Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

44 أصوان: مدينة أسوان في جيل العقاد
44 أصوان: مدينة أسوان في جيل العقاد
44 أصوان: مدينة أسوان في جيل العقاد
Ebook575 pages3 hours

44 أصوان: مدينة أسوان في جيل العقاد

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

لكل مدينةٍ سيرة تُحكى.. وقد سعت د. عائشة خليل عبدالكريم للتعرف على سيرة أسوان والكشف عنها، حيث تقودها إشارةٌ إلى جريدةٍ كان يصدرُها جدها قبل خمسين عامًا إلى رحلة بحثية استغرقتها أربع سنوات، تعرفت خلالها على المدينة التي تربى فيها والداها، فرصدت التغييرات التي أتى بها الاستعمار للمدينة الوادعة، حيث شكلوها كنموذج للتمدن الذي جلبوه لإفريقيا، ومعرضًا مفتوحًا لإمكاناتهم الهندسية والإدارية. كما لاحظت الثابت والمتغير في مفردات الحياة الاجتماعية مثل العمارة والطعام وطقوس الميلاد والوفاة وغيرها.
تتبعُ د. عائشة خلال رحلتها أثر التغيّرات التي جاءَ بها الاستعمار الأجنبي من الناحية الاجتماعية والثقافية، والثوابت التي استمرت مع أهل المدينة كوسيلة للتصدي للمستعمر، راصدة المتغير والثابت في العمارة والطعام وطقوس الميلاد والوفاة..
يعتبر هذا الكتاب بمثابة مزيج بين السرد التاريخي والشخصي، تروي من خلاله الكاتبة حياة أهل أسوان في جيل العقاد.
Languageالعربية
PublisherDiwan
Release dateJun 28, 2024
ISBN9789778719314
44 أصوان: مدينة أسوان في جيل العقاد

Related to 44 أصوان

Related ebooks

Reviews for 44 أصوان

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    44 أصوان - عائشة عبد الكريم

    إهداء

    إلى والِدَيَّ.. ذكرى مدينتهما

    المحتويات

    تمهيد: بلد الصخور ومعقل النسور ١٣

    شكر واجب ١٦

    من البحث الميداني إلى البحث المكتبي ١٩

    بلـدة العقـاد ٢١

    (١) المدينة في أواخر القرن ١٩ ٢٥

    المدينة ٢٩

    جامع الحاج حسن ٣٠

    الجبَّانة ٣٣

    السوق والموردة ٣٤

    (٢) الأصولية ٣٩

    بندر أصوان ٤١

    الاصولية ٤٣

    العائلة ٤٤

    جدتي الكبرى ٤٨

    (٣) استعمار أسوان ٥٥

    عاصمة المديرية ٥٩

    خزان أسوان ٦٣

    المدينة المنمقة ٦٦

    أسوان مشتى عالمي ٦٧

    (٤) تغيرات مدينة ٧٥

    الثابت والمتغير ٧٨

    الطريق إلى الميري ٧٩

    صورة رحلة مدرسية ٨٢

    تعليم الفتيات ٨٤

    (٥) أعلام وأسماء الشوارع ٨٩

    أسماء الشوارع ٩٢

    قصر أنس الوجود ٩٣

    دروب وشوارع ٩٥

    القيسارية ٩٨

    (٦) العمارة المحلية في أسوان ١٠١

    العمارة والبيئة ١٠٤

    العمارة والشمس ١٠٥

    مواد البناء ١٠٦

    الجباوي ١٠٧

    (٧) العمارة المحلية والاستعمار الحضاري ١٠٩

    مسقط البيت ١١١

    استعمار المفاهيم ١١٢

    مواد البناء الحديثة ١١٣

    التَرَسِينة ١١٤

    (٨) المرافق العامة ١١٧

    المياه ١١٩

    الإنارة ١٢٠

    الصرف الصحي ١٢٣

    نظافة المدينة ١٢٤

    (٩) العائلة الممتدة ١٢٧

    الأنساب ١٢٨

    صلة الرحم ١٢٩

    كبير العائلة ١٣٠

    زواج الأقارب ١٣٢

    (١٠) في بيت جدي وجدتي ١٣٥

    البيت ١٣٦

    الأم الكبرى ١٣٨

    العالم يأتي إليها ١٤٢

    مطبخ جدتي ١٤٤

    (١١) الطابونة وخيراتها ١٤٧

    الطحين ١٤٨

    الطابونة ١٤٩

    العيش الشمسي ١٥١

    خيرات الطابونة الأخرى ١٥٤

    (١٢) في مطبخ الأصولية ١٥٧

    المرق أساس الطعام ١٥٨

    أطعمة مختلفة ١٦٠

    التسالي ١٦٣

    المشروبات ١٦٤

    (١٣) نشاطات منزلية أخرى ١٦٧

    تربية الحيوانات ١٦٨

    الدبيب وخلافه ١٧٠

    الخياطة ١٧٢

    إعادة التدوير ١٧٥

    (١٤) بعض ملامح أفراح أسوان ١٧٩

    أفراح أسوان في القرن ١٩ ١٨٠

    الحناء ١٨١

    النقطة ١٨٤

    دُخلة ولاه تسليم ١٨٥

    (١٥) ممارسات شعبية ١٨٧

    تذكرة داوود ١٨٩

    الحسد والأعمال ١٩٠

    المشاهرة ١٩٤

    الزار ١٩٦

    (١٦) طقوس الميلاد ٢٠١

    قابلة ونطاس ٢٠٤

    الكرسي ٢٠٨

    التغذية ٢١١

    السبوع ٢١٢

    (١٧) حزن واتك ٢١٥

    جبانة عتيقة وجبانة صحية ٢١٦

    جبانات أخرى ٢١٨

    الغُسل والدفن ٢٢١

    مفردات الحزن الواتك ٢٢١

    (١٨) الاتصال والتغييرات ٢٢٧

    التجارة والتواصل ٢٣١

    القطار ٢٣٣

    الراديو والتلفزيون ٢٣٩

    السينما ٢٤٠

    (١٩) مفردات اندثرت ٢٤٣

    الشهور القبطية ٢٤٨

    الحمير ٢٥١

    النخيل ٢٥٧

    حلفا ٢٦٢

    (٢٠) جدي لأبي ٢٦٧

    حياته ٢٧٠

    نشاطه وتجارته ٢٧٣

    جريدة الصعيد الأقصى ٢٧٩

    الوفد والإخوان ٢٨٢

    (٢١) العائلة مرة أخرى ٢٨٩

    الشعر والشعراء ٢٩١

    الأدب والفكر ٢٩٤

    أخوالي رجالات التعليم ٢٩٦

    خالتي فخرية ٢٩٨

    (٢٢) المشاريع تغمر أسوان ٣٠١

    زخم السد العالي ٣٠٣

    التخطيط الإقليمي ٣٠٨

    التشييد والبناء ٣١٢

    السياحة ٣١٥

    (٢٣) المدينة في أواخر القرن ٢٠ ٣١٩

    البُهَّل ٣٢١

    مدرسة أسوان الصناعية ٣٢٤

    التغييرات الجندرية ٣٢٦

    العائلة النووية ٣٢٨

    (٢٤) المدينة في أوائل القرن ٢١ ٣٣١

    الغريب ٣٣٣

    طعام الأصولية اليوم ٣٣٦

    بلد الأولياء ٣٣٧

    عيد الحب ٣٤٣

    الخاتمة ٣٤٥

    المراجع ٣٤٨

    كتب عربية ٣٤٨

    تعدادات رسمية وكتب تذكارية ٣٥٣

    دوريات ومجلات ٣٥٤

    شبكة الإنترنت ٣٥٥

    مراجع أجنبية ٣٥٦

    تمهيد: بلد الصخور ومعقل النسور

    منذ حوالي خمس سنوات، كنت في قاعة الدوريات بدار الكتب، وبينما أنا أتصفح قائمة الدوريات المودعة بالدار، فوجئت بقراءة اسم «جريدة الصعيد الأقصى»، الجريدة التي كان يصدرها جدي لأبي، الحاج عبد الكريم ناصر خليل، وشريكه في أسوان منذ ١٩٣٦، واستمرت عدة سنوات بعد وفاته في يوليو ١٩٦٤.

    «الصعيد الأقصى» كانت جريدة محلية تصدر أسبوعيًّا، وحرص جيل جدي على شرائها وقراءتها للاطلاع على آخر أخبار المدينة. كما كانت الجريدة ترسل لتباع بالبلدات المجاورة، وخاصة بمدينة حلفا ومديرية قنا المتاخمتين لمديرية أسوان في ذلك التوقيت. وقد نبهني والدي في سنواته الأخيرة إلى أهمية الجريدة والثروة المعلوماتية التي تتضمنها. وكان رحمه ﷲ يتأسف لضياعها، فلم أجد في مكتبته سوى عدد واحد صدر مكللًا بالسواد حين وفاة جدي. وما رواه والدي يفيد بأن النسخة الوحيدة المجلدة قد أهداها جدي إلى الملك فاروق في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وقد قرأت هذه الرواية موثقة في كتاب مطبوع. ولكن يبدو أن جدي كان حريصًا على إرسال نسخ من الجريدة إلى دار الكتب بالقاهرة، واستمرت النسخ تُرسَل إليها بعد وفاته، فاطلعتُ على أعداد إلى سنة ١٩٦٦.

    أثار اطلاعي على أعداد الجريدة شغفي لمعرفة المزيد عن المدينة التي أنتمي إليها، ولم أزُرْها إلا قليلًا، أسوان، المدينة التي تربَّى فيها والدايَ، وهجراها إلى القاهرة في شبابهما، وعندما تخففا من عبء الأبناء بنيا فيها منزلهما، وعادا إليها زائرين كل شتاء، ثم دُفنا بها.

    أرسم في هذا الكتاب ملامح البلدة التي تربى فيها والدايَ، فأختص حياة جيل جدي وجدتي بالتركيز. وأتطرق إلى جوانب مختلفة من تاريخ المدينة: سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وعمرانية.. لأرسم جوانب حياتهم المعيشية بكل تفاصيلها، وتحولات المدينة خلال حياتهم. فمن نشأتهم في ظل الاحتلال الإنجليزي، إلى كهولتهم في ظل الدولة الوطنية، تبدلت مدينة «أُصوان».

    و«أُصوان» هو رسم اسم المدينة في أوائل القرن العشرين، الذي تغير وخُفف بعد ذلك إلى «أسوان». وقد قرأته مكتوبًا هكذا على إعلانات المطبعة التي أنشأها جدي وشريكه في ١٩٣٠ وظلت تُكتب في الجريدة بهذا الرسم لسنوات، كما كانت تُكتب بهذا الرسم في الوثائق الرسمية للدولة من تعدادات إلى خرائط وغيرها.

    ولذا، اخترتُ أن يكون عنوان هذا الكتاب هو «٤٤ أُصوان»، وهو رقم هاتف جدي، الذي رأيت أنه عنوان مناسب للحديث حول المدينة التي عاش فيها. فلقد امتلك جدي ناصية الإعلام وأجاد فن التواصل، فكان من المناسب أن يتصدر رقم هاتفه عنوان كتاب يحكي عن حياة جيله ومدينته. ولأن جدي كان لديه بحلول الستينيات أربعة خطوط تحت رقم ٤٤، فقد أحببتُ أن أقسم كل فصل إلى أربعة مقاطع متصلة ومنفصلة، أسرد في كل منها لقطة منفصلة بذاتها ومتصلة بأقسام الفصل الأخرى.. وذلك على سبيل التحية مني إليه.

    وبالطبع لم يكُن جدي متفردًا، فهذه حكاية جيل. رجال («مع حفظ الألقاب للجميع» على حد قول ذلك الجيل) مثل: نادي راشد، وحسين الشامي، وهميمي الجبلاوي، وفتحي وحيش، وعبد العظيم شمت، وحسين عليان، ومنصور مشالي، وحسين أحمد جاهين، وطاهر رزق، ومصطفى بيرم، وحسين قاسم، ويوسف كروم، وفؤاد بحر ضاحي، وعبد الراضي مختار، وضوي بدر، وحسين علوب، وعبده خالد، وحسين عليان، وأحمد مدني حمودي.. وغيرهم.

    هي أسماء تعرفتُ إليها من والدتي، رحمة ﷲ عليها وعلى الجميع، وقرأتها في الجريدة مرارًا وتكرارًا، وورد ذكر بعضها في أثناء بحثي. هم تجار أسوان وقادة الرأي بها من جيل العقَّاد الذين عاشوا وعملوا بها في النصف الأول من القرن العشرين. وحياتهم تعطينا لمحات عما كانت عليه الثقافة التقليدية بصعيد مصر الأقصى قبل الحداثة والانهزام الحضاري الذي مُنينا به مع الاستعمار.

    شكر واجب

    وعلى مدار أربع سنوات، طفقتُ أجمع الحكايات المنسية، فتعددت رحلاتي السنوية لأسوان. كنت أمضي فيها ثلاثة أسابيع مرتين كل عام، أطوف بحواريها، وأزور مؤسساتها، وأتعرف إلى الأنساب، وإلى الجغرافيا والتاريخ، وأستمع إلى حكايات كبار السن، وخاصة النساء.

    كما كنت أمضي بها الشتاء كل عام، فأقضي بها شهرين أو يزيد في الصحبة الطيبة لأختي الكبرى (نبوية) التي ترعاني وترافقني في جولاتي. وكان جوار أسرة أختي الصغرى (فاطمة)، المقيمة بأسوان، يسهل عليَّ لوجستيات السفر والإقامة.. ولهما كل الحب والمودة.

    وقد كان لهجرة والدي وأعمامي للعمل بالقاهرة أثره في ألَّا يعرفهم كثير من أبناء جيلي. ولذا كان عليَّ أن أعود لذكر اسم جدي الذي سمع عنه بعض جيلي وجُل الجيل الذي سبقه، أو أعتمد على ذكر اسم خالي. أما لهجتي المحلية فقد ساعدتني كثيرًا في التواصل والألفة مع مَن تحدثت إليهم. فها أنا أفهم المفردات وأرددها، و«أطجن بالكلام»، كما قال ابن خالي، وهي شهادة أعتز بها. قرَّبني نسبي ولهجتي إلى مَن تحدثت إليهم، ولكن هذه كانت مجرد عوامل مساعدة، فقد كان مدخلي إلى المدينة أسرتي الممتدة.

    ساعدتني عائلتي الممتدة، فعرَّفوني إلى أشخاص يمتلكون مفاتيح تاريخ البلد، كما قدموني إلى شخصيات مختلفة، فقابلت مهنيين، ومثقفين، وفنانين، ومتقاعدين، وكبار سن من مختلف المستويات الثقافية والتعليمية. وهم أكثر مِن أن أسرد أسماءهم، ولكنني أوردت خواطرهم في متن هذا الكتاب، ولهم مني كل الشكر. فقد روى لي كل منهم جزءًا من تاريخ المدينة، فاكتملت لديَّ أجزاء من الصورة.

    كما فتح لي أفراد عائلتي ألبومات صورهم، فاطَّلعت على صور أفراد العائلة في مختلف المراحل العمرية، ولاحظت تغير أنماط الملابس والأزياء على مدار العقود. وفتح لي بعضهم أرشيفاتهم الخاصة، فاطلعت على خطابات، ومذكرات، وأوراق شخصية، وحسابات. وإليهم جميعًا خالص شكري على ما قدموه من مساندة لبحثي هذا، وأخص بالشكر أبناء خالتي سعدية (منى، ومحمد، ومها عبد القادر)، وأماني محمود، ابنة خالتي فخرية، وأبناء خالي فاروق (يسري، وأمنية، وبسمة). وبدرية علوب، ابنة عمتي فاطمة، وإيمان بوشناق، ابنة بنت عم والديَّ. بينما روى لي آخرون ما حملَته ذاكرتهم من حكايات وقصص ومعلومات، وهم: درية عبد القادر، ابنة عمتي إجلال، وعبد الراضي، ابن خالي عبد الصبور، وأحلام شكري، ابنة عمتي محاسن، والدكتور أشرف، ابن خالي كمال، ولهم جميعًا جزيل شكري على ما قدموه إثراءً لبحثي هذا.

    وتعرفت خلال السنة البحثية الثانية إلى النائبة البرلمانية السابقة السيدة آمال عبد الكريم التي فتحت أمامي باب الجندر بأسوان، وعرفتني إلى سيدات متميزات في العمل العام، مثل: الدكتورة هدى مختار، أمينة المجلس القومي للمرأة، والأستاذة زينب مدني، مدير عام الثقافة بأسوان سابقًا، وغيرهن كثيرات. وعندما تجمعت لديَّ مادة أعددتُ كتابًا آخر عن أسوان (نساء من أسوان) ليرسم صورًا ويحكي سير أربعة أجيال من نساء المدينة، آمل أن يصدر قريبًا. وتوطدت معرفتي بالسيدة آمال، فشجعتها على كتابة مذكراتها، وساعدتها في تحريرها، وآمل أن تظهر قريبًا لتتعرف بنات بلدتنا إلى مسيرة تلك السيدة النشيطة المتميزة التي ما زال عطاؤها مستمرًّا.

    كما تعرفت إلى السيدة رشا رمضان التي جالت معي في أرجاء أسوان فتمكنت من ربوع البلدة القديمة التي عاش فيها والدايَ طفولتهما. والتقيت د. بشرى روضاوي الذي أطلعني على بعض كنوز مكتبة والده، كما تعرفت في سنتي البحثية الأخيرة إلى الحاجة وفاء بحر، التي طرقت معي أبواب بعض المؤسسات، وتحمست أشد الحماس لبحثي هذا، وشجعتني على كتابته. ولهم شكري على ما قدموه لي من دعم.

    واستطعت خلال سنوات بحثي أن أجمع معلومات عن تاريخ أسوان وجغرافيتها، وتعرفت إلى العادات والتقاليد التي ما زال بعضها يمارَس إلى اليوم. ورصدت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والجندرية على مدار قرن ونصف القرن. وجمعت ما استطعت من تاريخ المؤسسات المختلفة، وقد أبدى البعض تعاونًا كبيرًا معي، بينما نظر البعض بتشكك إلى فكرة كتابة تاريخ المؤسسات. وقد تجمعت لديَّ بعض تواريخ المنشآت والمؤسسات، وآمل أن أتمكن من جمع باقي تلك التواريخ فأرصدها كي تبقى ذكرى لأجيال قادمة.

    من البحث الميداني

    إلى البحث المكتبي

    وكما شكرت الأفراد الذين عاونوني على إنجاز هذا العمل، أود أن أشيد بكتابين وثَّقا الجوانب الاجتماعية والأنثروبولوجية والعمرانية للمدينة. أحدهما المقابلة التي أجراها المثقف يوسف فاخوري مع الأستاذ فوزي فوزي يوسف، المدير الأسبق لفرع الثقافة بأسوان، والتي رصد فيها جوانب مختلفة من مدينة أسوان قبل التغيُّرات الجارفة التي أتى بها السد العالي إلى المدينة. والآخر مدونات الفنان التشكيلي محمود الشنقرابي، الذي وثق المفردات الأنثروبولوجية لمدينة أسوان. وقد رجعت إليهما كثيرًا فقارنت بين ما ورد فيهما وبين ما ورد فيما جمعته في أثناء بحثي الميداني. وأود أن أؤكد أن الفضل يرجع إليهما إذا أصبت، وأما الخطأ فهو من عندي.

    رحلاتي المتوالية إلى أسوان وتجوالي بشوارعها وأزقتها، وزياراتي لمعالمها ومؤسساتها المختلفة، ولقاءاتي بكبار السن، كوَّنت لديَّ معرفة جيدة بأسوان الحديثة والمعاصرة، وكان عليَّ أن أبحث في المكتبات والأرشيفات للتعرف إلى دقائق تاريخها الحديث والقديم. ولكن البحث المكتبي في أسوان أصابني بخيبة أمل. فأسوان تمتلك قليلًا من المكتبات العامة، وهي للأسف مجرد هياكل لا تجد التمويل أو الرعاية الكافيين لتقوم بالأدوار المنوطة بها، كما أن مكتبة المركز الثقافي مشوَّنة منذ سنوات؛ نظرًا لتطوير المبنى كما قيل لي. وهكذا عجزت عن الحصول على معلومات دقيقة عن أسوان بالرغم من تكرار محاولاتي. فلجأت إلى المكتبات العامة بالقاهرة، ووجدت النزر اليسير عن مدينة أسوان.

    كان البحث المكتبي عن مدينة أسوان يحيلني باستمرار إلى ما كُتب عن بلاد النوبة، التي دُرست باستفاضة في أثناء التهجير عند بناء السد العالي في ستينيات القرن العشرين، وكُتب عنها كثير منذ ذلك الحين. وبالرغم من أن النوبة مكون أصيل من محافظة أسوان (حوالي ٢١٪ من السكان طبقًا لأحدث الإحصاءات)، فإن بحثي اختص بمدينة أسوان التي لم يكتب عنها الكثير باللغة العربية، وأما ما كُتب عنها باللغة الإنجليزية فقد اهتم بآثار المدينة وركز عليها.. فما زال تاريخ مدينة أسوان شفهيًّا لم يُكتب بعد.

    وعندما اشتكيت من الفجوة المعرفية التي أعانيها، أشار عليَّ أقاربي بالنظر في «فيسبوك»، واقترحوا بعض المنتديات الخاصة بأهل أسوان على «فيسبوك»، فوجدت بها بعض الكنوز المعرفية التي أثرت بحثي، ونظرت إلى تلك المنتديات كامتداد للتاريخ الشفهي الذي كنت أجمعه خلال لقاءاتي. وكنت قد تعرفت في أول سنة بحثية إلى الحاج محسن بلال خليل (صاحب منتدى باسمه على فيسبوك) الذي التقاني وأنا لا أعرف إلا قليلًا عن أسوان، وأهداني مفاتيح بحثية قيمة، ثم توفي رحمه ﷲ في أثناء جائحة كورونا وأنا ما زلت في طور البحث، فلم يسعدني الحظ بلقائه مرة أخرى.

    بلدة العقَّاد

    لا يسعني أن أكتب تاريخ أسوان؛ فهذا موضوع يطول؛ لأن تاريخها يربو على أربعة آلاف سنة، ولكنني وجدت فيما كتبه العقَّاد عن بلدته المختصر المفيد، وأنقله هنا بكامله تمهيدًا لحديثي عن المدينة التي نشأ فيها. والأديب الكبير عباس محمود العقَّاد (١٨٨٩ – ١٩٦٤)، كما هو معروف، من مواليد أسوان، وقد دُفن بها. وتعتز به مدينة أسوان أيما اعتزاز، حيث أطلقت اسمه على منشآت ثقافية مهمَّة بها، مثل: مركز ثقافة العقاد، ومدرسة العقَّاد الثانوية العسكرية، ناهيك عن جمعية العقَّاد التي كانت ترعاها بنات أخيه. وقد كتب عن مدينة أسوان في مذكراته تحت عنوان «بلدتي» ما يلي:

    «صفاء في جو المكان قلَّما تشوبه غاشية، وامتلاء في جو الزمان قلَّما تخلو منه زاوية.. تنتقل فيها من عصر إلى عصر كما تنتقل فيها من حارة إلى حارة، وترجع في تاريخ مصر إلى أقصى الماضي فتلقى فيها تاريخًا مثله!

    هي بلدة خالدة! بل هي بلدة مخلدة! لأن معالم الخلود في الهياكل والتماثيل مستعارة من محاجرها، فهي كالزمان حين تهب الخالدين مادة الخلود.. تلك هي بلدتي أسوان، ولم تكُن قط شيئًا هملًا في عصر من العصور..

    كانت على أيام الفراعنة مفتاح الجنوب، ومثابة التجارة بين جانبي الوادي القديم، وملتقى القوافل بين جوانب الوادي جميعًا، وصحراء المغرب والمشرق، من البحر الأحمر إلى بحر الظلمات، صاحبت الأرباب منذ عرف الناس الأرباب.. فأُقِيمت فيها الصلوات لإله النيل، وأُقِيمت لإيزيس وأوزوريس وأُقِيمت لـ «يهوا» رب الجنود، وتلاحقت فيها أديرة الرهبان من أتباع السيد المسيح وصوامع النساك من أتباع محمد عليه السلام..

    وفد إليها «هيرودوت» و«سترابون» من آباء التاريخ، وكان أبو التاريخ يقول عن كهانها إنهم كانوا يسخرون به كما يسخر الرجل الكبير من حديثه إلى الطفل الصغير! وذكرها «حزقيال» في نبوءات التوراة، وعرفها الشاعر الآبق دعبل، كما عرفها الشاعر رهين المحبسين أبو العلاء:

    أسوان أنت لأن الركب وجهتهم أسوان أي عذاب دون عيذاب

    وبين أسوان وعيذاب، كان طريق حجاج المسلمين منذ اضطربت بلاد أبي العلاء بالفتن والثورات، وتحول قُصَّاد بيت ﷲ إلى هذا الطريق.

    وفيها من ذكرى العلم كما فيها من ذكرى الحرب والسياسة، فعُرِفت فيها أصدق الأرصاد عن محيط الأرض قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من مائتي سنة، كما عُرِفت فيها أصدق الأرصاد عن جرم الشمس بعد المسيح بقرابة ألفي سنة.. ولا تزال في جزيرتها بئر يدلونك عليها، ويقولون لك: إنها البئر التي نظر فيها «أراتوستين» علَّامة زمانه في علوم السماء حين قاس زاوية الأرض من الإسكندرية إلى أسوان..

    واتصلت فيها أسباب العلم من عهد الفراعنة واليونان إلى عهد الإسلام.. فقال «كمال الدين جعفر بن ثعلب» في القرن الثامن الهجري: «قد خرج من أسوان خلائق كثيرة لا يُحصَون من أهل العلم والرواية والأدب.. قيل إنه حضر مرة قاضي قوص، فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة للقائه...» كناية عن العالم؛ لأن البغلة كانت ركوبة العلماء..

    وكانت إلى ذلك العهد تُسمَّى «الثغر»؛ لأنها تزدحم ازدحام الثغور الحافلة بطلاب العلم، وطلاب التجارة، وطلاب اللهو والفراغ.. وفيها يقول كمال الدين:

    أسوان في الأرضِ نصفُ دائرٍة الخيرُ فيها والشرُّ قد جُمِعا

    تصلُح للنــاسِك التقيِّ إذا أقَام والفـاتِكِ الخليعِ معا

    وقد تغيرت تواريخ الدول، وتعاقبت حكومة بعد حكومة، ولا تزال أرضها هي أرضها، وسماؤها هي سماءها، ومناظرها هي ما كانت عليه من نمط فريد بين مناظر الطبيعة المصرية، لا تشاهد في بلد من بلاد مصر ما تشاهده فيها، من جزر وجنادل وتيارات وصخور في الماء والصحراء، تجمع من الألوان ما تجمعه المعادن والجواهر، وتحكي الذهب والفضة والشبة كما تحكي الزمرد والمرجان والياقوت، وذهب من جنادلها ما ذهب، فقام في مكانها الخزان، وتلفتت مصر تترقب من لدنها مطامع الضياء كما كانت من قبل تترقب منابع الماء.

    وُلدتُ فيها بمشيئة القدر، ولو أنني ملكت الأمر لَوُلدتُ فيها بمشيئتي؛ لأنها الموطن الذي يُستفاد منه خير ما آثرته لنفسي في النظر إلى الحياة..

    وفي أسوان، رأيت التقاء التاريخ الماضي بالحاضر الذي نعيش فيه؛ فالمتحف فيها والبيت يتقابلان، والتاريخ فيها حيٌّ يُرزَق، ويتنفس الهواء؛ لأنه ماثل شاخص في الأحياء، والحياة فيها تتسربل بقداسة التاريخ العريق؛ لأنها صورة منه تتجدد مع الأجيال. وفي أسوان، رأيت التقاء المشرق والمغرب، ودرجت وأنا أشهد الحضارة الأوروبية في كل جنس من أجناسها، وكل ناحية من أنحائها.»

    وقد يبدو هذا التمهيد التاريخي لمدينة أسوان طويلًا بعض الشيء، لكنه في الواقع قصير بالنسبة لتاريخ مدينة أسوان الذي يمتد لآلاف السنين. فقد أجمل العقَّاد تاريخها منذ العصر الفرعوني إلى القرن العشرين، ولم يفصِّل كثيرًا؛ فمثلًا لم يذكر الشاعر الساخر جوفينل الذي عاش في أسوان في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وكان من أبرع شعراء العصر الروماني، نظم الشعر فنقد الحياة في روما وسخر من وجهاء عصره، فأُرسل إلى أسوان عقابًا لتطاوله على الخاصة، وظل سنوات قائدًا للحامية الرومانية هناك. وكانت الحامية الرومانية بأسوان هي إحدى ثلاث حاميات رومانية تحمي مصر، تمركزت إحداها بالقرب من الإسكندرية (العاصمة)، والثانية بالقرب من هليوبوليس (القاهرة)، والثالثة بالقرب من الشلال الأول (أسوان)، كما لم يذكر العقَّاد كذلك كون أسوان محل المدرسة العسكرية الأولى التي درَّب فيها محمد علي باشا جيشه في عشرينيات القرن التاسع عشر والتي زالت آثارها اليوم لم يتبقَّ منها سوى ذكرى، مجرد اسم يُطلق على جامع الطابية ليشير إلى تاريخ تلاشى من الذاكرة. وهكذا فقد رأيت أن تاريخ أسوان يطول شرحه وأن ما أجمله العقَّاد من تاريخها يكفي تمهيدًا لكتابي عن جيله.

    ويبقى أن أقول: أهمني سؤال تأثير الحضارة الأوروبية في جيل الأستاذ العقَّاد، وهو سؤال أحاول الإجابة عنه في فصول هذا الكتاب. فقد بحثت في تعاطيهم مع الحضارة الأوروبية في المجالين الخاص والعام، ورصدت الثابت والمتغير في حياة هذا الجيل وما يليه من أجيال من أبناء أسوان.

    ١

    المدينة في أواخر

    القرن الـ ١٩

    المدينة

    «أسوان مدينة واقعة في ملتقى ٣٩" ٣٤' ٣٠

    °

    من خطوط الطول الشرقي بالخط ٦ "٨' ٣٤

    °

    من خطوط العرض الشمالي. وهي آخر مدن القُطر المصري من جهة النوبة. وقد أكسبها موقعها في كل زمان أهمية لا تُنكر. فقد كانت في الأزمان القديمة (واسمها وقتئذ سيين) معقلًا حصينًا وموقعًا منيعًا. وعني العرب بتحصينها، فلما سقطت دولة الفاطميين دمرتها القبائل النوبية التي احتلتها وأخنت عليها، وعندما استولى السلطان سليم على مصر جددها على الضفة اليمنى من النيل بالقرب من الشلال الأول، وهي قائمة الآن على منحدر من الأرض تتخلله أشجار النخل. ومبانيها محاطة بالمزروعات، فكان منظرها لذلك آخذًا باللب. وسكانها الآن ٤٠٠٠ نفس تقريبًا، كلهم من العرب والبرابرة والأقباط وبعض الأتراك الموظفين. وتجاه أسوان جزيرة إلفنتين الصغيرة. وعلى مقربة من الشلال الأول جزيرة فيلة المشهورة بهيكل «أنس الوجود»، وهي مع قلة اتساعها، إذ يبلغ طولها ١٣٠٠ قدم، ينبوع للآثار الثمينة لا ينضب معينه، وبها بعض أشجار النخل وقسم منها مزروع(1).»

    هكذا وصف كلوت بك مدينة أسوان في منتصف القرن التاسع عشر، مدينة صغيرة الحجم، جميلة المنظر، يسكنها خليط من الناس. احتلت موقعها هذا على الضفة اليمنى من النهر مقابل جزيرة إلفنتين قبل نحو أربعة قرون، ولكن تاريخها يعود لآلاف السنين، كونها الثغر الجنوبي للبلاد على مر العصور. وقد كانت مدينة أسوان مقامة على شاطئ النيل يفصلها عنه شاطئ رملي، وتحفها الصحراء من الشرق ومن الجنوب، وزراعات كثيفة شمالًا (بحري البلد). وقال عنها علي مبارك إنها «مدينة كثيرة البركة وافرة المحصول وبعض أرض زراعتها على شاطئ النيل وأغلب ذلك جنات وبساتين».(2)

    وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، زار كثير من الرحالة مدينة أسوان، وركزوا على وصف آثارها، ولم يتركوا إلا قليلًا من الانطباعات عنها. وتميزت عنهم الكاتبة أميليا إدواردز التي زارت مصر عام ١٨٧٣، وسجلت مشاهداتها وملاحظاتها في كتاب «رحلة الألف ميل». تقول «إدواردز» إن شوارع المدينة تبدو مثل أي مدينة طينية أخرى على شاطئ النيل(3)، ولكنها تذكر تفاصيل أوْجُه أخرى للمدينة، مثل: الجامع، والجبَّانة، والموردة.

    جامع الحاج حسن

    نمت مدينة أسوان مثل كل المدن الإسلامية حول مسجد جامع، حيث

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1