Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

حكايات من التراث الكوردي
حكايات من التراث الكوردي
حكايات من التراث الكوردي
Ebook391 pages2 hours

حكايات من التراث الكوردي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

عرف تلك الأودية والمروج، ولاحظ بعض التغيرات، حيث لم يبقَ من تلك الأشجار الجميلة - التي كانت على ضفتي النهر من الصنوبر، والسرو، والأكاسيا، والكستناء، والبلوط - إلا القليل منها، قد أكل منها الزمن. وتظهر جليًا على أغصانها الملتوية، وجذوعها المتشعبة، والمهترئة، ورأى بعض الطرق البرية الجديدة التي لم يعهدها، وتناثرت آثار الطريق القديم الحجري، الذي كان يؤدي إلى ممرات الجبال حول القرية، ورأى جسرًا جديدًا على النهر الذي لم يبقَ بحجمه الكبير كما السابق. وطريق الجسر يؤدي إلى وسط القرية، أو البلدة. فلم تعد تلك القرية الصغيرة التي تحوي بضعة عشر بيتًا على ضفة النهر الكبير.
Languageالعربية
Release dateJun 9, 2024
ISBN9789778699258
حكايات من التراث الكوردي

Related to حكايات من التراث الكوردي

Related ebooks

Related categories

Reviews for حكايات من التراث الكوردي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    حكايات من التراث الكوردي - خليل عثمان حسن

    -الجزء الأول-

    خليل عثمان حسن

    حكايات

    من التُراث الكوردي


    إهداء

    إلى أبي وأمي رحِمهُما الله وأسكنَهُم فسيح جناته

    وإلى إخوتي وإخواتي وعائلتي الحبيبة وأهلي الأعزاء وإلى كل أبناء الشعب الكوردي العظيم وأصدقاء الشعب الكوردي ولا سِيما المُهتمين بالتُراث والفلكلور الشعبي والأدبي للشعب الكوردي.


    المُقدمة

    يُعتبر التاريخ والفلكلور الشعبي من أهم مِيزات الشعوب، وكذلك المَوروث الشعبي يُعَدُّ دليلاً واضحاً على عَراقة أي شعبٍ، فتُصبح بذلك هويةً تعريفية بتلك الشعوب لا يُمكن إنكارها أو تَجَاهُلها أو حتى القضاء عليها مهما طال الزمن.

    والشعب الكوردي هو أحد أعرق وأقدم القوميات التي تسكُن منطقة الشرق الأوسط، وسَاهم في بناء تاريخ المنطقة المُغرِق في القِدم من خلال تأسيس عدة إمبراطوريات على مر التاريخ، مثل مملكة ميديا التي أكّدّ المؤرخ والمُستشرق الروسي (مينورسكي) وذلك في مؤتمر الاستشراق الدولي العشرين في بروكسل عام 1938، حيث رأى إن الكورد ما هُم إلّا أحفاد الميديين، وكذلك الميتانيين هم الفرع الآري من الهوريين الذين نزحوا إلى كوردستان في بداية الآف الثاني قبل الميلاد، إضِف على ذلك الحضارة الحِثَّية والكاشية التي تمركزت في قلب مناطق كوردستان الحالية قبل الميلاد.

      وفي العصر الذهبي للحضارة الإسلامية كان للشعب الكوردي بصمةٌ قوية وواضحة من خلال شخصيات وعلماء أثّروا على التاريخ الاسلامي ككُل سواء من الناحية الدينية أو العسكرية أو العلمية أو الادبية ،مثل الصحابي الجليل جابان (كابان – كافان) الكوردي الذي لم يأخُذ حقه بإنصاف في المؤلفات العربية والإسلامية قديًما وحديثًا، وكذلك القائد العسكري الكوردي صلاح الدين الأيوبي بطل معركة حطين ومحرر القدس في عهده، بالإضافة إلى أدباء ومُفكرين وشُعراء مثل ابن الاثير الجزيري وابن خَلَكَان وابن تيمية وسيبوي وأبو العتاهية والمعروف الرصافي وغيرهم.

       وكان للكورد أيضًا دور رئيسي في بناء الدول الحديثة من خلال حركاتٍ سياسية في تركيا وسوريا والعراق مثل جميعة خويبون أو الاستقلال في الثلاثينيات من القرن العشرين، والجمعية الكوردية الفتاة والأحزاب السياسية في جميع تلك الدول التي تتقاسم جغرافية كوردستان، وبرزت شخصياتٌ تاريخية حديثة في المنطقة كان لها دورًا كبيرًا في تاريخ المنطقة الحديث، مثل محمد علي باشا الوالي العُثماني الكوردي الذي حَكم مِصر ومن بعده عائلتُه حتى منتصف القرن العشرين.

    كذلك القائد السوري يوسف العظمة وزير الحربية وأول ثائر ضد الإحتلال الفرنسي، وصاحب ثورة الشمال السوري إبراهيم هنانو، بالإضافة إلى صاحب الانقلاب الأول في سوريا والعالم العربي حسني الزعيم، والعلامة والمؤرخ الكوردي محمد كرد علي وعبدالرحمن الكواكبي وقاسم أمين والشاعر أحمد شوقي والقائمة تطول في مجالات الفن والرواية والغناء...

       ورُغم العديد من محاولات طمس الهوية الكوردية في الدول التي تتقاسم الجُغرافية الكوردية الكبرى (تركيا، إيران، العراق وسوريا) بالإضافة إلى جيوب في (أرمينا، اذربيجان) إلّا إن الشعب الكوردي كان عنيدا في مُقارعة محاولات إلغاء وجوده بكل الطُرق المُتاحة له، مثل الكفاح المُسلح أو الحفاظ على اللغة والعادات والتقاليد الخاصة بالشعب الكوردي، كهيئة الثياب واللباس الفلكلوري والموسيقى والغناء والشعر والقصص والأساطير الكوردية القديمة التي تناقلوها من جيل إلى آخر.

        لذا كانت للحكايات والقصص الشعبية الأسطورية منها أو الحقيقية التي تناقلها أبناء الشعب الكوردي عبر الأجيال المُتعاقبة إحدى المعالم الواضحة لغزارة المَوروث الثقافي الكوردي، وتُعبِر عن آصالة وخصوصية الهوية الكوردية، ويدل أيضًا على تَجُذُر هذا الشعب في هذه المنطقة وتاريخها القديم، وللتاريخ دور مُهم في نهضة الشعوب وتقدُمِها وإعتزازها، ويُساهم في بناء مجتمعٍ قائمٍ على الرغبة في العيش بكرامةٍ وعزةٍ وحرية.

         وفي هذا المؤلَّف سأتَطّرّقُ إلى سَّرد العديد من القصص والحكايات الكوردية القديمة، التي كانت تُروى في ليالي الشتاء الباردة وسهرات ليالي الصيف المُمتعة في المجتمع الكوردي الريفي البسيط، منها أسطوري ومن نسج الخيال الشعبي القديم في مُحاولته تفسير بعض الظواهر الطبيعية أو إيجاد قواسم مُشتركة بين الإنسان القديم والطبيعة، أو بين الإنسان وبعض الحيوانات في عالم الجبال والغابات التي تُشكِّل مُعظم أراضي كوردستان.

    وتحوي في طيّات أحداثها الكثير من الفلسفة والمعاني العميقة، ولا سيما في المنطقة الجغرافية الكوردية الواقعة بين تركيا وسوريا الحالية وبعضُها الآخر مَصدرُها المنطقة الكوردية في إيران والعراق، وإنتقلت هذه الأساطير عبر الغناء الفلكلوري في مجالس الفن وبيوت الآغاوات والمخاتير الكورد، أو عبر القصص التي كان يُمضي بها الرجال والنساء الوقت في الليالي الطويلة المُظلمة في البيوت أو مجالس المخاتير في القُرى (أودى مختارا) حول النار الدافئة في برد الشتاء أو في الهواء الطلق حيث نسيم الصيف العليل في المناطق الكوردية، أو عبر حكايات العجائز والأجداد والآباء والأمهات التي كانوا يرووّنها لأطفالهم قبل النوم.

    حيث كانت الوسيلة الوحيدة للمُتعة السمعية والتخّيُّلية للإنسان مع عدم وجود الوسائل الحديثة التي عرفها الإنسان الحالي بعد توفُر الكهرباء وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي ابعدت المُجتمعات من تلك الأجواء القديمة المليئة بالحنين والاُلفة وصلة الرحم. ومنها أيضًا قصصٌ حقيقية لأشخاص عاشوا تجارب مُميزة وغريبة في حياتهم، مِنهم من التقيتُ به وسمعت مِنه مباشرةً، ومنهم من مات فسمعتُ تجارِبهُم وقِصصهم مِمن التَقَي بهم وسمع عنهم، حيث تُعبّر عن فترةٍ زمنيةٍ تاريخية وعصيبة عاشها الكورد خلال القرن العشرين منذ حروب السفر بَرلَك والحربين العالميتين الأولى والثانية وتقسيم الشرق الأوسط عبر الإتفاقيات والمعاهدات الدولية.

     فكانت قصص هؤلاء دليل على الوجود الكوردي العميق والمؤثّر في المنطقة رُغم المحاولات العديدة لإنكارها من قبل الدول المُتحكمة بالشعب الكوردي ورغبتهم من جعل الكورد مُجرد زوّار أو ضيوف على منطقة الشرق الأوسط، فكان التراث الكوردي والفلكلور الثقافي الكوردي المُتنوع أقوى من تلك المحاولات، ولكنّ العديد من القصص الكوردية التي تمتاز بِجماليتها وغرائب أحداثها ومُتعة سَردها، قَد تم سرِقتها وتحويلها إلى روايات وأفلام ومسلسلات دون ذكر مصدرها الكوردي في العديد من دول الشرق الأوسط .

     لذا لابُد من ترجمة الموروث الثقافي الكوردي إلى أدب عالمي مكتوب عبر مؤلفاتٍ كهذه أو إلى أفلام ومسلسلاتٍ حيّة، فتُصبح رسالةً إنسانية تُعبّر عن ميزة وخصوصية الشعب الكوردي كغيره من شعوب العالم، وأرجو ان يكون هذا المؤلف خطوة على هذا الطريق على أمل أن تتحول هذه القصص إلى أفلام أو مسلسلات أو حتى أفلام كرتون هادفة وبمختلف اللغات لتعزيز الهوية الكوردية الثقافية والتاريخية.

    والحمدُلله رب العالمين

                                                                    المؤلِف

    خليل عثمان حسن / 2022


    عَرُوسَة السماء

    (فَلَكَ أزمين)

    (دلو ولوندو)

    (كيف وصلتني القصة؟ في إحدى الليالي الباردة من شتاء عام 2009 في قريتنا البسيطة والهادئة (روباريا) التي تبعد عن مدينة ديريك قرابة 10 كم، خرجت بعد صلاة العشاء مُتجهً نحو منزل عمي (خلف حاجي مراد) حيث كانت عمتي العجوز (هوري) رحمها الله تعيش بين أبنائها وأحفادها بعد أن تجاوزت 75 عامًا، وكانت طاعنةً في السن ولكن ذاكرتها كانت قوية وتتذكر أدق التفاصيل، ومعروفة بقصصها المُمتعة والكثيرة التي حفظتها من الأباء والأجداد، وكنتُ كالعادة أقوم بتصوير وتسجيل تلك القصص واللقاءات عبر هاتفي المتواضع المتوفر في ذلك الوقت.

    وهي على وشك النوم كعادة كبار السن الذين ينامون في بداية الليل في الشتاء البارد، طلبت منها أن تروي لي قصةً لأسَجِّلها، فوقع الاختيار على قصة الأخوين دلو ولوندو وهي قصة أسطورية حول الغدر والخيانة، وقصةَ تشكّل درب التبانة حسب تلك الاسطورة الكوردية القديمة، ملاحظة: تم تعديل وإضافة بعض الحبكة على سير القصة والتعديل كان لغرض ربط الأحداث وتوضيحها وتجنب أي نقص يؤثر على فهم السياق العام، مع بقاء الأحداث في سياق الترتيب الأصلي، وهذا سينطبق على جميع القصص).

         في قريةٍ كورديةٍ صغيرة بين الجبال الشمالية، كان يعيش أخوين في منزلٍ قديم مُهترئ بعد وفاة والديهم، (لوند) الأخ الأكبر وزوجته (خيالي أو هيالي) وشقيقه الأصغر( دلو) وهو فتىً في مُقتبل العُمر يتميّز بِحُسن الشّكل وجمال الإخلاق، والقرية تُلقبه بأهل الله (اهلي خودي) للدلالة على إخلاقه الطيبة رُغم سنهِ الصغير.

         كان لدى دلو بغلةً عُمرها ثلاث سنوات وكلبٍ سلوقي (طاجيك) عُمره سنة، ولا يُرى دلو في مكانٍ دون بغلته وكلبه السلوقي، حيث يطوف بهما البراري والسهول، ولوند الأخ الأكبر يعمل في الحقل الصغير الذي ورِثَه من والده ويعيش من خيراته، وقد مَرَّ أكثر من سنتين على زواجه من خيالي، ولكِنّها لم تُنجِب أطفالاً بعد، ولوندو رجلٌ نشيط يُحب عمله وعائلته وكان يَعتبر نفسه المسؤول عن إخيه دلو، ويفتخر به أمام الناس؛ لأنه شابٌ خلوق وسهل المعشر ومَضّربٌ للمثل في الإخلاق في القرية كُلها.

        كانت الأيام تمُرّ بِبُطء في هذا البيت، حيث إنَّ لوند يسأل مِراراً وتِكراراً عن تأخُر الحمل لدى زوجته ويطلب منها أن تذهب إلى عجوزة القرية وكانت تلقب بالجدة أو الداية (بيرك) التي كانت تُساعد نساء القرية في الولادة منذ سنوات، وقد حضرت ولادة لوند ودلو أيضًا، وكان جواب خيالي دائماً، إنَّ الجدة تقول ليس هناك من مُشكلة وعليكم فقط الانتظار حتى يأذن الله بذلك.

    واعتادَ لوند هَزَّ رأسه كُل مرةٍ مُعبّرًا عن رضاه بأمر الله فهو رجل مؤمن وسهل التعامل وصبور، وبنفس الوقت كانت خيالي تُعّجَب يوماً بعد يوم بِوسامة دلو وهو يَكبُر أمامها ويزداد شباباً ووسامةً، ودلو يفهم لغة الحيوانات وتُعتبر كرامةً له لإخلاقه وحسن تعامله مع الناس.

        وفي يومٍ من الأيام الصيفية العادية، خرج لوند إلى الحقل للعمل حيث اقترب موسِم الحصاد، وخرج معه دلو الذي اعتاد مُرافقته إلى الحقل بالإضافة إلى حيواناته له التي تُعتبر أصدقاءً له (البغل والكلب السلوقي) ودلو اعتاد العودة إلى البيت قبل لوندو حينما تشتَدُ حرارة الظهيرة.

     دخل دلو البيت بعد أنّ ربط بغلته في فناء البيت واراد أن يأكُل بَعض الطعام، ومع وجوده لوحده مع زوجه أخيه خيالي بدأ الشيطان يبث سُمومه في عقل (خيالي) حيث استعطفت دلو رغبةً للاقتراب منه، والبيوت في ذلك الوقت صغيرةٌ جدًا بحيث قد يُشارك بعض الحيوانات والطيور أصحاب البيت مَبيتهم، فكانت طيور الدجاج تقتات من أرضية الغرفة الطينية البسيطة، فاقتربت دجاجةٌ من الديك تودّداً، فما كان من الديك إلا أن رَفَع صوته بالنقيق والصياح فلفت بذلك إنتباه دلو الذي يفهم لغة الحيوانات وهو مُنهمِكٌ في البحث عن طعامٍ لأكله، ففَهِم فحوى كلام الديك للدجاجة.

    حيث قال الديكُ للدجاجة: ألا ترين إن الوضع في هذا البيت سيتغير للأبد، الا تَرين ان (خيالي) تُريد التَعّرُض لدلو المسكين، فكانت تلك الكلمات كالصاعقة على دلو، وبدأ يُلاحِظ أن تعامل وكلام خيالي معه قد تَغير، وهي كانت قاسيةً معه قبل ذلك، وعندما بدأت تقترب منه وتتلكمُ معه بِمعسول الكلام، توجه دلو نحو الباب لِتسبقه خيالي وتُغلق الباب وقالت أريدك الآن، فصرخت الدجاجةُ ما الحَلّ؟.

     فقال الديك إن وراء جُرن الطعام خيزرانه لو اخذها دلو وضَربها وخرج من البيت لَنَجَى، فسارع دلو نحو الجُرن ورأى الخيزران فضرب خيالي ضربةً ابعدتها عن الباب وخرج، فخافت خيالي ان يذهب دلو إلى لوندو ويخبره بما حدث، وفكرت بطريقةٍ خبيثة للإيقاع بين الأخوين وتنجو هي بفعلتها.

     فقررت أن تتسطح في الفِراش تسَطُحَ المريض المُتألِم، وشَقّت بعض ملابسها وانتظرت عودة لوندو من الحقل في المساء، أما دلو فقد ظَلَّ خارج المنزل ينتظرُ أخاه، حيث لم يرغب في العودة للبيت إلا بعد عودة أخيه، وكان مُحتاراً بين أن يُخبر أخيه أو يكتم ذلك ويهجُر البيت للأبد، ولكنه مازال يُحب لوندو ويَعتبرهُ مثل ابيه فهو اعتنى به بعد وفاة ابيهم وأمهم.

         دخل لوندو البيت مُنهكاً قد اتعبه العمل الشاق في الحقل، ورأى زوجته في الفراش تبكي وتتألم، نظر حوله فلم يرى أي اثرٍ لطعام، حيث اضناه الجوع واعتاد العودة للبيت للراحة والاغتسال وأكل الطعام الذي تعده خيالي له عند المساء.

    لوندو: خيالي ما بكِ هل أنت مريضة؟

    خيالي: لا لستُ مريضة، وأجهشت بالبكاء، أخاكَ دلو حاول الاعتداء عليّ، لقد استحوذ عليه الشيطان، وقد قاومتُه ولكنّه ضربني بالخيزرانة  وهرب، ليتني مِتُّ قبل هذا اليوم، ما إن انهت خيالي كلامها المسموم حتى استمرت بالبُكاء، وتلك الكلمات نزلت كالصواعق على رأس لوندو الذي أُصيب بصدمه ووقع على ركبتيه وعيونه تزرف دمعاً وقال:

    - هل أنت مُدركة لما تقولينَه، إنّه إتهامٌ خطير، أنت تُدمّرين البيت بهذا، إني لا أُصَّدق إن أخي الخلوق المِسكين قد يُفكر بذلك.

       وبدأ لوندو يُفكّر بِصمّت ويعلم إن هذا آخر يوم لسعادة واستقرار هذا البيت الريفي البسيط، تلك الحياة المُستقرة المليئة بالهدوء والرِضا قد انتهت مع انتهاء كلمات خيالي سواءً كانت صادقة أم كاذبة.

     وثقة لوندو بأخيه لا حدود لها، يقطع كُل هذا المشهد الكئيب والحزين صوت فتح الباب ويدخل دلو المنزل، بعد أن رأى أدوات الحَرث التي يعمل بها أخيه ليتأكد من عودته للبيت، ويرىَ مشهد بُكاء خيالي وانكِماش أخيه على نفسه وهو ينظرُ إليه بِعيونٍ مليئةٍ بالدموع والأسى، ومليئةٍ بنظراتٍ حزينة وشعورٍ تعجزُ الكلمات عن تعبيرها، فقال بصوتٍ فيه غضبٌ ورعشة:

    - ماذا فعلت دلو، كيف طاوعتك نفسُك للتفكير بالاعتداء على خيالي زوجة أخيك، وكيف تضربُها هل أقتلك أم أقتل نفسي الآن؟

       بهذه الكلمات الحزينة المؤلمة وبِصُراخٍ أنهى لوندو سؤاله ووقف أمام دلو الذي بدأت تدمع عيونه وتسيلُ بِحُرقةٍ على خدوده الوردية البريئة، وقال بصوت يائسٍ وهو يعلم إن الآوان قد فاتَ على أي كلامٍ يُمكن أن يُقال فمُجرّد الوصول إلى هذه المرحلة من الإتهامات يعرف كلٌ من لوندو ودلو أنه لم يَعُد بالإمكان الاستمرار بالعيش معاً في بيتٍ واحد، ورُغم أن لوندو لم يَشُك أبداً بإخلاق أخيه إلا إنّ الشّكّ سيغُمر قلبه رُغماً عنه، فقال دلو:

    - أقسم لك أخي إنّي لم أخُنك يوماً ولم أفكر يوماً بذلك، ما حدث كان عكس ما قالتهُ زوجتك، لقد أغلقت الباب وهمّت بي فكان لِزاماً عليّ ابعادها ولو ضرباً وخرجت من المنزل على الفور.

    عند انتهاء كلام دلو زادت الآم لوندو الذي أصبح بين نارين، نارُ الشّكّ بزوجته ونارُ براءة أخيه فقال بصوتٍ خافتٍ حزين:

    - دلو لم يُعد بالإمكان العيش معاً، أياً كان البريء مِنكُما فإنّ الشّك سيأكُل كبدي فأُفَضّل مُغادرتك هذا البيت لعل الله يجعل في الأمر مخرجاً، وقد يكون هذا أفضل لنا ولك، تستطيع المُغادرة غداً مع نسائِم الصباح الأولى، كانت تنهالُ هذه الكلمات كالصواعق على قلب دلو الذي استسلم للأمر، وبدا موافِقاً لأخيه.

    دلو: بل سأُغادِر الآن يا أخي، وسأبقى أتمنى لك الخير أينما كُنت، وخرج مُسرعا من الباب ولحقه بغّلتَهُ وكلبُه فإنّهما لا يَترُكانه ساعةً من نهار ولا ليل ولحقه أيضًا أخيه وقال:

    - أرجوك دلو توقف إنّ الليل قد أسبل بظلامه ويكون قد مَلئت الوحوش الوديان والسهول فلا ترمي نفسك في التَهّلُكة.

        وفي هذه الأثناء كانا قد وصلا إلى ساحة البئر القديم وهي بئرٌ قديمةٌ ومصدر مياه أهل القرية، وإلى جانِبها شجرةٌ عظيمة الطول وقديمة الجذور والأغصان ولا يعلم أحداٌ عُمر هذه الشجرة ولا البئر، وما يُميّز هذه الشجرة إنها لا يُنبت لها أوراقٌ لا في فصل الربيع ولا غيره، وتُعرف بالشجرة الجرداء ولم يشهد أبناء هذه القرية منذ القدم أي ورقة أو عِرقٍ أخضر بها ولا يعملون ما نوعُها، وعندما رأى دلو أن أخاه قد لحقه التفت إليه بعيونه الدامعة وقال:

    - أخي أنا برئ وأعلم شعورك الآن وأعلم انك اخّترت الحل الأنسب لهذه المشكلة، ولكن ليطمئِنَّ قلبُك أكثر من جهتي فأنظر إلى هذه الشجرة الجرداء التي لم يشهد أحد في تاريخ هذه القرية أنها نبتَ لها أي ورقة أو عرقٌ أخضر قط.

     وإني راحلٌ اللحظة إلى مكان مجهول لا أدري حيث سأجوب السهول والوديان هائماً على وجهي، فإما سأجد مكاناً في هذه الأرض أعيش فيه بسلام، أو أموت حتف أنفي ولكن غداً صباحاً أنظر إلى هذه الشجرة الجرداء إذا بقيت جرداء كحالها فإني قد خُنتك، وإن نبت لها عِرقٌ أخضر أو أوراقٍ خضراء فأعلم إني كُنتُ بريئاً.

       وركِب دلو بغلتَه باكياً وانطلق به البغل ولحقه الكلب السلوقي وانطلق إلى المجهول وبقي لوندو ينظر إلى أخيه حتى اختفى بين ستائر الظلام الحالك، وعاد حزيناً ومُكتئباً حتى دخل داره ونظر إلى زوجته المُتمارِضة بِعيون الشَّك والأسى وقال:

    - لقد دمّرتِ بكلامك هذا البيت وسواءٌ صدقتي أم كُنت كاذبة فإنه لن يُقام قائمةٌ لهذا البيت أبدا بعد اليوم.

    خيالي: هل كذبت عليك يوماً، وأرجو أن تهدأ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1