Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

قف ها هنا أو حلق مع الحمام
قف ها هنا أو حلق مع الحمام
قف ها هنا أو حلق مع الحمام
Ebook399 pages3 hours

قف ها هنا أو حلق مع الحمام

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

في البرهة التي توسدت فيها ذراعك، أحسست بالخفة التي حملتني لأن أطير من بين عجلات القطار لأحلق في هذه السماء البهيجة والمُلبَّدة بالغيوم، والتي انتزعت الحزن الجميل وحولته على هيئة دمع امتزج برذاذ المطر المتساقط، وإلى وقت قريبٍ لم أكن أعرف فيها حتى اسمك أو أي شيء آخر عنك، إلا أنني وجدت اسمك يرتسم على شفاه كل المحبين والتوّاقين إلى ذلك الحبيب الغائب، قبل أن تنقذني من الموت في رصيف المحطة، وتنتشلني من بين عجلات القطار. فتوالت الأيام الرمادية وملأت حياتي حزنًا وبكاءً، فكم من الليالي المعتمة قضيتها أبحث عن قلبي الذي تركته تحت عجلات القطار، والذي رأيته يطير في السماء ويتلاشى، لأسأل القدر؛ ما الذي جعلك تتوارى في هذا الكون الفسيح؟
وتيقنت بأني لم ولن أحب أحدًا غيرك، فقد صاحبت مسراتي وأحزاني وقصائدي وأغنيات الليل التي كانت تأخذني دائمًا نحو ذلك الرصيف، انحسر هدفي أن أبقى معك لنعيش ما تبقى من حياة.
Languageالعربية
Release dateJun 9, 2024
ISBN9789778987041
قف ها هنا أو حلق مع الحمام

Related to قف ها هنا أو حلق مع الحمام

Related ebooks

Related categories

Reviews for قف ها هنا أو حلق مع الحمام

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    قف ها هنا أو حلق مع الحمام - أحمد طابور

    (2)

    حيدر

    إنه الخريف إذن، شعرت برذاذ المطر الخفيف الذي يتساقط بخفة، قشعريرةً أرسلها جسمي كردة فعل من الانقلاب المفاجئ للطقس، هذا الذي حدث معي لما شرعت بالعبور إلى الضفة المقابلة والولوج إلى داخل محطة القطار، التي لم أهمل أو أترك معلومة أو تفصيلة إلا عرفتها وجمعتها عنها، والتي تقع الآن على مستوى نظري في قلبِ العاصمة، وأهم تلك المعطيات وقت الذروة للمسافرين، انطلاق القطار، المداخل والمخارج، والأهم من كل ذلك أزلام النظام الذين يدسُّون أنوفهم في كل الأماكن كالذباب الأزرق يفتِّشون عن فريستهم لحفظ الأمن كما يدَّعون، غير أنهم كانوا يحافظون على رأس الرئيس ويحافظون على رؤوسهم من أنْ يقطفها -الرئيس -، وهذا ما كان يحصل كثيرًا، ولذلك عليَّ أن آخذ الحيطة والحذر، وقد أقسمت أن أضع حياتي بكفة وسقوطي في أنياب السلطات بكفَّةٍ أخرى، حتّى اللحظة كنت قد نأيت عنهم قدر ما أمكنني، وحافظت على نفسي كثيرًا كي لا أقع بين أيديهم طوال الوقت المنصرم من خلال إتقاني لعملية التمويه والزيغ والتخفِّي عن أعينهم وأعين البصَّاصين والمخبرين.

    على الرغم من ذلك لم أفاجأ بقلبي والذي يحاول أن يقفز من صدري حالَ ما هممت بالعبور، ولتبديد هذا الخوف الذي تلبَّسني والذي جعلني أرتجف كسعفة لنخلة وحيدة في العراء إثر ريح هبَّت فجأة، محاولًا خداع شعوري بانشغالي بأمور جانبية. فنظرت إلى ساعتَي المحطةِ المنتصبتين كآلهة إغريقية كانت تشير عقارب إحداهما ذات الأرقام العربية إلى الرابعة وخمسين دقيقة، وهو موعد انطلاقي نحو المحطة كما خططت له، حيث أن الساعة الثانية ذات الأرقام الإنكليزية متوقفة عند الساعة الثالثة والربع، ومن حسنات عقلي ككل مرة أروم فيها طرد القلق وإبعاده عن شعوري أن أنظر إلى السماء لأرى ما يحلق فيها، شاهدت أكوام الحمام الطائر فوق فضاء المحطة، فرأيت طائرًا أسود ذا ذيل أبيض، وله (گنزوعة) على رأسه، ولأني خبير في تشخيص الطيور، عرفته في الحال، كان يدعى (زنگي) وهو من الحَمام الذي يمتَاز بالشقلبة والعلو في الطيران، وهو بلغة مربي الطيور (طير فصل) وتعني صعب التدجين.

     قليلًا قليلًا ابتعدَ بالطيران عن سربه، وخلال لحظات امتلأت السماء بمجاميع الحَمام لإغراء هذا الطائر الذي فرَ أو تاهَ كما خمَّنت من خلال خبرتي في تربية الحمام، حتى يمتزج مع الطيور الطائرة ليحط على سطح أحدهم كي يُدجَّن مرة أخرى في بيئة غريبة عنه، فمهما كان ذكيًّا ومهما كان جناحاه قويَّين إلا أنه، عاجلًا أم آجلًا، سيحطّ متعبًا ومنهكًا، ليكَونَ له بيتٌ ومأوى جديدٌ، وهكذا هو حال الحمام المسالم، فَرسمتْ في السماء أعلى نظري مجاميع من الحمام خريطة حياة، صبغتِ الفضاء بلون محبب إليَّ يدخل السعادة إلى قلبي ويشغلني عن كلِّ مَنْ هُمْ حولي، وفي الحال تذكرت حماماتي التي كنتُ أعشقها، حيث كان أخي يقول لي وهو الذي غرس حُبَّها في نفسي: (إن الحمام يا حيدر يبعث من داخله روحًا جميلة تلتقي مع روحك لتنتج رابطًا سعيدًا)، وهذا الذي جعل أخي وجعلني فيما بعد في رابط مستمر من الروحانية والسعادة مع الحَمام.

    ولكني بعد أن ضقت ذرعًا بكل ما حولي وبعد أن مُلئت حنقًا وألمًا، قررت الهرب لأتنفس الحرية، أول ما فعلته فككت أسر حماماتي، لأترك لها حق تقرير المصير، فأخذتها إلى الموقع الذي يعيش فيه الحمام غير المدجَّن والمحتمي من الناس بقدسية المكان، فلا يجرؤ أحد على إيذائه، لأنه يسمى حَمام الحضرة المقدسة، يعيش على ما يجود به الزوار من غذاء، فكثير منهم يطعم تلك الطيور اعتقادًا بقدسية تلك الحمامات المستمدة من صاحب المقام، أطلقت الحمامات هناك.. بعد أن هَدَّمتُ أبراجها الحاوية لأعشاشها في سطح منزلنا الذي يمتاز بعلوِّه عن باقي أسطح بيوت المنطقة، فرجع بعضٌ منها إلى السطح، وبعض منها لم يهتدِ إلى برجه مما اضطره أن يسقط في أقنان الآخرين كما حدث الآن مع هذا الطائر الذي قاوم كثيرًا قبل أن يقع أسيرًا مرة أخرى عند مربٍّ جديدٍ، إلا زوجين من (الزواجل) المميزتين بلطخة بلون أحمر على رأسيهما، استقرَّا مع حمام الحضرة بعد محاولات عدة بأن يرجعا إلى منزلنا، لأصعد وأومئ بيدي ليحلِّقا من جديد، وبعد يأسهما من العودة بنيا عشَّهما مع حمام الحضرة في إحدى الزوايا، وكنت مع كل (كشَّة) أبكي دموعًا غزيرة، لتهدِّئني والدتي التي لم يبقَ لها أحد سواي، وفي الحال أغفو في حضنها.

    كنت أعرف أن فصل الخريف قد حلَّ لمَا تحمله الغيوم من ريح عليلة مع موجة برد خفيفة، مما دعاني لألبس سترة زرقاء خفيفة فوق قميصي الرصاصي (النصف كم)، وهذا ما كنت مخططًا له، لأغطي الوشم على ساعدي الأيسر، وليكتمل هندامي كطالب كلية يذهب إلى جامعته، وفيما أنا ألاحق بنظري الطائر المنهك نبَّهني صوت منبِّه سيارة كادت أن تدعسني مع كمٍّ من السباب ويدٍ مرفوعة بإشارة بذيئة خارجة من نافذة السيارة المفتوحة، بُدِّدَ الخوف الناتج من قلقي عبر ارتحالي بالذاكرة إلى حيث روحي المحلقة والمعلقة هناك، وكذلك بإرسالي للطائر قوة دفقٍ روحيٍّ أن لا ييأس وبصوت داخلي (لا تحطَّ رحالك عند أحدهم، لأنك ستعود أسيرًا من جديد)، وهذا ما لن يحدث معي مهما كلّفني الأمر، فأمسكت بإمعانٍ تلك القوة واندفعت مسرعاً.


    (3)

    فاتن

    رسالة من فاتن إلى حيدر:

    أرسلُ إليكَ هذه الرسالة مع مرفق لمذكراتي، وأؤكد فيها بأن يكون لك كلُّ الحق في الاحتفاظ بها أو نشرها أو التصرف بها، بقدر ما هي ذات قيمة ثمينة جدًّا لحياتي، إلا أني وهبتها ملكاً لكَ، وكلي أمل بأن تقبلها فكم سأكون سعيدة حينها.

    هذه الأحرف والجمل التي تتشكل بهيأة حكاية ربما لا تشكل عند الآخرين شيئًا غير قصة من ملايين القصص التي تسبح في هذا العالم المترامي الأطراف، ولكن ما سيسعدني جدًّا ويجعلني كطائرك الحر الموشوم على ساعدك وسأشعر حينها بحرية وسعادة غامرة، هو أنك وحدك من ستكون مهتمًّا بها، لأنك ستعرف حقيقة غائبة عنك، ستقرأ في هذه الأوراق والتي حرصت على أن أمنحك إياها بكل ما وردَ فيها من حكٍّ وشطبٍ ودموعٍ هكذا بدون رتوش والتي سطرت فيها مُجمَل مفاصل حياتي. ابتدأتُ فيها من ذلك الغروب الخريفي الذي غيَّر كياني، والذي فيه ملكت كل جوارحي وغزوت فكري وسيطرت عليه، وكيف أصبحت ذكراك لا تفارق حياتي مطلقاً، فقد خلفت الخوف خلف شخصيتي الخجولة هكذا ولمرة واحدة فلم أشعر به من بعد قطُّ، فقد اختفى -الخجل- سريعًا، (وفي اللحظة ذاتها) تيقَّنت أن هذا الغريب الذي هو أنت ليس من هذا الكوكب، ظهرت فجأة، وبهذه اللحظة لتصنع مصير الحب الذي كنت أنتظره وأتمنى أن أغرق في لجَّته، فبتوسُّدي ذراعك أحسست بالخفة التي حملتني لأنَّ أطير من بين عجلات القطار لأحلق في هذه السماء الرائعة والمُلبَّدة بالغيوم، والتي انتزعت الحزن الجميل وحوَّلته على هيأة دمع امتزج برذاذ المطر المتساقط، وإلى وقت قريبًا لم أكن أعرف فيها حتى اسمك أو أي تفصيل آخر عن حياتك، إلا أنني وجدت اسمك يرتسم على شفاه كل المحبين والتائقين إلى ذلك الحبيب الغائب، قبل أن تنقذني من الموت في رصيف المحطة، وتنتشلني من بين عجلات القطار. فتوالت الأيام الرمادية وملأت حياتي حزنًا وبكاءً، فكم من الليالي المعتمة قضيتها أبحث عن قلبي الذي تركته تحت عجلات القطار والذي رأيته يطير في السماء ويتلاشى، لأسأل القدر ما الذي جعلك تتوارى في هذا الكون الفسيح؟. وتيقنت بأني لم ولن أحبَّ أحدًا غيرك، فقد صاحبت مسراتي وأحزاني وقصائدي وأغنيات الليل التي كانت تأخذنني دائمًا نحو ذلك الرصيف، انحسر هدفي أن أبقى معك لنعيش ما تبقى لنا من حياة.

    لطالما شعرت بألمك وحزنك وأنت بعيد عني، لم أخمِّن في أي الأمكنة بهذا العالم كنت أو تكون الآن، فكم من مرة توقفت عن التنفس لأجهش بالبكاء المرير، وأنا أنظر إلى غياب الشمس في كل غروب، وكم من المرات تمنَّيت كل صباح حين أرنو صوب الطيور المهاجرة أن تأخذني إليك وتسقطني بحضنك، لأتوسد ذراعك مفتول العضلات، وأنظر بشغف سارح صوب وشمك، متيقنةً بحلم اليقظة هذا بأني لا أخدع قلبي، وأنك في مكان ما تفكر بي، فلم أعرف كيف أجدك أو أصل إليك، فكنت أسمع صوتك في كل مكان، فقد غزوت خلايايَ وتغلغلت في مساماتي، فكنت أحتضن أحلامي لأعيش معك، أتحسس روحك، أرتمي بكل جوارحي في حضنك، فأشعر بالأمان الذي أفتقده طوال حياتي، وكلما كنت أحتاجك أغمض عينيَّ لأراك، كماردٍ تقف أمامي لتقول لي: (شبيك لبيك حبيبك بين يديك) لأشكو لك مرارة أيامي فتقف كحائط صدٍّ تمنع انكساري.

    فأنا لم أفقد الإيمان بأني سأصل إليك يومًا، وهذا ما كان كل أمنياتي لنبقى معا إلى الأبد، ولن أتركك تختفي مرةً أخرى، فكان هذا هو الضياء وهذا هو الأمل الذي جعلني أستمرَّ في الحياة، فلا أحد يستطيع أن يمحو الآثار التي خلَّفتها نظرتك في قلبي.

    لا أعرف من أين أبدأ لأروي عَظمة حبِّي لك:

    لكني سأبدأ من تلك اللحظة التي ملأت حياتي الفارغة بحب عميقٍ، كنت لا أعتبر بما تصدقه قريناتي فتيات المراهقة، أضحك منهن ومن الأفلام التي تؤطر أو تقيس الحب من النظرة الأولى، حيث يزيد القلب اشتعالًا حين لا تحصل على قلب المقابل ويبتعد عنك لأي سبب كان، وحينها لا تحصد غير الخيبات المتواصلة والأحزان الشفيفة التي بقدر ما تنغِّص عليك حياتك، بقدر ما هي جميلة، حزنها مهم لاستمرار الدفء في قلب الحب.

    فكنت أستخف بمثل هذا الحب الذي أشاهده في الأفلام الرومانسية، وكتابات الأدباء الحالمين، فلذلك عندما صرعتني نظرتك، أصرَّ طيفك وبسمتك الظافرة وخفقان قلبي أن يكرِّس ذلك الحب، حاولت جاهدة أن أنساك لكن لا محالة، فكم كنت على مدار السنين الطويلة التي تهت مني حزينة بغيابك وسعيدة لأنك ملأت قلبي حبًّا، ولك أن تتخيل مشاعري المتناقضة

     فلتكن البداية من تلك الحادثة القدرية التي حدثت معي والتي طغت على ذاكرتي، فهي مفترق طريق بالنسبة لحياتي، لم أكن حينها أعرف أنني بهذا الترويض الفكري ألفُّ أنشوطة الموت لأختنق كل ساعة في حبل حبِّك.

    نعم، إني عشت وما زلت على قيد الحياة، ولكن على الهامش، فقد كنتَ في غيابكَ حاضرًا تملأ كياني، فلطالما تخيَّلت سيناريو وجودك وحواري معك، حيث ضبطت كذا مرةً كمسوِّسة أتحدث معك وأشاركك النكتة والأكل، لتشاركني في مجمل حياتي، فكنت تملؤني، ما أن يتنفس النهار تضمني بين ذراعيك وتقبلني قبلة الصباح.

    فلم أفكر كثيرًا بالعواقب وأنا الآن حرم الوزير حين كتبت هذه الرسالة والمذكرات، فأنا لا أرغب بكل هذه المكاسب، وكم من مرة طلبت الطلاق لأنفصل عنه، ولأرتمي كشجرة ذابلة في ذكرى تربتك الخصبة .

    ملاحظة: حين أتصل بي جميل صديقي القديم أيام الجامعة والذي جسَّد لي وقتًا رائعًا، فهو إنما يمثل لي ذلك الوقت الذي كنت أقضيه معه لتكون أنت معنا حاضرًا على الرغم من اختفائك، لا تتوقع ما الذي انتابني من إحساس، فقد شعرت بأن هناك جناحين ظهرا لي فجأة كجناحي طائرك الحر.

    عرفت مؤخرًا أنه التقى بك، وعرفت حينها معاناتك وحياتك، والأهم أنك لا تزال تعيش على ذكراي وتحبني مثل ما أحببتك، ولأول مرة أتحسس نفسي من سنين طويلة خلت، فأحس بنضارة تلك الفتاة وتسريحة شعرها القصير وجسدها البضِّ الحيوي، فلم أتماسك، شهقت بالبكاء، فبعد أن كان قلبي مجروحًا طوال هذا الوقت برِئ هكذا مرة واحدة، فلذلك أصررت على طلب الطلاق، فقد خنت حبي لك حين وافقت على نمط حياتي هذا، ومما زاد من ندمي وتعلقي بك أنك لم تخن مشاعرك وحبك، وسآتي إليك حال حصولي على حريتي منه، والتي ستكون قريبة جدًا، سآتي إليك وكل شيء ليذهب إلى الجحيم، الأعراف، الخجل، حرم الوزير، أضعتك ذات مرة، وأنا الآن غير مستعدة أن أخسرك مرة أخرى حتى لو كلفني ذلك حياتي، لذلك، وبدون سابق تفكير، وبعد أن التقيت بجميل صديقنا المشترك الذي أصبح مؤلفًا وحين شرح لي مشروع روايته الجديدة الواقعية المأخوذة عن مذكراتنا، والتي أعطاها اسمًا (قفْ ها هُنا أو حلِّقْ مع الحَمام)، أو (ماذا لو)، وافقت أن أعطيه المذكرات على الفور، والتي قد كتبتها في مراحل عمري المختلفة، وله مطلق الحرية أن تكون أحد فصول روايته هذه المذكرات مع الرسالة وبعد موافقتك طبعًا، فلم أعد أبالي من أكون وإلى أي مآل ستؤول الأمور، والأهم أنك ستطَّلع عليها، وأنا حريصة على نشرها لتعرية جزء من التاريخ، لأن فيها قدرًا من التوغل وكشف الأسرار والإدانة وآهات اللوعة والحب وبعض تفاصيل حياتي، ولا سيَّما مع الوزير الحالي الذي يَطرُب ويُطرِب الآخرين بمناداته بالشاعر، وسأكتب ما عرفته عنه وما أخبرني هو بنفسه، وسألتقي بك قريبًا لأعوِّضك عن لعنة الفقد، لعلي أتطهَّر ولو قليلًا عما تسببتُ به لك من لوعة وحرمان وإني مشتاقة وملهوفة إليك بقدر هذا الفراق الطويل.

    قلب مفطور فاتن


    (4)

    جميل

    في ذلك المساء الخريفي في محطة القطار وسط العاصمة التقيت بك، أرادَ حيدر أن أصل إلى هذه النقطة من الذاكرة، فهنا في هذا النفق من الذاكرة قد أضاع قلبَهُ وبوصلةَ حياته.

    كنت بمعيَّة مجموعة من الأصدقاء، وكان يومًا خريفيًّا تنثُّ السماء أحيانًا قطرات قليلة، تملأ أجواءه المبللة بعضٌ من أكوام الحَمام والتي تحاول أن تحصل على الطير الذي جرفته الرياح، فقد كان هناك طائرٌ أسودُ وذو ذيل أبيض يلعب ويتشقلب في الهواء، على الرغم من قوة الهواء، ظلَّت عيني تراقب الحَمام، إلى أن حجب سقف المحطة رؤية النهاية، تحولت أنظاري نحو تلك الفتاة الجالسة كإلهة سومرية يحيط بها النور الذي يسوِّر وجه الملائكة، وما أن جاء ذكرها مرة أخرى حتى ارتسم الحزن الشديد على وجه حيدر، والذي استدار بسرعة إلى برج الحمام ليطعم بعضها مموِّهاً على الدمع الذي سقطت قطرات منه على خدَّيه، فأشغل نفسه لفترة من الوقت حتى لا أكشف ضعفه، وعاد حيث يجلس وقال:

     - أكمل.

    بصوت ضعيف أشبه بالحشرجة وبكل قوة جمعها من داخل قلبه، فخرج اسمها من بين شفتيه ضعيفًا مرتجفًا بصوت أكاد أسمعه، وصلنا إلى.. فاتن… حيث كانت تجلس وهي في مرمى نظرك، قال لي وهو يشير إلى أبي خضير بإصبعين لينتصف الشايان وسط الطاولة التي تنصف جلستنا.

    كان جمالها آسرًا ومحط أنظار الجميع، فوجدتني حالمًا بالجلوس بقربها أتكلم معها، فالمشاعر تأتي فجأة، أنت وما تملك من قلب كي توظف تلك المشاعر، وهذا الذي دعاني إلى أن أغبطك وأنت تقوم بالدور الذي كنت أتمناه كما يحصل بالأفلام؛ دور البطل المنقذ الذي سينتشلها من أن تفرمها العجلات، (نتمنى على من نحب أن يقعوا بشدة أو ضائقة لننقذهم منها لنبيِّن مدى حبنا لهم، وكأن الحيلة والقدر لعبة تحاول أن تشكلها كيفما ترغب، وفي الغالب تهرب من مواجهة القدر ولا تحقق هدفك، وهذا ما حصل كثيرًا)

    ولكوني خبيرًا بالتدافع ورياضيًّا، اجتمعنا وكنا ثلاثة أصدقاء وأنا رابعهم، انضموا حولي فيما أنا أسرق الأنظار في المحطة وأثبت نظري عليها، حيث أحاول أن أجلب الأنظار نحوي بقيافة الطالب البسيطة، فقد كنت أعتقد أن الجمال في الجسد والروح، وقد كنت، أو هكذا أتصوَّر، بأني أملك كليهما، نظرت إلى يميني كان هناك شاب يلبس قميصًا ملونًا مطلقاً ذقناً مخيفا أشبه بذقون رجال المخابرات آنذاك، وبقربي سمعت جملة كأنها تنبع من صوت مطرب رخيم: (الله كم هي جميلة)، كانت هذه الجملة منك يا حيدر، وأجبتك عليها مازحًا ومؤيدًا: (نعم جميلة جداً، والمحطة مزدحمة انزع عنك جاكيتك وادخل في العراك للحصول على تذكرة إذا ما أردت أن تكون غدًا في مقاعد الدراسة) بعد أن رمقت الكتاب الذي بين يديك وميزته بأنه لإحدى مراحل كلية الطب، ومن ثم ذهبتُ إليها حيث تجلس، على الرغم من جرأتي في مثل هذه المواقف إلا أن قلبي هذه المرَّة خفق مروِّعًا أحشائي، مأخوذًا بجمالها، خوفي مصدره من احتمالية رفضها وصدِّها لي، وهذا ما لا قدرة لي على احتماله بالذات مع هذا الجمال الآسر، لكن هيأتها الهادئة بثَّت فيَّ السكينة بعد لحظات القلق تلك، سلَّمتُ عليها، وردَّت السلام بعد أن دفعت خصلة من شعرها من على جبينها بأصابعها السومرية الطويلة، وشعرها المسرَّح بالطريقة الولادية آه … كم تؤلم قلبي تلك التسريحة، وما أن رفعت وجهها نحوي حتى تبينتُ عينيها اللوزيتين ورقبتها التي تتوسطها شامة تزيد من جمالها بهاءً، تبيَّنتها من خلال فتحة صغيرة لم يغطِّها شال العنق البنفسجي المورَّد والمعقود بطريقة جميلة، وبكل احترام سألتها إن كانت ترغب بأن أحصل لها على تذكرة؟

     فأجابت بكل هدوء: عندي واحدة شكرًا، وعاودت بإنزال رأسها إيذانًا منها بإنهاء المحادثة.

    نزعت السترة الخفيفة ودخلت معركة الحصول على التذاكر، وصادفتك مرة أخرى، تماسَّ جسدانا، وقدَّمنا الاعتذار لبعضنا، ونظرت إلى طولك وجسدك المفتول والوشم على ساعدك الأيسر الذي لا يشي بطالب كلية الطب، حيث من المعروف عنهم أنهم محصورون بين دفَّتي كتاب، لا وقت لديهم لفتل عضلاتهم، والأهم ليس في تفكيرهم، من يوشم، وأي وشم على طول الساعد ولطائر حر هارب من قفص؟ وهذا ما زاد من إثارة فضولي نحوك، حصلت على التذاكر وصعدنا إلى العربات، وكعادتي أقوم بالتجوال في القطار أفتِّش فيه عن بعض المعارف، والأهم أبحث عمن يمكن اصطيادها من الفتيات، لكن هذه المرة كنت أتجول في العربات المكتظة بالجنود، أبحث عنها وعنك، فلا أجدكما، فصادفني كما المتَّبَع أزلام النظام بشواربهم النازلة على شفاههم، وبعض الطلبة، وكذلك ما يسمى (بالزنابير) ببيرياتهم الحمر وشرائطهم وأحذيتهم البيضاء الذين ينظرون شزرًا إلى الشباب، أخذت نصيبي من تلك النظرات مع إيقافي وأخذ هويتي باستهزاء بالغ، لأنهم يشعرون بتلذذ بالغ وهم يلقون القبض على أحدهم، فمهمتهم القبض على العسكريين الفارين من الحرب، وبعد أن

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1