Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

أحدب نوتردام
أحدب نوتردام
أحدب نوتردام
Ebook730 pages5 hours

أحدب نوتردام

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في الرواية تجربة إنسانيَة فريدة تجمع الجمال إلى القبح. وتحمل مضامين كبرى عن العاطفة; عن التسامي والتضحية والحُبَ، عن الأحقاد والكراهية والانتقام. وهي واحدة من أشهر الروايات الرومانسيَة، لما تصوَره من عاطفة قوبة تحرَكها الغجرية في قلوب الجميع لا سيما قارع الأجراس في كاتدرائية نوتردام والكاهن إنَها تراجيديا رائعة من القرون الوسطى عن الأقدار المشؤومة وسلطة الكنيسة، تدور أحداثها في عهد لويس الحادي عشر، ومسرحها تحفة معماريَة. ترنَ في أركان الكاتدرائية الأجراس والمصائر.

يتوغل فيكتور هيغو في روايته، عميقا في عالم المشردين والمهمشين، وحتى الأسياد المنكسرين على أنفسهم أمام عالم يسوس فيه الظلم، ويعربد فيه المنافقون باسم التدين. ينتصر الكاتب الشاعر في هذا العمل للعاطفة الإنسانية كدافع جوهري لكل حراك اجتماعي يتوق للتحرر والانعتاق، فكأنما أحداث نوتردام في أواخر العصر الوسيط هذه، هي التي مهدت لبواكير الثورة الفرنسية في أواخر القرن 18، والتي أرخ لها فيكتور هيغو، في رائعته "البؤساء".

نجح هيغو، من خلال هذه الرواية ذات الأحداث الآسرة، في حياكة قصة حب متشظية بين شخصيات تائهة، ولامس معادلة صعبة المنال وملتبسة المفاهيم، وهي مبنية على العلاقة بين ظاهر الشخصية وباطنها، بين قبح خارجي وجمال داخلي، وتؤسس لمفهوم فلسفي شديد التعقيد، وهو سؤال الجمال وعلاقته بالصالح والنفعي، وما يجب أن يكون.
Languageالعربية
Release dateJun 10, 2024
ISBN9789922643120
أحدب نوتردام

Related to أحدب نوتردام

Related ebooks

Reviews for أحدب نوتردام

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    أحدب نوتردام - فيكتور هوغو

    أحدب نوتردام

    فيكتور هوغو

    ترجمتها عن الفرنسيّة

    زينب ناصر الدين

    Y1110000000103-1.xhtml

    أحدب نوتردام

    فيكتور هوغو

    ترجمتها عن الفرنسيّة: زينب ناصر الدين

    العنوان بالأصل:

    Notre-Dame de Paris

    By Victor Hugo

    Translated by Zeinab Nasser Al-deen

    الطبعة الأولى: مارس ـ آذار، 2021 (1000 نسخة)

    This Edition Copyrights@Dar Al-Rafidain2021

    Y1110000000103-1.xhtml

    _____________________________________________________________________________________

    تنبيه: إن جميع الآراء الواردة في هذا الكتاب تعبّر عن رأي كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الناشر.

    ISBN: 978 - 9922 - 643 - 12 - 0

    الفصل الأول

    ــ 1 ــ القاعة الكبرى

    ثلاثمئة وثمانٍ وأربعون سنةً وستة أشهرٍ وتسعة عشر يوماً، والباريسيون يستيقظون يوميّاً على صوت قرع الأجراس الصاخب، وصداها الآتي من قلب المدينة وضواحيها القديمة الثلاث ومن الجامعة.

    لم يكن في هذا اليوم، أي السادس من كانون الثاني شيءٌ يخلده التاريخ. لا شيء مميّز يستدعي هذه الجلبة التي أثارها قرع الأجراس باكراﹰ هذا الصباح في باريس، أو حركة برجوازييها غير الاعتيادية. إذ لم يكن هناك أي اعتداء من البيكارديين أو البورجينيين، ولم تكن أي قافلة صيدﹴ تتحضّر للانطلاق. كما لم تقم أي حركة احتجاج طلابي، ولم يصادف مرور موكب مهيب لجلالة الملك، ولا حتى مراسم نصب مشانق لإعدام لصوص، ولصّات في باحة قصر العدل. ولم يشهد هذا اليوم كذلك، وصول أي سفير في موكب مزيّن بالرايات الملونة إلى باريس، كما جرت العادة في القرن الخامس عشر. وقد مرّ، بالكاد يومان، على وصول موكبٍ مماثل للسفراء الفلمنكيين المُكلفين باتمام زفاف وليّ العهد ومارغيريت دو فلاندر. وقد استقبلهم الكاردينال دو بوربون، رغم انزعاجه منهم، على مضض. مصطنعاﹰ السرور والترحيب بقدومهم، ليسرّ بذلك جلالة الملك. ولذا استضافهم في فندقه «بوربون» وأحسن ضيافتهم، رغم أنّ الأمطار الغزيرة غمرت السجاد الفاخر الممدود عند مدخل الفندق، حين أُشرعت الأبواب لاستقبالهم.

    ما استدعى كلّ هذا الانفعال والحركة الحماسية من سكان باريس، يوم السادس من كانون الثاني. كان بحسب ما قال جان دوتروا، هو الفرحة المضاعفة للاحتفال بعيدي الغطاس(1) وعيد المهرجين، وهما عيدان يجتمعان في هذا التاريخ منذ زمن شديد القدم.

    كان الاحتفال يتضمّن إيقاد نار الفرح في كريف، والاحتفال بغرس شجرة أيار في كنيسة براك، ومشاهدة مسرحية في القاعة الكبرى. وقد تولى رجال رئيس الشرطة، بزيّهم الأرجواني الجميل، والصلبان البيضاء المتدلية على صدورهم؛ إذاعة برنامج الاحتفال مساء اليوم السابق، على صوت الأبواق، عند مفارق طرق المدينة وفي أزقتها.

    في صباح اليوم الموعود خلت البيوت من ساكنيها، وأُقفلت المحال التجارية. امتلأت الطرقات بحشود غفيرة من المواطنين، وقد بدت كأنّها انقسمت إلى ثلاث مجموعات؛ كلّ واحدة تتجه نحو واحد من الأماكن المحددة. لكن وجهة العدد الأكبر كانت إلى ميدان نيران الفرح أو قاعة قصر العدل المسقوفة والمغلقة، لمشاهدة مسرحية «اللغز»، وكانوا غير عابئين بزيارة غرسة أيار، التي لم تكن قد أزهرت بعد، فتركوها تترنّح وحيدة تحت سماء يناير في مقبرة كنيسة براك. وقد اكتظت الطرقات المؤدية إلى قصر العدل بحشود الجماهير، الذين علموا أنّ السفراء الفلمنكيين قادمون اليوم لحضور المسرحية، وانتخاب رئيس المهرجين. لذا لم يكن من السهل أبداﹰ الدخول إلى القاعة التي ذاعت شهرتها، بأنّها أكبر قاعة في العالم. ولا إلى باحة قصر العدل، التي بدت للفضوليّين المسترقين النظر من وراء النوافذ، كأنّها بحرٌ هادر ترفده خمس أو ست طرقات، كلّ حين، بفيض جديد من الرؤوس. وكانت موجات الوافدين تكبر وتكبر، حتى صارت ترتطم بجدران المنازل، وتتدافع للوصول إلى باحة قصر العدل.

    علت الصيحات والضحكات، وارتدّ صدى وقع الأقدام مصحوباﹰ بصخب هائل وضجيج عارم. كما أطلّت وجوه كثيرة يعلو محياها الصمت من النوافذ والأبواب، ومن المناور وكوات الأسطح. وقد كان جلّ غايّتها النظر إلى القصر والحشود الغفيرة، التي ملأت كلّ زاوية فيه.

    كانت قبة من الخشب المنحوت والمدهون بلون لازوردي، تعلو رؤوس الجماهير في القاعة الكبرى، ويمكن للناظر للأعلى أن يرى وروداً ذهبية تزيّن الدهان. أمّا الأرضية، فكانت من الرخام الأبيض والأسود، وقد انتصبت فوقها سبع دعامات تحمل الحوافي المتدلية من القبة الخشبية، وامتدت بين ثلاث منها مقاعد من خشب السنديان العتيق لمّعتهُ أثواب محامي الدفاع والمدعين العموميين.

    في الخارج وعلى امتداد السور العالي، بين الأبواب والنوافذ وحول البهو الكبير، انتصبت تماثيل لملوك فرنسا السابقين، سواء الكسالى بجفونهم المسبلة وأذرعهم المتدلية بخمول. أو الشجعان البواسل الذين ارتفعت رؤوسهم وأيديهم نحو السماء، بجرأة واضحة. وخلف النوافذ الطويلة بزجاجها الملون بمختلف الألوان، تظهر أبواب سميكة منحوتة بدقة وحرفية، وقد غطيت القباب والدعامات والجدران والإطارات والتماثيل مثل هذه الأبواب؛ من أعلاها إلى أسفلها بزينة ذهبية وزرقاء بهتت ألوانها، مع مرور الزمن، وكساها غبار اختبأت خلفه بيوت العناكب.

    كانت القاعة الكبرى عبارة عن بهوﹴ مستطيل الشكل، تحتل جانباﹰ منه؛ منضدة رخامية طويلة وسميكة، وقد اشتهرت حينها بأنّها أكبر حجر رخامي مصقول. بينما احتلت الجانب الآخر كنيسة فيها تمثال لويس الحادي عشر جاثياﹰ أمام تمثال السيدة العذراء. وفي وسط البهو مصطبة ملتصقة بالجدار، يمكن الدخول إليها من مدخل خاص عبر ممر الغرفة المذهبة، كانت استحدثت خصّيصاً لاستقبال السفراء الفلمنكيين، والشخصيات ذات الشأن المدعوة لحضور مسرحية «اللغز»، وقد بدا جليّاً أنّ المسرحية ستُقدّم على المنضدة الرخاميّة، التي أُعِدَّت للأمر منذ الصباح.

    كان أربعة جنود يقفون عند زوايا المنضدة، كما هو معهود خلال الاحتفالات، أو عند عقد المحاكمات وإصدار قرارات الإعدام. وكان من المتوقع أن يبدأ عرض المسرحية، عندما تنهي ساعة قصر العدل الكبيرة اثنتا عشرة دقة بالتمام، وهو توقيتٌ متأخرٌ نوعاً ما. ولكنه قد وُضِعَ خصّيصاً مراعاةً لوقت السفراء الفلمنكيين.

    ظلّت أعداد الجمهور الذي قدِم بعضه مع انبلاج الفجر وافترش درج قصر العدل، تتزايد وتتدفق كنهر هادر. ومع امتلاء القاعة راح البعض يتسلق الدعامات والأعمدة، أو يجلس على حافات النوافذ وحواجبها المنحوتة. هذا وقد بدأ صبرهم ينفذ والضجر يتملّكهم، فبدأت المشاجرات تنشب بينهم لأتفه الأسباب، كضربة مرفق غير متعمّدة أو دعسة حذاء أو تدافش، وبدأ التعب المصحوب بالتأفف يتحوّل إلى شتائم بحق السفراء ورئيس التجار والكاردينال دو بوربون، وبحق كبير القضاة والسيدة دو تريش، والجنود وكبير المهرجين، وأسقف باريس. وحتى البرد والطقس السيء والتماثيل والنوافذ المفتوحة والباب المغلق...

    ولم يمنع هذا الجو المتوتر الطلاب من إلقاء نكاتهم، وتهكّمهم القاسي. وكانت من ضمن هؤلاء الطلاب مجموعة من المشاغبين، جلسوا فوق السور والدعامات، بعد أن كسروا زجاج إحدى النوافذ. فصار من السهل عليهم إلقاء دعاباتهم، وتوزيعها بين الداخل والخارج. وقد بدا واضحاً لمن ينظر إليهم، ويرى حركاتهم الهازئة، وضحكاتهم الساخرة أنّهم لا يشعرون بالضيق، مثل بقية المنتظرين. دوّى صوت شابّ منهم من الأعلى ينادي بسخرية على صبيّ أشقر صغير «جوان فروللو دي مولاندينو! أقسم بروحي أنّك هو! ألست الملقب جوان الطاحونة، لأنّ ذراعيك وساقيك تتحرك كما شفرات مروحة الطاحونة الهوائية؟... منذ متى وأنت هنا؟»

    ــ «أقسم أنّي أنتظر منذ أكثر من أربع ساعات!» أجاب جوان «آمل أن تحتسب هذه الساعات ضمن الوقت الذي سأقضيه في المطهر! لقد سمعت تراتيل الآية الأولى لقداس الساعة السابعة، الذي تلاه منشدو ملك صقلية في الكنيسة المقدسة!»

    ــ «يا لهم من منشدين! يا لروعتهم!

    ــ «لكن كان يجدر بالملك أن يسأل القديس حنا، إن كان يحبّ أن يسمع القداس اللاتيني بلهجة بروفانسية!» أضاف أحد الطلاب ساخراً.

    عندها صرخت سيدة عجوز تقف تحت النافذة: «لقد تعمّد هذا الفعل لاستقدام مرتلي ملك صقلية الملعونة!» ليأتيها الجواب من شخص ضخم ذي وقار وهيبة، كان يسدُّ منخريه تفادياً للرائحة المنبعثة من ثياب العجوز بائعة السمك: «اهدئي أيّتها العجوز. لقد كان من الواجب إقامة هذا القداس. أم أنّك تفضلين أن يمرض الملك مرة أخرى؟» فكان التعليق على ما قال من أحد الطلاب: «كلامك صائب أيّها السيد جيل لوكورنو! أحسنت يا خياط الملك!» وعلت بعدها قهقهة الطلاب الساخرة، وهم يرددون اسم الخياط المسكين

    ــ «لوكورنو! جيل لوكورنو!» وانبرى بعضهم الآخر بالهتاف: «كورنوتس! هيروسوتس!»

    فأضاف الطالب الشقي:

    ــ «ما قلته صحيح. ما المضحك في الموضوع؟ إنّ جيل لوكورنو رجل نبيل، وهو أخو جان لوكورنو وابن ماهيا لوكورنو كبير حرس غابة دو فانسين. العائلة كلّها من برجوازيي باريس! وكلهم متزوجون؛ الأب وجميع أبنائه!»

    بعدها زاد المزاح والسخرية من الخياط المسكين، الذي حاول جاهداً أن يتوارى عن الأنظار، التي تركزت عليه. وصار يتصبّب عرقاً ويتأفف ضيقاً. ولكن دون جدوى إذ علق مكانه دون قدرة على الحراك، فأصبح ملتصقاً بمن أحاطوا به تماماً، مثل مسمار مدقوق في الخشب. وقد زاده الموقف غيظاً وغضباً إلى أن بادر أحدهم إلى مساعدته، وكان ضخم البنية ووقورا مثله.

    ــ «يا لسخرية هذا الزمن! صار الطلاب يتجرؤون بالكلام والسخرية من البورجوازيين، بعد أن كانوا فيما مضى يُجلَدون بحزمة من العصي، أو يُحرَقون إن فعلوا ما يفعلون اليوم!»

    تعالت ضحكات الطلاب عندما سمعوا مقولته، وقال أحدهم: «لقد عرفته! إنّه الأستاذ أندريه مونييه!» وأضاف آخر: «فعلاً! إنّه واحد من كتبة الجامعة المحلفين الأربعة!» فصاح طالب ثالث: «كلّ شيء في هذه البلدة يتألف من أربعة: الأوطان، أربعة. الجامعات، أربع. الأعياد، أربعة. المدعون العموميّون، أربعة. الناخبون، أربعة. والكتبة المحلفون، أربعة!»

    أجابهم جوهان فرولو: «يجب أن يكون لهم شياطين أربعة!»

    فتعالت أصوات الطلاب: «مونييه، سنحرق كتبك.»

    ــ «مونييه، سنضرب خادمك.»

    ــ «مونييه، سنمزق ثوب امرأتك. الآنسة أودارد الطيبة الضخمة ما زالت صبية ومرحة!»

    فهمس الأستاذ مونييه متكدراً «لعنة اللّٰه عليكم!» ليجيبه جوهان الذي سمع ما قاله: «اسكت يا أستاذ أندريه، وإلّا رميتُ نفسي فوقك.»

    رفع الأستاذ أندريه رأسه ناظراً للأعلى، كأنّه يقيس برأسه ارتفاع الدعامة وقوة الجاذبية، مع سرعة هبوط الصبي للأرض، ويضرب بذهنه الجاذبية بالجذر التربيعي للسرعة. ليسكت بعد احتساب النتيجة.

    علم جوهان أنّه كسب المعركة فقال بسخرية: «ما أشد فتنة رجال الجامعة! إنّهم لا يحترمون امتيازاتنا الخاصة في يوم كهذا. الاحتفالات في كلّ مكان في المدينة إلّا في الجامعة، لا شيء أبداً هناك. لا غرسة أيار ولا نيران الفرح ولا مسرحية «اللغز».»

    بعدها علا صوت جوهان «فليسقط عميد الجامعة والناخبون والمدعون العامون!»، وأضاف طالب آخر «يجب أن نُوقِد نار الفرح الليلة في ميدان غايار، لنوقدها بكتب الأستاذ أندريه!»

    وأردف بقية الطلاب:

    ــ «ومقاعد الصفوف.»

    ــ «وعصي عمال الكنيسة.»

    ــ «ومكاتب عمداء الكليّات.»

    ــ «أو منضدة المدعين العامين!»

    فتحمس الصغير جوهان، وصار يهتف «يسقط يسقط الأستاذ أندريه! يسقط الكتبة ورجال اللاهوت والأطباء والمدّعون العامّون والناخبون والعميد!»، فتمتم الأستاذ أندريه «هذه حتماً نهاية العالم!»

    حينها صرخ طالب من الجالسين في الأعلى «ها هو العميد! إنّه يمر في الميدان.»، فسأله جوهان فرولو الجالس أعلى دعامة داخل القاعة، إذ لم يكن بمقدوره رؤية ما يجري في الخارج: «أصحيح أنّ عميدنا الوقور الأستاذ تيبو قادم إلى هنا؟ هل هذا هو؟»

    «أجل! أجل! إنّه هو شخصياً. الأستاذ العميد تيبو.»

    بالفعل، كان العميد وبعض شخصيات من الجامعة يتجهون في موكب مهيب من أمام السفارة إلى قصر العدل. وقد استقبلهم الطلاب حين وصولهم بسخرية لاذعة، وبتصفيق فيه شيء من الإهانة. وقد ترامى إلى مسمع العميد بعض العبارات الوقحة مثل «هولا هيه! صباح الخير حضرة العميد!» «كيف استطاع هذا المقامر العجوز الوصول إلى هنا؟ هل ترك النرد جانباً؟

    ــ «لو ترونه وهو يمتطي بغلته! أُذناها أقصر من أذنيه!»

    ــ «هولا هيه! مرحبا أيّها العميد تيبو، يا لاعب النرد هل قامرت! أيّها العجوز الأبله والمقامر الهرم!»

    ــ «حفظك الله! هل لعبت جولتي قمار الليلة الفائتة؟»

    ــ «يا لهذا الوجه الحزين وتعابيره الكئيبة، يبدو محطماً من فراق القمار والنرد.»

    ــ «إلى أين أنت ذاهب؟ أهكذا تديرُ ظهرك للجامعة، وتتسلّل نحو المدينة؟»

    ــ «لا بدّ أنّك ذاهب لتبحث عن مسكن في شارع تيبو تودي.» صرخ جوهان الطاحونة ورددت مجموعة من الطلاب بأكملها هذه الجملة من بعده بصوت هادر على وقع التصفيق الغاضب.

    ثمّ جاء دور بقية الشخصيات، لتلقى على مسامعها عبارات مماثلة:

    ــ «يسقط خدّام الكنائس وحجّاب الجامعة!»

    ــ «قل لي يا روبين بوسبان، من ذاك القادم من هناك؟»

    ــ «إنّه جيلبرت دو سلي، جيلبيرتوس دو سولياكو، مستشار كليّة أوتان.»

    ــ «هاك، خذ حذائي واصفعه به في وجهه، مكانك مناسب للتصويب أكثر من مكاني.»

    ــ «يسقط رجال اللاهوت الستة، هم وأثوابهم الكهنوتية البيضاء!»

    ــ «هل هؤلاء رجال اللاهوت؟ لقد ظننتهم الإِوزّات البيضاء الست، التي منحتها القديسة جونفياف للمدينة!»

    ــ «يسقط الأطباء والخلافات وتسقط الهرطقات الكاردينالية!» «أتروا، هذا الأستاذ يواكيم دو لادوهور! وذاك لويس داهويل! آه وهذا لامبير هوكتمان!»

    ــ «سحقاً للشيطان، المدّعي العام للأمة الألمانية!»

    ــ «وكهنة الكنيسة المقدسة!»

    ــ «هولا هيه! وأساتذة كليتي الفنون والآداب! ومراييلهم السوداء الأنيقة! والأثواب الحمراء الفاتنة!»

    ــ «هذا ذنب جيد للعميد!»

    ــ «يبدو المشهد كأنّ دوقاً من البندقية ذاهبٌ إلى عرس البحر.»

    ــ «بالله عليك يا جاهان! ها هم كهنة كنيسة القديسة جونفياف!»

    ــ «ليذهب الكهنة إلى الجحيم!»

    ــ «أيّها الأب كلود شودار! حضرة الدكتور كلود شودار! هل تبحث عن ماري لاجيفارد؟»

    ــ «ماري تسكن في شارع غلاتينيي.»

    ــ «إنّها تحضّر سرير الملك السفيه!»

    ــ «ذهبت لتلعب أوراق الديناري الأربع!»

    ــ «هل تريدها أن ترفّه عنك؟»

    ــ «أيّها الرفاق! ها قد أتى الأستاذ سيمون سونغان، ناخب بيكاردي.»

    ــ «خلف الفارس تلوح القطيفة السوداء»

    واستمر الطلبة بإلقاء عباراتهم الساخرة الوقحة على مسامع الحضور. وفي هذه الأثناء كان كاتب الجامعة المُحَلّف الأستاذ أندريه مونيه، يهمسُ في أذن خياط المَلك السيد جيل لوكورنو «صدّقني أيّها السيد، إنّها نهاية العالم. لم أشهد من قبل وقاحةً مثل وقاحة هؤلاء الطلاب؟ لقد تجاوزوا الخطوط الحمراء! ما عادوا يحترمون أحداً! إنّها بدع هذا العصر المنفتح التي أطاحت بالقيّم وبكلّ شيء. المدفعيّة والقنابل والطباعة قبل كلّ شيء، لقد أفسدت كلّ شيء! فضلاً عن الطاعون الذي أتانا من ألمانيا. لم يعد هناك مخطوطات ولا كتب، لقد قضت المطابع على المكتبات. لقد أقتربت نهاية العالم!»

    «لاحظت هذا في النجاح والتطور الذي طرأ على الثياب المخملية.» أجاب تاجر الفراء الذي كان يقف بقربهم.

    ما هي إلا لحظات حتى دقت الساعة معلنة وقت الظهيرة، فصرخ الجمهور بصوت واحد «ها!...»، وساد صمت مطبق في صفوف الطلاب. ثمّ دبّت حركة في القاعة، كحركة نقل الأثاث، فالجميع يحاول التموضع والتمركز بوضع جيد لرؤية المسرح. واتجهت الأنظار نحو المنضدة الرخامية وباتت الأفواه مفتوحة، والأعناق مشدودة والهدوء يعمُّ القاعة. لكنّ شيئاً لم يحصل، لم تفتح الستارة، ولم يظهر أي ممثل على المسرح. ولم يؤتِ الجنود الأربعة الواقفين عند أطراف المنضدة أيّ حركة. ظلوا واقفين كالتماثيل. اتجهت الأبصار نحو المنصة المُخصّصة للسفراء الفلمنكيين، فبدت خالية وبابها مغلق. والجمهور الحاضر منذ الصباح ينتظر ثلاثة أشياء؛ دقات الساعة الثانية عشرة لتعلن وقت الظهيرة والسفراء الفلمنكيين ومسرحية «اللغز». لكن وقتُ الظهيرة فقط الذي حلّ في موعده!

    كانت الصدمة شديدة، بشدة الضيق والملل الذي أصاب الحضور.

    انتظر الجميع دقيقة، ودقيقتين، فثلاثة ثم طال الانتظار لأكثر من ربع ساعة فيما الوضع على حاله؛ المسرح خالﹴ والستارة مقفلة. نفذ صبر الحضور وبان الغضب على الوجوه، فبدأت همسات تصدر مطالبة ببدء العرض «اللغز، اللغز!»، ثمّ بدأت الأصوات تعلو وكأنّها عاصفة تتفاقم قوتها تدريجياً، وكان جوهان أول الممتعضين علانية «اللغز! الآن! وليذهب الفلمنكييون إلى الجحيم!»، «فلتبدأ المسرحية حالاً أو فليُشنَق القاضي على خشبة المسرح بعرضﹴ بديل!». بدأت الصيحات بعدها تعلو في القاعة «أحسنت! ولنبدأ أولاً بشنق جنود القاضي الواقفين هنا!»

    أخذ الجنود يطلقون صافراتهم ويتبادلون النظرات، وإذ بالجمهور يتجه نحوهم. وقد بدأت المنصة الخشبية الفاصلة بين الجمهور والجنود تتهاوى، تحت ثقل تدافع الناس وضغطهم عليها، حتى صار الوضع حرجاً. وفي خضم هذه المعمعة ظهر شخص فجأة على المسرح، وما إن رآه الجمهور حتى هدأت النفوس، وتحول الغضب بسحر ساحرﹴ إلى فضول.

    ــ «سكوت! سكوت!»

    تقدم الشاب وهو يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه، وقد بدا التوتر والارتباك واضحاً عليه. لحظة وقوفه على المسرح؛ سرت موجة الهدوء بين الحاضرين من جديد، ولم يعد يسمع إلّا تمتمات خافتة.

    استغل الشاب هذا الهدوء وأعلن: «حضرات السادة البورجوازيون والسيدات البورجوازيات، يشرّفنا أن نقدم لكم مسرحية جميلة، ذات قيم أخلاقية. بحضور وتشريف نيافة الكاردينال، وهي بعنوان «القضاء العادل للسيدة مريم العذراء». وسأقوم شخصياً بتأدية دور جوبيتير، وسيكون نيافته بصحبة سفراء السيد دوق دو تريش، وهم حالياً يستمعون إلى خطاب السيد عميد الجامعة في بورت»

    بدا واضحاً أنّ السيد «جوبيتير» أنقذ الجنود الأربعة من ثورة الجمهور، فوقف مزهواً بثوبه الجميل، الذي يشبه أزياء اليونان القديمة، والمحاك من المخمل والأشرطة الملونة، وقد أشرق وجهه ذو اللحية الكثة بابتسامة عريضة.

    ــ 2 ــ بيار غرينغوار

    بينما كان الشاب واقفا ًيخطب بالجمهور، بدأ الإعجاب الذي أثاره ثوبه الرائع بين الجمهور بالإجماع يتلاشى شيئاً فشيئاً. ومع وصوله إلى الخاتمة المشؤومة لكلامه، وتحديداً عند عبارة «وسنبدأ العرض مباشرة عند وصول الكاردينال ومرافقيه.» ضاعت بقية كلماته بين هتافات مُحتجّة، تطالب بالبدء الفوري «ابدأوا حالاً!» «اللغز! اللغز!»، وكان صوت جوهان يعلو جميع الأصوات، ويصدح كالبوق في جوقة موسيقية «ابدأوا حالاً!» وأتت هتافات بقية الطلاب، وعلى رأسهم روبان بوسبان «ليسقط جوببيتير! وليسقط الكاردينال دو بوربون!»، «ابدأوا بعرض المسرحية فوراً!»

    «علقوا الكاردينال والممثلين على المشانق!»

    فما كان من جوبيتير المسكين الذي صعقه ما جرى، فاصفرّ وجههُ. إلا أن حمل قبعته بيده، وأخذ يحيي الجماهير بارتباكٍ ويتمتم «نيافته... السفراء... السيدة مارغريت دو فلاندر...»، لا بدّ أنّه كان خائفاً من أن يُشنَق: إن انتظر الكاردينال سيشنقه الجمهور، وإن لم ينتظره سيشنقه الكاردينال. فكان من حسن حظه أن أنقذه أحدهم وأخذ المبادرة عنه. فقد ظهر فجأة شخص من وراء دعامة، بدا وكأنه ظهر من الفراغ بقامته الطويلة النحيلة. كان شاباً أشقر يميلُ لونه إلى الصفار، صغير السن، رغم التجاعيد الظاهرة على جبينه ووجنتيه. اقترب من المنصّة بعينيه اللامعتين، وفمه الباسم، وقد أشار لجوبيتير بيده. لكنّ المسكين لم يرَ إشارته.

    تقدّم الشاب الجديد خطوة إضافية نحو جوبيتير وقال له: «جوبيتير! عزيزي جوبيتير!»، لكن عبثاً. بقي جوبيتير متسمّراً في مكانه، فصرخ به الشاب الأشقر الطويل «ميشال كيبورن!» عندها أجاب جوبيتير، وكأنّه استيقظ فجأة: «من يناديني؟»

    «أنا» أجابه الشاب الطويل. «ابدأ العرض حالاً! فلنلبي رغبةَ الجمهور! أنا أضمن لك رضى السيد القاضي، والذي سيضمن بدوره تهدئة نيافة الكاردينال»

    تنفّس جوبيتير الصعداء، ثمّ صرخ بكلّ ما أوتي من قوة، مفرغاً الهواء من رئتيه «حضرات السادة البورجوازيين والسيدات البورجوازيات... سنبدأ على الفور!»

    علا تصفيقٌ حاد في القاعة، وظلّ الجمهور يهتف لحين اختفاء جوبيتير وراء الستائر المُتدلية على المسرح.

    أمّا الرجل المجهول، والذي استطاع بقدرة عجيبة أن يهدئ الجماهير الثائرة. فقد عاد بهدوء، كما ظهر، إلى خلف الدعامة، وكان من الممكن أن يبقى منزوياً هناك بصمت وسكينة، لولا أنّ شابتين جالستين في الصف الأول لاحظتاه، فنادته إحداهما: «أيّها المعلم!» فنبهتها رفيقتها، وكانت شديدة الجمال وترتدي ثياباً أنيقة «عزيزتي لينارد، السيد ليس كاهناً لتناديه بالمعلم. إنّه علمانيّ، لذا ناديه «أيّها السيد».»

    فصحّحت لينارد النداء «أيّها السيد!»، فاقترب الرجل المجهول من الحاجز الفاصل بينه وبين الجمهور، وسألها باهتمام: «ماذا تريدان أيّتها الآنستان الجميلتان؟» فردت عليه لينارد بخجل: «آه! لا شيء سيدي! إنّها صديقتي جيسكات لا جانسيان، هي من يريد التحدث إليك. «فاعترضت جيسكات بخجل وتردّد «لا أبداً! في الواقع إنّ لينارد نادتك بالمعلم، فصحّحت لها، ونبهتها أنّه يجب مناداتك بالسيد. «وخفضت الفتاتان عينيهما خجلاً، فنظر إليهما الشاب مبتسماً وقال: «إذاً، ليس لديكما ما تقولانه لي؟»

    فردت لينارد «لا سيدي، لا شيء. «وما كاد الشاب يخطو خطوته الأولى منسحباً، حتى أوقفته جيسكارت قائلة «قل لي أيّها السيد، هل تعرف من الجندي الذي سيلعب دور السيدة مريم في المسرحية؟»

    فأجابها: «تقصدين جوبيتير؟»عندها سألته لينارد: «نعم. هل تعرف جوبيتير؟» فكان جوابه «نعم آنستي، أعرفه جيداً. إنّه ميشال كيبورن.»

    «تبدو لحيته جميلة!» قالت لينارد.

    ثم توجهت إليه جيسكات بالسؤال «هل تعدنا أن تكون المسرحية جميلة؟» فعدل الشاب وقفته، وأجاب بفخر واعتزاز: «أقدم لكما مؤلف المسرحية شخصياً!»، فجاء الرد من الفتاتين سوية «أصحيح ما تقول؟»

    «نعم، فعلاً! في الواقع، نحن اثنان؛ جوهان مارشال وهو من صمم المسرح ونفذ أعمال الخشب، وأنا المبدع كاتب المسرحية. وبالمناسبة أدعى بيار غرينغوار» أضاف الشاب بمسحة من الغرور، يخالُ لمن يسمعه وهو يتكلم، أنّه أهم من الكاتب «بيار كورناي» مؤلف مسرحية «السيد» الشهيرة نفسه.

    عزيزي القارئ، لا بد أنّك تتساءل عمّا حل بالسيد جوبيتير، فقد مرت فترة من الوقت منذ اختفى وراء الستارة، وظهر السيد بيار المتباهي الذي يحاول بسذاجة إثارة إعجاب جيسكات ولينارد. والمفارقة الكبيرة أنّ الجمهور الذي كان من برهة يستشيط غضباً، ويطلق عبارة ساخطة ومستنكرة، قد هدأ. وبات ينتظر بدء العرض بارتياح، ولعلّ السبب يعود إلى اطمئنانه لكلام الشاب الذي أوعز إلى جوبيتير بالبدء بعرض المسرحية، ممّا يثبت حقيقة خالدة في مجالات التمثيل حتى يومنا هذا، ومفادها أنّ أفضل وسيلة لجعل الجمهور ينتظر بسعادة هي أن تؤكد له أنّ العرض سيبدأ حالاً.

    رغم كلّ ما أنف ذكره لم يطمئن بال الطالب الشقي جوهان، الذي شق صوتهُ صمتَ الانتظار الهادئ فجأة «جوبيتير! والسيدة العذراء! فلتبدأ المسرحية الآن، وإلا عُدنا إلى ما بدأناه!» لم يكن هناك حاجة أن يضيف حرفاً على ما قال، إذ صدح صوت موسيقى من آلات مختلفة في القاعة، ثمّ رفعت الستارة فظهر خلفها أربعة أشخاص يرتدون أزياء ملونة ومزركشة، تقدموا قليلاً وانتظموا في صف واحد أمام الجمهور، ثمّ انحنوا وحيّوه بتحية مرحبة، لتهدأ بعدها الموسيقى.

    ... ها قد بدأت المسرحية! صفّق الجمهور متحمساً ومرحباً ببداية العرض، ولعلّ أزياء الممثلين قد لفتته أكثر من أدوارهم. وهذا ليس أمراً مستغرباً، فالأثواب كانت لتثير إعجاب أيّ كان. وقد كانت باللونين الأصفر والأبيض، ويميّز واحدها عن الآخر نوع القماش الذي خيطت منه وجودته، فكان الثوب الأول من قماش البروكار المطرز بخيط فضة وذهب، والثاني من الحرير والثالث من الصوف، أمّا الرابع فكان من الكتّان.

    وقف الممثل الأول حاملاً سيفاً بيمينه، وظهر مفتاحان ذهبيان بيدِ الممثل الثاني، وحمل الممثل الثالث ميزاناً، بينما حمل الرابع مجرفة. ولمساعدة فئة من الجمهور من غير أصحاب الذكاء الحاد على فهم المغزى من المشهد؛ تمّ تطريز عبارة واضحة للعيان عند طرف كلّ ثوب، فعلى طرف ثوب البروكار طُرزت عبارة «أنا النبل»، وعلى طرف الثوب الحريري عبارة «أنا الكهانة»، وفي أسفل ثوب الصوف عبارة «أنا العمل التجاري»، أما أسفل ثوب الكتان فكانت عبارة «أنا الزراعة»، وبدا واضحاً من تمايز الأزياء أنّ توزّع الأدوار كان كما يلي: اثنان من الذكور اللذين يرتديان الثوبين القصيرين مع قبعتين، وممثلان آخران يؤدي كلّ منهما دور فتاة، ويرتديان ثوبين أطول من أثواب الآخرين مع أغطية رأس أنثوية.

    بدأ المشهد الأول من المسرحية بشعر افتتاحي يشرح أنّ «الزراعة» كانت متزوجة من «العمل التجاري» وأن «الكهانة» كانت متزوجة من «النبل»، «وأنّ الأزواج الأربعة يحبّون ويجلّون ولي العهد الرائع، وقد أقسموا أن يهدوه أجمل الفتيات. ولهذا انطلقوا في رحلة بحث حول العالم ليجدوا من هي أجمل من ملكة غولكوندا وأميرة ترابيزوند وابنة خان التتار الكبير، وغيرهما الكثيرمن الفتيات...

    أنهى الأربعة إلقاء الشعر، ثمّ اقتربوا من مقدمة المنضدة، وأخذوا يلقون مجموعة من الحكم والأقوال التي كانت منتشرة بين طلاب كلية الآداب. إذ كانوا يمتحنون بها، وكانت تتضمّن صوراً تشبيهيّة وأقوالاً من الفلسفة الصوفية، وصوراً أدبية وتشبيهية ومجازات، وكان على الطالب أن يجتاز هذا الامتحان بنجاح. لينال شهادة الإجازة من الكليّة.

    كانت الأجواء في الواقع ساحرة وجميلة.

    استمر الأزواج الأربعة بإلقاء سيلٍ من الحكم والصور الأدبية على مسامع الجماهير، التي بدت منسجمة كلّ الانسجام. لكن لم يكن بينها أذن أكثر إصغاءً، أو قلب أشد خفقاناً، أو عين أكثر تركيزاً، أو عنق أشد تصلباً، من عين وأذن وقلب وعنق المؤلف الشاعر المفتون ببيار غرينغوار، الذي ما زالت نشوة الفخر بإعلان اسمه وشخصيته للفتاتين ظاهرة على محياه. كان يقف على بعد خطوات من الفتاتين، وراء الدعامة حيث كان يصغي وينتظر ويمعن النظر، وكان صدى تصفيق الإعجاب الشديد الذي لاقته افتتاحية المسرحية، يشعره بالنشوة والانتصار. وقف يشاهد بنات أفكاره تخرج من أفواه الممثلين، وتتجسّد لوحات تمثيليّة يستقبلها الجمهور بصمت وانتباه.

    «يا لعظمتك يا بيار غرينغوار!»

    وبينما بيار غارق في خياله يرتشف كأس الفرح بهذا النجاح الباهر، أحس بطعم قطرة من المرارة أعادته إلى أرض الواقع. إذ قطع انسجام الجمهور دخول متسول يرتدي أسمالاً بالية القاعة، وصار يدور بين الحضور مستعطفاً إيّاهم، ولمّا لم يكفه ما أعطوه من جيوبهم، لم يشأ أن تنتهي جولته بخسارة. ولينال مزيداﹰ من الانتباه والتعاطف لم يكن منه إلا أن تسلّق الدعامات، ثمّ المنصة المخصّصة لضيوف الشرف، وصولاﹰ إلى الحاجز المحيط بالجانب السفلي للمسرح. وهناك جلس بصمت يستميلُ انتباه الجمهور وشفقته بثيابه الرثة وجرح يشوّه ذراعه الأيمن. لم ينبس المتسول ببنت شفة لكن خطته وصلت لغايّتها المنشودة، لحسن حظه وسوء حظ بيار، فقد لعب القدر لعبته، ووقع نظر الطالب الشقي جوهان على المتسول. فأطلق من أعلى الدعامة قهقهة مجنونة تبعتها صرخة، قطع بها انسجام الجمهور، وأشاعت الصرخة جواً من الاضطراب «انظروا هذا الخبيث! إنّه يطلب صدقة»، كمن ألقى حجراً وسط مستنقع مليء بالضفادع، أو أطلق عياراً نارياً من بندقية على سرب طيور. هكذا كان وقع عبارة جوهان بين الحضور، واضطرب بيار غرينغوار كما لو مسّه تيار كهربائيّ. توقفت المسرحية، واستدارت الوجوه كلّها باتجاه الشحّاد، الذي لاحت له في الأفق فرصة ربح وفير، لا تعوض. فلم يتردد ثانية لاغتنامها؛ أسبل الشحّادُ جفنيه باستكانة ورسم ابتسامة استعطاف كاذبة على شفتيه، ثمّ قال بصوت ضعيف: «صدقة للّٰه يا محسنين!»

    أمعن جوهان النظر فيه لبرهة، ثمّ قال: «ولكن! هذا صديقنا كلوبان تريفو! بالله عليك، كان الجرح في ساقك فكيف انتقل إلى ذراعك؟» ورمى إليه، بمهارة قرد، قطعة صغيرة من النقود سقطت مباشرة في القبعة، التي كان المتسول يمدها للجمهور بيده اليمنى. تلقى المتسول في هذه الأثناء الصدقات والعبارات الساخرة على السواء ببرودة، دون أن يرفّ له جفن. ثمّ أعاد القول «صدقة للّٰه يا محسنين!»

    بعث هذا المشهد العفوي السرور في النفوس، فصفق له عدد لا بأس به من المشاهدين، على رأسهم بوسبان وعدد من الطلاب. وقد بدا أنّهم فرحون بهذا الثنائي الطريف، وبالمشهد الذي ارتجله جوهان بصوته الصاخب والمتسول، وباستعطافه الهادئ.

    استشاط غرينغوار غضباً إثر استفاقته من هول الصدمة، فالتفت ناحية الممثلين صارخاً «تابعوا! اللعنة عليكم! تابعوا التمثيل!» دون أن يعير أي اهتمام للثنائي أو أن يرميهم بنظرة احتقار. وقبل أن ينهي عبارته، شعر بيد تشده من الخلف، فاستدار غاضباً. لكنه سرعان ما ابتسم، وقد كان من المفروض أن يبتسم عندما رأى أن جيسكات الفاتنة هي من شدته، لتسأله بدلال: «سيدي، هل سيتابعون التمثيل؟».

    «طبعاﹰ.» أجابها بيار باقتضاب وتعجب. أضافت الفتاة «هل من الممكن سيدي أن تتفضّل وتشرح لي...»، فقاطعها قبل أن تنهي سؤالها قائلاً: «ما سيقولون؟ أصغي إليّ إذاً؟»

    «لا، بل ما قالوه حتى الآن!» صحّحت جيسكات.

    عند سماعه ما قالت، استدار بيار نصف استدارة منتفضاً كمن نُكِّأت جراحه وهي تنزف، وتمتم وهو يصرُّ أسنانه غاضباً «فتاة تافهة ومغفلة! مقيتة كالطاعون!» معلناً لنفسه طردها من تفكيره منذ تلك الدقيقة.

    انصاع الممثلون لأوامر بيار، فأخذ كلّ منهم موقعه على المسرح، وشرعوا في التمثيل. فسكت الجمهور وعاد ليستمع إلى ما يقوله الممثلون، لكن بدا واضحاً أنّ الجمهور فقد كثيراً من المتعة والتركيز، بسبب الانقطاع المفاجئ الذي طرأ على المشهد.

    وقف بيار غرينغوار صامتاً يفكر في كلّ ما حصل، بينما كان المتسول يعدّ غلّته من قطع النقود المعدنية، ويعيدها إلى القبعة. ومع انتشار الهدوء تدريجياً في القاعة تنفس الصعداء، لاستنتاجه أنّه استطاع في النهاية أن يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي. وظلّ يفكر في روعة العمل المسرحي؛ الذي كان عبارة عن عرض طويل. لكنه بسيط جداً وخالٍ من القواعد الفنية المعقدة، وغرينغوار المنتشي بتقديس ذاته، كان معجباً بوضوح العمل وبساطته.

    بالعودة إلى المسرحية والممثلين، بدت الشخصيات الأربع متعبة، وهذا طبيعي. فقد جابت معظم بلدان العالم لتجد فتاة مناسبة تهديها لوليّ العهد فتتخلص منه بطريقة لطيفة. إضافة إلى سأمها من إلقاء المديح والإطراء على السمكة الذهبية، واختراع ألف كناية لطيفة للخطيبة مارغريت عن وليّ العهد الشاب دو فلاندر. الذي كان يومئذ في عزلة حزينة مشتاقاً لأحبابه في أمبواز، دون أن يخطر في باله أبداً أنّهم يطوفون العالم لأجله. وبالمناسبة، كان دو فلاندر شاباً جميلاً وقوياً، والأهم أنّه ابن أسد فرنسا، وهذا أمر طبيعي في المسرح. فلا ضير أن يكون وليّ العهد ابناً للأسد، وهنا كان بإمكان كاتب المسرحية أن يعبّر عن هذه الفكرة، بأقل من مائتي بيت من الشعر. لكنّه على الأرجح أطال الكلام والشرح، لأنّ الوقت المخصّص للمسرحية حدد من الظهيرة حتى الساعة الرابعة، بحسب ما قرر السيد رئيس الشرطة. فكان لا بد من قول الكثير من الكلام الضروري أو غير المفيد لملء الوقت. على كلّ، لم يكن الأمر مملاً، فقد كان الجمهور يصغي باهتمام.

    وفجأة، وفي خضم مشهد مشادة كلامية بين «النبل» و«العمل التجاري»، وبينما السيدة «زراعة» تلقي هذا البيت الجميل من الشعر: «وحشٌ ليس في الغابات من يضاهيه روعة...»، وقبل أن تكمله، فُتِحَ باب المنصة المخصّصة لضيوف الشرف مصدراً صوت صرير، تردد معه صدى صوت الحاجب: «صاحب النيافة، سيادة الكاردينال دو بورون».

    ــ 3 ــ نيافة الكاردينال

    مسكين غرينغوار!

    لو اجتمعت أصوات المفرقعات النارية في عيد القديس حنا، مع صوت إطلاق نيران عشرين بندقية ودوي انفجار مدفعية برج بيلي الشهيرة، التي قتلت سبعةً من البورغينيين بطلق واحد، وذلك بعد الحصار الذي فُرِضَ على باريس في 29 أيلول عام 1465، أو حتى أصوات انفجارات مخزن البارود في باب الهيكل؛ ما كان صوتها ليكون أشد قوة وحدة، وما كان تأثيرها ليكون أشد قسوة من صوت الحاجب، وهو يخترق أذنيه ويقاطع الممثلين بكلماته القليلة «صاحب النيافة سيادة الكاردينال دو بورون».

    لم يكن السبب أنّ بيار غرينغوار يخاف من الكاردينال، أو أنه يحتقره. لم يكن السبب ضعفاً إذاً، أو كرهاً لمقام الكاردينال. صحيح أنّ غرينغوار كان رجلاً متحرراً ومن أصحاب العقول النيّرة والأذهان المتقدة، وأنّه كان هادئاً ومعتدلاً يتحلّى بالمنطق، ويميل للفلسفة المتحررة. كما أنّه يعرف كيف يحمي نفسه من أي أمر طارئ، لكنه في الوقت نفسه كان يدرك خطورة الكرادلة. أشخاص قيّمون ومنقطعو النظير، لا ينقطع مداد الحكمة والفلسفة عندهم. كأنّهم يمسكون بطرف خيط كبكوب الصوف، ويسحبونه منذ بدء التكوين، ويفككون عقد مشاكل البشرية.

    فالكرادلة موجودون، هم نفسهم، في كلّ زمان، ودائماً وفقاً للظروف والمناسبات دون أن نأخذ بالحسبان بيار غرينغوار، الذي سيمثلهم في القرن الخامس عشر، إن أعطيانه التوصيف العادل والمنصف الذي يستحقه بجدارة. ومن المؤكد أنّ روحيتهم، هي ما دفع الأب دو برول لكتابة كلماته الشهيرة في القرن السادس عشر، هذه الكلمات البسيطة والعابرة للقرون والأزمان «أنا باريسي المولد وأبريزي(2) المذهب.

    إذاً لم يكن بيار غرينغوار يكنّ أي حقد على الكاردينال، ولم يكن يشعر بالكراهة لحضوره. بل على العكس، كان يتمنّى أن يوصل أفكاره وتلميحاته، وخاصة فكرة تمجيد وليّ العهد، ابن أسد فرنسا. كان يهمه أن تصل الفكرة إلى نيافته. وكأغلب الشعراء في ذلك العصر، كان السيد غرينغوار يحب الظهور وجذب الانتباه. وهذا أمر فسره رابليه بمعادلة كيميائية ربطها بسخرية لاذعة من هؤلاء الأشخاص، مفادها أنّه وعلى سبيل الافتراض؛ تتألف شخصية الشاعر من عشرة أجزاء، وحين نقبل على تحليله كيميائياً سنستنتج أنّ حب الظهور يتمثل بتسعة أجزاء من عشرة. ويبدو جلياً أنّ هذه الأجزاء التسعة عند بيار غرينغوار كانت نشطة، وفي حالة تضخم. بل حتى متورّمة لإحساسه بإعجاب الجماهير. وقد اختفى الجزء الواحد الصغير الذي يراعي المصلحة العامّة، اختنق جرّاء انتفاخ الأجزاء العشرة التي تكلمنا عنها في حديثنا عن تركيبة الشعراء.

    كان بيار غرينغوار مستمتعاً بما كان يحسّه ويلمسه من إعجاب الحشود بعمله، رغم أنّهم من سفلة القوم ورعاعهم. وكانت شهقات الدهشة مقابل كلّ مشهد تشعره بالفخر، والتصفيق سروراً عند سماعهم مقطع تهنئة وليّ العهد بزفافه قد افقده الشعور بالواقع. إذ كان هو نفسه يشارك الحضور الشعور بالغبطة والفرح الكبير، حتى كاد لوهلة يسأل الشاب الواقف بقربه عن مؤلف هذا العمل الرائع. وهكذا نستطيع أن نتصوّر الأثر الذي أحدثه إعلان وصول نيافة الكاردينال؛ لقد وصل في وقت غير مناسب. في وقت كان بيار غرينغوار يحلّق في سماء النجاح. وقد حدث فعلاً ما كان يخشى حدوثه.

    أشاع وصول الكاردينال الاضطراب في صفوف المشاهدين، فالتفتت كلّ الرؤوس باتجاه المنصة، وأخذ جميع من في القاعة يردد «الكاردينال! الكاردينال!»، ليصمت الممثلون المساكين من جديد.

    وقف الكاردينال بعظمته قليلاً عند عتبة المنصة، وطاف بنظره متفحصاً الحضور دون أي تكلّف أو ابتسام لهم حتى. فازدادت الضجة في القاعة، الكلّ يريد أن يراه بوضوح، فصار كلّ فرد فيهم يحاول رفع رأسه فوق رأس جاره. فالكاردينال بالنسبة لهم شخصية رفيعة المقام، ورؤيتها أهم من مشاهدة المسرحية. كان همهم أن تتكحّل عيونهم برؤية السيد شارل، كاردينال دو بوربون، رئيس الأساقفة وكونت ليون. وهو في الوقت نفسه رئيس الغال حليف لويس السادس عشر؛ نتيجة زواج أخيه بيار من ابنة الملك الكبرى، كما أنّه كان حليفاً لشارل العنيد عن طريق أمه إنياس دو بورغونيا.

    بناءً على ما تقدم، بوسعنا أن نتخيل كم المواقف الحرجة، التي كان يجد نفسه فيها بسبب هاتين القرابتين. كان عليه أن يوازن قاربه بين الضفتين، حتى لا يتحطم. وأن يساوي بين الماء والنار، فلا تطفئ الماء النار، ولا تحرقه النار. كما أحرقت من قبله دوق نيمور، وقائد الجيش الأعلى لسان بول.

    كان من فضل السماء ولطف

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1