Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي
المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي
المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي
Ebook670 pages5 hours

المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

تقدم دار الرافدين مذكرات علّامة الشام محمد كرد علي كاملةً، حيث سرنا في تحقيق هذه الطبعة بخطة قوامها تحرير هوامشه وتحديثها على ضوء مؤلفات جديدة عالجت المسائل كافة التي تناولها، ومطابقة النص مع الطبعة الأولى وموضعته ضمن كتّاب السيرة الذاتية الأوائل في العصر الحديث، بحيث خلت الإشارات إلى عمله المؤسس هذا في وضع لبنات هذا الفن الحديث في كتابة المذكرات، وكذلك موضعته ضمن المشروع الرائد من دار الرافدين في استعادة آثار العلامة العلم والإضاءة على آثار من كان أمّةً في رجُل.وقد أضفنا المجلد الخامس الصادر عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بتحقيق ومراجعة قيس الزرلي، كما عززنا المذكرات بمجلد خاص بفهارس جميع الأجزاء، مما يسهل على القارئ والباحث.
Languageالعربية
Release dateJun 10, 2024
ISBN9781238925938
المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي

Read more from محمد كرد علي

Related to المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي

Titles in the series (6)

View More

Related ebooks

Reviews for المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    المذكرات للأستاذ العلامة محمد كرد علي - محمد كرد علي

    للأستاذ العلّامة محمّد كرد علي 1876 - 1953

    الجزء الرابع

    مراجعة وتحقيق: د. محمد ناصر الدين

    فهرسة: د. نايف شقير

    بسم الله الرحمن الرحيم

    تَصْفُو الحَياةُ لجَاهِلٍ أوْ غافِلٍ

    عمّا مَضَى فيها وَمَا يُتَوَقّعُ

    وَلمَنْ يُغالِطُ في الحَقائِقِ نفسَهُ

    وَيَسومُها طَلَبَ المُحالِ فتطمَعُ

    (المتنبي)

    السياسة في مصر

    قال لي أحد أصدقائي من أعيان المصريين وعلمائهم يوم نالت مصر استقلالها ببعض القيود(1): ليت من منحونا هذا الاستقلال تريّثوا عشر سنين أخرى ريثما تنضج تربيتنا السياسية ونستعدّ الاستعداد المطلوب.

    رأي قد يُستشمّ منه بعضهم رائحة الغرام بحكم الأجنبي، وليس قائله ممن يُرمى بانحلال الوطنية وقلّة العلم والمعرفة، وغاية ما يوجّه إليه أنّه لم يمارس السياسة العملية، وأنّ علمَه كان أقرب إلى الكتب والدفاتر منه إلى درس التقارير والأضابير، ولعلّ حكمه هذا منبعث من معرفة النقص في أخلاق بعض مواطنيه وضعف تركيبهم السياسي يوم إعلان الاستقلال.

    كان صاحبي يعرف أنّ الاستقلال يتقاضى مصر جهداً حتّى تعتاد الحياة النيابية، وتتذوّق طعم الحكْم الدستوري، ذلك لأن الأمّية كانت غالبة على القُطر، ويبعد اليوم الذي تزول منه، ومع الأمّية يتعذر تطبيق الأساليب الحرة في الحكم. وكان يُعرف إلى هذا أنّ بعض من كانوا يتولّون الأمور من المصريين قد أفسدهم حُبّ الانتفاع من الغريب ومصانعته حتّى أصبحوا فئة لا تؤمّن على شيء. أمّا الفريق المتفائل فيدرك أنّ النقص لا تسلَم منه حتّى الأمم العريقة في الحكم النيابي، ولا بدّ من مرور زمن حتّى تنشأ طبقة راقية تعرِف ما لها وما عليها.

    بعد أربعين سنة قضتها مصر في نزاع شديد مع المحتلّ لم يسعه إلّا أن يحلّ وثاق المصريين، فأصدرت بريطانيا العظمى التصريح المعروف بتصريح 28 فبراير (1923) واشترطت فيه أن تبقى مسيطرة على طرق مواصلاتها، وهي تدفع عن مصر كلّ اعتداء أو تدخُّل أجنبي، وتحمي مصالح الأجانب وتحتفظ لنفسها بالسودان، وبذلك رفعت الحماية عن مصر فأصبحت دولة مستقلة ذات سيادة.

    وظهرت مصر في عهدها الجديد بمظهر من التعقّل، وسنّت لها دستوراً اقتبسته من أحدث الدساتير، وأخذت ترتب أمورها وتلمّ شعثها، وبدأ صوتها يُسمع في الأندية السياسية، وأثبتت في مواطن كثيرة استعدادها لممارسة الحكم بدون مراقبة أجنبية، ونبغ فيها رجال يدركون كساسة الغرب، كيف يطالبون بحقوق أمتهم، وأتقنوا في حقبة قصيرة ما تعلمه رجال الغرب في الزمن الطويل.

    وما كان هذا الاستقلال محض منحة تفضّلت بها إنجلترا على مصر، بل كان فيه شيء من معنى الرجوع إلى الحق، وإعطاء وادي النيل بعض مطالبه. وما فتئ المصريون منذ سنة 1888 (2)، وهي سنة الاحتلال، يطالبون بحرية ديارهم ويغلون الثمن في الوصول إليها، يلحف أعاظم رجالهم في تلمسها بالطرق القانونية فيسجنون ويُشرّدون ويُغرّبون ويعاملون معاملة اللصوص والقتلة لا معاملة وطنيين شرفاء يطالبون بفكّ أسْر بلادهم من يد المعتدي عليها. وعلى كثرة ما لقي رجال مصر من عذاب السلطة المحتلة ما يئسوا ولا أحجموا واستسهلوا كلّ صعب في سبيل تحقيق أمانيهم. وكان الشباب يؤلّفون الجمعيات السرية وينوّعون أساليب الدعاية لإنقاذ وطنهم، وكثير منهم تركوا مدارسهم وما عادوا إليها فَساء مستقبلهم ومستقبل بيوتهم في سبيل مصلحة بلدهم. وقام معظم الطبقات بدعاية واسعة في الصحف والمجتمعات والأندية في مصر وخارج مصر ليقنعوا العالم بعدالة مطالبهم. ومن لم يخدم مصر بقلمه وجرأته وخطبه خدمها بماله. فأنفقت في هذه السبيل ملايين من الجنيهات، والقوم يعتقدون أنّ كلّ ما بذلوه هو بعض ما يجب عليهم. واشتركت في هذا الجهاد الأكبر جميع طبقات المصريين ومنها النساء المثقّفات وبنات السراة(3).

    وكانت مصر تثور من حينٍ إلى آخر، وتجهر بالذي تثور من أجله، وتقدم أعزّ الضحايا من زهرة أبنائها، ويظهر الشباب المثقف، وبعضهم من أبناء النعيم أهل الرفاهية والغنى، بمظهر من الوطنية يفاخَر به. وكان من أبناء تلك التربية الناعمة من يغتالون كلّ مصري وقع في نفوسهم أنّه يخون قضية مصر، كما يغتالون بعض رجال الاحتلال ممن يعتقدون أنّ في إهلاكهم عبرة لغيرهم، حتّى ترجع دولتهم عن تشددها في إعطاء مصر حقّها.

    واستعمل الإنكليز أقصى الشدة لصدّ المصريين عن المضيّ في مطالبهم، وبينا كان الوطنيون عُزّلاً من السلاح كانت الحامية تطلق النار على الشعب فيتلقاها بصدره صابراً محتسباً. وما حدث في ثورة سنة 1919 (4) وفي غيرها من الثورات كان برهاناً جلياً على أنّ الإنكليز يقمعون ثورة من يناصبهم العداء بشدة بالغة لا هوادة فيها. وقد استعمل الثائرون المصريون العنف في أكثر مظاهراتهم. وتحملت الحكومة المصرية الغرامات الباهظة لمن قتلوا من الإنكليز، فخسرت مصر من مادياتها وربحت بمعنوياتها ربحاً أظهرها أمام الأمم الراقية في مظهر أمة متمدنة لا تنام عن حقها، وتفادي بكل عزيز للإبقاء على وطنيتها وقوميتها.

    لا تنجح الثورات على الأكثر، فثورة عرابي أخفقت لأنها أسفرت عن احتلال الإنكليز مصر، وثورة سنة 1919 نجحت لأنها أدت إلى تصريح 28 فبراير. وكان في مطالبة مصر باستقلالها اعتدال وكياسة، يراوح المفاوضة مع المحتلين أناس إن اختلفوا في أحزابهم فما اختلفوا في تحقيق غرضهم الشريف وهو خلاص وطنهم من يد الغاصب. دأبوا على المطالبة وما فترت لهم همّة، وكانوا أحياناً يعلّقون على الزمن تحقيق رجائهم في حلّ مشكلتهم المعقدة. وكان منهم من يتلطّف في الطلب، ومنهم المتشدّد في شروطه، ومنهم من كان في حالة بين بين، وكلّهم يطالب بالجلاء، وهو مدرك أنّ خصمه ضخم لا سبيل إلى استخلاص شيء منه بالقوة، وكان المفاوض المصري إذا لم يصل إلى ما يريد من المفاوض البريطاني يحوقل ويسترجع ولا يقطع أمله من بلوغ بغيته بمعاودة المفاوضة.

    كانت حجّة البريطانيين في مشروعية الاحتلال إعادة الأمن إلى نصابه، وتوطيد عرش الخديوي، والإشراف على ديون الدول، وكانت بلغت سبعة وتسعين مليون جنيه، منها ما هو لإنجلترا. وكان الإنكليز من أوّل يوم يدّعون أنّ احتلالهم مؤقت؛ ولكن طال أمد هذا المؤقت حتّى صدَق فيه المثل الإفرنجي «لا شيء يدوم كما يدوم المؤقّت».

    وفي الحق أنّ هذا الاستقلال الناقص أسفر عن فوائد عظيمة لمصر ولغيرها فأصبحت تقدّم وتؤخّر في سياسة الشرق الأدنى، وكان لها الشأن الأوّل في جامعة الدول العربية السبع (مصر وسورية ولبنان وشرقي الأردن والعراق والمملكة العربية السعودية واليمن).

    ومن الطبيعي أن تكون الصدارة لمصر بين الدول في هذه الجامعة، لأُلفها النظام منذ عهد محمّد علي الكبير، ولأن لها من أرضها ما يضمن لها القوة ويمتعها بالحياة على ما تتمتع بها الممالك الكبرى، ولأن أهلها كانوا من أسبق الأمم العربية إلى معاناة السياسة والأخذ بالمدنية الحديثة، ولأن لها مركزاً ممتازاً بين الممالك العربية، وتعدّ لاعتبارات كثيرة برزخاً بين المشرق والمغرب، وهي بمجموعها أرقى الممالك العربية وأكثرها سكّاناً.

    وإذا لم توفّق مصر حتّى الآن إلى تحقيق رغائبها في الاستقلال الكامل فما ذاك لقصور منها في اتّخاذ الأسباب، ولا لضعف في سياستها، وما السبب فيه إلّا أنّ الإنكليز يخافون إن رفعوا القوة العسكرية من الترعة(5) وردّوا السودان للسودانيين والمصريين، أن يكون من ذلك اختلال مواصلاتهم. وأصحاب السلطان في مصر يؤكدون أنّ جيش مصر قادر على حماية الترعة من كلّ اعتداء أجنبي.

    إنّ ما خافه صاحبي الحصيف على مصر في طورها الجديد لئلا تسقط فيما لا تُحمد عقباه هو اجتهاد منه ساقه إليه اعتقاده بأن ما سيجري قد يحمل خيراً وشراً. وهو يتفادى الشر ولا يحبّ مناجزة دولة لا يصطلي بنارها. أمّا مصر فما أغمضت عينها عن هدفها الأسمى منذ ثمانٍ وستين سنة إلى يوم الناس هذا، وتتحين الفرص لمطالبة إنجلترا بوعدها الذي قطعته على نفسها بالجلاء التام، وإمتاع مصر باستقلالها الخالي من كلّ قيد.

    عتاب أحباب

    عتب عليّ الأستاذ ماسينيون(6) لطعني في المذكرات باستعمار فرنسا، ونعيي على ظلمها المسلمين في شمالي أفريقية، وعجب أن ختمت صداقتي مع دولته بهذه الحملة المنكرة التي ما كانت تتوقع مني. وأنا أيضاً آسف أن يضطرني ظلم الظلمة إلى استعمال هذا اللسان مع فرنسا، خصوصاً وأنا أحبّها، وأحبُّ شعبها ولغتها وأدبها وعلماءها، ولي منهم أصدقاء أباهي بمحبتهم، ولا أنسى لطفهم ووفاءهم، وفي مقدمتهم العلامة ماسينيون.

    وأنّى لي أن أختار السكوت عن أعمال الفرنسيين في بلاد الإسلام، والعالم المتمدن، ومنهم بعض أهل فرنسا، تألّموا يوم ضرب جندهم دمشق، وخربوا دار ندوتها، وكانوا تحينوا وقت انعقاد مجلس النواب فقذفوه بحممهم ليقضوا على المجلس ومن فيه، دع ما أتوه من الفظائع في سائر مدن هذه الديار، وكل ذلك ليكرهوا سورية على قبول معاهدة تنافي مصلحتها. ولا أعرض هنا لما ارتكبه جيشهم في الثورة السورية، فقتلوا الأبرياء في بيوتهم وحقولهم وفي الشوارع والساحات، وخربوا بقنابلهم وقذائفهم جزءاً مهماً من مدينة دمشق، ودكّوا كثيراً من معالمها التاريخية ودمّروا قراها وأريافها، فكانت الخسارة عظيمة لا تعوّض.

    سار الفرنسيس في حكمهم المسلمين على خطة واحدة في الظلم، لم يغيروها منذ هبّوا يعتدون على الشعوب الضعيفة، يزهقون أرواح السكان بلا رحمة، ويستصفون أرضهم بغير الحق، ويمنعون التعليم عنهم ليبقوهم بهائم في صور آدمية. ومن هنا أتت كراهية المسلمين للاستعمار الفرنسي، ولعنهم زبانيته في السرّ والجهر. ومتى أحبَّ المظلوم ظالمه؟ ومتى صفا قلب المستعبَد لمستعبِده؟.

    خالفت فرنسا في الجزائر أبسط قواعد الإنسانية، منذ وضعت قدمها فيها، وكانت سياستها من أوّل الفتح إلى أن خضع لها القطر خضوعاً كاملاً تدور على نزع الأملاك من أصحابها، وإعطائها من لا يحسن استثمارها من الفرنسيين، ارتكبوا لتحقيق هذا الغرض من أنواع الظلم ما ترتجف الأقلام من كتبه.

    وما أتاه الجنرال بليسيه من إهلاك قبيلة بنسائها وأطفالها حرقاً بالنار داخل الغار الذي التجأوا إليه، يشبه ما أتاه الجنرال أوليفاروجه في دمشق يوم ارتحالهم عنها في العهد الأخير. حقائق لا يجهلها السيد ماسينيون فيما أحسب، وليس هو بحمد اللّٰه من المكابرين.

    وما قول صديقي أيضاً في آخر وقعة لمستعمري أمته في الجزائر وهي الفتنة التي دكوا فيها إحدى وأربعين قرية (تموز 1945) لاتهام أهلها بقتل بعض الأوروبيين، فأهلكت السلطة في الحال ستين رجلاً من سكانها رمياً بالرصاص، انتخبتهم على ما اتفق بلا تحقيق ولا محاكمة، ودمّرت قراهم بالطائرات من الجو والوحدات البحرية من البحر، وقدّر عدد من قضوا بهذا الطيش الاستعماري من 12 إلى 15 ألفاً (وفي رواية 25 ألفاً) هذا إذا فرض أنّ نصف السكان اعتصموا بالجبال.

    رأى المستعمرون في هذه العقوبة الجائرة فرصة لإبادة جانب من الجزائريين، ولو كان مقصدهم التأديب وإحقاق الحق لسلّموا المتهمين إلى القضاء وأخرجوا الفاعلين من بين هؤلاء الألوف من الأبرياء، ولكن الاستعمار الفرنسي قام في كلّ عصوره على الظلم، وليس مستعمرة القرن العشرين في بغيهم أقل من مستعمرة القرون قبله.

    وآخر ما نقله إلينا البرق من أخبار استعمارهم الممقوت ما كان يوم 30 حزيران 1950 في تونس وقد أدى سمو بايها صلاة الجمعة في المسجد الكبير فاجتمع المسلمون يحيّونه ويطالبون باستقلالهم، فما كان من السلطة إلّا أن أمرت الحامية بمهاجمة المسلمين داخل المسجد وخارجه، وأخذوا يقذفونهم بالقنابل المسيلة للدموع، ثمّ انقضّوا عليهم بمدافعهم الرشاشة فسقط مئة وعشرون قتيلاً، عدا الجرحى، في باحة المسجد وأمام بابه وفي الساحة الواقعة أمامه، وصُرع عدد من النساء والأطفال برصاص مسدسات الجند.

    ومن غريب ما أتته حكومة تونس المستعمرة في تطاويس إبلاغها مؤخراً قبيلتي الطرائفة والمخالبة وجوب قلع أشجارهم وإخلاء أراضيهم المجاورة لليبيا، واعتقلت أئمة المساجد واكتظ معتقل تطاويس بالوطنيين الأبرياء ويجري الآن تعذيبهم والتنكيل بهم، وإجبارهم على الأعمال الشاقة وحمل القذارات ويتركونهم بدون طعام.

    أدوّن هذا والجيش الفرنسي المحتل في مراكش يضرب بمدافعه وقنابله أبرياء المراكشيين، وسلطانهم شبه معتقل، وقد سُلب حريته وحيلَ بينه وبين رعيته، لأن أمته طالبت باستقلالها. ويكفي أن يجري اسم الاستقلال في الألسن حتّى تُزهق أرواح المئات والألوف من الوطنيين. وإلى ساعة نشر هذا الفصل لم تُعلم حقيقة ما ارتكبه المستعمرون من ضروب الهمجية والقتل الذريع. وقد سبق لهم في شهر نيسان من سنة 1947 أثناء زيارة السلطان محمّد الخامس مدينة طنجة أن أطلقوا مدافعهم الرشاشة فحصدت 5630 من أهالي البلاد. نعم 5630 قتيلاً. ولو أُحصي من قُتلوا في هذه الأقطار الثلاثة المنكوبة بالاستعمار الفرنسي لبلغوا ألوف الألوف.

    فما قول السيد ماسينيون بهذه الفضائح التي لا تزال تتكرر في مستعمرات جمهوريته. وكثيراً ما شاهدت عقلاء فرنسا أنفسهم ينتقدون هذه السياسة فكيف بي أن أمتنع عن الحملة على رجال الاستعمار وقتلهم أبناء جنسي؟.

    وإني لأعتقد أنّ ما كتبته في هذه «المذكرات»، وفي «الإسلام والحضارة العربية(7)»، وفي «القديم والحديث(8)»، في موضوع استعمار القوم، يوافقني عليه ثلاثة أرباع سكان فرنسا، ولا يتحرّج المنصف منهم من القول إنّ معاملة المستعمرين جماعة المسلمين هو العدوان المستديم والظلم الذي قلّما شهدت البشرية أفظع منه. وإن استبداد فرنسا في الجزائر ثمّ في تونس ثمّ في مراكش كان من أشدّ ما عُهد من ضروب الاستبداد، وما كان لأمّة أفحش جيش أعدائها القتل فيها أن تتناسى سيئاته، لأن فيه بعض قواد فُطرت قلوبهم على الرحمة، وما وقع على المغلوبين من حيف لم يصدر عن رأي الرحماء منهم.

    أحسن علماء فرنسا للإنسانية، ورجال الاستعمار من أبنائها أساؤوا لأهل الإسلام خاصة، ولكل بلد شرقيّ دخلوه عامة. حقيقة لا ينازع فيها منصف. وأنا إذا لم أغضّ الطرف عما ارتكبه أهل ديننا الأتراك من ظلم العرب مدة استثمارهم أرضنا وكتبت في «خطط الشام(9)» وغيره من تأليفي ما يجب على المؤرخ تدوينه، فمن باب أولى أن أنكر ظلم دولة لا تربطني بها رابطة جنس ولا دين ولا لغة. على أني لم أتلكأ في هذه المذكرات أيضاً عن الإقرار بجميل الدولة المنتدبة في إنهاض سوريا، ذكرت حسناتها يوم أحسنت، وعُدت عليها باللائمة عندما أساءت، وما باليت بحنق أرباب المدارك من السوريين، نوّهت بالجيد من أعمال فرنسا أيام انتدابها على ديارنا، وفي سبيل القيام بالواجب لم أعبأ بغضب من غضِب، وجادلت من جادلني فيما اعتقدت صحته، لعلمي بأن في السكوت عن حسنات المحسنين غمط حق وإنكار جميل ومدرَجة إلى امتناع المحسنين عن العمل الصالح.

    وما أخال عزيزي ماسينيون وسائر أحبابي من بني قومه إلّا عاذرين لي على النهج الذي انتهجته في تقرير الحقائق التي لا يروق أحباب الاستعمار التصريح بها. ولو كان أحدهم في مكاني لجرى على طريقتي، ولو أغضب عشرات الألوف من الناس. وعلى الناقمين عليّ في مجاهرة المستعمرين بما جنت أيديهم ألا ينسوا أني عربي وتهمّني مصلحة العرب قبل كلّ شيء.

    قلّة حياء

    ذكرت جريدة «أخبار اليوم» أنّ وزارة الخارجية المصرية طلبت إلى وزارة خارجية فرنسا السماح لها بإنشاء قنصليات في طنجة والدار البيضاء وغيرهما من بلاد المغرب الأقصى وتأسيس مدارس مصرية هناك، وأن الحكومة الفرنسية لم تردّ على هذا الطلب، وأنه عرضت على المؤتمر الديبلوماسي بالقاهرة مذكرة تضمنت اقتراحاً يرمي إلى التهديد بإغلاق المدارس والقنصليات الفرنسية بمصر في حالة عدم تحقيق طلب الحكومة المصرية في مراكش. وذكرت هذه الجريدة أنّ القسم المغربي لمجلس شورى الحكومة، وهو أحد مجالس البرلمان المراكشي، دُعي للاجتماع لاستماع بيان الحكومة عن التعليم، فوجّهَ أحد الأعضاء الوطنيين سؤالاً إلى الجنرال جوان المندوب السامي الفرنسي في مراكش عن سياسة الحكومة في التعليم وموقفها من العون الثقافي الذي تستعد مصر لتقديمه إلى المغاربة لإنشاء مدارس مصرية ومراكز للثقافة العربية، فردّ المندوب السامي الفرنسي على ذلك بقوله: يسوؤني أن تظل فئة من المغاربة تنظر إلى مصر والدول العربية مثل هذه النظرة، ويسوؤني أيضاً أن تنتظر مراكش عوناً ثقافياً من هذه الدول في حين أنّ العكس هو الذي ينبغي أن يكون. فالمغاربة إذ يلتمسون العون من الشرق يتجاهلون أن المغرب أكثر رقياً وثقافةً من مصر، وأنّ الاتجاه إلى الشرق هو أكبر خطأ ترتكبه المغرب، ويجب أن تتجه إلى أوروبا بدلاً من أن تتجه إلى أفريقية والقاهرة.

    وقد ردّ العضو المراكشي على ذلك بقوله: ليست هذه أوّل مرة تحاول فيها فرنسا المقارنة بين مراكش ومصر والتعريض بالعرب، فقد سمعنا شبهاً لهذا الكلام من مندوب فرنسا في مجلس الوصاية. ومضى يقول ومصر التي يحاول المندوب السامي الفرنسي أن يوهمنا بأنها دوننا ثقافة قد أنشأت خلال عشرين عاماً أتت عليها في الحرية أربع جامعات وأعلنت مجانية التعليم الثانوي والابتدائي بينما لا تزال أمنيتنا الغالية أن نستطيع إقناع الحكومة بإنشاء لا أقول جامعة أو كلية، بل مدرسة ثانوية نوفد إليها أبناءَنا. وختم العضو كلمته بقوله: أمّا إلى أين نتجه إلى الشرق أو إلى الغرب فأمر قد درسناه وأذعناه. لقد قلنا إنّنا من الشرق وإلى الشرق سنتجه، ونحن عرب وإلى العروبة ننتسب. وهدفنا الذي يعلمه المندوب السامي هو الاستقلال والانضمام إلى الجامعة العربية.

    هذا منطق ممثل فرنسا الأكبر في المغرب الأقصى وجواب أحد أبنائه عليه(10). وهذه السياسة في تعليم المراكشيين هي عين السياسة التي اتبعتها فرنسا في كلّ بلد إسلامي احتلّته. وكلام مندوب فرنسا في جلسة مجلس الشورى المراكشي كلام من يحاول إنكار الحقائق الظاهرة، ومن لا يخجل من التصريح بالكذب على رؤوس الأشهاد، وألفُ برهان يكذبه. مراكش أرقى من مصر؟ هذه دعوى من أسخف ما سمع، لا يقول بها عاقل. وكيف تدّعي بلاد ليس فيها، بعد احتلالها أكثر من أربعين سنة، مدرسة ثانوية واحدة، أنها أرقى من مصر؟ وبعد فإنّا كلما أردنا تجنّب الكلام عن سياسة فرنسا مع المسلمين في هذه المذكرات ترانا مدفوعين بعامل إنساني وقومي إلى تزييف خططها ونقد مناهج سياستها، ونعتقد اعتقاداً جازماً أنّ الكذب الذي يجري على ألسنة رجال الاستعمار وفي صحفهم كلّ يوم لا يؤوّل بغير احتقار العالم والعبث بالحق جهاراً. إنّ مصر على ما رأينا مصرّة على فتح مدارس لها وقنصليات في أرض مراكش فإذا لم تجب الدولة المحتلة على هذا الطلب المعقول تغلق مصر المدارس الفرنسية في وادي النيل. وما دامت فرنسا تحتفظ بطريقتها السقيمة في استعمارها على حين تخلّت أكبر دولة استعمارية وهي بريطانيا العظمى عن الاستعمار، ما دامت على ذلك وهي عاجزة عن المحافظة على السلام في مملكتها الأصلية أنّى لها أن تدبّر ممالك عظيمة كالجزائر وتونس ومراكش تخالفها في جنسها ودينها ومدنيتها، وهي لم ترَ من ساستها منذ احتلت الجزائر سنة 1830 سوى الشرّ والضرّ.

    هذا وقد وافقت حكومة إسبانيا على إنشاء معهد للدراسات الإسلامية في مدريد عاصمتها كما وافقت فرنسا على إنشاء معهد إسلامي في طنجة وهي منطقة دولية حرّة من أرض مراكش وليست منها في العرف الدولي وبقي طلب مصر عند هذا الحد.

    لا تأليف ولا نشر

    تحدّثت إلى صديق صرفت معظم حياتي معه في نفاد المطبوع من أكثر كتبي ووجوب إعادة طبعها، وضعف الوسائل الآن إلى تحقيق هذه الأمنية. فكان رأيه أنّ من كتبي ما حُفظت نسخ منه في الخزائن العامة والخاصة ومتى مسّت الحاجة إلى تكثير أعدادها في الأيدي يتقدّم من يطبعها. والأولى فيما أؤلفه من جديد ألا أتكلف طبعه، وأُبقيه في مسوّداته ليُطبع بعدي. هذا ما ارتآه الصديق العالم، وهو يقصد بما يقول راحتي من عناء النشر، بعد أن تعبت في التأليف. قال: إني قمت بما يجب عليّ من هذا القبيل، فالأجدر بي الاكتفاء بما ألّفت وطبعت وهو كثير.

    وقال لي صديق قديم عرف الأيام والناس أني وُفّقت بما وضعته من الكتب واستحسنها من وقعت إليهم وقرؤوها وأنها انتشرت ما قُدّر لها الانتشار، فمن الخير الآن ألا أفكر في غير صحتي، والأحجى أن أمتنع عن التأليف بعد يومي هذا.

    رأيان لحبيبين عاقلين يعلمان أني لا أقصد من وضع الكتب إلّا ما أعتقد النفع المعنوي منه. وأنا أرى أنّ واجبي لا يكمل إلّا يوم تكمل أنفاسي. وثمة عامل طبيعي يحفزني إلى المضيّ في التأليف، ما دمت أتمكن من مسك القلم، وأصبر على التحديق في الخطوط التي أخطّها، لأكتب ما أرى فيه بعض الفائدة من تجاربي في الحياة رجاء أن يكون مما أنشر القيام ببعض الواجب، ولا أكتب لأتسلّى أو أنال شهرة أو مظهراً، وربما كنت أمتنع من التأليف، ويسقط عني التكليف فيه؛ لو سمعت أنّ في المؤلفين اليوم من يعانون ذا الضرب من الكلام الحر.

    ولا أمثل لما يدعوني إلى معاناة ما أعاني إلّا بمسألتين صرفتُ فيهما جانباً من اهتمامي منذ وعيت على نفسي، وهما الاستثمار التركي ببلاد العرب والاستعمار الفرنسي في بلاد الإسلام، فقد عرّضت لتزييف الأوّل فاستاء بعض رجال العهد البائد من العثمانيين لطعني بما أتوه هم وأجدادهم خلال أربعة قرون في الولايات العربية، ثمّ انتهت أيامهم فأصبح ما ارتكبوه في ديارنا من حق التاريخ أن يحكم فيه، والتاريخ يقضي بالعدل بين الترك والعرب وبين العرب وغيرهم من الأمم. والمسألة الثانية غضب رجال الاستعمار الفرنسي مما أردّده في الأحايين من عسفهم، ومن مصلحة المستعمرين أن يكتموا عن العالم ما يبيّتون للمسلمين ولغير المسلمين.

    أنا الآن لا كلام لي مع الترك فهم اليوم وراء حدودهم، والعرب يرجون لهم كلّ خير على ألا يقاوموهم في تأليف وحدتهم السياسية. ولكن الفرنسيين ما برحت أحكامهم نافذة في شمالي أفريقية وأوسطها في نحو خمسة وعشرين مليوناً من أهل الإسلام، فمن الواجب أن أثبت أخبارهم بقدر الإمكان ويدعوني إلى ذلك في الأكثر أنّ العالم العربي في غفلة، وأهل كلّ قطر منصرفون إلى ما يهمّهم فقط. ولم يبلغنا أن أحداً من المفكرين المعاصرين اهتمّ لما يقع من العظائم في الجزائر وتونس ومراكش، اللهم إلّا ما يكتب الحين بعد الآخر في بعض الصحف السيّارة من أخبارها المؤلمة، ويلقى من الغد في سلة المهملات. فأصبح من المتعيَّن عليّ والحالة هذه أن أُعنى بمسائل أحفيتها درساً، وألا أتوانى في ذكر مصائب إخواني الأفريقيين.

    قد يكون الخوف من بطش الطغام(11) دافعاً يدفع من يرجى منهم إنكار ظلم فرنسا في مستعمراتها إلى إهمال هذا الأمر الإنساني والقومي. وفي الناس من يدهن للدولة ما دامت قائمة ولا يجسرون على نقد سياستها إلّا يوم تصبح من الدول المنقطعة أو تكاد.

    فمؤلف هذه المذكرات إذ يقيم النكير على الفرنسيين في قسوتهم على المسلمين يقوم بواجب، ويعدّ نفسه سعيداً جداً إذا وُفّق إلى إسماع صوته بعض عقلاء الجمهورية الفرنسية، وهو يقوم بهذه الخدمة حتّى الممات لا يبالي بما يعترض سبيلها من العقبات.

    رثى لي بعضهم لإتعاب نفسي في معالجة مسائل شائكة كان عليّ أن أختار السلامة ولا أخوض فيها، حتّى لا أستهدف لغضب الدول والأفراد، وأنا ما جوّزت لنفسي هذه الخطة إلّا بعد أن رأيت ما رأيت من تخاذل الأمّة العربية، ويعدّ في تخاذلها سكوت القادرين على الكلام من أهلها في إنكار ظلم المسلمين في شمالي أفريقية، ومن آثار تفاشل العرب ضعفهم البادية أعراضه مما كان من سقوطهم من أنظار أعدائهم، والسكوت موت أو ما يشبه الموت، وأعداء العرب لا يطلبون منهم أكثر من هذا.

    التمويه البارد

    اتضح للسوريين أنّ رجال الكتلة الوطنية أو الحزب الوطني، وفي خواتيم أمرهم خاصة، ما أتوا إلّا ما فيه نفعهم على الأكثر، وأنهم تمادوا في الانتقام من خصومهم بما لا تكاد ترتكب مثله حكومة مع معارضيها. ولا أدري بعد إن ظهرت سيئاتهم للعيان كيف يقنعون الأمة بأنهم نفعوا الوطن ثمّ يحاولون الرجوع إلى الحكم بالمؤامرات والثورات والمظاهرات، على حين ظهر للعدو والصديق أنهم قلّما شرَعوا بأمر نافع وأتمّوه، وأنهم ما أهمّهم تخفيف كربة الرعية وتحسين حالتها الاقتصادية والاجتماعية، وكانوا إلى الغبطة ما غرقت بيوتهم في النعيم، ويعدّون من القوة أنهم يهيّجون الشعب كلما بدا لهم، ويغلقون الحوانيت؛ ويعطّلون المتاجر، ويلقون المملكة في هرجٍ ومرج فتسوء سمعتها في الخارج وتتأثر اقتصادياتها.

    أتت الكتلة إلى الحكم وفي خزانة الدولة نحو مئة مليون ليرة سورية من الوفر فأنفقتها بإسراف في أعمال غير مثمرة، وكانت واردات الدولة عظيمة في أيامهم فصرفوا قسماً جسيماً منها فيما لا يجدي على الرعية، وتركوا على الجمهورية مائة وخمسة ملايين ليرة ديناً. وكانوا مدّة حكمهم يتلمسون طرق التبذير، وذلك بأن يتعمدوا المبالغة في تقدير الإيرادات عند تنظيم الموازنة ليسوّغ لهم التوسع في الصرف من أوّل السنَة، والموازنة في الحقيقة إلى عجز ظاهر.

    سخيف لعمر الحق من يذهب إلى أنّ معنى سكوت الرعية عن مساوئ حكومة أنها راضية عن حكمها. وسخيف من لا يدرك أنّ من عادة الدهر التحول والتبدّل وأن كلّ ما خالف العقل ونابذ الشرع والعدل مقضيّ عليه بالانهيار في النهاية.

    انحلّت الكتلة الوطنية(12) لاعتمادها على السفهاء، وإغفال نصائح أرباب التجارب، وظنت أنّ كلّ ما تخالف فيه المنطق ينطلي على الأمة، وأن قوّتها تبقى لها لا ينازعها أحد، ما دامت السلطة بيدها، وهي في كلّ أولئك تظن نفسها مخلّدة في الحكم. وكان من رجالها من لا ترضى حكومة بتوسيد المناصب العالية إليهم لقلة أمانتهم وضعف ثقافتهم.

    ولو حلّلنا حياة البارزين من رجال الكتلة تحليلاً دقيقاً لتجلّت للأعين قيمة حزبهم. ويُحكم على الأفراد والجماعات بما تمّ على أيديهم من خير وشر. بلغ أكثر رجالهم سنّ الشيخوخة، ومن لم يأت الخير على يده وهو شاب وكهل يستحيل أن يُنتفع به وهو شيخ، ولذلك رأيناهم لما خرَجَ الحكم من أيديهم طاش سهمهم وراحوا يحاولون أن يعودوا إليه، وليس معهم من الحق ما يوصلهم إلى ما يشتهون، ولا قوة لهم يتأتَّى الركون إليها إلّا قوة من كانوا يتناولون منهم المشاهرات والإنعامات والإعفاءات، وهؤلاء تخلوا عنهم يوم الشدّة وتناسوهم تناسياً ما يؤمل منهم غيره.

    البدع الضارة

    تعاون الحكومة المصرية شعبها جهرة على الاحتفاظ بخرافاته. ومن ذلك إطلاق الحرية لعاصمتها حتّى تحتفل كلّ سنة بمولد السيد البدوي(13) وغيره من أوليائهم. ويجري في هذا المولد من ضروب الفسق والفجور ومعاطاة المخدرات والخمور ما لا يكاد يقع أكثر منه في المواخير والحانات.

    وإنه ليسوء أرباب العقول من المصريين وغيرهم أن تظلّ مصر إلى اليوم على ما كانت عليه منذ قرون محافظة على هذه البدَع. ومصر من عادتها أن تجمع كلّ غريب وفيها الأضداد ماثلة، فهي في آن واحد كهف الشريعة وبيت الدين وموطن البدع والخرافات.

    لو كان لي رأي يسمع هناك لاقترحت على الحكومة المصرية إبطال هذه الاجتماعات لما فيها من العار على القطر المصري وعلى المسلمين كافة. وقد يخطر في الذهن أنّ الحكومة مقيّدة بخاطر بعض رجال الدين ممن ربوا في الخرافات ونشأوا وسط البدع فلا تجرؤ على مخالفتهم، وهم لا يفتونها إذا استَفْتَتْهم إلّا بما يعتقدون وإن اعتقدوا في باطنهم أنهم يخالفون بذلك روح الشرع مخالفة ظاهرة، يضاف إلى ذلك أنّ من بأيديهم البتّ في مثل هذه الأمور لم يدرُسوا من الدين ما يعرفون به ما يصحّ وما لا يصحّ، ومعظمهم من الصنف الذي لا يهتم لغير راتبه ومرتبته.

    أخلاق وزير

    كان رئيس مجلس الوزراء السيد جميل مردم بك يودّ لو اهتدى إلى حيلة توصله إلى إقصائي عن رئاسة المجمع العلمي العربي(14) مدى العمر كما وفّق بمعاضدة حزبه، فأبعدوني مرة عن هذه الرئاسة بضع سنين، وما بالوا بتعطيل أعمال معهد يخدم العلم والأدب ويدعو للعربية والعرب. ولا شأن عند السيد جميل للإضرار بالجماعة إذا كان فيه شفاء النفس من رجُل يبغضه من غير ما سبب، وهو يرى كلّ نفعه في معاضدة الرعاع لتأثيرهم في أهل الأحياء يوم الانتخابات ولا يأبه لما يقال له علم أو أدب.

    والأصل في هذه العداوة فيما أحسب أني لم أقبل اقتراح أصحابه في عدم الاشتراك في وزارة السيد تاج الدين الحسني، وكانوا وعدوني إن أنا صدعت بأمرهم أن يوسدوا إليّ يوم يستلمون الحكم رئاسة المجمع براتب ضخم. نعم كان السيد جميل مردم يريدني أن لا أشترك بوزارة السيد تاج الدين، أمّا هو فجوّز لنفسه وجوّز له حزبه الاشتراك في وزارة السيد حقي العظم، وهذا مثل الحسني انتدابيّ ومن صميم الانتدابيين. أي إنّ هذا السياسي المحنك أجاز لنفسه وهو غارق في حزبيته ما حرمه على غيره وهو حيادي مستقل لا حزب له.

    وأخذ ابن مردم يتسقّط لي العثرات مدة ولايته من غير أن يتظاهر أنه مناوئ لي، على عادته في عدم مجاهرة أرباب المكانة الأقوياء بالعداء، والاكتفاء بالدسّ عليهم من ورائهم.

    ومن ذلك أنّه بعث كتاباً رسمياً إلى وزير المعارف يقول فيه إنّ أعضاء المجمع العلمي العربي يتخلّفون عن حضور الحفلات الرسمية وإنهم ما شهدوا الحفلة الأخيرة التي شرفها الرئيس الأوّل بحضوره، وإنه يُؤخذ على المجمع أنّه لم يبادر إلى إقامة حفلة تأبين للأمير شكيب أرسلان فكان جوابي أن ليس في قانون المجمع العلمي مادة تُكره الأعضاء على حضور كلّ حفلة تُقام في المدينة، أمّا تأبين الأمير شكيب فقد تقرر أن يُستعاض عنه بكتاب يؤلّفه أحد الأعضاء في سيرته السياسية والأدبية، وهذا الجواب لم يُرض بالطبع رئيس الوزارة.

    ما كان هذا الوزير يهتمّ في الحقيقة لغير مصلحته الخاصة لذلك كانت الفوضى سائدة على عهده في معظم الدواوين. وهو في الظاهر على اتفاق مع الرئيس الأوّل، وقيل إنّ هذا كان يرمي الوزير بالانتفاع من منصبه انتفاعاً فيه ما يقال، إلّا أنّه لا يجرؤ أن يفاتحه بشيء، وكل واحد منهما مضطر إلى الإغضاء عن صاحبه في مسائل حتّى يُغضي هو له عن أخرى. ودام رئيس الجمهورية محتفظاً برئيس وزارته والناس غاضبون حتّى ثار الشعب وطالب علناً بإقالته، فقُتل أناس في المظاهرات وتعطلّت أعمال العاصمة أياماً.

    ويقول العارفون إنّ السيد جميل مردم بك بعد أن كان أضاق قبل الوزارة، وصدرت عليه عدة أحكام بالحبس أو أداء ما عليه لأرباب الديون استفاد من منصبه ووفى ما عليه في برهةٍ قصيرة، وعاد يقول في مجلس النواب وقد عرضوا له بما يرتكب في حكومته من التلاعب: «ماذا أعمل وقد خلقني اللّٰه غنياً» وفي الحق أنّه أثبت غناه بما اقتناه في مصر بعد خروجه من الوزارة من أطيان وأسهم شركات وعقارات.

    علوّ همة

    قرأت في مجلة «المعلم العربي» ما بذله صديقي الأستاذ عوض العامري(15) من الهمة في إنشاء مدارس جديدة في سوريا وما لجأ إليه من الطرق حتّى بلغ غرضه من دون أن يزعج الأهلين في جمع الإعانات لبناء المدارس، وبهذه الطريق الحازمة أنشأ مئتين وخمساً وثلاثين مدرسة في محافظات حوران ودمشق والفرات.

    ولقد كنت تفرّست فيه هذه الهمة وأكبرتها منذ عيّنته مديراً لمعارف حوران، ولعهدي به كلما

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1