلى ذلك.. كانت المقامرة تسيطر على عقولهم، ولذلك لم يكن من الصعوبة السيطرة عليهم. فكان يكفي زرع القليل من شرطة الفكر بينهم، يقومون بنشر الإشاعات المغرضة، لكي يرصد الأفراد القلائل الذين يُعتقد أنهم مصدر خطر ليتم إزالتهم، لكن دون اللجوء لأي محاولة تجعل أيدولوجية الحزب عقيدة لهم، فلم يكن مرغوبًا أن يكون لديهم أي مشاعر سياسية، ولا يحبذ أن يكون لديهم سوى ذلك النوع من الوطنية البدائية التي يمكن استغلالها عند الحاجة لجعلهم يقبلون ساعات عمل أطول أو مخصصات أقل. بل وحتى عندما ينتابهم شعور بالسخط كما يحدث أحيانًا، فلم يؤد بهم إلى نتيجة لأنهم يعيشون بلا مبادئ عامة، ويركزون غضبهم على تظلمات قليلة الأهمية، فلم يعر انتباههم المخاطر الكبرى، بل إن بيوت معظم عامة الناس لا يوجد بها شاشة رصد للمراقبة، ولم تتدخل الشرطة في شؤونهم إلا نادرًا، لقد كان في «لندن» عددٌ كبيرٌ من الجرائم، فكان فيها عالمٌ كامل من اللصوص، وقطاع الطرق، ومحترفي الدعارة، وتجار المخدرات والمحتالين من كل الأنواع، لكن طالما الأمر مقتصر على عامة الناس فلا أهمية له، فكانوا يتبعون أسلافهم في كل ما يتعلق بالأخلاق، ولم يكن يُفرض عليهم التزمت الحزبي في الحياة الجنسية، وكانت تمر الفحشاء دون عقاب، وكان مسموحًا بالطلاق، ولذلك كان يُسمح لهم بممارسه الشعائر الدينية. وإذا أبدوا رغبة أو حاجة لذلك، فهم ليسوا موضع شك، وكان شعار الحزب في ذلك يقول:

    «عامة الشعب والحيوانات أحرار»..

    انحنى ونستون ليحك الدوالي في ساقه، لقد بدأت تؤلمه من جديد، والشيء الذي دائمًا ما كان يتردد في رأسه هو أنه من المستحيل تصور حقيقة الحياة قبل الثورة، وأخرج من الدرج نسخة من نصوص التاريخ الخاصة بالأطفال، كان قد استعارها من السيدة بارسونز، وأخذ ينسخ جزءًا منها في مذكراته:

    «في الأيام السالفة قبل الثورة المجيدة، لم تكن «لندن» جميلة كتلك التي نعرفها الآن. لقد كانت مكانا بائسًا قذرًا مظلمًا، لا يجد المرء ما يسد رمقه، وكان مئات الآلاف من الفقراء يسيرون حفاة وبلا مأوى، وكان الأطفال اللذين في أعماركم يُجبرون على العمل لاثنتي عشرة ساعة في اليوم من اجل السادة قساة القلوب، فكانوا يجلدونهم بالسياط إذا تباطأوا في العمل، ولا يطعموهم إلا الفتات من الخبز وقطرات من الماء، ووسط هذا الفقر المدقع، كانت هناك بيوت كبيرة وواسعة يسكنها رجالٌ أغنياء يقوم بخدمتهم ثلاثون خادمًا، وكان يُسمي هؤلاء الرجال بالرأسمالين. فكانوا رجالًا سمان ذوي وجوهٍ قبيحة كالصورة التي ترونها في الصفحة المقابلة، ويمكنك عزيزي الطفل أن تراه مرتديًا معطفًا أسود طويل، وقبعة غريبة تشبه مدخنة الموقد (القبعة العالية) كما كانت تسمى، وكان ذلك الزي الرسمي للرأسمالين، ولم يُسمح لأحد غيرهم بارتدائه، وكانوا يملكون كل شيء، وكان الآخرون جميعًا عبيدًا لديهم. نعم قد كانوا يملكون الأراضي والمنازل والمصانع والأموال، وإذا خرج أحد عن طاعتهم، فكانوا يلقوه في السجن ويجردونه من وظيفته ليموت جوعًا. وإذا أراد شخصٌ عادي أن يتحدث إلى رأسمالي، فكان يجب عليه أن يجمع أطراف ثوبه، وينحني خالعًا قبعته ويناديه «سيدي»، وكان يسمى رئيس الرأسمالين بـ «الملك»، و... ».

    كان ونستون يعرف باقي محتوى الكتاب، بما فيه من ذكر للأساقفة في ملابسهم ذات الأكمام الواسعة، ومعاطف القضاة الفاخرة، ومختلف أنواع أدوات التعذيب ومآدب السادة رؤساء البلديات، وعادة تقبيل أقدام البابا، هناك ما لا يجب ذكره في كتب الأطفال، كالقانون الذي يعطي للرأسمالي الحق بأن يُجامع أي امرأة تعمل في مصانعه.

    كيف لك أن تدرك مقدار الكذب في ذلك؟ فمن الممكن أن يكون حال الإنسان العادي الآن أفضل مما كان عليه قبل الثورة، لكن ذلك الاحتجاج الصامت في قرارة نفسك هو الدليل الوحيد على نقيض ذلك، بالإضافة إلى الشعور الفطري بأن الأوضاع التي تعيشها لا تطاق، ولابد أنها كانت مختلفة عما هي عليه الآن.. وكان يفكر في الشيء الذي يميز الحياة العصرية ليس قسوتها وانعدام الأمان فيها، بل العري والانحطاط واللامبالاة.

    فلو نظر المرء حوله وتمعن النظر.. لأدرك أن الحياة لا تشبه تلك الأكاذيب المتدفقة من شاشات الرصد، ولا حتى المُثل التي كان يحاول الحزب تحقيقها، فكانت هذه المُثُل غير مؤثرة حتى على أعضاء الحزب، ولا سياسيه، والدليل على ذلك، التورط في أعمال حقيرة والتزاحم للحصول على مكانٍ في قطار الأنفاق، ورتق جوربٍ بالٍ، أو تسول قطعة سكر، او ادخار عقب سيجارة، كانت المُثُل التي يحاول الحزب تحقيقها شيئًا ضخما مرعبًا ولامعًا. عالمٌ من الفولاذ والقوة والآلات الضخمة والأسلحة المخيفة، وتُشعرك بأنك وسط أمة من المحاربين والمتعصبين، تسير على قدمٍ وساق في وحدةٍ تامة، يحملون نفس الأفكار ويهتفون بنفس الشعارات.. ويعملون دون كلل، ويُقاتلون وينتصرون ويعتدون، فعددهم يتجاوز ثلاثمائة مليون من البشر ذوي الوجوه المتماثلة، أما الواقع الحقيقي فهو المدن البائسة متآكلة المباني، يروح ويجيء فيها أُناس جياع، يُعانون من سوء التغذية، حفاة الأقدام، وثيابهم مهترئة، ويسكنون في بيوتٍ من القرن التاسع عشر متداعية، دائمًا ما تفوح منها رائحة الملفوف المسلوق ممتزجة بروائحٍ قذرة.

    بدا له وكأنه يرى «لندن» مترامية ومهدمة، مدينة المليون سلة قمامة، تختلط بصورة السيدة بارسونز ذات الوجه المجعد والشعر المنفوش، تحاول دون جدوى إصلاح بلوعة مسدودة.

    انحنى مرة أخرى ليحك كاحله، ثم تنقل وأفكاره بين هذه الحياة البائسة، وما ينشره الحزب من أكاذيب، فشاشات الرصد تصم الآذان يوميًا بالإحصائيات التي تُثبت أن الشعب يتوفر له الثياب والطعام ووسائل الراحة، وحياتهم أصبحت أطول، ويعملون ساعاتٍ أقل، وإنهم أفضل وأقوى وأسعد وأذكى وأكثر ثقافة من أسلافهم منذ خمسين عامًا مضت.. لا سبيل إلى إثبات صدق أو كذب أي شيء من ذلك. فكان يزعم الحزب أن 40% من عامة الشعب البالغين يتقنون القراءة والكتابة، أما قبل الثورة فقد كانت النسبة 15% فقط، كما كان يزعم أيضًا ان نسبة وفيات الأطفال بلغت 160 بالألف فقط، في حين أنها كانت 300 بالألف قبل الثورة، وفي هذا الإطار كانت الإحصاءات تجري شبيهه بمعادلة بسيطة مجهولة، فمن الممكن أن تكون كل كلمة في كتاب التاريخ مجرد خيال، بل حتى المسلمات التي يؤمن بها المرء هي أيضًا مجرد خيال، وربما لم يكن هناك ذلك القانون الذي يبيح للرأسمالي مجامعة أي امرأة تعمل معه، أو مخلوق كالرأسمالي، أو قبعة مثل قبعته العالية.

    فكان الضباب يحيط بكل شيء، فالماضي قد أزيل من الوجود، وما تم إزالته أصبح طي النسيان، فصار الكذب حقيقة، فلقد امتلك مرة واحدة في حياته دليلًا ملموسًا لا يرقى إليه أي شك، على عملية تزييف وألم به بين يديه لثلاثين ثانية فقط، فكان ذلك عام 1973 وكانت تلك الفترة التي انفصل فيها عن كاترين ولكن التاريخ الحقيقي لتلك الحادثة كان قبل هذا التاريخ بسبع أو ثماني سنوات.

    بدأت القصة فعليًا في منتصف الستينات، أثناء موجات التطهير الكبري التي تم فيها تصفية زعماء الثورة الأصليين دُفعة واحدة وإلى الأبد، وبحلول عام 1970 لم يبق منهم أحد إلا الأخ الأكبر، أما الباقون فقد انكشفوا جميعًا باعتبارهم خَوَنة ومُعادين للثورة، كان غولدشتاين قد فر واختبأ في مكانٍ لا يعرفه أحد، وأما الآخرون فقد اختفى فردٌ منهم في حين تم تقديم معظمهم إلى محاكماتٍ صورية اعترفوا فيها

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1