Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

خريف، دماء.. وعشق
خريف، دماء.. وعشق
خريف، دماء.. وعشق
Ebook479 pages3 hours

خريف، دماء.. وعشق

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

نفوس حائرة لا تعرف الطريق .. ومعارك زعيم فقد حبه الأول .. وسحر محبوبة حسناء رحلت
وبقي أثرها.. وآثار في كل ركن ولكنها لا تكفي للجواب على الأسئلة العظمى التي تحير الحكيم
الطيب المتعطش للقتل والانتقام !!
كيف تغير كل شيء الي هذا الحد ، كيف تبدلت المسلمات وأصبحت الحكمة مقترنة بالدماء ؟
وأصبح العشق مرتبطاً بالحرب ؟ وأصبحت الدماء رهينة الأحلام المؤجلة ؟! ولماذا تعصف بنا
الدنيا فتغير وجه الأرض والتاريخ وتمحو أثر الذكريات وتبدل الواقع الي شيء آخر مستحيل لا
نعرف طبيعته ؟! أي شيء كانت النبوءة العجيبة التي مضت تضع كل بطل من أبطال الملحمة في
موضعه المحتوم في لحظة فارقة من تاريخ مصر ؟!
ثم أطلت أعين "كالا" الخضراء على الوادي لتعلن أن السماء قد باركت الوحدة إلى الأبد..
في رواية ملحمية، بين الحرب والحب ، السلطة والشعب ، التاريخ الأول لبداية تأسيس وتوحيد
مصر الأولي وما استقر عليه الواقع الآن .. بين محاولات النجاة بفرصة أخيرة للحياة وفرص
الهروب من معسكرات الملوك ولؤم الكبار .. رواية ممتلئة بالاسئلة والاجابات والحكايات التي
سيظل أثرها باقياً
Languageالعربية
Release dateMay 30, 2024
ISBN9789778060553
خريف، دماء.. وعشق

Read more from أحمد مدحت سليم

Related to خريف، دماء.. وعشق

Related ebooks

Reviews for خريف، دماء.. وعشق

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    خريف، دماء.. وعشق - أحمد مدحت سليم

    خَريف،دِماء.. وعِشْق

    أحمد مدحت: خريف، دماء.. وعشق، رواية

    الطبعة العربية الأولى يناير ٢٠١٧، الطبعة الثانية ٢٠١٧

    رقم الإيداع: ٢٥٩٠٣/٢٠١٦ - الترقيم الدولي: 3-055-806-977-978

    جَميــعْ حُـقـــوقْ الطَبْــعْ والنَّشرْ محـْــــفُوظة للناشِرْ

    لا يجوز استخدام أو إعادة طباعة أي جزء من هذا الكتاب بأي طريقة

    بدون الحصول على الموافقة الخطية من الناشر.

    © دار دَوِّنْ

    عضو اتحاد الناشرين المصريين.

    القاهرة - مصر

    Mob +2 - 01020220053

    info@dardawen.com

    ww.Dardawen.com

    أحمد مدحت

    خَريف،دِماء.. وعِشْق

    رواية

    إهداء

    إلى العظيمات

    مصر.. ووهيبة.. ونُها

    شُكر خاص

    إلى زَهْرَتيّ عمري ..

    رُوز وجَاسمِين أحمَد مِدْحَت

    اللتين انتَظَرَتا طَويلًا ، بصبرٍ وشَغفٍ ، أن تَنتَهي أزمَتِي وأن تَنفَدَ أورَاقِي وأن يَجِفَ قَلمِي، لنِستأنِفَ من جَدِيد زمانَ الصَفَاءِ واللَهْو !!

    شكرًا

    قراء ثلاثة فساتين لسهرة واحدة الأعزاء

    أحمد سلامة – محمد مفيد – أحمد مهنى – أحمد البوهي

    جميع أعضاء وآل دوِّن

    م.عاصم وافي – د.عادل سعد

    أشرف توفيق

    محمد عبد المتجلي– إيمان عبد المنعم – سمر الجمَّال– أيمن قداح

    أحمد فتحي محمد – عمران أحمد– ولاء السروي – نهى بهمن

    د. هالة مهدي الدسوقي – د.إيمان قراقيش

    محمد مصطفى حجازي

    محمد طارق – حسام ناصف – هاني منسي – سيد لطفي

    وشكر جزيل للغالية صاحبة المشورة .. الأستاذة/ ريم خيري شلبي

    كلمة لا بد منها:

    عزيزي القارئ..

    هذا الكتاب- الذي أتشرف بأنه بين يديك الآن- هوعمل روائي فكري لا أكثر؛عمل استلهم من حادثة شهيرة في التاريخ المصري أحداثه، واقتبس من بديع حضارتنا صوره، ومن مزيج النور والظلام في حياتنا ألوانه، ولكنه لايصلح لأن تعامله ككتاب في علم التاريخ، فإنني لم أعمد إلى وضع كتاب علمي يحقق الأحداث، ويسعى خلف شخوص التاريخ، ولكنني خلال الأحداث المشوقة، التي ستطالعها بعد قليل إنما أتتبع أزمة إنسانية عامة، بدأت منذ مطلع التاريخ..

    وفي سبيل عمومية الفكرة، فإنني قرأت التاريخ ونسيته. وأخذت منه وتركت. إلى جانب أن تلك المرحلة التاريخية، التي تدور الأحداث في إطارها ليست ذات شهرة واسعة، لا علميةولا شعبية ولا أدبية. بل إنك تطالع المصادر والكتب، التي تتناول هذا العصروهو ما حول عام ٣٢٠٠قبل الميلاد، فتجد الرأي ونقيضه تمامًا، ولكل رأي مبرراته وحُججه؛لذلك فإنني اعتمدت الضرورة الدرامية، التي تتسق مع الفكرة، التي أخرجت هذا الكتاب من أجلها دون السعي خلف الحوادث المحققة، هذه الضرورة، التي دفعتني- على سبيل المثال- إلى خلق شخصية كاملة من جملة عابرة في عمل أدبي قديم اتفق مع فكرتي ورؤيتي..

    وأيضًا فإنني لم أراع بعض المحاذير الخاصة بالتسميات الفرعونية أو التاريخية، بل رجحت العمومية والبساطة، فلا تحاول- مثلًا- أن تفسر أسماء الأبطال ولا المدن ولا القرى على ما قد تكون عرفت من علم المصريات..

    وينطبق ذلك أيضًا على الدين في مصر الفرعونية. فليس الدين- هنا- محورًا من محاور الرواية؛ لذلك فإنني مررت عليه مرورًا عابرًا؛كي لا تخرج القصة عن سياقها المتدفق..

    باختصار.. تستطيع أن تقول إن هذا العمل وأحداثه وشخوصه هم من تأليف الكاتب وفقط.. بما في ذلك جميع الأقوال الواردة على لسان الحكماء وكذلك القصائد الشعرية.

    ومع ذلك فإنك إن رجعت للأعمال التاريخية أو الأدبية لتلك الفترة فستجد أن كتابي هذا يكمل بعض أحداثها ويفسرها- بلا أساس علمي إلا المنطق- ولا يجافيها تمامًا بل لعله يبرر بعضها. وأنا إذ عمدت إلى ذلك الترميم وإكمال الصور فإنما فعلت كما يفعل المغرمون بالمصريات من تخيل لوجه توت أو جسد نفرتيتي؛ ليكتمل ما خفي علينا من صور مشوقة..

    والآن.. أتمنى لك قراءة ممتعة..

    الكاتب

    شخصيات الرواية

    مِري آخِت: الراوي.

    نارمر: فرعون مصر، وابن عم مري آخت.

    مري أون: ملك الجنوب المعظّم، وجد نارمر ومري آخت.

    ساخامور: ملك الجنوب ابن مري أون، ووالد نارمر.

    نفتيس: ابنة مري أون، وشقيقة ساخامور.

    نِفِر: ابن مري أون، ووالد مري آخت.

    مريت نيت الأولى: زوجة ساخامور.

    مريت نيت الثانية: زوجة نارمر.

    نفرت: أميرة كونيو الشمالية، وزوجة مري آخت.

    مرس مونو: قائد جيوش كونيو الشمالية، وابن عم نفرت.

    كالا (١): فلاحة من طيبة.

    كالا (٢): ابنة مري آخت، ونفرت.

    ماي: حكيم طيبة، ومعلم أسرة مري أون.

    نفرو حتب:حكيم أون، والمدرس بمدرسة القادة.

    خنت حور:تلميذة مري آخت، وطبيبته.

    سنجم:حكيم نِخِب.

    أوتيس: وزير ساخامور.

    مني باح : قائد جيوش ساخامور.

    ميتو: مساعد مني باح وقائد جيوش نارمر، ثم وزيره.

    كوراش: زعيم قبائل بدو سيناء.

    رخمرع : مؤسس مصنع ساخامور الفني، وكبير فناني نارمر.

    موخو: النحات الشمالي، وكبير نحاتي نارمر.

    حاور: كبير مهندسي نارمر.

    -١-

    رَحَلَ الجميع..

    الطيبون والأشرارعلى السواء..

    وأفلت شموس الجميع..

    بينما شموس نارمرلا تأفل..

    ويبدوأن قرونًا طويلة ستمر قبل أن تأفل..

    لو قدرلها الرب أن تأفل..

    -٢-

    سَيَكُون من عذاب الدهر أن يمتد بي العمر كجدي العظيم الملك «مري أون»..

    يا بتاح..

    يا رب الأرباب..

    هذا عبدك الضعيف الحائر «مري آخِت» يرجوك..

    وإن كل ما أرجوه..أن أرحل..

    لأستريح من الأسئلة التي لا جواب لها..

    ولأنعم بلقاء رفاق الماضي السعيد..والحزين..على السواء..

    ولكن بلا حيرة..ولا حزن..ولا خوف..ولا ألم..

    ومن أشد آلامي، أن هذا النيل الغزيز، الذي يجري على مبعدة يسيرة من قصري، لا تستطيع مياهه المباركة أن تطفئ شرارة واحدة من آلاف الحرائق التي تمتص حياتي، ولا أن تغرق بغزارتها ذكرى واحدة من آلاف الذكريات، التى أتوه معها في حيرتي. بل إن صفحته الفضية تحمل إليَّ هذه الذكريات المعذبة من «طيبة» المحبوبة إلى «منف»الشابة، فتفد إلىَّ في معزلي كما تفد مراكب التجارمحملة بالبضائع، فتزدحم حياتي بمزيد من الحيرة والنيران!!..

    من يستطيع أن يفهم؟! وأن يجد أسبابًامقنعة لكل هذا الألم المعتمل في الروح؟!لعلّي أجد لحياتى الذاهبة معنى، ولحياتي المقبلة أملًا؟!..حياتي، التى توشك أن تغوص في الأفق الغربي كالشمس، التي تدور في السماء منذ الأزل، ولكن شمسي لن تعود للظهور من المشرق إن هي استسلمت لرحلتها الأزلية..

    آه ..

    وبعد حياة صاخبة، ها أنا، مري آخت، الحكيم كما أُلَقّب، المفعم بالعشق والرفق كما أُعرف، الوزير الأمين كما أُكّرم، أخطو نحو الستين، بصحة موفورة وعقل متعب، وحيدًا رغم الذرية والإنجاز. أعتزل الحياة الصاخبة بإرادتي؛لأخلُص للذكريات والحيرة العاتية، التي لم تفارقني لحظة، منذ اقتحمت الحضارة وادينا الهادئ متلفعة بثياب من دم ونار..

    وفي قصري الناعس.. في قلب واحةٍ وسط الصحراء المترامية على أطراف منف، أتحصن من كل ما يدعوني للذكرى، ولكن الذكرى حاضرة بلا ريب، وهاهي تمثل لعينيّ لا لخيالي فحسب . فإن يخلو قصري الهادئ من الأحياء وأنفاسهم الحارة ومعاركهم التى لا تعدم سببًا، فهو لا يخلو لحظةً من حكايا مئات الراحلين وحيواتهم، التي لا تنسي وأمجادهم التى لا يمحوها الزمان..

    وأين أهرب؟!..وكيف أعتزل هذه الحياة التي تصطخب على بعد أميال من قصري، وقد كنت يومًا أحد أعمدتها، وأحد الذين بثوا الروح في تمثالها، الذي قام في بهاء وصلابة هازئًا من الفناء والعدم؟!..

    وكيف يرى الرب عائلتي المجيدة؟!عائلتي، التي بثت الروح في العدم، وأرست النظام والعدل والرخاء والمجد. عائلتي، التي هلكت تحت العرش، والتي أجرت الدماء أنهارًا كالنيل في موسم الفيضان، وأشعلت النار في الفلاحين كجحيم الرب؛ لتنقلهم إلى الحضارة والوحدة.. !!

    وأتوه في الحيرة..وأرسف في أغلال حزني وذكرياتي، حتى تجيئني «كالا»، ابنتي الوحيدة المحبوبة، باسمةً كالشروق. فأنعم النظر في محياها العجيب النادر، الذي اختصرت ملامحه جميع تفاصيل حكايتنا وتاريخنا وإنجازاتنا المجيدة. بوجهها الأسود المنحدر من الجنوب وعينيها الخضراوين وأنفها المستقيم المستمديّن من الشمال!!..

    أغوص في بسمتها وملاحتها العجيبة، واستسلم لانشراح فؤادي لمقدمها العذب، ثم لا ألبث أن أقول متخلصًا من كافة أفكاري وعذاباتي:

    - مباركةٌ هي وحدتُنا، وجميلةٌ كوجهِك الصبوح يا كالا!!

    -٣-

    وحَسَمَ نارمر ترددي حين قال:

    - بدونك يا مرى آخت..بدون معاونة مخلصة من الحكماء والزرَّاع والبنائين سيصير ما فعلته محض إجرام وقتل..ستضيع هباءً كل هذه الدماء التي تفزع ضميرك..إن الشعب لم يضح بدمه مقتولًا وقاتلًا إلا من أجل الرخاء..فهيا يا مري آخت مد يدك لشعبك المحبوب ولوحدتنا المجيدة.. ولتدع أوهامك جانبًا..

    -٤-

    تتخلَّى عني الحيرة أوقات قليلة..

    فحين أفكر متى بدأ كل شيء، لا أجد - وقتئذٍ - أي سبب للحيرة..

    فيومان فقط، في هذا العمر الثري الممتد، هما وحدهما الأنسب لأن يكونا بداية تاريخ هذه الأمة المجيدة، وهذه الأحداث الجثام، وميلادًا جماعيًّا لمجد هؤلاء الأشخاص، الذين تتردد أسماؤهم الآن بقدسية في أعياد وادينا الطيب، المتماسك بوحدته من شماله إلى جنوبه..

    الأشخاص المذهلين، الذين جئت من عالم العدم لأجدني بينهم..

    بين آمالهم الخارقة، وحكمتهم العميقة، وخوفهم المزمن، وأمجادهم التي لا تُمحى..

    يومان..

    يومٌ.. أقبل فيه نارمر بوجه مربّد، معفر الشعر واللحية بتراب رحلته وأزمته ومراهقته؛ ليقول في اقتضاب رغم ثورته المحرقة:

    - نفتيس قتلت كالا!!..

    والثاني..يوم ودعنا «مدرسة القادة» هاربين بفعلتنا ونحن لا ندري بأننا نفر من جحيم ٍإلى جحيم!!..

    أمّا الذي دفع بمصائرنا نحو اليومين الحاسمين، فتاريخٌ طويل..

    ما أبهى الذكرى يا قلبي وما أزهى ألوانها كأنما بالأمس وقعت لا منذ أربعة عقود..

    -٥-

    هَاهيَ الحكاية من مبتدئها الذي أعرفه..

    وهاهو التاريخ الطويل، الذي يثبت- ظاهرًا خافيًّا- في تربة الوادي كالوتد يشد الحضارة الوليدة..

    أضع كل ذلك أمامي على الألواح، علّى أرى بعينيّ مكمن العذاب، أو حل اللعنة المنعقدة على باب قلبي كالسحر الأسود..

    ضربتنا العواصف فدمرت كل شيء وخلت الوادي أطلالًا غارقة في الدماء، ولكن مقدمات العواصف الضارية وقعت كأحداث صغيرة عابرة لا تُنبئ بما ستحدثه من دمار. أحداث صغيرة عابرة لم تمثل لنارمر- أو لي- شيئًا على الإطلاق، فضلًاعن أن تشغل لنا بالًا. فلم تكن أكثر من أخبارٍ بلا معنى نتسمعها إذا كنا في قاعة العرش بطيبة، أو إذا دارت على مائدة الطعام، أو إذا اشتعلت المشادات بين مليكنا المعظم»ساخامور»- والد نارمر وعمي- وأخته نفتيس- عمتنا- بشأن القرارات السياسية المهمةوالخطيرة، أو طريقة تعامل ساخامور مع بعض حكام الأقاليم وأمرائها. وما أكثر ما كانت تقع تلك المشادات، بين ساخامور، الذي يرغب في الراحة، وبين نفتيس، التي تري انعقاد الغيوم في الأفق منذرة بزوال مملكة الجنوب الناشئة، وضياع جهد والدهما الملك «مري أون» أعظم حكام الجنوب وأول ملوكه..

    آه..

    فقبل زمان العواصف الضارية، كان زمان الملك والجاه والسلطان التليد، الذي بدأ بحلم ٍغامضٍ سيطر بكل إغرائه وإلحاحه على رجل من الجنوب يدعى مري أون، كان قد تسلم إرثه للتو..

    ورث مري أون عن عائلته حكم الإقليم والقصر الكبير بطيبة، التى استوت أهم مدن الجنوب، ولكنها مع ذلك ظلت ككل أقاليم الجنوب بلا شأن حقيقي.وككل أمراء الأقاليم الجنوبيين ورث مري أون- مع حكمه - الانضواء تحت راية الوحدة القديمة، مُطالبًا بالطاعة وبالخضوع لفرعون الوادي من ورثة عرش الشمال. فحاكم الشمال، هو راعي البلاد، ذو السلطة الفعلية في المملكة بشمالهاوجنوبها بحكم الوحدة التاريخية القائمة منذ قرون بين قطريّ الوادي الشمالي والجنوبي..

    ولكن مري أون وحده، اشتعل برغبة غامضة في الثورة على التقاليد، وطمح في ارتداء تاج الملك شاعرًا بتفاهة منصب حاكم الإقليم . رأى مري أون بعينيّ طموحه الجامح، مدينته الساذجة، التي لا تمتاز بشيء عن الأقاليم المتناثرة بإهمال في جنوب مصر المهمل بلا خطر، وقد أصبحت العاصمة الجديدة لمصر، ورأي- رأيّ العين- انتقال التاج إلى طيبة الجنوبية، ومع التاج ينتقل الزمانُ القابعُ منذ ألف عام في «باطو» الشمالية الغارقة في الترف والقوة وتأييد التاريخ!..

    عرفنا- منذ طفولتنا- بأن كل ما حدث، كان وليد حلمٍ رآه جدي أثناء قيلولة بحديقة القصر بعد أيام من تسلمه الحكم. ورأي أكثر ُأهلِ طيبة وقتها أن الجنون- لا الحلم- هو ما مس حاكمهم الجديد . لكن الرجل كان مفتونًا بحلمه إلى الحد، الذي نسي معه أنه- وكل تاريخ أسرته وقوتها- لا شيء إذا قيس بفراعنة الوادي وتاريخهم المديد وجيوشهم الضخمة التي لا تتوقف عن القتال. وتعامى عن نظرات القلق والاتهام، التي طالعته من كل ركن في طيبة وهو يسير في خيلاء وكبرياء لم تُعرف من قبله..

    كان جدي مُلهَمًا، تمامًا كنارمر. وكان الحلم لا يتوانى عن إغرائه ليلة بعد ليلة، بل ولا يتوانى عن معاونته مرة بعد مرة في رسم الخطط المذهلة إلى المستحيل!!..

    وبعد عقودٍ، نجحت بكثير من الجهد والصبر والدماء، الخطة الطويلة التي رسمها مري أون، ونفذها - تحت إشرافه - بنوه الخمسة..

    وفي بداية الجهاد فقد جدي اثنين من أكبر أعمامي، كان أكبرهما ولي العهد. ولكن ذلك لم يمنعه من استئناف النضال نحو حلمه الملِّح. واستأنف من تبقي من ذريته حلمه بذات الإيمان والحماس. وكان أولهم عمي ساخامور، ثالث أبنائه ووليّ عهده الجديد، الذي عُرف بالأناة والحكمة، فألّف بحكمته وهدوئه قلوب أقاليم وقبائل الجنوب غير المستأنسة، وحاز ثقتهم وأجج طموحهم ونعراتهم القبلية. ولكنه في الطريق الطويل الوعر تخلى عن رقته، فلوّح بالقوة أحيانًا، ولجأ في أحيان أخرى لبطش أبيه الصارم وجيشه البتار. ومعهما كانت عمتي الداهية نفتيس، التي أسهمت بحنكة نادرة في أوقات عصيبة في النصرالمؤزر، وأسهمت في التضحيات أيضًا بطريقة أخرى ففاتها الزواج في وقت مناسب. وقبيل نهاية الجهاد فقد جدي الابن الأصغر «نِفِر»- أبي- الذي كان على مثال أبيه في الشجاعة والاندفاع، وعلى النقيض من عمي الهادئ.كان «نِفِر» محاربًا شجاعًا ومحبًا للقتال، فاستشهد وهو يُخضع القبائل في النوبة بعد معركة شرسة وهو في بداية حياته الزوجية؛ليترك أمي حبلى في طيبة، وربما لم يبلغه خبر حملها. وحل القائد «مني باح» خليفة له في قيادة الجيوش..

    وبعد عقود من الكفاح والجهاد، بالسلاح وبالكلمة وبالحيلة، استقر الأمر لمري أون، ودان له مُلك الجنوب..

    توطدت سلطة جدنا، ودانت له النوبة، و كل أقاليم الجنوب، وتأكدت سيطرته على ثرواتها الكثيرة التي صارت كلها إلى طيبة وإلى الجالس على عرشها. واستطاع جدي لأول مرة منذ قرون طويلة، أن يجعل من الجنوب شوكة مؤلمة، وأن يصير الجنوب قُطرًا ذا قوة، وألا يذوب تمامًا في سلطان فرعون الشمال. وتنبه الشماليون، لما يتهددهم من خطر حقيقي، ولكن بعد فوات الوقت، فاضطروا يائسين إلى الرضوخ لما جد من الأوضاع..

    ولكن هناك حقيقة لا يجب أن تُغفل، فإن الحكمة والقوة والدهاء، لم يكونوا وحدهم السبب في نجاح الخطة وانتصار الحلم، ولكن أسهم إلى جانب ذلك وبقوة ٍ، ضعف حكام الشمال وانشغالهم بالنزاعات حول السلطة والثروة في أسرتهم العريقة إلى جانب غرقهم مجبرين في حروبهم المستعرة ضد الغزاة الليبيين في الغرب، وبدو سيناء في الشرق، وضد الانفصاليين من أقاليم الدلتا وثوراتهم المتقطعة احتجاجًا على الفقر والقمع. ثم فاجأهم صعود نجم مري أون، وسقوط الجنوب في قبضته، فلم يجدوا - حينئذ- بدًا- أمام ما يهدد زوال الوحدة بأكملها- من أن يسلكوا طريقًا أخرى. فإذا هم بين ليلة وضحاها يعترفون بإساءاتهم للجنوبيين طوال ألف عام، هي عمر الوحدة. ثم اعتذروا عن الدماء التي سالت على مر قرون دون حق. وعرفوا أن رغبتهم في السيطرة المطلقة كالسابق ليست إلا وهمًا، فاسترضوا جدي بمنحه حرية شبه مطلقة في مُلك الجنوب و أقاليمه، من أهناسيا على حدود الدلتا حتى بلاد النوبة في أقصى الجنوب مقابل خراج سنوي من الذهب ومن الغلال والثمار.ثم غضوا الطرف عن قيامه بتنصيب نفسه ملكًا على الجنوب، وارتدائه تاجًا عظيمًا لأول مرة منذ ألف عام ، في مقابل أن يستمر في دعم الجيوش المقاتلة في الشمال بالجنود والمؤن. ولأول مرة ذهبت كتائبنا إلى الحرب تحمل رايات فوقها البردي شعار الجنوب بجوار رايات اللوتس شعار الشمال!!..

    وهكذا تنعَّم الجنوبيون في عهد جدي العظيم لأول مرة بكثير من الكرامة و الحرية. وانتهت العنصرية والاستعلاء اللذان مارسهما الشماليون ضد شعبنا في الجنوب لقرون طويلة. وهكذابقي كيانُ الوحدةِ بين الشمالِ والجنوبِ قائمًا رغم ما اعتوره من نقصان..

    وصار الطريق مفتوحًا أمام مري أون إلى باطو- عاصمة الشمال- إذا قرر أن يستأنف جهاده. لكنه تخلى بغتة عن حلمه القديم إثر حلم جديد رآه أيضًا في حديقة القصر!! لم يعرف أحد ماذا أوحت الرؤيا لمري أون حتى يتوقف عن الجهاد، الذي نذر له أعمارًا مديدة من حيوات الطيبيين، وأنهارًا من دماء الجنوبيين ومن دماء ثلاثة من أبنائه..

    ولكن أخبرتنا نفتيس في مبتدأ عصر الأسطورة بحلم جدنا الغامض..فقد رأى مري أون في نومه، أن ملكاً يخرج من نِخِب- لا من طيبة- فيحارب الشماليين حتى يقضي على ملكهم، ويصير أعظم ملوك مصر. عندئذ طوى جدي حلمه على خيبة أمل خفف من وطأتها عمره المتقدم وحكمته العجوز..

    وهكذا توقفت المعارك.ولكن استمر الرخاء وجاه المُلك وعظمته.واستمرت سيطرة جدي غير المحدودة وبطشه، الذي يهدد من يطمح للخروج على حكمه. ووضع ما سُمّي بـ «ميثاق مري أون»، الذي ينظم كل الشئون السياسية بمملكته.وبقى مري أون في قصره الجديد الضخم بطيبة، متألقًا بالكبرياء والمجد، حتى ناهز عمره المائة فيما يشبه معجزة أخري من معجزاته المجيدة..

    ثم كانت وفاته المفاجئة خاتمة لمفاجآته التى غيَّر بها وجه الوادي..

    - ٦-

    عَثُرت أمس على بردية مهترئة امتصت شهد كلمات قديمة دونتها منذ أربعة عقود في محبة نفرت، الحجرية التي لا تلين..

    ابتسمتُ لسذاجتي، وقرأتُ الكلمات التي احتفظت بحرارة أشواقي التي لم تخب إلى اليوم..

    وتساءلت كيف يستطيع بشري أن يحتمي من فيضان حب عارم كحبي فيصمد كما صمدت نفرت؟!ولِمَ لا يلين البشر إلا بالعنف؟!ولكن..هل لانت نفرت أخيرًا بسبب العنف، أم بسبب السلام، الذي نشر جناحيه فوق الوادي؟!..

    حيرة أخرى..

    ولكنني سأقرأ القصيدة اليوم على كالا حين تأتي بالغداء، ستضحك كثيرًا، وستعرف كم أحببت أمها..

    - ٧ -

    بِرَحِيل مري أون تنفس أمراء الأقاليم الجنوبية المنسحقة..

    وصعد إلى العرش ولي عهده العجوز ساخامور، الذي كان مطالبًا أكثر من أي وقت مضى أن يستكمل العمل على تحصين الجنوب أمام الأطماع المستقبلية. لكن هذا المستقبل لم يكن- في الواقع- يعني عمي المرهق بحمول الجهاد الطويل..

    ورث ساخامور العرش وقد بلغ الخامسة والستين من عمره٠وحمل فوق رأسه الجليل التاج الأبيض لمملكة الجنوب وهو يشعر بفوات العمر!..

    ما كان أخطر ما يتطلبه دور عمي ساعتها من الحزم والشدة، ولكنه عكس المطلوب أراد أن ينعم بخاتمة مريحة لعمر ضاع في صراعات، لم تتح له الوقت للتسلي والتنعم بكل ما ملأ قصره من خيرات وكنوز وجوارٍ وزوجة محبة!!..

    زهد ساخامورالنزاع، وآب إلى فطرته الهادئة، وأشرقت طيبته الأصيلة- التي اختبأت عمرًا طويلًا خلف قسوة الواجب. ولولا إيمانه بالميثاق وبروح أبيه المقدسة، وإخلاصه للعرش، الذي أقسم على الحفاظ عليه، ورغبته في أن يتسلم ابنه المدلل نارمر، الذي رُزق به بعد أن بلغ الخمسين- مملكة مستقرة قوية؛لتخلى بشكل كامل عن كثير من الأعباء..

    لكنه- رغم الإيمان بالواجب- لم يستطع أن يتخلص من إغراء اللذة وإلحاحها، كما لم يتخلص والده مري أون قديمًا من إغراء المجد. حينئذ جعل يرخي قبضته شيئًا فشيئًا عن أمورالحكم الثانوية، مسليًا نفسه بالصيد والقنص، أو السفر بصحبة زوجه في رحلات إلى مدن الجنوب والشمال، قاطعًا وقت فراغه بتلقي الحكمة في المعبد عن الحكيم المبجل «ماي».ووهب بعض وقته للتأمل والاعتكاف، ووهب أكثره للراحة واللهو، واستغل صحته الفائضةوقلبه المتعطش للبهجة، في التنعم بمعاشرة الجواري الحسان القادمات من بلاد النوبة وبلاد بنط، أو الموهوبات من حكام الأقاليم المتنازعة؛ تدعيمًا لحكمهم على الإقليم ورغبة في الحظوة لدي

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1