Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الرواية المسروقة
الرواية المسروقة
الرواية المسروقة
Ebook348 pages2 hours

الرواية المسروقة

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

يُقدم الكاتب والطبيب حسن كمال في روايته شخصية شديدة التعقيد، يغوص في أعماقها ويُنقب في حياتها النفسية عن تأثير المُحيطين بها. حيث ترفض سلمى -بطلة الرواية- ماضيها الذي لم تختره، تتذكر وحدتها، واختلاقها لصديقتها المفضلة ريما من وحي خيالها، إذ هي الوحيدة التي تسمعها، غير أن سلمى ترفض هذه القصة حين تكبُر، وتلجأ لطبيبتها النفسية حتى تنجو مما يدور في رأسها، ومن هنا تبدأ في كتابة روايتها من الأحداث التي تُعايشها...
Languageالعربية
PublisherDiwan
Release dateJun 28, 2024
ISBN9789778713794
الرواية المسروقة

Related to الرواية المسروقة

Related ebooks

Related categories

Reviews for الرواية المسروقة

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الرواية المسروقة - حسن كمال

    إهداء

    إلى لبنى زيتون؛ التي ملأت الحياة ولم يغيبها الموت.

    ١

    الزواج -حتى بالشخص المناسب- خطأ وخطر؛ لأنك تمنحين نصف حياتك على الأقل لشخص آخر طواعية. أما لو كان لا يناسبك فتلك مصيبة؛ سيفسد النصف المتبقي ولن يبقى لك شيء، يمكن أن نعده سرطانًا لسنوات العمر والسعادة. لا بد أن تتخلصي منه، مهما كان الثمن!

    اليوم قررت أن أتخلص من حياتي. ثمان ساعات على الأقل مرت عليَّ وأنا أناقش القرار مع ريما. أرى الانتحار فكرة رائعة، صادمة للجميع، خصوصًا إذا رافقها خطاب يفضحهم جميعًا ويحكي كيف كانت حياتي في مختلف مراحلها خاضعة لواحد منهم، أشبه ما تكون بتلك العلبة الصفيحية التي تجرها سيارات العرس في الدراما الأمريكية، يشاهدها الجميع وهي تُجَرُّ على الأرض وتتقافز من نقطة إلى أخرى لتصدر أصواتًا يرونها مبهجة، دون أن يفكر أحد في مصير تلك العلبة التي -بكل تأكيد- ستنتهي منبعجة ومتألمة.

    أجلس على الكرسي في مواجهة مرآتي. على الحامل الخشبي وضعت كل شيء؛ سكين ومقص وزجاجة من الدواء المنوم وكوب ممتلئ بسم للفئران يشبه القمح. جمعت شعري في حزمة واحدة وقصصته في حركتين فقط. ألقيت ببقاياه تحت قدميَّ، وتخللت أصابعي ما تبقى منه. لم أفعل هذا كثيرًا في حياتي؛ فأنا أحب شعري طويلًا، فقط عندما أكون غاضبة بشدة أو مكتئبة بشدة أو عندما أشعر أنني أريد أن أرى في نفسي تغييرًا كبيرًا، وأنا أشعر بكل ذلك متداخلًا.

    تضحك ريما في استفزاز وهي تقول: «لن تفعلي شيئًا يا سلمى، ما دمت وضعت قائمة لاختيار آليات الانتحار فلن تقدمي عليه.»

    أتجاهلها ولا أجيب. أحاول حساب ما مر من عمري فيزيد الاكتئاب. الأربعينيات تسللت في لؤم، يمكنني أن أراها تقف في ركن الغرفة مرتدية فستانًا قصيرًا مكشوف الصدر، تمسك في يدها سيجارة رفيعة وتطلق أنفاسها في الهواء، تنظر إليَّ في خيبة أمل ثم تضحك ساخرة في استفزاز. الأربعينيات تعرف كل شيء عن السابق والآتي، وتقول إن ما تبقى من الوقود في المركبة لا يسمح بالانطلاق في أي اتجاه خاطئ. يتحدثون دائمًا عن سرعة مرور العمر. ربما تكون أيامهم مرت بشكل مختلف عن أيامي أنا؛ فكل يوم مر عليَّ ترك أثرًا في نفسي. أيام بطيئة وثقيلة كانت تجر أقدامها فوق روحي جرًّا. إذا كانت اللحظات هي أبسط وحدات قياس الزمن فأنا أملك في ذاكرتي لحظات أطول من أعمار كاملة لبشر آخرين.

    لكل منا أوقاتها التي تشرد فيها وتفتح خزائن حياتها لترى ما تبقى من كل شيء، وهل ما اشترته بسنوات الشباب والجمال كان قيمًا بما يكفي. ناتج الحسبة تتغير قيمته عامًا بعد آخر، والقرار يجب أن يكون حاسمًا وسريعًا في جميع مراحل العمر. أضعت عمري في التظاهر بالسعادة والرضا؛ لأنني حمقاء! صور منتقاة على صفحات التواصل الاجتماعي أطلقها في العالم الافتراضي، بعضها مختلس من عشاء عمل اصطحبني إليه أو من مناسبات عائلية، وأخرى من الهدايا التي كان يشتري صمتي بها كلما غضبت. أرسم ابتسامة عريضة على وجهي، تختفي فجأة بمجرد التقاط الصورة. أشعر بالخجل في مواجهة مزجي. تسألني عن أهمية رأي الناس في حياتي الخاصة، ولِمَ يعنيني أن يروها حياة جيدة، فأغمض عينيَّ ولا أجيب.

    أعيد الاستماع للتسجيل الصوتي الذي أُرسِل إليَّ من رقم مجهول. ما يزعجني فيه ليس خيانة حمدي لي؛ لم تكن مفاجأة، فأنا أعرف ذلك جيدًا، لكن رؤيته عاريًا إلى جوارها مؤلمة، وكيفية حديثه عني معها أكثر إيلامًا. ظننته يحمل في صدره شيئًا من الاحترام وكثيرًا من الامتنان لكل ما فعلته معه على مدار السنوات. الرسالة الواضحة، التي جاءتني من نبرة صوته الساخرة ومن كلماته الوقحة، أن صبري لم يكن فضيلة، وأنني كنت حمقاء، وأضعت عمري معه من أجل هلاوس توارثتها وأكدتها خيالات تعلمتها من دروس مالك، ربما كانت صالحة مع شخص آخر، أو في زمان ومكان آخرين، أما الحقيقة الآن فهي أن قوانين الحياة لا تحمي المغفلات ولا الغافلات.

    ريما أقنعتني أن الفكرة الأفضل تكمن في قتل حمدي أولًا؛ فالإعدام بدلًا من الانتحار سيكون أكثر فاعلية. أجابت ريما باختصار: «بالتأكيد لا يمكن أن تموتي أنت وتتركي الجميع يستمتع بحياته، على الأقل خذي في يدك واحدًا قبل الموت.»

    أفكر في ما قالته جيدًا. أمسك بالسكين وأقربه من وجهي، معدنه البارد يلامس وجنتي فيثير في جسدي قشعريرة. حمدي ليس أكثر من يستحق الموت في حياتي، بل سيد. أقوم من مكاني وأقف في مواجهة المرآة، أتفحص وجهي جيدًا لأرى تفاصيله الصغيرة للمرة الأخيرة. كنت أتمنى جمالًا فائقًا، لكن لا بأس. عيناي بنيتان واسعتان بما يكفي لوصفهما بالجمال، هما أفضل ما أمتلك، خصوصًا عندما ينعكس عليهما الضوء، أرى فيهما لمعة وبريق أمل في غد لم يأتِ أبدًا. الرموش سوداء طويلة، هذه هي العيون العربية التي وصفها أمجد سليم في روايته الأخيرة بأنها تبدو كبئر عميقة في داخلها أسرار حياة كاملة، مع أننا لم نلتقِ من قبل.

    لا أمتلك أي ملامح أخرى مميزة. برونزية أو قمحية اللون، وجهي مستطيل، وأنفي متوسط الحجم، يمكن أن أبدو في رأي البعض شبيهة لملامح تمثال نفرتيتي الشهير، لولا أن شفتيَّ ممتلئتان قليلًا، هاتان لم أحبهما، لكن الكثيرات في السنوات الأخيرة أصبحن يسعين لحقن شفاههن لدى أطباء التجميل ليبدون مثلي. ربما في تلك المرحلة فقط أدركت أن ثمة شيئًا ما في هذا الحجم، والشامة الداكنة الصغيرة تحت الزاوية اليسرى لا بد أنها تضيف شيئًا ما.

    أتذكر ما قالته أمي لي عندما شكوت إليها الفتيات اللائي سخرن من شفتيَّ، قالت إنهما جميلتان، أشارت إلى وجهي في المرآة قائلة إن الشامة في وجه البنت هي تمام الزينة وكمال الجمال، وأن رسام أجساد البنات ووجوههن ينتهي دائمًا بنقطة سوداء أو بنية داكنة، ثم يضع قلمه راضيًا عن إبداعه.

    صدقت الحكاية وأحببتها، وفي كل واحدة أراها كنت أبحث عن النقطة التي انتهى بها الرسم، وأتخيل نقطة البدء. أمي قالت إن رسم كل واحدة يبدأ بأجمل ما فيها، هذه من شفتيها، وهذا الأنف الدقيق لا بد أنه كان البداية، وأخرى من صدرها، وأخرى من خصرها! لكل أنثى بداية رسم مثالية، بعدها تُستكمَل الصورة بشكل تنازلي في الجودة، حتى توضع النقطة الأخيرة. لا توجد صورة كاملة، هذا هو العدل، ومهما تعددت الألوان في الوجه الواحد فالبداية والنهاية تكونان دائمًا بنقطة من قلم رقيق يشبه أقلام الكحل. أمي كانت مجنونة بالرسم والصمت، أما أنا فعشقي كان الكتابة والكلام، لهذا أمتلك أوراقًا تحكي مقاطع عديدة من حياتي، بعضها بخطي أنا، وبعضها بخط نصفي الآخر؛ مزجي، التي كانت تنصت إليَّ لسنوات عديدة، ثم أصبحت تتكلم أكثر مما تسمع.

    أبي لم تشغله ملامحي، ولا أستطيع تصنيف نظرته إلى جمالي، لكني أعرف جيدًا أنه يرى حياتي رائعة. سيندهش حتمًا إذا سمع بانتحاري لأنه لا يعرف التفاصيل. حياة أغلب البشر تبدو جيدة في عيون الآخرين، لكن الحكم الحقيقي على أي رداء لا يكون إلا بعد أن يحيط بجسدك فتعرف ملمسه وتفاصيله. حياتي تصلح لأي كائن حي، لكنها لا تصلح للبشر، أقرب إلى شجرة يانعة في حقل لا يمكن وصفه بأنه مهجور ولا أجدب، بل ربما يكون ممتلئًا بنباتات الزينة وأشجار البرتقال، لكنها لا تثمر، وليس له زوار حتى من حيوانات الحقول، لذلك هو حقل جاف مهما كسته الخضرة؛ خريفية مع أنها في فصل الربيع الذي يوشك على الانتهاء. أنا تعيسة. أيمكن أن تنتهي حياة البشر بتلك البساطة؟ حياة كاملة لا يمكن أن تذكرها صاحبتها في أوراقها إلا بأنها عاشت وتزوجت وماتت، وأنها لم تحب عيشتها ولا زيجتها ولا حتى الموت. البشر مغرورون، يجلسون على أرائكهم يراقبون أسراب النمل وهي تمشي في طريقها إلى الجحور ويشعرون أنهم الكائنات الأقوى، مع أنهم لا يفعلون سوى ما يفعله النمل؛ يجمعون مؤن شتاء العمر ويجرون بها على الجحور منتظرين بياتًا شتويًّا، ولا يعلمون أيضًا متى ستنتهي الحياة ولا كيف. البشر -بكل تأكيد- ليسوا كائنات أعلى من الكائنات الأخرى، بل كائنات موازية حتى وإن كانوا أكثر ذكاء.

    الوقت يمر. حمدي سيأتي بعد قليل، لا أريد أن أراه مرة أخرى. انفعالي يتزايد. أستجمع شجاعتي وأختار أسهل الحلول. أقوم من مكاني لأفرغ علبة السم في كل أواني الطعام وزجاجات العصير التي في المطبخ، أقلبها جيدًا وأنا أبكي. أعود إلى غرفتي وأفرغ في جوفي الأقراص المنومة كاملة. أجلس لأكتب رسالة للجميع، قبل أن أغيب عن وعيي.

    ٢

    في طفولتي، كانت لي صديقة اسمها ريما، لازمتني لسنوات، أحكي لها كل شيء، وتنصت لي على عكس الجميع. رأيتها مرات معدودة، لكني كنت أشعر بوجودها دائمًا. ينهرني أبي عندما أتحدث إليها، وتضمني أمي وتهمس أن ريما غير موجودة وأنني تعديت السن المقبول فيها أن يكون لنا أصدقاء من الخيال.

    توقفت عن الحديث مع ريما أمام أسرتي في العاشرة من العمر، وعن الحديث معها تمامًا في الثانية عشرة. سمعت أمي تحكي في رعب عن تفصيلة جديدة في قصة مالك البناية الذي هاجر إلى الأرجنتين تاركًا كل أملاكه للأقارب والأصدقاء. غادر قبل أن تسكن أسرتي البناية، لكن سيرته لم تزل حية لأن شهود الزمن الذي عاشه أحياء ويحكون، يتحدثون عنه أنه كان رجلًا لبنانيًّا خفيف الظل لا يُرى إلا مبتسمًا، وأنه هاجر عندما سقط المصعد به هو وابنته فكُسِرت ساقاه وماتت الصغيرة. الجديد، الذي قالته أمي في غموض ولم يعلق عليه أبي أبدًا، هو أن الابنة، التي ماتت، كان اسمها كريمة، وأن الجميع كانوا يطلقون عليها ريما ... ريما اللبنانية.

    سيطر عليَّ الخوف فلم أستطع النوم وحيدة في تلك الليلة. حاولت أن أتذكر كيف اخترت لها ذلك الاسم فلم أجد في رأسي سوى أنها أخبرتني به. سمعت ما قالته أمي همسًا من أنها قد تكون شبحًا، ورأيت أبي ينهرها في توتر جعلني أقتنع بذلك. أصبحت أشك في تصنيفها كروح حقيقية محلقة من حولي، حاولت طردها من محيط الواقع، أقرأ آيات من القرآن لتختفي، ظلت تراقبني في حزن لليلة كاملة ثم اختفت. تأكدت ظنوني، ثم عدت إلى الحديث معها من طرف واحد لأنني افتقدت وجودها في حياتي. أكدت لنفسي أنها بالتأكيد ليست شبحًا شريرًا لأنها لا تظهر ولا تصدر أصواتًا مخيفة في الليل ولا تصفع نوافذ الغرف والستائر عندما يشق البرق السماء. همست لها في ضعف: «سامحيني يا ريما. لا يعنيني ما أنت ولا من أين أتيت؛ فحياتي من دونك بائسة، أشعر أنني وحيدة للغاية، أنت الطمأنينة عند الخوف، وإجابات الأسئلة عند الحيرة، والتقاط الأنفاس عند الانفعال. لكن هل يمكن أن تكوني شبحًا بالفعل؟»

    بعد أسابيع قليلة، بدأت في استحضارها ليلًا ونهارًا. أريدها في حياتي مرة أخرى، أصبحت لديَّ قناعة لم تتغير أبدًا: ريما تجسيد لما يدور في قلبي وعقلي على هيئة كائن شبه بشري يعيش إلى جواري، أستعين به من آن إلى آخر لفعل ما أريد. أطلقت عليها المزج، وآمنت أن كل إنسان له مزجه، كائن متشابك يحمل صفات خاصة، لم يُخلَق من طين ولا من نار ولا من نور، بل كتلة المشاعر والهواجس والأفكار الملحة وحتى النوايا سواء تحققت أو لم تتحقق، خليط الانطباعات والتآلف السريع والرفض غير المبرر لشخص أو لمكان؛ فلكل شخص مزجه، والمزوج يرى بعضها بعضًا. عندما تقول إنك لا تشعر بالارتياح لشخص دون سبب يكون مزجك هو الذي رأى في مزجه ما يثير القلق، يخبرك أن هذا كاذب، وأن هذه لا تحبك، وأن هذا لا يحمل تجاهك نوايا طيبة. أكاد أرى مزوج كل من حولي لأن ريما تخبرني عنهم وتصفهم لي. لا أسمع صوتها كبقية البشر، بل يملأ رأسي من الداخل كطنين الأذن، لكنه ألطف كثيرًا.

    توجد مزوج هادئة وثانية ملحة وأخرى مبدعة، تهمس في أذن الكاتب بقصة جديدة، وتردد فجأة للشاعر أبياتًا، وتدندن في أذن الموسيقار بلحن جديد، لا يأتي الأمر من عقله، بل من مزجه، الدليل أن بعضهم يعترف أنه لم يفكر في ما كتب ولا يعرف من أين جاءته الفكرة، فقط سمعها ترن في أذنيه. هل تريد أن تنصت إلى مزجك لتصدق؟ أغمض عينيك وتذكر كم مرة سمعت صوتًا في داخلك يقول: كيف فعلت ذلك؟ ما هذه الحماقة؟ هذه فرصة لا تتركها. من الذي يحادثك؟ عقلك؟ إطلاقًا، على العكس؛ فالمزج أحيانًا يناقض العقل.

    للمزوج هيئة ووصف، يحمل الملامح التي يتمناها الشخص لذاته، ويمثل أفكاره وهواجسه التي لا يستطيع التخلص منها حتى وإن لم يستطع تحويلها إلى واقع، يمتلك قدرة التخاطر مع صاحبه لدى بعض البشر، وقدرة الحديث بصوت عند آخرين، وأخيرًا قدرة الظهور أمامه كشخص كامل حقيقي لا يراه إلا صاحبه. ريما صارخة الجمال، شعرها كستنائي، وبشرتها بيضاء كالثلج، ولعينيها خضار الحقول اليانعة، وفي وجهها الشامة نفسها التي تزين وجهي، نقطة تمام الرسم مشتركة بيني وبينها، لكنها تختلف عني تمامًا في كونها جريئة متحررة، ترتدي ما تراه مناسبًا لها حتى وإن كانت شبه عارية، صوتها عالٍ وحضورها قوي، وعندما تغضب تصرخ في جنون، ولا تتردد في التعبير عن رأيها بقوة، ولا تخضع لأي شخص يحاول استغلالها.

    لسنوات طويلة لم تزعجني ريما، الأسئلة والأفكار التي تلقيها عليَّ تأتي قصيرة حتى وإن كررتها كثيرًا، وظهورها أمامي لا يحدث إلا عندما أستحضرها وأسمح لها. لهذه الأسباب تحديدًا لم تصنفني الطبيبة النفسية، التي لجأت إليها أخيرًا، مجنونة، فقط عدَّتها تمثيلًا حيًّا لمشاعري لا ضرر منه ما دمت أسيطر عليها، وأعطتها وصفًا علميًّا ضحكت عندما سمعته؛ لأنه كان مطابقًا لاسم حارس مدرستي الابتدائية: طلبة! ظننتها تمزح، فأقسمت أنها كلمة علمية تعبر عن صديقتي. سردت عليَّ بإسهاب الفوارق بين المرض النفسي والحِيَل النفسية، فالأخيرة حماية من الأولى، ربما لهذا ارتحت تمامًا في تعاملي مع ريما، وأطلقت لها العنان. لكنها أخيرًا أصبحت وقحة! تسبني كثيرًا على كل ما فعلت في حياتي، وتكرر أن الأربعينيات هي المحطة الأخيرة، أو الفاصلة!

    الآن أصبحت لديها مادة جديدة لتسخر مني. تقول إنني فاشلة في كل شيء حتى الموت. لم يحدث أي شيء سوى أنني نمت ما يزيد على يوم كامل. حمدي غالبًا لم يفتح حتى باب الغرفة أو ربما لم يأتِ إلى المنزل من الأساس. قمت مترنحة واحتجت إلى ساعات طويلة لتنظيف الأواني التي لم تُمَسَّ، وقضيت ساعات في الحمام بآلام حادة في معدتي لم أعرف هل كان مصدرها الحبوب التي تناولتها أم السم في أثناء سكبي له وتقليبه. تضحك ريما وهي تقول: «لا من الحبوب ولا من السم .. من خيبتك!»

    أدير رأسي إلى الجهة الأخرى فتناديني: «لا تغضبي .. أمزح معك. أنصتي إليَّ يا سلمى؛ فأجمل ما في الأمر أنها حكاية جديدة رائعة، إضافة كبيرة عندما تحكين كل شيء.»

    ٣

    تتزايد جلساتي مع نانسي، طبيبتي النفسية. اخترتها بعناية، المرحلة العمرية نفسها لتفهمني، وحكايات متعددة عن طيبة قلبها وتعاطفها مع مرضاها. وجودها في حياتي الآن ضروري لاستكمال الآتي من مساري كما ينبغي. جلساتنا لا تحددها هي بزمن ولا تقاطعني ولا تمنعني عن الحديث. أخبرتها أن ريما أصبحت لحوحة، تتحدث في رأسي طوال الوقت، تطلب مني أن أكتب ما تمليه، أجلس إلى مكتبي غصبًا، أغيب عن الدنيا تمامًا وأنسى أنني سلمى، يتغير مرور الوقت، ساعات تمر عليَّ سريعة كغفوة راكب قطار في سفر طويل، أفيق بعدها لأجد أمامي كومة من الأوراق المزدحمة بكلمات أقرؤها في دهشة ممزوجة بفخر حذر. أنا قارئة نهمة، لكنني لم أكن يومًا كاتبة! لا أعرف كيف تُصاغ الجمل بهذا التسلسل، ولا أعرف كيف تذكر أوراقي حكايات عني نسيتها أنا منذ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1