Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

كظل يرحل
كظل يرحل
كظل يرحل
Ebook930 pages7 hours

كظل يرحل

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

بعد أن اغتال "مارتن لوثر كينغ"، يستطيع "راي" الهروب بجواز سفر مزوّر، وفي أثناء تنقّلاته من بلدٍ إلى آخر ظلَّ يتابع الصحف مبتهجاً برؤية اسمه في قائمة "أخطر عشرة مجرمين مطلوبين للأف بي آي". يحطّ به ترحاله أخيراً في لشبونة حيث يمضي عشرة أيام منتظراً تأشيرة دخول إلى أنغولا. لكن لشبونة تلك كانت أيضاً المدينة التي ألهمت "أنطونيو مونيوث مولينا" روايته الأكثر شهرة، وعندما قرّر الآن كتابة رواية عن "راي" صارت المدينة شاهداً على ثلاث قصص متناوبة: رجل قاتل هارب من وجه العدالة، وكاتبٌ يكافح للعثور على صوته الأدبي، والكاتب نفسه بعد مرور ثلاثين عاماً يتأمل في حياته وحياة بطله وشكل الرواية التي يحاول أن يتخيّل فيها العالم بوعي رجل آخر.
في "كظلٍّ يرحل" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية في عام 2018، يكتب "مولينا" روايةً آسرة، وقويّة، ومليئة بالتفاصيل، دامجاً الحدث الروائي بكيفية الكتابة عنه.
Languageالعربية
PublisherMamdouh Adwan
Release dateJun 5, 2024
ISBN9789933641320
كظل يرحل

Related to كظل يرحل

Related ebooks

Related categories

Reviews for كظل يرحل

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    كظل يرحل - أنطونيو مونيوث مولينا

    الغلافtitlepage.xhtml

    كظلٍّ يرحل

    كظلٍّ يرحل - رواية Como la sombra que se va

    تأليف: أنطونيو مونيوث مولينا Antonio Muñoz Molina

    ترجمها عن الإسبانية: محمد الفولي

    تصميم الغلاف: نجاح طاهر

    978 - 9933 - 641 - 32 - 0 :ISBN

    الطبعة الأولى: 2021

    Table

    © Antonio Muñoz Molina, 2014

    All rights reserved

    جميع حقوق الترجمة محفوظة للناشرين دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ودار سرد للنشر. لا يجوز نشر أي جزء من هذا الكتاب، أو اختزان مادته بطريقة الاسترجاع، أو نقله، على أي نحو أو بأي طريقة دون موافقة الناشرَين الخطية.

    kazell_yar7al_split2.xhtml

    أنطونيو مونيوث مولينا

    كظلٍّ يرحل

    رواية

    ترجمها عن الإسبانية:

    محمد الفولي

    «أيَّامِي كَظِلٍّ مَائِل، وَأَنَا مِثْلُ الْعُشْبِ يَبِسْتُ».

    سِفر المزامير (11:102)

    - 1 -

    أيقظني الخوف داخل وعيه. الخوف، تسمُّم القراءات والبحث. بدا الأمر كأنّني قد فتحت عينيّ في غرفة غير التي نمت فيها. كان ذُعر الحلم حاضراً لدى استيقاظي، كأن أحداً ما يلاحقني، كأنّني قد ارتكبت جريمة وأصبحت مداناً بها رغم براءتي. ثمّة من يوجّه مسدّساً نحوي، لكنّني مشلول ولا أقدر على الدفاع عن نفسي أو حتى الهرب. قبل انقشاع وعي المرء، يبدأ الروائي الخفيّ الموجود داخل كلٍّ منّا، في نسج قصصه وزخرفتها. الغرفة مقعّرة وغارقة في الظلال، سقفها منخفض ككهف، قبو، أو جوف جمجمة يسكنها عقلُ هذا الشخص الذي لا أكونه؛ ذلك الوعي المحموم من ساعات القراءة الكثيرة والتأمّل المنفرد، بكلّ ذكرياته، خصائصه الجسمانية، صور حياته، تسارع ضربات قلبه، اعتياده على الاختباء والفرار، واعتقاده أنه قد أصيب بأمراض مميتة، سواء كانت سرطاناً أم ذبحة صدرية.

    استيقظت وللحظة نسيت مكاني. كنت مثله، أو ربما كُنته هو نفسه، لأن هذا كان حلمه أكثر من كونه حلمي. أربكني عجزي عن التعرّف على الغرفة التي خلدت فيها للنوم قبل ساعتين تقريباً؛ لم أقدر على تحديد مكان الفراش بالنسبة للنافذة وقطع الأثاث، أو حتى مكاني في المساحة التي غدت مجهولة فجأةً، بل صعُب عليّ تذكُّر المدينة التي أنا فيها. من المحتمل أنه تعرّض كثيراً لمثل هذا الأمر بعدما نام واستيقظ في مدن عِدّة خلال رحلة فراره، التي استغرقت أكثر من عامٍ بقليل؛ ثلاثة عشر شهراً وثلاثة أسابيع بالضبط، في خمس دول، خمس عشرة مدينةً وقارّتين؛ هذا دون أن نتحدّث عن غرف موتيلات طُرق السفر، الليالي التي قضاها يستند إلى جذع شجرة، متكوّراً كحيوان، أسفل جسر، في المقعد الخلفي لسيّارة، أو في حافلة تفوح منها رائحة التبغ والبلاستيك قبل أن تصل إلى محطتها الموجودة تحت الأرض في الثالثة فجراً، أو تلك الليلة التي وجد نفسه بغتةً يقضيها كاملة على متن طائرة؛ الليلة الأولى التي حلّق فيها، مشلولاً من الخوف، بينما يتأمّل عبر النافذة البيضاوية -كمن ينظر إلى قاع هوّة- سطحَ المحيط ولمعانه المموّج المصبوغ بضوء القمر.

    الحلم الذي استيقظت فيه قد يكون حلمه، حتى ولو لم يظهر فيه. لقد قضيت ساعاتٍ كثيرةً، بل أياماً، منغمساً في حياته منذ وصولي إلى لشبونة. تكفي ضغطةٌ هنا وأخرى هناك، على الكمبيوتر المحمول، للولوج إلى الملفّات التي تشهد على كلّ الأمور التي فعلها، الأماكن التي زارها، الجرائم التي ارتكبها، السجون التي أتمّ فيها عقوبته، بل وحتى أسماء النساء اللاتي قضى معهن ليلة واحدة، أو أولئك اللاتي احتسى معهن شيئاً في حانةٍ ما. أعرف أيّ مجلّات وروايات كان يقرؤها؛ وبالمثل العلامة التجارية لكيس البسكويت المملّح الذي تركه مفتوحاً، بعد أن تناول نصفه في غرفة مستأجرة في أتلانتا، تلك التي لم يدوّن مالكها اسمه في سجلّاته، إذ كان ثملاً إلى درجة أنه لم يطلب إليه بياناته. ثمّة صفحاتٌ مصوّرة أو ممسوحة ضوئياً من ملفّات قديمة فيها قائمة بالملابس المتسخة التي سلّمها في مغسلة في أتلانتا، في الأول من نيسان من عام 1968، قبل أن يأخذها في صباح الخامس من نيسان، والتقرير الشرعي لمسار الرصاصة التي أطلقها عشيّتئذٍ؛ في الرابع من الشهر نفسه في ممفيس، من دورة مياه موجودة في بيت ضيافة، بعد أن أسند فوّهة بندقية من طراز «ريمنغتون 30.06» إلى إفريز نافذة؛ وشهادة الجرّاح التجميلي الذي أجرى عملية لطرف أنفه في لوس أنجلوس؛ أو نسخة بصمة أصابعه التي تركها فوق بطاقة شراء عبر البريد، بعد أن قصّها من مجلّة تصوير، فقد كانت إعلانات المجلّات في تلك الحقبة، تضمّ بطاقات طلبٍ فيها مربّعات لكتابة اسم المشتري وعنوانه، وخطوطٌ منقّطة لتوقيعه. حتى أكثر أشكال الحياة كانت تُخَلِّف وراءها أثراً لا ينطمس.

    يفرض مدى اتساع الواقع، بالمقياس نفسه، الدهشة والأرق. عجيبٌ هو كلّ ما قد يتمكّن المرء من معرفته حول شخص لا يعرفه تمام المعرفة، لأن هذا الشخص لم يقل تحديداً ما يُهمّ، فإذا بكينونته تصبح جوفاً مظلماً، مساحة خاوية، مجرّد صورة جنائية تعريفية، وخطوط غليظة رُسمت آلياً بعد بنائها على شهاداتٍ مجزّأة وبعض الذكريات غير الدقيقة. كان يقتات على القهوة الفورية المعدّة فوق السخّان، مسحوق الحليب، الفاصولياء المُعلّبة، والبطاطا المقليّة المغموسة في المستردة أو صوص سلطة «كرافت». كذلك، كان يتردّد على أرخص الكافيتريات، يتناول شطائر الهامبورغر مع كمية كبيرة من البصل، اللحم المقدّد، الكاتشب، ويحشر في فمه البطاطا المقلية بملء اليد. تذكَّره البعض من دون تردّد رجلاً أعسر، فيما أكّد آخرون رؤيته يستخدم يده اليمنى دائماً، سواء في التوقيع على الأوراق أو الإمساك بسجائره. شعره في بعض توصيفات الشرطة كستنائيّ فاتح، وفي مرّاتٍ أخرى أسودُ آخذٌ إلى الرمادي عند صدغيه. لديه ندبة صغيرة في وسط جبهته وأخرى في راحة يده. يتذكّرونه مُدخّناً؛ السيجارة بين أصابع يده اليمنى التي يطوّق بنصرَها خاتمٌ ذهبيّ مرصّع بحجرٍ أخضر قاتم، لكنّه في الحقيقة لم يكن مُدخّناً ولم يضع أيّ خواتم. الخاتم قد يصبح أحد هذه التفاصيل التي تُسهِّل تذكّره والتعرّف عليه، كما أنه بالمثل لم يدقّ وشوماً على جسده.

    مكثت حتى وقتٍ متأخر أقتفي آثاره عبر ذاكرة الإنترنت الذي لا ينام. أحرقتني عيناي من شدّة الإنهاك حين أطفأتُ الإضاءة، لكن إذا بتواريخ، وأسماء، وأحداث صغرى مزوّدة بصلابة الواقعية المدرّعة، تلك التي لا يمكن أن يخترعها أحد، تمسك بزمام خيالي.

    ليحافظ على لياقته داخل السجن، تعلّم السير على يديه ورأسُه نحو الأسفل، وكذلك تقليص حجمه داخل مساحات شديدة الصغر عبر أوضاع يوغا معقّدة. كان أيضاً قادراً على زيادة وزنه وخسارته بسهولة. لطالما التقط لنفسه صوراً بكاميرا «بولارويد» ظلَّ محتفظاً بها حتى النهاية؛ التقطها وهو بنظّارة شمس، ومن دونها، أو بنظّارة عادية. فعلها دائماً من منظور مائل وليس من منظور جانبي قطّ لأن هيئته الجانبية كانت مميّزة، حتى بعد جراحة الأنف التي خضع لها. لم يلتقطها من منظور أمامي، لكيلا تظهر أذناه الكبيرتان جداً. اعتاد أن يرسل منها صوراً مختلفة لأندية المراسلة، متخيّلاً أنها ستساهم في نشر الارتباك حينما تأتي لحظة مطاردته التي لا مفرّ منها. تعلّم في إحدى أكاديميات الفندقة في لوس أنجلوس خلط مئةٍ وعشرين كوكتيلاً مختلفاً، كما أبدى التزاماً فائقاً مع إحدى مدارس نيوجيرسي في دورة تأهيلية لصناعة الأقفال. عُثر بين أوراقه على كُتيّب عن مزايا صناعة الأقفال وكونها مهنة المستقبل. لطالما استيقظ كل ليلة وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره مرعوباً من صرخاته أكثر من أحلامه المفزعة. كان يحلم أنه قد أصيب بالعمى، فيكافح من أجل الاستيقاظ وحين يفتح عينيه لا يرى شيئاً لأنه دخل في حلم آخر عن العمى. يتملّكه الخوف من النوم مجدداً؛ من أن تعود الكوابيس مرة أخرى، فيحاول البقاء مستيقظاً حتى شروق الشمس. ربما كان يسمع وسط العتمة شخير السكارى الصادر من أبيه وأمه المستلقيين أحدهما فوق الآخر كصُرَّتَين باليتين، بينما تغطّيهما خِرَق وسترات قديمة فوق مرتبة الفراش التي خلت من البطانيات والشراشف، أما إخوته فكانوا ينامون، وكلٌّ منهم فوق الآخر، على مراتب القشّ الملقاة فوق الأرضية الخشبية التي نُزعت نصف ألواحها، كقطيع ضخم، متلاصقين ضدّ برد الشتاء، بينما يأكلهم القمل والبقّ، في منزلهم ذي الغرفة الوحيدة، وسط الدخان السامّ لمدفأته القديمة.

    لقد تمكّنت من معرفة الكثير عنه، إلى درجة يبدو معها أنني أتذكّر أموراً عن حياته، أماكن قد رآها ولم أزرها بنفسي قطّ؛ صحراء نيفادا التي يقطعها طريق مستقيم نحو لاس فيغاس، شوارع بويرتو بايارتا غير المعبَّدة ومنازلها القصيرة، رنين أروقة السجن ذي الجدران الحجرية والأبراج القلاعية والأقبية القوطية، هيئة نُزل «لورين» القصيرة عبر نافذة دورة مياه طفحت منها رائحة المجاري والبول، وأرض الإنشاءات التي تغزوها الأجمات والقمامة داخل حيّ متواضع بالقرب من ضواحي ممفيس.

    قرّرت أنه لم يبقَ أمامي خيارٌ سوى السفر إلى ممفيس. سجّلت بعد ذلك عنوان فندق مدينة لشبونة الذي قضى فيه عشرة أيام خلال فراره منذ نحو خمسة وأربعين عاماً. اكتشفت بينما أبحث في «غوغل» أن الفندق ما يزال موجوداً، وأن الأمر سيستغرق أقل من ربع الساعة لو وددت أن أذهب إليه. في تلك اللحظة، استحال ما هو موجود فقط في مخيّلتي إلى واقعٍ فوريّ. لقد أيقظني حلم المطاردة، الخطر والعار، الذي بلا شك قد يكون حلمه، ودفعني إلى مواصلة بحثي. لقد أبقاني ساهراً، بدَّد نوماً كان يجافيني، وجعلني مسحوراً ببريق شاشة الكمبيوتر المحمول، بل ومنكبّاً عليه أمام المكتب الذي بدأت أعمل عليه منذ أيام؛ صحيح أنها أيام قليلة، لكنها كانت كافية لأنغمس داخل روتين ما وبين ثنايا طبقاته المتتالية: المكتب، الشقّة، الشارع، الناصية التي يُمكن رؤيتها من النافذة، الترام وفرملته لدى نزوله من الشارع المنحدر، رنين جرسه، نسيج المدينة، جدران المباني التي نخرها السوس؛ الاسم الذي لم أنطقه بدأب منذ سنوات عديدة: لشبونة.

    في الغرفة، ثمّة نافذة تدخل منها إضاءة ضعيفة لأنها تطلّ على الجزء الخلفي من بناية مهجورة. عبرها، يُمكن رؤية رواق زجاجي، ودرابزين حديدي نال منه الصدأ والرطوبة، وباب مخلوع. بعد إطاره، ثمة طرقة تتيه داخل الظلام ويصدر منها دوماً هديل الحمام الذي استوطن البيت، بعد أن تسلّل إليه عبر الزجاج المكسور. تنمو الأعشاب الضارّة في الفراغات الموجودة بين بلاط الرواق. كلّ هذا الخراب لا يصل إلى الجانب الآخر؛ إلى غرفتنا الموجودة على بعد خطوات قليلة في بناية قد رُمّمت حديثاً، ويحمل فيها كلّ شيء جاذبية الحداثة دون الإخلال بمتانة البناء القديم: تلك الجدران العريضة والمساحات السخيّة. تتقدّم غرغرينا التلف والهدم بسرعة شديدة في المدن الكبيرة الواقعة إلى جوار البحر. البيت المتاخم، حيث يعيش الحمام في ملاذه وتتسرّب مياه الأمطار وترشح ليلاً، هو النقيض الفاشل لهذه البناية. إنه جزء المدينة الخفي المنتمي للخراب. أما هذا الجانب، الذي أصبح يبدو بعد أيام قليلة كأنّه منزلنا، فحُجراته مرتفعة الأسقف، مضيئة، رائحتها جديدة، ألواح أرضيّتها غليظة ويصدر منها، مع كل خطوة فوقها، طقطقة كخشب السفن. الفراش كبير، الملاءات نظيفة وملمسها محبّب، أما الوسائد فمنتفخة وجميلة تحت إضاءة مصابيح الكومود التي تُخفّف من حدّتها كراتٌ ورقية تُحيط بها ويبدو قوامها كالمخطوطات الجلدية الشفّافة. يكفيني وجودُكِ إلى جواري، انعكاسك في المرآة، وسط الظلال التي تُحبّين دوماً أن تخلقيها بغلق الستائر، إطفاء الأنوار ومواربة الأبواب. هكذا، باستعادة وعيي خطوةً تلو الأخرى، بمحيطي، شعرت أن فزع الكابوس المستمرّ قد أخذ في التلاشي.

    خرجت أتحسّس الجدران، هارباً من زنزانة الحلم. وقفت للحظة تائهاً وسط الطرقة، فاقداً لإحساس الاتجاهات، إذ وجدت جداراً في محلّ فراغ الباب المؤدّي إلى الصالون، لأن عقلي لم يكن قد تدرّب بعدُ على توجيه خطواتي بشكلٍ أعمى، فخريطة الشقة التخيّلية لم تكن قد تكاملت داخله بعد. ما من شيء أسهل من شعور المرء بالضياع، على الأقل بالنسبة لي. ثمة صوتٌ جاء من خلفي ودفعني للالتفات، فمع اشتغال موتور البرّاد احتلّ المطبخ مكاناً غير متوقّع، لكن لا ريب فيه، وأعاد إلى المساحات وضعيّتها الحقيقية. إن العالم متاهة مرتعشة من الإشارات، الشحنات الكهربائية، الموجات الصوتية، والومضات الشديدة القصر وسط العتمة، لكن المخّ يعيد خلقها بصورة كاملة داخل صندوقه محكم الغلق أسفل قبّته العظمية. ربما لهذا السبب كان يُظنّ أنه يُمكن عن بعد توجيه خطوات المنوَّم مغناطيسياً وتصرّفاته، بل وتلقيحه بأمر لارتكاب جريمة قتل، أو زرع قنبلة، أو السطو على مصرف.

    ها أنا ذا أعثر على ملمس الخشب المنحوت لعتبة الصالون، وبدايةً منها يمكنني أن أرسم بلا شكّ المساحة الكاملة لما لا أراه: المكتب على اليمين، الأريكة على اليسار وفي الأمام النافذة المطلّة على الشارع. في الوقت نفسه، تجمع شبكية العين المتسعة الفوتونات المتناثرة التي تُكمل نسيج الإدراك وتعيد إليه أبعاده الثلاثة. لا بُدّ أن الرياح قد أغلقت درفتي النافذة، ولهذا لا يدخل منها أيّ ضوء. لامست يدي مفاتيح الكمبيوتر المحمول وأنا أمرّرها عند حافة المكتب، فإذا بشاشته تضيء كفنار أبيض يُلقي في الغرفة أنواره القمرية. لقد كان من محبّي الآلة الكاتبة فتعلّم استخدامها في منتصف الخمسينيات وهو يكمل عقوبة السجن لعامين في سجن ليفينوورث الفيدرالي. ربما في مكان ما، داخل أرشيفه المتناهي، يوجد إيصال شراء الآلة الكاتبة التي كان يستخدمها وعلامتها التجارية. لقد ألقاها من نافذة سيارته وهو يقود على أعلى سرعة من ممفيس إلى أتلانتا، بينما يسمع، أو يتخيّل أنه يسمع، أبواق سيارات الشرطة. ألقى الآلة الكاتبة، وكاميرا «سوبر 8»، وآلة عرض، وعدداً من علب البيرة الخاوية. كان يلقي بأشياء من النافذة ويراها تبقى خلفه عبر مرآته الأمامية. لديّ أيضاً قائمة بكلّ الأشياء التي كانت معه ولم يُلقِها من سيارته الـ«موستانغ 66» المرخّصة في ألاباما، قائمة بالأشياء الموجودة في الحقيبة البلاستيكية الزرقاء التي تركها تسقط مع البندقية قبل أن ينطلق هارباً؛ الأشياء التي عُثر عليها لاحقاً في صندوق السيارة وعلى أرضيتها، بل وقائمة بالشعر وبقايا الرغوة الجافة الملتصقة بشفرات ماكينات حلاقة ذقنه غير القابلة للاستبدال التي خلّفها وراءه. أحفظ عن ظهر قلب كلّ واحد من الأسماء المتتالية التي استخدمها، ثم استبعدها بعد انتهاء صلاحيتها. أرى هيئته تتشكّل أمامي، ظلّه، سيرة حياته الكاملة، المصنوعة من تلك التفاصيل البسيطة، واحدة تلو الأخرى، كالقرميد المكسور في فسيفساء أرصفة شوارع لشبونة.

    ذات صباح، من الصباحات الأولى، صعدت فوق رصيف شارع «فانكيروس» ومعي خريطة للمدينة، وورقة مقطوعة من دفتر كتبت فيها بعض العناوين المأخوذة من تطبيق «غوغل مابس». خرجت من الشقّة دون إخبارِك إلى أين سأذهب، وكأنّه سرّ؛ بينما يخالجني إحساسٌ يكاد يصل إلى حدّ الخجل والعار. يبدو أن ثمة شيئاً صبيانياً للغاية في الخطوات الأولى نحو ابتكار قصة، أو حين يشرع المرء في بحث يجهل إلى أين سيقوده؛ أو ربما لا؛ ربما أن هذا لم يكن قد حدث بعد. دخلت متجراً للأدوات المكتبية لشراء دفتر، وبداخلي نيّةٌ تخطّى فيها مسعى التكفير عن الذنب الجانبَ العملي. حينما عثرت على ضالّتي، اكتشفت أنني كنت موجوداً في المتجر نفسه منذ عام واشتريت دفتراً مطابقاً لم أكتب فيه سوى التاريخ: الثاني من كانون الأول. مررت إلى جوار أطياف لمتاجر قماش، أخرى مهجورة ومغلقة تحتفظ بلافتات مرسومة بخطّ كان حديثاً منذ نصف قرن، محلّات فاكهة ذابلة يقف فيها باعةٌ نيباليّون وباكستانيّون، بوّابات مغلقة تنبثق منها رائحة العطن والهجر، واجهات قد تقشّرت أُطرها المُبَلّطَة بالقيشاني، بائعين ينتظرون، عند عتبات محلّاتهم بصبر قد صنعه انتظارهم نفسه، أن يدخل أحدٌ، مرتدين بدلاتٍ عتيقة كتلك التي ترتديها تماثيل العرض في واجهات متاجرهم، وفي النهاية مررت إلى جوار محلّات ملابس أخرى أخذت تكتسب طابعاً أحدث كلّما اقتربتُ من ميدان فيغيرا ومَلِكه البرونزي الذي يمتطي حصاناً.

    رأيت مستشفى الدُّمى الذي سبق أن شاهدته هنا للمرّة الأولى منذ ستةٍ وعشرين عاماً. ما يزال الميدان كما هو: عربات الترام نفسها، شمس تشرين الثاني الصباحية نفسها؛ وكذلك روائح المعجنات والكستناء المشوي التي تُبدّد الوعي بالزمن لبضع ثوانٍ. كم هو غريبٌ أن تصبح فجأةً هذا الرجل المتقدّم في العمر! هذا الرجل الذي ينظر نحوي عبر زجاج واجهة أحد المتاجر، بشعره الرمادي ولحيته الرمادية! لكن الأغرب هو أن تكون ذلك الشاب -الأصغر بكثير مما كان يظن- الذي لم يفعل شيئاً كمراهق، ورغم ذلك كان أباً لطفل عمره ثلاث سنوات، ورضيع قد وُلد للتو. ربما قد يفشل من عرفوني مؤخراً في التعرّف عليه -على هذا الشاب- فقد كان شديد العصبية، أكثر اهتزازاً من الداخل، يشعل سجائره، يستنشق دخانها بأنفاس عميقة ويتسلّح بدفتر وخريطة -كتسلّحي بهما اليوم- لكنّه في الوقت نفسه يجهل مستقبله المُدهش، وخاصة امتداد هذا المستقبل وارتباطه بوجودِك.

    المشترك بيني وبينه وسط ضوء هذه المدينة الذي لا زمن له، وفي هذا الصباح -الذي قد يكون صباح اليوم أو ذلك الذي مرَّ عليه ثلاثون عاماً- هو أن كلّاً منا كان يسير في لشبونة بحثاً عن أشباح؛ أما الفارق فهو أن وهمَ أشباحه أكبر من أشباحي، فذلك الشبح الذي أبحث عنه قد خطا فعلاً فوق هذا الرصيف، اجتاز هذا الميدان وانعطف عند لافتة ناصية شارع «جواو داس ريغراس» التي أنظر إليها الآن مرتعشاً.

    في أيّ كتاب أو تقرير صحفي، لا تضفي أسماء الشوارع وأرقامها أهمية كبيرة، فهي مجرّد تفاصيل زائدة، لكن أن يكون هذا المكان قريباً، وأن تعرف أن بإمكانك الوصول إليه يجعل من قراءة الخيال الروائي المحض واقعاً مدهشاً. شارع «جواو داس ريغراس»، عقار رقم أربعة. بينما أسير في شارع «فانكيروس»، تخيّلت نفسي أصل إلى فندق «البرتغال»، وأدفع بابه الدوّار ذا الحواف الذهبية، أخطو فوق موكيت أرضيته المستهلكة التي لم تفقد رونقها رغم كلّ شيء، لأجلس إلى مقعد صالون وسط بهو منخفض الإضاءة. ربما أن دخولي المفترض إلى الفندق سيصبح بمنزلة مرساة فعلية لكلّ تكهناتي، بل وسيجعل كلّ المخيّلات والتهويمات -التي كانت حتى تلك اللحظة تنتمي إلى عالم الكتب- ملموسة.

    قرأت في الإنترنت تقييمات حديثة كتبها نزلاء عن فندق «البرتغال». قرأت أن الغرف صغيرة، وأن مَرافقه قديمة الطراز، وأن طوابقه المنخفضة تشهد اهتزازات منذ شروق الشمس حتى ما بعد حلول الليل، لدى مرور القطارات في محطة المترو القريبة. لقد أقام هو في غرفة في الطابق الأول، تحديداً في الغرفة رقم 2. هذا أيضاً أمرٌ أعرفه. أمام الفراش، كان هناك كومود مزوّد بمرآة وله حافة رخامية. لقد شاهدت صورة للغرفة في عدد من مجلّة «لايف» يعود إلى حزيران 1968. كان نومه سيّئاً للغاية، ولا بدّ أن الاهتزازات زادت من حالة أرقه المُضنية. البنايات مرتفعة، لذا فإن ضوء شمس الميدان القريب لا يصل إلى شارع «جواو داس ريغراس». بدأت السير فيه بحثاً عن البناية رقم 4، لكن الشارع انتهى سريعاً. يبدو أن هذا الرقم ليس موجوداً. لقد تلاشى الواقع الذي أوشكت على ملامسته. رأيت دكّان حدادةٍ قديماً، في واجهتِه كلّ أشكال المفاتيح والأقفال والمغاليق. ربما قد لفت انتباهه لدى مروره هنا، بعد أن تدرّب على كلّ هذه الأدوات في دورته القصيرة لصناعة الأقفال، لكنّني لم أُميّز في أيّ مكان لافتة فندق «البرتغال» بين صفّين من الشرفات، كما شاهدت في الصورة. سألت نادلاً يقف عند باب حانة، فأشار إلى واجهة تغطّيها سقالات وأغطية مشمّعة. لقد أُغلق فندق البرتغال القديم وباتت البناية بعد إخلائها قيد التطوير، إذ يعملون على تحويلها إلى فندقٍ راقٍ.

    - 2 -

    بدا أكثر شحوباً من ذي قبل، لدى خروجه من أسفل ظلال الممرّات المسقوفة. ابتعد بفعل الغريزة عن شرطيّ يرتدي زيّاً أزرق يتقدّم نحوه. ثمّة مسدّس مُثبّت في حزامه ذي الحمّالتين وحافظة أوراق زرقاء بين يديه. يبدو مع كرشه البارز من أسفل قميصه العسكري موظّفاً مكتبياً أكثر من كونه شرطياً، أو كأحد العاملين في تلك المنطقة المليئة بالبنايات الحكومية. نظر إلى مسدّس الشرطي المثبّت في غمده الجلدي، إلا أن وجهه الشاحب كالشمع لم يعكس حركة عينيه وسط جلاء الميدان الذي بدا أوسع، لأن جانباً منه كان يطلّ على البحر. انزوى بعد ذلك، لكن لا يُمكن لأحد أن يقول إنه قد فعل ذلك بخشونة، لكن على أيّ حال، كانت الممرّات المسقوفة ممتلئة بناسٍ يخرجون ويدخلون من المكاتب. ثمّة لافتاتٌ معلّقة فوق بوّابات كبيرة ونوافذ ضخمة تحميها حواجز معدنية، وتنبعث منها ضوضاء مستمرّة مكتومة لآلاتٍ كاتبة لا تتوقف عن طباعة أسماء، وتواريخ ميلاد، وألقاب عائلات، وعناوين، وأسماء آباء وأمّهات. يسأل من يضطلعون بالعمل عليها عن كلّ هذه الأمور دون أن يرفعوا رؤوسهم، إلى أن يملؤوا المساحات الفارغة في الاستمارات. يضغطون بقوّة على مفاتيحها لكي يصبح ما هو مكتوب واضحاً في النسخ الكربونية اللاحقة. يسجّلون أموراً بأيديهم في بطاقات مخطّطة وملفّات فيها صور مُثبَّتة بالصمغ أو بدبّوس في إحدى زواياها، قبل أن يحفظوها لاحقاً في أدراج خزائن الملفّات المعدنية. رقم بطاقة الهوية، رخصة القيادة، جواز السفر، التأمين الاجتماعي، رقم السجين ومدّة الحكم. حينما يخطئون، يوقفون الآلة ويمحون بفرشاة صغيرة مطليّة بسائل أبيض الحرفَ أو الرقم غير المقصود، ثم ينفخون فيه كي يجفّ في أقرب وقتٍ ممكن.

    حينما انزوى جانباً، قبل أن يصل رجل الشرطة بمحاذاته، كان قد عبَر الخطّ المائل لظلّ الممرّات المسقوفة. اصطدمت الشمس الحارقة بوجهه، فأبرزت شحوبه وجعلت لون شعره الرملي أفتح فبدا أخفّ مما هو عليه حقاً، رغم أن تموّجه فوق جبهته كان يجعل وجهه يستطيل فيبدو أصغر سنّاً.. لقد سجّل عام 1932 عاماً لميلاده في جواز سفره، رغم أنه وُلد في 1928، إذ كان مقتنعاً بأن مظهره يوحي بسنٍّ أصغر من عمره الحقيقي. إن عمر أيّ رجل يعتمد كثيراً على قراره: إن كان يرى نفسه شاباً قوياً أم عجوزاً ومُنتهياً، كما قال البروفيسور ماكسويل مالتز. سيراك الآخرون كما ترى نفسك. سيدهسونك إن قال وجهُك إنك ممن يقبلون الدهس. سيلاحقونك إن بدوت هارباً.

    تحت أشعة الشمس ومع بريق الندى، التمعت قضبان الترام المتقاطعة فوق بلاط الميدان المرصوف. ثمة رطوبة خفيفة في الهواء، خاصة عند النظر بعيداً، في ما بعد الميدان، إلى البحر؛ البحر أو ربما النهر العريض جداً، حيث تراءت من بعيد أطيافٌ لتلالٍ، أو ربما تلال وبيوت صغيرة. إنها رطوبة ممتلئة بالروائح، كما هو الحال في نيو أورلينز، سانت لويس أو ممفيس، لكنها ليست كثيفة للغاية. لون البحر أو النهر لم يكن موحلاً، مثل نهر الميسيسيبي. في مونتريال، ثمة نهرٌ عريض جداً إلى درجة أن ضفته الأخرى غير مرئية. أنهار وجسور حديدية بعيدة، ضفاف، موانئ، مخازن، مصانع، صافرات قاطرات، وأبواق سفن.

    فوق القضبان المتعرّجة، تقدّمت عربات الترام الصغيرة الصفراء والحمراء متأرجحةً مع ضوضاء هياكلها الخشبية القديمة. ترك واحداً يمرّ أمامه واستغلّ توقّفه ليرتدي نظّارة الشمس. لقد تدرّب كثيراً أمام المرآة على أداء هذه الحركة عمداً ليبدو مميّزاً أمام النساء: يُخرج النظّارة من جيب سترته العلوي ويباعد بين ذراعيها في الوقت نفسه الذي يقرّبها فيه من عينيه. المشكلة أنه كان يرمش عند عكس العملية ليهدر جزءاً من أثرها المطلوب. لطالما نظر إلى نفسه في المرآة محاولاً إيقاف حركة جفونه لكنّه لم ينجح قطّ. لقد كان إدراك مدى صفاء عينيه الزرقاوين صعباً، لأنه اعتاد ألّا ينظر إلى أحد مباشرة. رغم ذلك، دارت في رأسه فكرة شراء عدسات لاصقة لتغيير لونهما.

    اختفى خلف الترام المارّ للحظة وهو يرمش من شدّة جلاء الضوء. بعد ذلك، لمّا انزلقت عرباته يميناً، كان قد ارتدى نظّارته بالفعل. كفَتْ هذه اللحظة ليرى انعكاسه في زجاج النوافذ، مجهولاً وسط الناس الذين انتظروا العبور، وبالمثل أطول منهم جميعاً؛ بطولٍ قد بلغ خمسة أقدام وإحدى عشرة بوصة. زجاج النوافذ قذر ويرتعش، كما هو حال الترام بأكمله، الذي يبدو كآلة قديمة أوشكت على التفكّك؛ كآلةٍ عجوز، بطيئة، ومستهلكة. تنطبع فوق طلائه الأصفر، الذي تشقّق بفعل الشمس وأفسدته الرطوبة، حروف ورسومات إعلانات قديمة، أما نوافذه فكان بعضها يخلو أساساً من الزجاج، فاستند الركّاب بأكواعهم على أُطرها كأنّهم يطلّون من نوافذ منازلهم. كلّ شيء في المدينة كان قديماً ومتداعياً: لافتات الوزارات في الممرّات المسقوفة، أطقم الحُجَّاب عند مداخل المكاتب، الطاولات التي يكتب عليها الموظّفون، الآلات الكاتبة التي يستخدمونها، الخزائن التي أرشفوا فيها الملفّات والوثائق. في مكاتب وزارة الخارجية، ثمة خرائط نصفية للعالم مصنوعة من القماش المشمّع ومعلّقة فوق الجدران. سأل بصعوبة عن الوقت الذي ستستغرقه تأشيرة أنغولا. ظلَّ الموظّف ينظر إليه لبرهة من فوق الكتلة السوداء لآلته الكاتبة، نزع السيجارة من فمه ووضعها على حافة المكتب الذي لم يخلُ من آثار حروق سابقة. أنغولا هو اسم مستعمرة برتغالية في إفريقيا وسجن يقع في الجنوب. سأله الموظّف عن جنسيّته، ثم أخبره أن يعود لاحقاً ليحصل على المعلومات من الشخص المنوط بهذه الشؤون. المكتب مليء برُزم من الأوراق، سقفه مرتفع وقاتم من شدة العفن، أما طاولة عمل الموظّف فإلى جوار شرفة يظهر منها ذلك النهر أو البحر. رأى سفينة شحن كبيرة تمرّ، بينما يقف منتظراً أن ينهي الموظّف ما في يديه. فوق صفٍّ كبير من السجلّات المغلّفة بأغطية من الورق المقوّى المستهلك عند زواياه، ثمة مروحة صغيرة تتحرّك شفراتها ببطء شديد فلا تُبدّد حَرّ المكتب.

    في وسط الميدان، ثمّة تمثالٌ لملكٍ يمتطي حصاناً ويعتمر خوذةً حربية متوّجة بزينة من الريش. تمثال الملك فوق قاعدة رخامية. ثمّة حصانٌ منحوت على أحد جوانبها وفيلٌ آسيويّ على جانبها الآخر. الأفيال الآسيوية لها آذانٌ أصغر من نظيرتها الإفريقية، وعلى النقيض منها يُمكن ترويضها بسهولة. يظهر على غلافٍ ملوّن لمجلّة «مينز ريال أدفينشر» فيلٌ يمسك امرأةً شبه عارية بخرطومه ويرفعها في الهواء في اللحظة نفسها التي يُطلق فيها صيّادٌ أبيض الرصاصَ عليه ببندقيته لإنقاذها. في المناطق العامرة بموز الجنّة والأحراش، تتقدّم الأفيال الآسيوية لتقطع المياه الموحلة، بينما تطيع، بوداعةٍ، مرشدين يمسكون بعصيّ من الخيزران، يُطلَق عليهم: «الفيَّالون». «الفيَّال» كلمة استثنائية يجهل أغلب الناس وجودها ولا يفهمونها إن صادفوها.

    تطأ حوافر حصان الملك ثعابين من البرونز. يطأ الحصان والفيل المنحوتان على جانبي قاعدة التمثال كذلك أشخاصاً مذعورين. ثمّة نورسٌ يقف فوق زينة ريش الملك البرونزي الذي يظلّ حذاؤه ذو المهاميز معلّقاً على يمين بطن الحصان ويساره. في مزارع السجون الموجودة في الجنوب، يتجوّل الحرّاس في دوريّاتهم على صهوات الجياد، وبدلاً من الخوذ المزيّنة بالريش، يرتدون قبعات ذات أطر عريضة ونظّارات شمس، بينما تستند كعوب بنادقهم إلى سروج أحصنتهم. فكّر في أنهم الآن باتوا يرغبون في إذلال السجناء البيض إلى أقصى حدّ، بإجبارهم على مشاركة السود في غرف النوم والمقاصف. بينما يتقدّم في خطّ مستقيم عبر الميدان بعد مغادرة منطقة ظلال الممرّات المسقوفة، توقف لبرهة أسفل ظلّ تمثال الملك الفارس، وسط الجلاء الأبيض، والسماء، والبحر أو النهر بلونه الذي بدا كالعنبر من خلف نظّارته. بدا وجهه أكثر شحوباً من ياقة قميصه التي كانت ضيقة إلى درجة الضغط على مسامّ جلده. سيترك الأمر علامةً حمراء حينما ينزع ربطة عنقه وقميصه وينظر إلى نفسه في مرآة غرفة الفندق. سيثني سرواله وسيعلّق سترته فوق المشجب، قبل أن يُخرج من جيوبه أيّ شيء قد تركه أو احتفظ به فيها. إيصالات المغسلة المزوّدة باسمه، تاريخ التسليم والاستلام، خطابات مرسلة باسم مختلف عن ذلك الذي سمّاه لنفسه على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية؛ قبل السفر إلى هذه المدينة، إلى لشبونة، أو قبل الرحلة السابقة إلى لندن حينما اختبأ في تورونتو ولم يكن قد ركب الطائرة بعد. ثمة قصاصة من صحيفة كانت محفوظة داخل أحد جيوبه فيها إعلان عن رحلات رخيصة إلى عواصم إفريقية. يُمكن رؤية هذه القصاصة الآن وهي مغلّفة بالبلاستيك في أحد متاحف ممفيس. في النشرات الإخبارية التليفزيونية، ظهرت المدن الأميركية مضيئة ليلاً بسبب حرائق أعمال الشغب. على ضوء اللهب، لمعت وجوه السود الداكنة وهم يكسرون بالحجارة ومضارب البيسبول واجهات المتاجر قبل خروجهم منها بثمار نهبهم راكضين فوق الأرصفة المكسوّة بالزجاج المكسور إلى جوار سيارات مصفوفة مشتعلة. تمزيق الإيصالات لأجزاء صغيرة فعلٌ حكيم، وكذلك إلقاؤها. ليس في سلّة المهملات الموجودة في الغرفة، وإنما في قاع المرحاض مع عدم نسيان شدّ السيفون. بالمثل، كان لا بدّ من دعك أيّ سطح أملس قد انطبعت عليه بصمات أصابعه.

    حينما شعر بزئير الإقلاع، أحسّ بفراغٍ في معدته من فرط ذعره، ازداد شحوب وجهه وتشبّثت يداه بذراعي مقعده. كان قد استقلّ طائرة تابعة لخطوط «بواك»(1) من تورونتو إلى لندن في السادس من أيار في العاشرة والنصف ليلاً. على متنها، خاطبه الرجل البدين الجالس إلى جواره ساخراً: «اهدأ يا رجل، الأمور على ما يرام!». لقد أشعره قبل ذلك بالإهانة حين شرح له كيفية ربط حزام الأمان، رغم إنكاره لمسألة أنه في حاجة إلى مساعدته. بعدئذٍ ظلَّ بلا حراك، خوفاً من الإخلال بتوازن الطائرة. مرَّ طفلٌ إلى جواره راكضاً في الممرّ إلى درجة دفعته للتفكير في صفعه على وجهه ليبقى ساكناً. لقد تفهّم الراكب البدين أنه يسافر جوّاً للمرة الأولى في حياته، رغم بدلته الجيدة وربطة عنقه وحذائه المصنوع من جلد التمساح. عرف الآخر ما سيحدث لاحقاً، لهذا نظر إلى الأمام منكمشاً وزرَّ عينيه، لكنه لم يتمكّن من تجنّبه. قد ينكمش المرء، يغلق عينيه، يظلّ ساكناً، يكاد لا يتنفّس، لكن من دون جدوى، إذ ينتهي الأمر دائماً بالعثور عليه. ليس دائماً، ففي السجن كان قد اختبأ في عربة للخبز، أسفل صاج ممتلئ بالأرغفة الساخنة شهية الرائحة، محتضناً ساقيه المضمومتين المنكمشتين؛ بينما تُبلّل رطوبة أنفاسه نسيج بنطلونيه: بنطلون السجن فوق ذلك المدني. يَقدر الفقير، عبر الإيحاء الذاتي، على تحمّل كتم أنفاسه لفترة طويلة تحت الأرض. سمع أصواتاً بالقرب منه: ضوضاء إطارات العربة فوق الأرض الأسمنتية لأحد الأروقة ومحرّك الشاحنة، أما رائحة الخبز ففرضت نفسها على رائحة الهواء ذاته. شعر كأن قلبه طبلة تدقّ داخل صدره المضموم في اتجاه ركبتيه. آلمه بطنه وخشيَ أن يصاب بالإسهال. صحيح أن التنويم المغناطيسي الذاتي يسمح للمرء بالسيطرة على وظائفه الجسدية بشكل كامل، لكن لأنه لم يعرف متى سيأكل مجدّداً، فقد التهم قبل الفرار اثنتي عشرة بيضة، واحدة تلو الأخرى، مستغلاً صخب المطبخ الذي لا يهتمّ فيه أحدٌ بما يفعله غيره. وضع كذلك داخل جيوب بنطلونه، وقميصه، وحقيبته الشخصية الصغيرة، عشرين لوحاً صغيراً من الشوكولاتة. كان يشعر، من فوق رأسه، بسخونة الصاج المحمّل بالخبز. رفع أحد الحرّاس الغطاء المعدني للعربة، حينما توقفت الشاحنة في نقطة التفتيش الأخيرة، فانكمش بصورة أكبر وصبَّ كلّ تركيزه على أن يرسل نحوه موجات مغناطيسية لمنعه من النظر أسفل الصاج.

    الآن وهو في مقعد الطائرة، مأسوراً بحزام الأمان، كان عاجزاً عن التواري أو الاختفاء. مدَّ له الراكب البدين يده وقال له اسماً؛ اسماً ولقباً ومن بعدهما اسم الشهرة. كم هو استثنائي ذلك الهدوء الذي ينطق به الناس أسماءهم التي عُرفوا بها دائماً! لا يشكّون ولو للحظة، فهُم لا يخافون من أن يُخطئوا في وقت كتابته. فكّر في أنه سيلفت الانتباه أكثر لو رفض قبول اليد الممدودة، لذا مدَّ يده هو الآخر مفلتاً ذراع المقعد من دون أن ينظر إلى عينَي الرجل رغم قربه منه، لأن الوجوه يسهل نسيانها إن لم تتلاقَ العيون. شدّت يد الرجل الضخمة على يده الرخوة، الرطبة نوعاً ما، والشاحبة جداً. كلّما قَلّت القوة الموجودة عند ملامسة الأشياء، تراجعت فرص ترك البصمات، لكن الأكثر عمليّةً من كلّ هذا، أن يضع المرء قِطعاً بيضاوية من الشريط اللاصق فوق أنامل أصابعه.

    لكنه لم يفعل هذا الأمر قبل الإمساك بالبندقية، وإخراج فوهتها من نافذة دورة المياه والضغط على الزناد لمرة واحدة فقط. نطق بصوت خفيض اسم «سنِيد» الذي كان ما يزال يحاول اعتياده. قاله بصوت خفيض للغاية، مباعداً بين شفتيه قليلاً جدّاً إلى درجة قد يُحتمل معها أن الرجل البدين لم يسمعه، ما يعني أنه لن يتذكّره، خاصّة أن هدير محرّكات الطائرة كان يُخمد الأصوات بصورة أكبر. سأله الرجل البدين: «شنايدر؟»، محرّكاً يده عند أذنه باستظراف وكأنّه يُطقطقها. لقد جعلته بنية الرجل الضخمة يشعر بنفسه محاصراً بشكل أكبر داخل الحيّز الضيّق لمقعده.

    أخبره الرجل البدين أنه يمتلك سلسلة متاجر حلوى في تورونتو، وأنه يسافر إلى لندن لزيارة ابنته، التي تدرس الاقتصاد. لا يتوقف البشر هنا وهناك عن سكب معلومات لم يطلبها أحدٌ منهم، وهو أمر يُمكن الاستفادة منه أحياناً عبر اختيار مهنة أو تجارة لكي ينسب المرء نفسه إليها لاحقاً. قال له إنه يعمل مديراً لقسم دعاية في إحدى دور النشر. كان قد قرأ هذا المسمّى الوظيفي قبل قليل في جريدة تركها أحدٌ ما في صالة السفر، فالصحف تتيح للمرء تعلّم شتى الأمور، رغم أنه كان قد فكّر للحظة في فرضية إخباره بأنه مسؤول عناية بيطرية في حديقة حيوان.

    وظيفته المبتكرة المفضّلة هي التاجر البحري؛ ربّان إحدى سفن الشحن الكبيرة التي تقطع طريق الميسيسيبي، من سانت لويس إلى ممفيس ونيو أورلينز، ومن نيو أورلينز إلى هافانا وجزر الكاريبي، بشواطئها الرملية البيضاء وأشجار النخيل التي تظهر ملوّنة بالكامل في صور مجلّات السفر. ربّان، ضابط أول، كبير طهاة، ساقي كوكتيلات، ورديات طويلة فوق سطح السفينة، عجلة الدفة بين يديه، نظّارته الشمسية تحت حافة قبعته، مرتدياً قميصاً أبيض ورتبته كقبطان فوق كتفيه. في المجلّات المصوّرة آنذاك، شاع أن تظهر إعلانات ملوّنة بالكامل ليخوت وقوارب شراعية فارهة.

    بمجرّد أن يقول المرء أيّ شيء، يصدّقه الناس، لكنّه كان منهكاً، متوتراً وفاقداً للتركيز ليحبُك كذبته، لهذا ظلَّ صامتاً بعد رفع العشاء وخفوت أضواء مقصورة الركّاب. أول ما يفعله جيمس بوند لدى جلوسه إلى مقعد الطائرة هو إشعال سيجارة «مورلاند» بقدّاحته «رونسون» المعدنية المصقولة وطلب كأس مارتيني مزدوج من المضيفة. فجأةً، بدت الطائرة كأنّها لا تتحرّك. لقد نام الرجل السمين. ثمة صحيفة فوق وجهه، أما شخيره فكان بعلوِّ الصوت ويحرّك أوراقها مع كلّ نفَس. أزال الصحيفة بحرص كبير ثم فحصها بدقة؛ من الصفحة الأولى إلى الأخيرة. لم يكن حجم صورته كبيراً وهي نفسها لم تكن بارزة؛ مجرّد صورة جنائية تعريفية قديمة مأخوذة من الأمام، مثل البقية: ضبابية، سيّئة الطباعة، بل وزادت إضاءة الطائرة الضعيفة من طابعها المبهم: ثمة أُذن أكبر من الأخرى، شعره محلوق إلى جذوره بطريقة السجن القاسية، ذقنه متّسخ، أما عيناه ففزعتين لكنهما لا تخلوان من التحدّي، كأيّ سجين. جاء في الصحيفة أن ثمة احتمالاً أنه قد فارق الحياة، لأن المتواطئين معه أو مَن ورّطوه قد أعدموه خشية أن يكشف أسماءهم ويحكي ما يعرفه عنهم.

    أُضيء النور فجأةً، بدأت المضيفات في توزيع الإفطار ووُلد النهار عبر النافذة البيضاوية، لكن كيف أصبحت الساعة الواحدة وهو لم يكد يغفو؟ الجريدة التي غطّى بها الرجل السمين وجهه موجودة الآن فوق الأرض، لكن الورقة التي تظهر فيها صورته كان قد طبقها ووضعها في جيب بنطلونه. كلّما قلّت الأمور التي عرفوها، زادت ترهاتهم الخيالية المبتكرة؛ مثل أن طائرة صغيرة من طراز «سيزنا» قد أقلعت من مطارٍ سرّي وسط مستنقعات فلوريدا وحملته مسافراً وحيداً نحو كوبا.

    رغم ظلام الطائرة، نظر حوله متشكّكاً، بحكم العادة، للتأكّد من أن المضيفات لا يرينه. قالوا عبر مكبّرات الصوت إن ثلاثين دقيقة تفصلنا عن الهبوط في مطار «هيثرو». على المسافرين أن يجهّزوا جوازات سفرهم وإقراراتهم الجمركية. نظر إلى الاستمارة التي سلّمتها له المضيفة قبل دقائق، بعد أن أخذت صينية الإفطار. بدت له مهمة ملئها مستحيلة. إلى جواره، كان الرجل البدين يملأ المساحات الفارغة بكلّ مرح؛ يملأ خاناتها بحروف كبيرة: الاسم، تاريخ الميلاد، الجنسية، عنوانه في بلده الأصلي، عنوانه في المملكة المتحدة، رقم الطائرة، اسم الخطوط الجوية، مطار السفر ورقم الجواز.

    في الجيب الخلفي لسرواله، ثمة مسدس بساقية دوارة. كان جيمس بوند يحفظ مسدسه الـ«بيريتا» في جراب من جلد الظباء. إن كانت هذه البيانات موجودة كلّها تقريباً في جواز السفر فلأيّ سببٍ يجب تكرارها من جديد! رامون جورج سنِيد، المولود في تورونتو، كندا، في الثامن من تشرين الثاني عام 1932. كان هناك خطأ في جواز سفره؛ لقد كتب «سنِيا» وليس «سنِيد». لقد كان ذنبه، إذ ملأ الطلب برعونة، بيد مرتعشة، في وكالة السفر، متوتراً من اهتمام الموظّفة ولطافة ضيافتها المفرطة، مثل تلك التي قد تُقدّم لقعيد. نظر الرجل السمين إلى جوازه بينما ينسخ رقمه وهو يمصّ غطاء قلمه في هدوء. فكّر مشمئزّاً في أنه قبل لحظة كان قد طلبه إليه.

    لسببٍ ما، كان الرجل البدين مرتاباً بشأنه. ثمة أشخاص يحملون داخلهم جينات الوشاة. لم يدخلوا السجن قطّ. لم يتم إجلاسهم عنوةً إلى مقعد وأيديهم مقيّدة خلف ظهورهم، أو محاصرتهم في ركن حمّام فارغ، لم ينكمشوا عراة على أرض أسمنتية وهم يحمون خصيتيهم، ولم يتعرّضوا للضرب بهراوات مطاطية. لم يتلقّوا قطّ عرضاً بتخفيض محكوميتهم أو الانتقال إلى زنزانة تخلو من الصراصير والفئران مقابل الإفشاء عن معلومة أو الإدلاء بشهادة محفوظة من قبلُ أمام قاضٍ. إنهم وشاة بالفطرة، لأنها هوايتهم، لأنه ذوقهم، لأنها غريزتهم. «منذ وقع بصري عليه، أدركت أن ثمة شيئاً غريباً فيه. وجّهت له التحية ولم يجبني. سألته عن أمور ولم يجب، كأن لديه شيئاً يخفيه. قال إن اسمه شنايدر، لكن بعد ذلك رأيت اسماً آخر في الاستمارة التي ملأها قبل الهبوط. كيف لي ألّا أتعرّف على هذا الوجه. لن أنساه ما دام حيّاً، خاصة مع تلك الطريقة التي كان ينظر بها». سيلتقطون له صوراً وسيبتسم كبطل. سيحصل على مئة ألف دولار مكافأةً، علاوة على كل المال الذي سيدفعونه له ليقصّ أكاذيبه على مجلّة ما، أو في التلفزيون، متأنّقاً، منتفخاً كبالون من فرط سروره، بينما يصافح المذيع ويناديه باسمه الأول. الجميع لديهم استعداد لشقّ ملابسهم والبكاء زوراً من أجل الميت، وبالمثل لأن يطفح منهم غضب حشدٍ هائج ضدّ من يعتبرونه قاتلاً، لكن الحقيقة أن كلّ من تأتي أمامه فرصة، لا يتوانى عن استغلالها. ليت هذا الرجل البدين يصاب بالسرطان!

    ينظر رأس الملك الرخامي المزيّن بالريش وكأنّه نافورة في اتجاه البحر، أو أيّاً كانت ماهية هذا المسطح. أما وجهه المعتدّ بنفسه فيميل نوعاً ما ناحية اليمين. ثمّة سفينة شحن مقدمتها مرتفعة وهيكلها قد طُلي مؤخراً بالأسود تقترب من الشاطئ. على سطحها، هناك رافعات مطلية بالأصفر ومرتفعة كصواري الأشرعة الرئيسية. ثمة اسم مكتوب على جانب السفينة: «جاكارتا». جاكارتا هي عاصمة إندونيسيا. كوالالمبور هي عاصمة ماليزيا. أما عاصمة منغوليا فهي أولان باتور. لطالما اندهشت معلّمته في المدرسة من معرفته لأسماء الدول، والعواصم، وتواريخ الأحداث التاريخية وارتفاعات الجبال، لكنها لم تُخف قطّ الاشمئزاز الذي اعتراها كلّما رأته، بل ولم تمانع السخرية منه أمام الآخرين. اعتاد أن يذهب إلى المدرسة حافياً أو بحذاء قديم واسع، مرتدياً سترة والده البالية بعد أن شمّر كُمّيه، فتفحصه المعلّمة قبل دخوله، وإن وجدته مُصاباً بالقمل، تمنعه.

    تسعة وعشرون ألفاً وخمس وثلاثون قدماً هو ارتفاع قمة إيڤرست. أوتاوا هي عاصمة كندا. أثرى مناجم الذهب والألماس في العالم موجودة في جنوب إفريقيا، الدولة التي تدفع رواتب مرتفعة جداً للرجال البيض المتمرّسين في استخدام الأسلحة النارية لمراقبة عمّال المناجم السود. في بيافرا أو الكونغو، المرتزق الأبيض بطل، جندي مغامر.

    في الشتاء، كان أبوه ينزع ألواح الأرضية الخشبية ليُغذّي بها نيران المدفأة، ومن بعدها ألواح السقف. قبل كل هذا، كان قد قطع كلّ فروع الأشجار القليلة الموجودة في مزرعتهم العقيمة التي فكّر لفترة من الزمن في تحويلها إلى أرض للحرث والفلاحة، لكن انتهى الأمر باستخدامها كمخزن مفتوح أو مقلب قمامة. ليلاً، كان الأب يبول ويقيء في أحد الدلاء التي يضعها لجمع قطرات الماء المتساقطة. لقد نزع أبوه أيضاً ألواح السرير الذي كان يتكدّس عليه هو وإخوته في وقت النوم، ومنذ تلك اللحظة باتوا ينامون جميعاً على الأرض وكلٌّ منهم يغطي وجهه لكيلا يختنقوا من دخان المدفأة.

    عاصمة أستراليا هي كانبيرا. في السجن، كان يتحصّل على دخل صغير من تأجير روايات عن الغرب القديم، وكائنات المريخ، أو مجلّات طالتها كل الأيادي فيها صور بالأبيض والأسود لفتيات عاريات، أغلفتها ملوّنة بالكامل وتتصدّرها نساء بصدور تتفجّر من قمصانهن بينما يهاجمهن سكّانٌ أصليون أو حيوانات متوحشة. كذلك كان يؤجّر لهم أوراقاً للعب البوكر عليها صور لنساءٍ عاريات يتزيّنَّ بحُليّ استعمارية: قبعات من الفلين، جلد نمر مرقّط، أو رمح.

    اعتاد أن يقرأ الموسوعة الطبية ومجلّات «ريدرز دايجست»، «تايم»، «ناشونال جيوغرافيك». كلها نسخ قديمة ومتأخرة تصل إلى مكتبة السجن بطرق متنوّعة. لقد قرأ أيضاً أكثر من مرة كل واحدة من روايات جيمس بوند. كذلك، كان يتحصّل شهرياً على مجلّة «ترو» الممتلئة بتقارير مصوّرة عن مغامرات البحّارة، بعثات الصيد الكبرى في إفريقيا وصيد النمور في الهند؛ عن أماكن قد ينسى فيها المرء نفسه في جزر الكاريبي والباسيفيك؛ عن سواحل المكسيك؛ عن شهوانية نساء السكّان الأصليين، تنانيرهن المصنوعة من الزهور وصدورهن العارية في تاهيتي؛ عن البيزرة(2) وعن مُشاهدات السفن الفضائية.

    في رواية «دكتور نو»، يستيقظ بوند في أحد شواطئ الكاريبي، فيرى امرأةً عارية من ظهرها لا ترتدي سوى حزام من الجلد يتدلّى منه جراب رمح الصيد. البيزرة هو فن الصيد باستخدام الصقور المدرّبة. «جسم طائر مجهول» هو الاسم التقني لما يُطلق عليه شعبياً الطبق الطائر. كان يقرأ كتباً عن اليوغا والتنويم المغناطيسي، ويحفظ صفوفاً من الكلمات وفقاً لترتيبها الأبجدي لزيادة حصيلته اللغوية. ثمة مَركَبَات بين الكواكب مُكرّسة منذ فترة طويلة لمراقبة الأرض، وفقاً للّجنة الوطنية لأبحاث الظواهر الجوية المعروفة اختصاراً بـ«نيكاب». لقد اعتاد على تعلّم معاني الاختصارات الطويلة والصعبة. لطالما نظر بإمعان إلى صور الأنهار الجليدية والشواطئ البعيدة وتعلّم أسماء الأماكن ليتخيّل نفسه فيها بشكل أفضل، حين يهرب. بويرتو بايارتا. أكابولوكو. شواطئ الأحلام على ساحل الباسيفيك.

    عاصمة روديسيا هي ساليسبري. لورنسو ماركيس هي عاصمة أنغولا. ثمة حرب أيضاً في أنغولا وحاجة إلى المرتزقة البيض. البرازيل ليس لديها معاهدة لتسليم السجناء مع الولايات المتحدة. ذات يوم، عاد من المدرسة فوجد أن أمه قد استخدمت نصف صفحات كتاب الجغرافيا لإشعال فرن المطبخ، أما بقيّته فانتهى بها المطاف معلّقة في مسمار إلى جوار المرحاض. في روديسيا الرجل الأبيض يظلّ رجلاً أبيض فخوراً بكينونته وبالدفاع بالسلاح عن حرية وطنه.

    هل أمعن موظّف وزارة الخارجية النظر فيه لفترة أطول من اللازم؟ لقد تذكّر الآن أن ثمة صحيفة مثنيّة كانت موضوعة فوق فوضى رُزم الملفّات. أيّاً كان الوضع، لا يوجد مفرّ من العودة إلى مكتبه. شعر بالراحة حين تحدّث الموظّف بالإنجليزية. لاحظ سعادته بنجاحه في تكوين الجمل والعبارات، رغم أن لهجته كانت غريبة للغاية. فَهمُ الناس في هذه المدينة، وأن تجعلهم يفهمونك عذابٌ وسأم؛ فالمسألة عبارة عن سلسلة متتالية من سوء الفهم، اللفّ، الدوران، الإشارات والكلمات المُفكّكة التي لا تعني شيئاً. يتحدّث هؤلاء القوم بكلمات مُبهمة تكاد لا تخرج من شفاههم ومرات قليلة تلك التي ينظرون فيها إلى وجهك. كان الأمر كأنّه قد وصل إلى كوكب آخر، بل إنه حتى لم يكن يفهم

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1