Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

بائع السخانات
بائع السخانات
بائع السخانات
Ebook243 pages1 hour

بائع السخانات

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

نا لا أجيد الاختصار، ولستُ بارعًا في ربط الأفكار، لا يمكنني التحدث بانتظام عن أي شيء، ولا أعرف كيف نما كل هذا الكُره في نفس حلمي تجاهي، فقد قال لي ذات مشادة كلامية «أنت شخص عبيط وليس لديك أي خبرة بالحياة» كيف يقول ذلك وأنا موظف محترم؟ أرى أن طاعة رؤسائي واجب مقدس، أبتسم دائمًا ولا أنسى نصف انحناءة أمام الزبائن كما أوصاني أبي، أفعل باقتناع ما يجعلهم يعتقدون أنهم أذكى مني، وإلا فلماذا أنحني إن لم يكونوا صنفًا ممتازًا من البشر؟ مؤكد مكتوب أمامك في الأوراق أن أبي هو الذي عيَّنني في هذه الشركة العتيقة، ثلاثون عامًا وأنا أتحدث همسًا إلى الزبائن، أعرض عليهم فضائل شراء السخانات حتى في فصل الصيف.
Languageالعربية
Release dateApr 3, 2024
ISBN9789778201246
بائع السخانات

Read more from عمرو العادلي

Related to بائع السخانات

Related ebooks

Related categories

Reviews for بائع السخانات

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    بائع السخانات - عمرو العادلي

    التَّل

    «بدا له السؤال عجيبًا، ولكنه لم يستطع التخلص منه،

    كان يدق في رأسه كالناقوس؛ هل أعود؟!»

    غسان كنفاني - الأفق وراء البوابة

    وصلوا إلى المدينة بعد سفر طويل، رجال أربعة؛ أب وثلاثة أبناء، لا يُعرف من أين جاءوا بالتحديد، ربما كانوا في عنبر سفينة شحن، أو تسللوا من قطار بضائع. قال بعض الأهالي أنهم خرجوا من خلف الجبال، وقال آخرون أنهم قَدِموا من وراء البحر، كانت بشراتهم نحاسية غامقة، يمشون في صمت وينصتون أكثر مما يتكلمون، شأن كل الأغراب.

    أجَّروا غرفة بمنافعها وتكوموا فيها، كانوا يعرضون خدماتهم على السكان بهدف الحصول على اللقمة؛ الأب ينقل عِزال عروسة أو يشيل الرمل والزلط، والابن الأوسط مع أخيه الأصغر يضربان شجر الزيتون بالعُصي في مزرعة قريبة، والابن الأكبر يجلب من الأسواق التوابل والليمون لمحل سمَّاك عند آخر الشارع.

    كان الأب يتجول كثيرًا في دروب المدينة الجديدة بلا هدف مُعلن، بالنهار يتأمل وجوه المارة والظلال النائمة فوق البيوت، وبالليل يراقب النجوم المضيئة وهي تتحرك معه أينما ذهب، كثيرًا كان السكان يرونه رافعًا رأسه لأعلى، كأنه يقرأ خريطة مرسومة في قبة السماء.

    في ليلته الأولى حلم بأنه يُبحر فوق سفينة صيد صغيرة، لها أشرعة بيضاء على شكل أجنحة.

    كل ما عُرِف عن الأب بعد ذلك أن اسمه «عوض» ولم يُعرف اسم لأي من أبنائه.

    كانت صحة العائلة الوافدة هي رأس مالهم، سيرتهم على الألسنة عطرة وطيبة، ليس لأنهم يفعلون الخير، ولكن لأنهم لا يتكلمون كثيرًا.

    عندما بدأتْ التعاملات بينهم وبين جيرانهم لاحظ السكان أن لهجتهم غريبة، يتكلمون اللغة نفسها التي يستخدمها الجميع، لكن لكْنتهم مختلفة قليلًا، يضعون شَدَّة على أغلب الحروف، ويكسرون الحرف الأخير من كل الكلام تقريبًا، ما شفع لهم عند جيرانهم الجدد أنهم في حالهم، صامتون أغلب الأوقات، يخالفون كُليًّا ما اعتاد عليه أهل الحي من ثرثرة بمناسبة وبغير مناسبة.

    في أحد الأيام اجتمع الأب بأبنائه الثلاثة وقال لهم:

    «لنعيش في سلام دائم يا أبنائي يجب علينا أن نفعل شيئًا له قيمة، شيئًا يذكره لنا أهل الحي مدى الحياة».

    ولما سأله أولاده عن هذا الشيء العظيم أشار الأب إلى تل طيني كبير، يلتمع في ضوء القمر، يمنع المارة من السير دون أن تتلوث ملابسهم:

    «سنقوم بإزالة هذا التل».

    فسأله ابنه الأصغر:

    «وما الهدف من ذلك؟».

    رد الأب:

    «إن فعل الخير هدف في حد ذاته، وليس شرطًا أن يعود ذلك بفائدة مباشرة على فاعله».

    فطرح الابن الأوسط سؤالًا:

    «ولكن من الذي سيأجرنا عن هذا العمل الشاق؟».

    قال الأب:

    «محبة الناس هي الأجر».

    وقف الابن الأصغر وفي يده كسرة خبز يقرض فيها:

    «لكن هذا التل الطيني كبير، كبير جدًّا، أطول من جميع البيوت وأضخم، وليس بمقدورنا نحن الأربعة أن نزيله ولو بعد سنة».

    يبتسم الأب:

    «لو أننا وفَّرنا ساعتين كل يوم بعد الانتهاء من أشغالنا عند الناس، سيمكننا إزالته».

    يلتقط الابن الأكبر خيط الكلام:

    «لن تكفينا سنة».

    ويقول الأوسط:

    «ولا حتى ثلاثة».

    فيرد الأب:

    «ولماذا تنشغلان بعدد السنين والحساب، فليأخذ منا ما يأخذه».

    كان يبدو من إصرار الأب أنه عقد العزم على العمل في التل وبات الأمر مقضيًّا، فقد بدأ بالفعل في اليوم التالي شراء المقاطف والكواريك بعددهم؛ أربعة.

    في يوم العمل الأول قدَّم لهم بعض الجيران الشاي، وتعجب البعض الآخر دون أن يقدموا للعائلة الوافدة شيئًا، لكن أغلب السكان كانوا يسترقون النظر إليهم، يشاهدونهم وهُم يحاولون بأدواتهم الهزيلة إزالة تل طيني بهذا الحجم، وهُم يزعزعون الكيان الراسخ الذي تفتَّحتْ أعينهم عليه، يضرب الجيران كفًّا بكف وهم يستغربون من هؤلاء المجانين، فالتل موجود قبل أن يولد نصف سكان الحي، ولم يفكر أحد قبلهم أن يزيله من مكانه، أو حتى يرى أنه يمثل عائقًا من أي نوع.

    بعد أيام من العمل تزمَّر الابن الأوسط:

    «كنا نعمل ساعتين فقط، ثم أصبح هذا التل يستغرق آناء الليل وأطراف النهار».

    فيُهدئه الأب:

    «الصبر يفني الجبال».

    يعلو صوت الابن الأوسط حتى يتعدى صوت أبيه:

    «ويفني العمر أيضًا».

    يقول الأصغر:

    «الصبر الصبر! كلمات معسولة لن تتحول أبدًا إلى نقود».

    يصمت الأب، فيتكلم الأصغر لكن بمستوى صوت أقل:

    «وهل نشقى في هذه السُّخرة كي نشرب شايًا؟».

    فيرد الأب:

    «نحن نعمل من أجل الخير، تذكروا أن غيرنا يعملون في السخرة مرغمين دون أن يتقاضوا شيئًا».

    يعود صوت الأصغر متهكمًا:

    «المساجين فقط يمكن أن يفعلوا ذلك».

    رد الأب بنبرة بدت رزينة:

    «عندما يبتلي الله إنسانًا بمرض فإنه يعمل في السخرة لدى الأطباء ووصفات الأدوية والعطارة، لكن الله أعطانا الصحة فلماذا لا نُسخِّرها لشيء ينفع ويمكث في الأرض؟».

    قال الأوسط:

    «وهل تعايرنا لأننا أقوياء؟».

    فقال الابن الأكبر مخاطبًا أخويه:

    «في جميع الأحوال يجب علينا طاعة أبينا».

    أشاح الأوسط بيده دون كلام، لكن الأصغر تكلم وهو يلف بإصبعه ثُفل الشاي في قعر كوبه:

    «هذا التل سيسرق أعمارنا قبل أن نتمكن من إزالته».

    يحاول الأب السيطرة على اندفاع أبنائه:

    «أنا أحميكم من مخاطر الدنيا».

    فيرد الأصغر:

    «أنت تضعنا فيها دون أن تدري».

    «أنا أنقذكم من أنفسكم، فأخطر ما في هذه الدنيا أن يكون هدفنا الأكل والشرب والنوم مثل أي حيوان».

    يقول الأوسط:

    «لماذا لا يكون هدفنا أن نصبح أغنياء؟».

    «أو حتى أصحاب تجارة صغيرة، نشقى ونحصل على المقابل المناسب؟».

    عندما تكلم الأصغر رد الأب:

    «فعل الخير سيجعل هذه الأشياء سهلة وفي متناولكم».

    يقول الأوسط:

    «أنت تضيع أعمارنا».

    «وصحتنا».

    يساعده الأصغر دائمًا على تكملة المعنى.

    يضيق بهما الأب ويقول:

    «ما زلنا في موسم الإزهار وأنتم تحسبونه موسم الإثمار».

    يسخر الأوسط بمط شفتيه.

    ويقول الأصغر هازئًا:

    «هئ».

    يراقبهما الأكبر في صمت.

    ويرى الأب أن عليه التدخل بتوضيح:

    «لنُمهد ما نقدر عليه، حتى لو بقي من التل جزء فليزيله من يأتون بعدنا، سنكون في هذه الحال قد فتحنا ثغرة في الكتلة الطينية الكبيرة، هل نقف مكتوفي الأيدي وهذا التل يسد الطريق أمام الناس؟».

    «ولماذا كُتب علينا نحن بالذات أن نقوم بعملية التمهيد؟».

    قال الأوسط فرد الأب:

    «إن هناك شيئًا سحريًّا في هذه الحياة يا أبنائي، فما من أحد يعرف الطريق إلا من يسعى للوصول إليه».

    ظلوا يتجادلون حتى أخذتهم جميعًا سِنة من النوم.

    لم يحدث شيء له أهمية بعد ذلك، عندما طلع الصبح مارسوا عملهم صاغرين في هدم أطراف التل بالمعاول والكواريك.

    حين أعتم الليل توقف الابن الأوسط عن الحفر، بدأ يفكر من جديد في جدوى ما يفعلونه، فحدثه أخوه الأصغر عن أشياء جميلة رآها عندما ابتعد عن هذه المنطقة الفقيرة، تجول بالأمس في شوارع أخرى ومساكن أخرى تليق أكثر بهم، قضى ليلة أمس هناك دون علم أبيه.

    قال لأخيه:

    «خلف هذا التل بشارعين هناك حياة أخرى أجمل، أجمل بكثير، جنَّة والله يا أخي، جنة».

    في الليلة التالية قالا لأخيهما الأكبر أنهما سيبتاعان شيئًا، ثم ذابا في الظلام.

    طلعت عليهما الشمس وهما يتجولان، جذبهما الطريق فلم يشعر أي منهما بقدميه ولا بحساب الخطوات، رأى الأصغر سماء زاهية تستوعب أحلامه، ومروج لامعة شديدة الخُضرة كالزمرد، الجو في تلك المنطقة الهادئة خالٍ من الدخان، لا أصوات مزعجة ولا غبار يلوث الهواء، ورأى الأوسط قصورًا بيضاء متساوية، وحدائق مُنسقة مثل الحُلي، مرَّ أمامهما عمال نظيفون يلبسون بِدلًا زرقاء، يقودون مكن كَنس يشفط مخلفات البشر والشجر والحجر، قال الأوسط لأخيه:

    «ما كل هذا الخيال الذي يملأ الواقع؟».

    لم يرد أخوه الأصغر، لكنه فكر في سؤال:

    «لماذا توقف بنا أبونا هناك ولم يأتِ إلى هُنا؟».

    قال الأوسط:

    «لقد أحضرَنا أبونا إلى الدنيا فقط، أما خط سيرنا فيها فهو مسؤوليتنا نحن، لا بد أن تلدنا الأيام مرة أخرى».

    رَد الأصغر وقد تحولتْ عيناه الضيقتان إلى فتحتين ملتمعتين:

    «أشعر بأن أبانا يعيش حياة رجل آخر، فقد لمحته في الليلة الماضية يخرج من الغرفة، وعندما تأملتُ فِراشه رأيتُ جسده لا يزال ممددًا فوق الأرض».

    «يحلم أبونا كثيرًا، لكنه غير مقتنع بأن الدنيا لا تعترف بالحالمين».

    «لديك حق، ولكن يجب أن نعود قبل أن يعرف ما اكتشفناه».

    بعد أسبوع من العمل وصل إلى الأب أن شخصًا مهمًّا يريد أن يقابله، كانت امرأة بدينة قد أخبرته بذلك وهي تقدم له الشاي مع قطع قراقيش معمولة في البيت، فقال لها:

    «أهلًا أهلًا، أنا موجود مع أبنائي هنا كل يوم ساعتين، وربما ثلاثة، نبدأ من بعد العصر إلى ما بعد العشاء بقليل، ينورني، إكرام الضيف واجب، في الغد سأجلب معي موقد الجاز، أهلًا أهلًا، سنرحب به ونُضايفه، يشرب شايًا ويأكل إن أراد».

    نظرتْ إليه المرأة بإشفاق وهي تتناول منه الأكواب الفارغة والصينية، كأنها تعاتب طفلًا ساذجًا على شيء اقترفه دون قصد.

    في المساء اقترب الرجل المهم من الموقع وتأمل التل جيدًا، تصنَّع التباسط وهو يصافح عوض، كان الرجل يرتدي بدلة نظيفة، نظيفة جدًّا، وفوقها بالطو رمادي طويل، عوض وأبناؤه ملوثون بلُطع الطين، لا يجسر أي مغامر على الاقتراب منهم، صافحهم الرجل المهم واحدًا واحدًا، فور وصوله مُدتْ إليه أيادٍ كثيرة بالكراسي، جلس وهو ينظر بصمت إلى حذائه اللامع، أخذ يضغط على تفاحة آدم في عنقه كأنه يحلبها، ولَّى وجهه شطر التل وقال مخاطبًا الأب:

    «أنت رجل هُمام، تعمل مع أبنائك وكأنكم مؤسسة خيرية كاملة».

    لم يجد عوض ردًّا مناسبًا فقال وهو يمسح ناصيته بظهر يده:

    «عشت».

    ثم عاد إلى عمله ولم يزد في الكلام، كان الابن الأكبر يتأمل الرجل الجالس فوق الكرسي وهو يضع ساقًا على ساق، يتابع سُحب الدخان التي تتبدد من فمه إلى الفراغ، يتعجب من السيجارة البُنية الكبيرة التي تهتز بين إصبعيه، أما الأخ الأوسط فتوقف عن العمل ليشم عطر الرجل الفواح، أعطى الأخ الأصغر لنفسه وقت راحة واقتلع نفسه من الحفرة التي يتهدَّل منها التراب، توقف عن تقطيع الكتل الناشفة بالكوريك وتعبئتها في المقاطف، جلس فوق جزء عالٍ متكور من التل، حاول أن يضع ساقًا فوق ساق مثل الرجل المهم فلم يتمكن، أخرج من سيَّالته شيئًا، وضعه بين شفتيه وأشعل الكبريت في مقدمته، عُقب سيجارة عثر عليه أثناء الحفر، كان يشعر بزهو كبير عندما يغادر الدخان فمه ويشم رائحة التبغ، مجرد تشبهه بالرجل المهم أثار خياله بشكل ما، بعد سحب نفسين فقط قبض أخوه الأكبر على ياقة جلابيته:

    «أنت هكذا ستُغضب أبانا».

    «أبونا يشغل نفسه بأشياء خيالية ولا يهتم بنا».

    لم يصل صوت الابن الأصغر إلى الأب، فقد كان عوض مندمجًا في تعبئة الأتربة والحصى في المقاطف، اقترب الرجل المهم من أخيهم الأصغر، سحب العُقب الحقير من بين شفتيه وألقى به في الطين، فضّ سيلوفان سيجارة بُنية كالتي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1