Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي
من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي
من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي
Ebook818 pages5 hours

من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

سلك التَّأثير الثَّقافيُّ الذي أحدثه البابليُّون في مَن جاء بعدهم طريقين مختلفين؛ طريق النُّصوص، حين تنتقل الحكايات بذاتها، وطريق التَّقاليد الأدبيَّة، حين لا يمكن نقل نصوص محدَّدة بل نقل أعرافٍ وممارساتٍ أدبيَّة، وأشكال صنفيَّة لها خصائصُها في استعمال اللُّغة وتأويلها. ومع انتشار النُّصوص شرقاً وغرباً، وتوطين النُّصوص والتَّقاليد في ثقافات جديدة، كان لا بدَّ من مراعاة عمليَّة تجري ببطء وخفاء، ألا وهي عمليَّة تكييف النُّصوص والتَّقاليد بهدف توطينِها وتبيئتِها. وهكذا تتراكم فوق النُّصوص والتَّقاليد الأصيلة طبقاتٌ جديدةٌ تنتمي للثَّقافات الأخرى. فالنُّصوص والتَّقاليد لا تبقى ثابتةً، بل تتغيَّرُ تغيُّراً بطيئاً وغير محسوس، لكي تناسب البيئات الأدبيَّة والثَّقافيَّة التي تنتقل إليها. ولكنْ بعد مرور أزمنة طويلة، حين تعود هذه النُّصوص والتَّقاليد إلى البيئة التي انطلقت منها، تكون قد تغيَّرت ملامحُها الخارجيَّة، فتبدو وكأنَّها فقدت انتماءَها من حيث الشَّكل في الأقلِّ إلى الصُّورة التاريخيَّة التي بدأت بها. وهذا ما حصل بالضَّبط حين عادت بعض النُّصوص والتَّقاليد إلى الأدب العربيِّ، ومثَّلتْ نصوصاً تنتمي إلى آخر الثَّقافات التي تبنَّتْها، بل إنَّ الثَّقافة العربيَّة نفسها تصرَّفت بها تكييفاً وتعديلاً أيضاً.يتابع الكتاب أشكال التَّكييف للأساطير البابليَّة حينما تصل إلى الآداب المجاورة، ولا سيَّما حين تنتهي إلى الأدب العربيِّ، وكذلك أنماط الأصناف الأدبيَّة، وموضوعاتها؛ مثل ذبح التِّنِّين، ومصرع البطل ومبعثه، وأسطورة مولد البطل، وتشكُّل الحكايات البطوليَّة، والأمثال. ويلاحق الأساطير في طرق انتقالها من التُّراث البابليِّ وصولاً إلى الأدب العربيِّ مباشرةً، أو من خلال الطُّرق الموسوطة التي مرَّت بها.
Languageالعربية
Release dateJun 10, 2024
ISBN9789922671857
من بابل إلى بغداد: التراث البابلي في الأدب العربي

Read more from سعيد الغانمي

Related to من بابل إلى بغداد

Related ebooks

Related categories

Reviews for من بابل إلى بغداد

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    من بابل إلى بغداد - سعيد الغانمي

    التُّراث البابليّ في الأدب العربيِّ

    سعيد الغانمي

    إهداء

    إلى صَمْتِها في الضَّجيجِ المخيفِ،

    إلى شَوقِها في سنينِ الحصارِ العِجافِ،

    إلى نخلةٍ خارجَ البيتِ تبكي عليها،

    وقد نخرَ السُّوسُ لِبَّتَها،

    إلى حفنةِ السَّنَواتِ التي سقطَتْ في الطَّريقِ إلى العمرِ

    لكنَّها أفلتَتْ مِن حرائقِهِ واختفتْ،

    إلى كلِّ أُكذوبةٍ عشتُها صادقاً، وتمنَّيتُها،

    إلى حَدَقاتِ الطُّيورِ التي انطَفَأَتْ

    في حريقِ الذِّهابِ إلى الجامعةْ

    إلى مأتمٍ زارَني

    حينَ ودَّعتُ أحلاميَ الضائعةْ....

    المقدَّمة

    من طبيعة المركزيَّة الغربيَّة أن تشكِّكَ في أصالة الثَّقافات التي تدرسُها، وتبحثَ عن العناصر التي اندسَّت فيها من ثقافاتٍ أخرى سابقةٍ عليها. وهذا ما فعلتْهُ مع الثَّقافة العربيَّة، التي بحثت فيها عن الآثار اليونانيَّة، كما نقَّبتْ عن الآثار الهنديَّة. غير أنَّها لم تتناول مطلقاً الآثار البابليَّة القديمة، التي قاومت الزَّمن، واخترقتْ حواجزَهُ، لتدخل في صلب الثَّقافة العربيَّة. وقد يكون العذر في عدم هذا التَّناول أنَّ الصُّورة لم تكنْ قد اكتملت تماماً عن كلٍّ من الثَّقافتين البابليَّة والعربيَّة معاً، ولا سيَّما ما يتعلَّق من ذلك بالأدب، الذي لم يحظَ بأيَّة دراسة صنفيَّة يمكن أن تسعفَ في فهم الجوانب الفنِّيَّة والتاريخيَّة التي تحيط به. وهذا ما يحاولُهُ هذا الكتاب الذي يريد أن يتابع بعض مظاهر التَّأثير الثَّقافيِّ التي اخترقت الفواصل الزَّمنيَّة، حتّى استطاعت النَّفاذ إلى الأدب العربيِّ، واستقرَّت فيه.

    وينبغي قبل كلِّ شيءٍ توضيح الخطوط العامَّة التي سوف يسير عليها هذا الكتاب. فهو عملٌ أراد أن يتفحَّصَ أثر ثقافةٍ مندثرةٍ في ثقافةٍ عاشت بعدها في المنطقة نفسها بعد عشرات القرون. ولا يوجد اتِّصال مباشر بين الثَّقافتين، بل هو اتِّصال موسوط يمرُّ عبر ثقافاتٍ أخرى، ويحملُ طابعَها في الوقت نفسه. وتفرض الوسائط وعدم الاحتكاك المباشر بعض الضَّوابط المنهجيَّة والإجرائيَّة في القراءة. فأوَّلاً ينبغي القول إنَّ الموضوعة التي يتناولُها هذا الكتاب ليست الأدب البابليَّ، كما أنَّها ليست الأدب العربيَّ، منظوراً إليهما في ذاتيهما. بل هي العلاقة القائمة بينهما، أي مظاهر التَّأثير التي استطاعت اختراق الحواجز الزَّمنيَّة، والفواصل الثَّقافيَّة، والنَّفاذ عبرها، لتؤثِّر في الأدب العربيِّ. وبالتالي تحظى الوسائط نفسها ببعض العناية ما دامت تشكِّل عاملاً فعّالاً في نقل هذا التَّأثير. وهكذا يمكن القول إنَّ الموضوعة التي يدرسُها هذا الكتاب هي بعض مظاهر الأدب البابليِّ، التي أثَّرت في الوسائط البينيَّة، حتّى وصلت إلى الأدب العربيِّ.

    ولسنا نكتم أنَّ الموضوعة التي نُعنى بها هي موضوعة تقع على التُّخوم بين العلوم والثَّقافات المختلفة. وموضوعة «التُّخوم»، كما أكَّدنا مراراً، تحتاج إلى منهجٍ يرى أنَّ العلوم الإنسانيَّة تقع بدورها على المناطق الحدوديَّة، ولا تمتلك مناطقها المركزيَّة الخاصَّة بها، كما يرى باختين. ولذلك لا نخفي أنَّ المنهج الذي نتَّبعُهُ هنا هو منهج يهتمُّ بموضوعة حدوديَّة تقع على التُّخوم بين الثَّقافات والحقول، فلا تنتمي إلى الأدب البابليِّ الخالص، ولا إلى أدب الثَّقافات الموسوطة، ولا حتّى إلى الأدب العربيِّ الذي احتضن هذه الموضوعة في نهاية المطاف. وما دمنا مع منهج يسير في المناطق الحدوديَّة، فمن المتوقَّع أنَّ هذا المنهج لا يؤمن بالتَّراتبيَّة، ولا يستطيع إيلاء الأولويَّة لثقافةٍ على ثقافةٍ، أو لحقلٍ على حقلٍ، أو للغةٍ على لغةٍ.

    هنا تنبغي الإشارة إلى أنَّ هذا البحث ليس بحثاً أثريّاً، بل هو بحثٌ أدبيٌّ خالصٌ. صحيح أنَّه يستفيد من أعمال الآثاريِّين، ويصحُّ القول إنَّ عدداً كبيراً منهم يتجاوز موضوعة الآثار ليُعنى بالأدب، لكنَّه في ذاته بحثٌ في الأدب، بمعنى أنَّ الرُّؤية العامَّة التي تحرِّكُهُ هي النَّقد الأدبيُّ، لا الوسائل المنهجيَّة الخاصَّة بعلم الآثار. وفي واقع الأمر فإنَّ الموضوعة التي يتناولها هي موضوعة ثقافيَّة وأدبيَّة لا تستطيع أن تصل إليها الأدوات المنهجيَّة الخاصَّة بعلم الآثار، الملتزمة بفحص اللُّقى والنُّقوش. وهكذا فإنَّ منهج دراسة هذا العمل هو المنهج الأدبيُّ، وإن كان يعتمد، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بالآداب القديمة، والبابليَّة منها على وجه التَّحديد أكثر من سواها، على أبحاث الآثاريِّين والمختصِّين بلغات هذه اللُّقى. وسيرى القارئ لاحقاً أنَّنا نعتقد أنَّ دراسة الطَّبقات الأثريَّة تحصر الدِّراسة بمناطق الاحتكاك الثَّقافيِّ المباشر، في حين نريد نحن هنا أن ندرس مظاهر الأدب التي تستطيع تخطِّي التَّأثيرات المباشرة، والتَّخفِّي تحت قناع التَّأثيرات الموسوطة.

    إذاً، ستتناول الفصول التالية بعض المظاهر الثَّقافيَّة والأدبيَّة التي تستطيع عبور الثَّقافات المختلفة، لكنَّ جذورها بقيتْ كامنةً في الثَّقافة العراقيَّة القديمة؛ السُّومريَّة والأكديَّة والبابليَّة والآشوريَّة. وسوف نعرض لها لا بوصفها مظاهر خاصَّة بالثَّقافة البابليَّة، أعني من حيث التَّشكُّل الداخليُّ والتَّكوُّن التاريخيُّ، بل من حيث قدرتها على عبور حدودها الثَّقافيَّة والتَّأثير في الثَّقافات التي احتكَّت بها في البداية، ثمَّ الثَّقافات التي انتقلتْ إليها من خلال الوسائط. وهذا يعني أنَّنا سنتابع موضوعاتٍ ومظاهرَ مشتركةً في عددٍ من ثقافات المنطقة التي تمتدُّ من بابل إلى بغداد، وتغطِّي أزمنةً تمتدُّ من سومر إلى العصر العبّاسيِّ. وتمثِّل هذه الموضوعات المشتركة ظواهرَ عابرةً للثَّقافات، تمتلك من القوَّة ما يسعفُها على اختراق الأزمنة، وإن يكنْ ذلك من خلال الوسائط، وليس من خلال الاحتكاك المباشر.

    ويُستَحْسَنُ القول منذ البدء إنَّ التَّأثير قد انتقل بطريقتينِ؛ طريقة النُّصوص التي ظلَّت تتنقَّلُ عبر الوسائط دون تغييرٍ يُذكَرُ باستثناء ما يتطلَّبُهُ التَّكييف الثَّقافيُّ، وطريقة انتقال التَّقاليد بمعزلٍ عن النُّصوص في ذاتها. على سبيل المثال، هناك حكايات وأعمال أدبيَّة من الواضح أنَّها حافظت على بنيتها الأولى، مثل أسطورة مولد سرجون الأكديِّ، التي ظلَّت تتنقَّلُ في الثَّقافات حتّى وصلت إلى الثَّقافة العربيَّة في أسطورة مولد الملك داراب كما وردت في سيرة الإسكندر ذي القرنين. وهناك نصوصٌ أخرى مماثلة ستمرُّ علينا لاحقاً. ولكنْ هناك أيضاً تقاليدُ أدبيَّة طوَّرتها الثَّقافة البابليَّة القديمة، في البداية مقترنةً بنصوص معيَّنة، لكنَّها كانت من القوَّة بحيث فصلتْ نفسَها عن هذه النُّصوص، وانتقلت من خلال نصوصٍ أخرى، حتّى وصلت إلى الثَّقافة العربيَّة. وليس من شكٍّ في أنَّ رصد انتقال التَّقاليد أمرٌ في غاية الصُّعوبة. غير أنَّ استكشاف الخصائص الصِّنفيَّة يُفضي بالضَّرورة إلى معرفة هذه التَّقاليد والأعراف الأدبيَّة التي تشكَّلت في بلاد الرافدين، وظلَّت تتناسخ في الثَّقافات الأخرى، حتّى وصلت إلى الأدب العربيِّ.

    تتمثَّل المشكلة المنهجيَّة مع النَّموذج الأثريِّ في أنَّ الطَّبقات الأثريَّة لا تؤثِّر ولا تتأثَّر إلّا بالطَّبقات التي تحتكُّ بها احتكاكاً مباشراً. وغالباً ما يصنِّف الآثاريُّون الطَّبقاتِ الأثريَّةَ بالابتداء من الأسفل، ثمَّ يصعدون نحو الطَّبقات الأعلى، وهي الطَّبقات الأحدث. ولا تتأثَّر أيَّة طبقة من هذه الطَّبقات إلّا بما قبلَها مباشرةً، أو بما بعدَها مباشرةً. لنفترضْ طبقةً أثريَّةً يصنِّفُها الآثاريُّون على أنَّها الطَّبقة الثالثة، فهي ترتبط بالطَّبقة الثانية الأقدم منها، والطَّبقة الرابعة اللاحقة عليها. أمّا مع الطَّبقات الثَّقافيَّة الزَّمنيَّة فيمكن أن ينتقل تأثيرٌ معيَّن من طبقةٍ إلى طبقةٍ أخرى ليست على اتِّصال مباشر معها. والسَّبب في ذلك أنَّ الطَّبقات الثَّقافيَّة يمكن أن تنطويَ على بعض الظَّواهر التي تختفي من عموم الثَّقافة، ولكنْ تحتفظ بها بعض الجيوب الخفيَّة، ثمَّ تعود إلى الانتشار من جديدٍ، أو هي تنتقل عبر ثقافةٍ وسيطةٍ، كما قلنا من قبل.

    وهكذا فإنَّ العناصر المادِّيَّة الملموسة هي التي تنتقل انتقالاً مباشراً، وتتَّضح آثار انتقالها في الطَّبقات الأثريَّة. أمّا الطَّبقات الثَّقافيَّة فقد تنتقل عن طريق مباشر دون شكٍّ، لكنَّها يمكن أن تنتقل بالوساطة، ولا سيَّما حين تكون الثَّقافة ذات فاعليَّة قويَّة ولها ريادةٌ ملحوظةٌ، كما هو الحال مع الثَّقافة العراقيَّة القديمة. وفي هذه الحالة، فما ينتقل من خلال الوسائط ليس الآثار المادِّيَّة المباشرة، بل التَّقاليد الأدبيَّة، التي تكون من القوَّة بحيث تؤثِّر في الثَّقافات المعاصرة المجاورة لها، ثمَّ عن طريقها في الثَّقافات الأخرى، بما في ذلك الثَّقافات اللاحقة عليها والناشئة بعد اندثارها. وتظلُّ التَّقاليد الثَّقافيَّة في تداول الأدب وتوظيفِهِ وتصنيفِهِ تحتفظ بالهويَّة التي أنشأتها الثَّقافة الأولى التي ترعرعَتْ فيها، لكنَّها في الوقت نفسه يمكن أن تتعرَّض لطبقات متلاحقة من التَّكييف الذي ينأى بها إلى حدٍّ ما عن بيئتها الأولى. وإذا ما تمكنّا من الوصول إلى استكناه مواطن هذا التَّكييف، فإنَّنا سنجد هذه التَّقاليد في صورتها الأولى أو القريبة من الأولى.

    وفكرة «الأصناف الأدبيَّة» على درجة هائلة من الأهمِّيَّة، لأنَّ «الصِّنف»، كما بيَّنتُ في كتاب «مفاتيح خزائن السَّرد»، ليس مجرَّد مجموعةٍ من العادات الشَّكليَّة في استثمار موارد اللُّغة وحسبُ، بل هو في الوقت نفسه ترسيخ مجموعة من التَّقاليد الأدبيَّة التي تظلُّ تتداولها الثَّقافة. وبالتالي يشترط «الصِّنف» الأدبيُّ مجموعةً من الأشكال الأدبيَّة، تقترن بها عاداتٌ ثقافيَّة ترسِّخُها النُّخب الأدبيَّة على امتداد فترات طويلة. وبالتالي فهو النُّقطة التي يتقاطع عندها الشَّكل بالتاريخ، واللُّغة بالذاكرة الثَّقافيَّة، والاختيار الفرديُّ بالتَّقاليد الاجتماعيَّة الراسخة. وإذا نجح الصِّنف بخلق التَّقاليد الأدبيَّة التي تمتلك قابليَّة الاستمرار، فإنَّه يكون قد رسَّخَ هويَّة أدبيَّة للمجتمع دون أن يدري. وهي هويَّة أدبيَّة عابرة للثَّقافات والأزمنة في بعض أوجهها.

    من ناحيةٍ أخرى، فقد أوجبت الازدواجيَّة اللُّغويَّة التي مورست في بلاد الرافدين، وكانت تجمع بين عائلتين لغويَّتَين تختلفانِ في أرومتهما اللُّغويَّة، وهما السُّومريَّة والأكديَّة، نوعاً من التَّفاعل والتَّنافذ اللُّغويِّ بين اللُّغتين الجارتين. وإذا كانت السُّومريَّة لغةً إلصاقيَّة(1) مجهولة الأصول حتّى الآن، لافتقارنا إلى الوثائق السابقة عليها، فهي أقدم لغة مكتوبة. في حين أنَّ الأكديَّة لغة ساميَّة تنتسب إلى مجموعة كبيرة من اللُّغات المماثلة لها مثل الكنعانيَّة والآراميَّة والعربيَّة وغيرهنَّ. وسمح التَّفاعل والتَّنافذ بينهما بانتقال بعض العادات اللُّغويَّة والتَّقاليد الأدبيَّة من السُّومريَّة إلى الأكديَّة. لكنَّ الأكديَّة، وهي الصِّيغة الأقدم من اللَّهجات البابليَّة والآشوريَّة، طوَّرت في الوقت نفسه تقاليدَ أدبيَّة أخرى لم تكن تعرفُها البيئة السُّومريَّة. وليس من شكٍّ في أنَّ أشهر صنفٍ ابتكره الأكديُّون هو «الملحمة»، التي كتبوا فيها «ملحمة جلجامش» استناداً إلى تقاليدها. على أنَّ جيران اللُّغة الأكديَّة كانوا في الأغلب يشتركون معها في القرب المكانيِّ، وينتمون إلى سلالة اللُّغات الساميَّة المشتركة، وهكذا ربطتْ بينهم أواصر لغويَّة بالإضافة إلى أواصر الثَّقافة المتقاربة، التي تتبادل التَّأثير.

    وهكذا تبنَّتِ اللُّغات الساميَّة في المنطقة، التي تربطُها أواصر القرابة بالأكديَّة، فكرة الأصناف والتَّقاليد الأدبيَّة التي رسَّخَتْها اللُّغتانِ السُّومريَّة والأكديَّة، وصار بوسعنا متابعة آثار أدبيَّة مماثلة لدى المجتمعات الكنعانيَّة والإبلائيَّة (نسبةً إلى مدينة «إبلا» القديمة بالقرب من حلب). ولم تكتفِ هذه اللُّغات والثَّقافات بالمحافظة على التُّراثين السُّومريِّ والأكديِّ، بل أوصلته إلى مناطق اللُّغات الأخرى غير الساميَّة، مثل اللُّغة الحيثيَّة، التي هي لغة شعب هندو ــ أوربيٍّ كان يعيش في الأناضول في غرب تركيا، وكذلك إلى جهة الشَّرق، حيث احتفظت اللُّغات الهندو ــ إيرانيَّة بكثيرٍ من سمات هذا الأدب. وكان الحيثيُّون يشكِّلون الوسيط الثَّقافيَّ لنقل التُّراث البابليِّ إلى الغرب الأوربيِّ المتحضِّر، ولا سيَّما لدى المسينيِّين والإغريق، الذين كانوا يتهيَّأون لدخول معترك الصِّراع الحضاريِّ في العالم القديم.

    قلنا إنَّ التَّأثير الثَّقافيَّ والأدبيَّ كان يسلك طريقين؛ طريق النُّصوص، حين تنتقل الحكايات بذاتها، وطريق التَّقاليد الأدبيَّة، حين لا يمكن نقل نصوص محدَّدة بل نقل أعرافٍ وممارساتٍ أدبيَّة، وأشكال صنفيَّة لها خصائصُها في استعمال اللُّغة وتأويلها. ومع انتشار النُّصوص شرقاً وغرباً، وتوطين النُّصوص والتَّقاليد في ثقافات جديدة، كان لا بدَّ من مراعاة عمليَّة تجري ببطء وخفاء، ألا وهي عمليَّة تكييف النُّصوص والتَّقاليد بهدف توطينِها وتبيئتِها. وهكذا تتراكم فوق النُّصوص والتَّقاليد الأصيلة طبقاتٌ جديدةٌ تنتمي للثَّقافات الأخرى. فالنُّصوص والتَّقاليد لا تبقى ثابتةً بمعزلٍ عن عمليَّة التَّوطين، بل تتغيَّرُ تغيُّراً بطيئاً وغير محسوس، لكي تناسب البيئات الأدبيَّة والثَّقافيَّة التي تنتقل إليها. ولكنْ بعد مرور أزمنة طويلة، حين تعود هذه النُّصوص والتَّقاليد إلى البيئة التي انطلقت منها، تكون قد تغيَّرت ملامحُها الخارجيَّة، فتبدو وكأنَّها فقدت انتماءَها من حيث الشَّكل في الأقلِّ إلى الصُّورة التاريخيَّة التي بدأت بها. وهذا ما حصل بالضَّبط حين عادت بعض النُّصوص والتَّقاليد إلى الأدب العربيِّ، ومثَّلتْ نصوصاً تنتمي إلى آخر الثَّقافات التي تبنَّتْها، بل إنَّ الثَّقافة العربيَّة نفسها تصرَّفت بها تكييفاً وتعديلاً أيضاً.

    إذا عدنا إلى الأدب العربيِّ، فقد وصلَنا هو الآخر عبر مصفاة ثقافيَّة تنتمي إلى عصرٍ آخرَ. ومثل الآداب السابقة عليه، التي تعرَّضت لطبقاتٍ من التَّكييف والتَّعديل وإعادة الصِّياغة، فقد تعرَّض الأدب العربيُّ إلى حقبٍ تأسيسيَّة متلاحقة، وكلَّما جاءت حقبة أعادت النَّظر في أدب سابقاتها، وكيَّفتْهُ بما يتناسب مع حقبتها التَّأسيسيَّة. وقد ذكرنا في كتاب «ينابيع اللُّغة الأولى» أنَّ حقبة مملكة المناذرة في الحيرة كانت آخر حقبة تأسيسيَّة من الناحية الثَّقافيَّة والتاريخيَّة قبل الإسلام. وهناك ما يدلُّ على أنَّ الأدب فيها شهدَ بعض المظاهر التي اختفت من الأدب العربيِّ لاحقاً. ثمَّ قدَّم الإسلام نفسه بوصفه الحقبة التَّأسيسيَّة الأخيرة التي ألغتْ ما قبلها. وهكذا أُعيد النَّظر في أدب الحيرة بما يتوافق مع النَّظرة الإسلاميَّة، وتمَّ استبعاد ما يختلف معها. ولهذا فإنَّ الحكايات البطوليَّة التي وصلتنا من الأدب الجاهليِّ ليست الحكايات البطوليَّة الجاهليَّة بعينها، بل هي الحكايات البطوليَّة التي سمح الإسلام، من حيث هو حقبة ثقافيَّة تأسيسيَّة جديدة، بإيصالها. ومن هنا، فهي شأنها شأن الحكايات البطوليَّة في الثَّقافات الأخرى، تعرَّضت رواياتها للتَّعديل والتَّكييف بما يتناسب مع الحقبة الإسلاميَّة. ونحن مدعوُّونَ في الحالتين إلى الانتباه للطَّبقات التي لا تنتمي إلى الحقب الثَّقافيَّة الأصيلة، بل إلى الحقب اللاحقة عليها.

    لقد كُتِبَ هذا الكتاب بروحيَّة من التَّسامح؛ تسامح في المصطلح، وتسامح في تحليل النُّصوص. فلم أتشدَّد كثيراً في الإسراف باستعمال المصطلحات بمعانيها التَّقنيَّة، بل كانت الأولويَّة للمفاهيم أكثر بكثيرٍ من المصطلحات. على سبيل المثال، أشرتُ إلى الحكاية البطوليَّة بمعناها الصِّنفيِّ، لكنِّي لم أعترضْ على استعمال بعض الكتّاب الآخرين مصطلح القصَّة أو الدَّور الملحميِّ بدلها، لأنَّ ما يعنيني هو المفهوم، وليس المصطلح بذاته. وبالطَّبع فإنَّ من المستحيل إحصاء النُّصوص جميعاً في هذه المساحة الصَّغيرة، ولذلك فالنُّصوص التي استشهدتُ بها هنا هي نصوص تمثيليَّة وحسب، وليست حصريَّة قطعاً.

    وكما سبق القول، فإنَّ هذا العمل يتناول النُّصوص والتَّقاليد معاً. في حالة النُّصوص كنتُ أشير إشاراتٍ عريضةً إلى النُّصوص الأكديَّة التَّأسيسيَّة. أمّا في حالة النُّصوص المستمدَّة منها والمعدَّلة عنها فكثيراً ما كنتُ أكتفي بالإشارة السَّريعة إلى أبحاث مفصَّلة أنجزَها باحثون آخرون، لاستحالة الإلمام بجميع التَّفاصيل في هذا العمل. وكذلك في حالة التَّقاليد، فقد كنتُ أُلفِتُ نظرَ القارئ إلى مؤشِّرات التَّقليد أو الاستعارات التي رسَّخَها، ثمَّ أتابع نظائرها في الثَّقافات الأخرى. ومرَّةً أخرى لا بدَّ من القول إنَّ النَّماذج هي مجرَّد عيِّنات وليست أبحاثاً مفصَّلة. وبالإمكان تعزيزها بشواهدَ أخرى كثيرة، ربَّما لم يتطرَّق إليها الكتاب.

    وأودُّ التَّنويه إلى أنَّني لم أُدرجْ «ملحمة جلجامش» في مخطَّط هذا العمل، ولذلك لن يجدَ القارئ معلوماتٍ عن الكيفيَّة التي ظهرت بها في الثَّقافات الأخرى وصولاً إلى الأدب العربيِّ. والسَّبب في عدم إدراجها هو أنَّ هذه الملحمة تتطلَّبُ جهداً تأويليّاً من نوعٍ آخرَ، اضطرَّني أن أُباشرَهُ بعد الانتهاء تماماً من هذا العمل. وقد تمكَّنت من إعداد دراسةٍ مفصَّلة لبحثها سمَّيتُها «جلجامش واختلاس لغز الزَّمن»، تابعتُها فيها منذ الحكايات البطوليَّة السُّومريَّة، وانتهاءً بطبقات التَّأويل التي تراكمَتْ فوقها عند انتقالها إلى الثَّقافات المجاورة. وهذا أمرٌ مشابهٌ لما حصل لي مع كتاب «مفاتيح خزائن السَّرد»، الذي لم أضمِّنْ فيه دراسة «ألف ليلة وليلة»، بل أتبعتُهُ بعملٍ خاصٍّ مكرَّس لها هو كتاب «خيال لا ينقطع: قراءة في ألف ليلة وليلة».

    ومثل سائر أعمالي، لم أكتبْ هذا الكتاب محاباةً لأحد، أو نزولاً عند رغبة جهةٍ ما، وهو لم يحظَ بدعم أيِّ كيانٍ أو أيَّة مؤسَّسة، بل هو نتاج اشتباكٍ شخصيٍّ مع التُّراث، ومحاولة في حلِّ إشكاليَّة فرديَّة في تجربة القراءة. ومثل بقيَّة الأعمال التي سبقتْهُ، فهو يتطلَّع إلى قارئٍ يساهم في فعل كتابتِهِ، فيرمِّمُ فجواتِ النَّصِّ، ويستكمل الأسئلة والأجوبة التي لم يُثِرْها، ولعلَّه حينئذٍ سيصل إلى قراءةٍ مغايرةٍ، تقترحُ أسئلةً جديدة، وأجوبةً مختلفةً، ربَّما تكون مفتاحاً لعملٍ أكثرَ انضباطاً وأقلَّ مجازفةً.

    الفصل الأوَّل

    العرب والحضارة البابليَّة

    تعاقب الحِقَب الثَّقافيَّة

    يُقال إنَّ بعض العراقيِّين منذ زمنٍ قريبٍ صاروا يستخدمون بعض التَّقنيّات الحديثة للبحث عن الكنوز واستخراج الدَّفائن، لا بهدف اكتشاف الآثار بالطَّبع، بل بهدف العثور عليها والمتاجرة بها. ولقد كان آباء هؤلاء وأجدادُهم حين يعثرون على الألواح المسماريَّة والتَّماثيل القديمة يرمونَ بها بعيداً، وهم يتعوَّذون من الشَّيطان الرَّجيم. وهذا في الواقع يُثير سؤالاً مهمّاً جدّاً حول العلاقة بالآثار القديمة. إذ حين يتجاورُ شعبانِ في مكانٍ واحدٍ، فغالباً ما يتفاهمانِ، إذا كان بينَهما اتِّصال لغويٌّ، وهو عادة موجودٌ. فإذا تعاورا على المكان نفسه، وسكنا فيه كلّاً في زمنِهِ، فإنَّ الاتِّصال بينهما ممكن، إذا حصل احتكاكٌ مباشرٌ من نوعٍ ما. لكنَّ فرص الاتِّصال تتقلَّص، وتزداد انكماشاً، كلَّما تضاعفتِ الفواصل الزَّمنيَّة، وتراكمتِ العصور على احتلال المكانِ الذي يشتركانِ فيه. غير أنَّ الاتِّصال يظلُّ أمراً ممكناً، إذا جرى من خلال الكتابة. وقد كان العراقيُّون القُدَماء منذ أقدم عصورهم الثَّقافيَّة؛ السُّومريَّة والأكديَّة والبابليَّة والآشوريَّة، يستخدمون الكتابة المسماريَّة، وتركوا وراءَهم ما يقدِّر الباحثون أنَّه بالملايين من الألواح المكتوبة بالخطِّ المسماريِّ. فهل حصل اتِّصال لهم مع أخلافِهم في المكانِ من خلال الكتابة؟

    لا نشكُّ مطلقاً في أنَّ سكّان المناطق التي توجد فيها مدنٌ قديمةٌ كانوا يحتكُّون بالآثار احتكاكاً يوميّاً، وربَّما عثروا على الألواح المكتوبة بالمسماريَّة، القريبة من الأرض في العادة، كما يعثرُ عليها الآن سكّان هذه المناطق ويجدونها، دون أن يكونوا آثاريِّين بالضَّرورة. فلماذا لم يدفعِ الفضولُ أحداً منهم لمعرفة أسرار هذه الكتابة؟ في الأغلب لا ينشأ الفضول إلّا إذا اتَّخذ مظهرَ إشكالٍ ثقافيٍّ لحلِّ معضلة فكريَّة، تستدعي الاستعانة بالماضي لفهمها. وهذا هو سبب الاهتمام الحديث بالآثار القديمة، لأنَّ المستكشفين الأوائل كانوا مدفوعين بهدف البرهنة على صحَّةِ معلومات الكتب المقدَّسة أو تفنيدِها، ممّا استدعى منهم فكَّ شفرات اللُّغات القديمة العراقيَّة والمصريَّة، مستعينين بحجر رشيد في حالة الكتابة المصريَّة، ونقوش بهستون المماثلة في حالة الخطِّ المسماريِّ.

    ونحن نستطيع أن نخمِّنَ أنَّ بعض القُدَماء لم يكن أقلَّ فضولاً من هؤلاء، غير أنَّ الوسائل العلميَّة لفكِّ شفرات هذه الخطوط بطريقةٍ مماثلةٍ لم تكن متاحةً لهم. وقد وصلتْنا أخبار كتب يبدو أنَّها كانت تهتمُّ بالجوانب الإلغازيَّة في الحضارات القديمة، كما هو الحال في بعض الأعمال المنسوبة لابن وحشيَّة. غير أنَّ أشهر مثال على ذلك يتوفَّرُ في كتاب «اختلاف الزِّيجات» لأبي معشر البلخيِّ الفلكيِّ، الذي اقتبس منه ابن النَّديم وحمزة الأصفهانيُّ وآخرون بعض الفقرات. وبمناسبة الحديثِ عن العثور على بعض المكتبات القديمة، فقد نقل هذانِ المؤلِّفانِ خبرَينِ مماثلينِ عن العثور على بعض الكتابات استكمالاً لحديثه أيضاً.

    قال ابن النَّديم: «قال محمَّد بن إسحاق: أخبرَني الثِّقة أنَّه انهارَ في سنة خمسين وثلاثمائة من سنيِّ الهجرة أزجٌ آخرُ، لم يُعرَفْ مكانُهُ، لأنَّه قُدِّرَ في سطحه أنَّه مصمتٌ إلى أن انهار، وانكشفَ عن هذه الكتب الكثيرة، التي لا يهتدي أحدٌ إلى قراءتها. والذي رأيتُ أنا بالمشاهدة أنَّ أبا الفضل بن العميد أنفذَ إلى ها هنا في سنة نيِّف وأربعين كتباً متقطِّعة أُصيبتْ بأصفهانَ في سورِ المدينةِ في صناديقَ، وكانت باليونانيَّة. فاستخرجَها أهلُ هذا الشَّأن، مثل يوحنّا وغيرِهِ. وكانت أسماءَ الجيشِ ومبالغَ أرزاقِهم. وكانتِ الكتبُ في نهايةِ نَتَنِ الرائحةِ، حتّى كأنَّ الدِّباغة فارقتْها عن قربٍ. فلمّا بقيتْ ببغدادَ حولاً، جفَّت وتغيَّرت وزالَتِ الرائحةُ عنها. ومنها في هذا الوقتِ شيءٌ عند شيخِنا أبي سليمانَ»(2).

    يقصد ابن النَّديم أبا سليمان المنطقيَّ السِّجستانيَّ. فهذه تجربة شخصيَّة كان هو شاهداً فعليّاً عليها. لكنَّ الكتب فيها لم تكن تمثِّل أيَّة مشكلة، لأنَّها مكتوبة باليونانيَّة، وهي لغةٌ يتوفَّر مَن يقرأونها ويترجمون عنها في بغداد حينئذٍ. وقد انطفأ فضول هؤلاء حالما عرفوا أنَّها سجلّات رسميَّة لتدوين أرزاق الجنود.

    ويتوفَّر نصٌّ آخرُ يتعلَّق أيضاً باقتباسٍ أخذه حمزة الأصفهانيُّ من كتاب أبي معشر البلخيِّ المذكور نفسه، وربَّما من المقطع نفسه، لكنَّه استأنفَ الحديث عن تجربةٍ أخرى غير تجربة ابن النَّديم. قال حمزة: «وإلى ها هنا حكايةُ ألفاظِ أبي معشر في وصف البَنيَّةِ القائمة الأثر بأصبهان. وأبو معشر إنَّما وصفَ أزجاً من آزاجِ هذه البَنيَّةِ، انهارَ منذ ألفِ سنةٍ، أقلَّ أو أكثرَ، فعبرَ منه إلى زيجِ شهريارَ. فأمّا الذي انهارَ في سنة خمسٍ وثلاثينَ(3) من سني الهجرةِ فأزجٌ آخر، لم يُعرَفْ مكانُهُ، لأنَّه قُدِّرَ أنَّه مصمتٌ إلى {أن} انهارَ، فانكشفَ عن هذه الكتبِ الكبيرةِ المكتوبةِ التي {لا} يُهتَدى إلى قراءتها، ولا خطُّها يشبهُ شيئاً من خطوطِ الأُمَمِ»(4). من الصَّعب تخمين نوع الكتابة المجهولة في هذه الكتب. لكنَّ هناك أخباراً حول كتاباتٍ، من المرجَّح أنَّها مسماريَّة، على أجساد التَّماثيل، رآها القدماء، كالنَّصِّ الذي نقله التَّنوخيُّ في الحكاية التي سنتطرَّق إليها لاحقاً.

    قد يُقال إنَّ الأسطورة كانت مثارَ فضولٍ يدفع الناس إلى التَّعرُّف على عقائد الآخرين. لكنَّ هذا الاعتراض في واقع الأمر اعتراضٌ غير صحيح. فالأسطورة هي دائماً تسمية تبخيسيَّة لما يعتقدُ ويؤمنُ به الآخرُ، لا الذات. يسمِّي المرءُ ما يؤمن به تسميةً إيجابيَّة، كالعقيدة والإيمان والأُصول وما أشبه من تسمياتٍ، أمّا ما يؤمنُ به الآخر فهو خرافةٌ وأُسطورةٌ وخيالٌ مجنونٌ. ولهذا السَّبب فقد كانت الأساطير دائماً عائقاً من عوائق الاتِّصال بين الشُّعوب. ولقد نقلَ العرب عن اليونان كتبَ العلومِ المختلفة، مثل الطِّبِّ والفلسفة والجغرافيا والنَّبات والحيوان، لكنَّهم امتنعوا تماماً عن نقل أساطير اليونان وملاحمِهم الخرافيَّة. ونحن نعرفُ أنَّ نصوص ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة» كانت متوفِّرةً تحت أيدي العرب، لكنَّهم توقَّفوا عن ترجمتها، لأنَّها كانت تمثِّل عندهم أساطيرَ، أي خرافات باطلة وأكاذيب زائلة.

    الطَّبقات الأثريَّة والثَّقافيَّة

    حين يدرس الآثاريُّون المواضيع الأدبيَّة والثَّقافيَّة، فهم في العادة يقدِّمون لدراساتهم ببيان «الطَّبقات الأثريَّة» المتتابعة التي ظهرتْ في المساحة التي ظهرتْ فيها الثَّقافة موضوع الدِّراسة. وهكذا يشرحون الحقب الأثريَّة التي تعاقبَتْ في المكان والأدوار التاريخيَّة التي تناوبتْ عليه. لكنَّ هذه الطَّريقة في الدِّراسة تمزج في الحقيقة بين الدِّراسات الأثريَّة، التي تُعنى بعصور ما قبل الكتابة، وبالنَّتيجة ما قبل تدوين الأدب، والعصور السِّياسيَّة الموثَّقة تاريخيّاً. لذلك يُستحسَنُ أن تكونَ نقطةُ البدء في دراستنا الانطلاق من العصور الثَّقافيَّة، لا العصور الأثريَّة، وبأدوات النَّقد الأدبيِّ، لا الحفر الأثريِّ، للعصور الأدبيَّة والثَّقافيَّة.

    ويمكن القول إنَّ هناك قاعدةً عامَّةً كانت تتحكَّم بنشوء السُّلالات الحاكمة، واستمرار أنظمة الحكم، وهي أنَّ تنامي دويلة مدينة قويَّة يشجِّعُها على التَّفكير بالاستيلاء على ما يجاورُها من المدن. ولكي تدافعَ عن نفسها، تجد نفسَها مضطرَّةً إلى ابتلاعِ مدنٍ أخرى. فيدفعُها هذا التَّوسُّع إلى الإعلان عن حقبتها التَّأسيسيَّة، أي إلى محاولة تأسيس سلالة حاكمة قويَّة ذات طابعٍ إمبراطوريٍّ، تفكِّر بتوحيد حكم المدن المختلفة سياسيّاً، وتفرضُ قيمَها الثَّقافيَّة عليها في الوقت نفسه. وهكذا تسود ثقافة دولة المدينة الحاكمة، وتنتشرُ ديانتُها وآلهتُها ولغتُها وأساطيرُها وتقاليدُها وتقويمُها إلى آخر ما هنالك من مظاهرَ ثقافيَّة.

    لكنَّ التَّوسُّع الإمبراطوريَّ لا يمكن أن يستمرَّ إلى الأبد. فبعد عدَّة أجيال، تظهر عصبيَّة جديدة، تتمكَّن من الانبثاق والتَّوسُّع شيئاً فشيئاً حتّى مرحلة التَّنافس والصِّراع مع الحقبة التَّأسيسيَّة السابقة. وحين تتمكَّن السُّلالة المنبثقة الجديدة من القضاء على السُّلالة الحاكمة السابقة، تبدأ أيضاً بفرض تقاليدها الثَّقافيَّة على المدن والعواصم الأخرى. وكلُّ عصبيَّة تفكِّر بالتَّحوُّل إلى سلالةٍ حاكمةٍ، ثمَّ تكوين إمبراطوريَّة، تفرض ثقافتها. لكنَّ للدُّول أعماراً، كما يقول ابن خلدون، وحالما تبلغ الدُّول التي تنجح في خلق إمبراطوريَّةٍ ما مرحلةَ الشَّيخوخة والهرم، تبدأ بالضَّعف، وشيئاً فشيئاً تدخل في مرحلة الاضمحلال. فتنتهز عصبيَّةٌ أُخرى فرصةَ ضعفِها، نتيجة مبالغتها في الاتِّساع، وتنقضُّ عليها. وحينئذٍ تُعيد العصبيَّة الجديدة دورة تكوين الإمبراطوريَّة من جديد، وتدافعُ عن نفسها بالاتِّساع على النَّحو نفسه، حتّى تظهر عصبيَّةٌ أُخرى، تنافسُها وتنقضُّ عليها. وبالتالي فالقانون الذي يحكم نشوء السُّلالات الحاكمة والإمبراطوريّات المتسيِّدة هو تناوب السُّلالات على الحكم، وتفكيرها بالاتِّساع للدِّفاع عن نفسها، حتّى تظهر عصبيَّة جديدة تحلُّ محلَّها وتستبعدُها.

    غير أنَّ تناوب العصبيّات والحقب التَّأسيسيَّة يعني أنَّ كلَّ حقبة تأسيسيَّة جديدة تفكِّر بالقضاء على الحقبة التي سبقتْها، وتعلنُ عن نفسها بوصفها بداية التاريخ الفعليِّ الجديد. وإذا كانت الحقبة الثَّقافيَّة الجديدة تقدِّمُ نفسها بوصفها إلغاءً لما سبقَها، وتأسيساً لما يأتي بعدها، فإنَّ النَّتيجة التي تترتَّبُ على ذلك هي غياب الاستمراريَّة الثَّقافيَّة بين الحقب التَّأسيسيَّة المتتابعة. وبالتالي يكون الانقطاع، لا الاتِّصال، هو القانون الضابط لإيقاع التَّراكم الثَّقافيِّ في تناوب الحقب الثَّقافيَّة. وتماماً كما تفرض السُّلالات المختلفة نمطَ حكمِها سياسيّاً، فإنَّها تفرض في الوقت نفسه نمطَ تفكيرِها ثقافيّاً. وكما تقضي على التَّقاليد السِّياسيَّة التي كانت متَّبعةً في حكم الحقبة السابقة عليها، فإنَّها تقضي في الوقت نفسه على التَّقاليد الثَّقافيَّة، بتبنِّي الأعراف والتَّقاليد الثَّقافيَّة المناسبة لحكمِها. وهكذا يبدو النُّموُّ الثَّقافيُّ وكأنَّه سلسلة من الموجات الحضاريَّة المتتابعة، التي تنشأ فيها كلُّ موجةٍ جديدةٍ وتبدأ بالابتعاد، بحيث تبتلع الموجة السابقة عليها، ثمَّ تتَّسع، حتّى تتلاشى، وحينئذٍ تدفعُها موجةٌ جديدةٌ أقوى منها.

    عند دراسة الطَّبقات الأثريَّة، يقول الآثاريُّون إنَّ الطَّبقة الأقدم تكون دائماً في الأسفل، ولا تشكِّل سوى أساس لنموِّ الطَّبقة أو الطَّبقات التالية عليها. ثمَّ مع ظهور طبقة أثريَّة جديدة، تتهدَّمُ الطَّبقة الثانية أيضاً، وتظهرُ فوقَها طبقة لاحقة، تتَّخذ من الطَّبقتين السابقتين أساساً لها، وهكذا دواليك. وبهذه الطَّريقة يتفحَّصُ الآثاريُّون الأبنية التي تنتمي لحقبٍ زمنيَّةٍ مختلفةٍ. ويمكن الاستفادة من هذا النَّموذج الأثريِّ في حقل الدِّراسة الثَّقافيَّة، ولكنْ مع الانتباه إلى ما يميِّز نموَّ الثَّقافة من خصائص ذاتيَّة لا تتوفَّرُ في الأبنية والهياكل.

    ومن الواضح أنَّ كلَّ طبقةٍ من الطَّبقات الأثريَّة ترتبط ارتباطاً مباشراً بالطَّبقة التي قبلَها، والطَّبقة التي بعدَها فقط. وهذا يعني أنَّ ارتباطها بالطَّبقات المفصولة عنها يضعفُ باستمرارٍ. على سبيل المثال، لنفترضْ أنَّ لدينا بناءً يشتمل على عدد من الطَّبقات الأثريَّة، فترتيب الطَّبقات غالباً ما يبدأ بالطَّبقة الأقدم، وهي الطَّبقة السُّفلى، التي تشكِّل الطَّبقة الأولى، وصولاً إلى الطَّبقة الأثريَّة الأخيرة، أي العليا. إذا افترضنا، مثلاً، بناءً يتكوَّنُ من خمس طبقاتٍ أثريَّة، فإنَّ العلاقة بين الطَّبقة الخامسة والطَّبقة الأولى ضعيفةٌ جدّاً، لأنَّ الطَّبقة الأولى ترتبط بالطَّبقة الثانية فقط. وترتبط الطَّبقة الثانية بالطَّبقتين؛ الأولى التي تحتَها، والثالثة التي فوقَها. وهكذا فالتَّأثير المتبادل يكون بين الطَّبقات التي يوجد بينها احتكاكٌ مباشرٌ، ويزداد ضعفاً في الطَّبقات الموسوطة المنفصلة. نستطيع أن نجد آثار الطَّبقة الأولى في الثانية على نحوٍ مباشرٍ، لكنَّ آثارها في الطَّبقة الثالثة أضعفُ، ويخفُّ التَّأثير مع الطَّبقة الرابعة والخامسة. وتأثير الطَّبقة الرابعة في الطَّبقة الخامسة أقوى من تأثير الطَّبقات السُّفلى البعيدة عنها. لكنَّ هذا لا يعني عدم وجود تأثير، بل يعني فقط أنَّ التَّأثير يكون موسوطاً، وربَّما خفيّاً يحتاج إلى حفرٍ لاستخراجه.

    تعاقبتْ على حكم العراق موجاتٌ حضاريَّة متعدِّدة؛ السُّومريَّة والأكديَّة والبابليَّة القديمة والوسيطة والحديثة والآشوريَّة القديمة والوسيطة والحديثة والإخمينيَّة والإغريقيَّة والفرثيَّة والساسانيَّة. هذه هي أشهر الإمبراطوريّات التي وجدتْ في العراق، بالإضافة إلى بعض الموجات الحضاريَّة الصُّغرى التي لم تفلحْ في التَّحوُّل إلى إمبراطوريَّة شاملة. غير أنَّ آخر موجة حضاريَّة حكمَتِ العراق قبل الفتح العربيِّ الإسلاميِّ هي الإمبراطوريَّة الساسانيَّة، التي اتَّخذت من المدائن عاصمةً لها. ولذلك إذا نحن طبَّقنا المخطَّطَ الأثريَّ السابق على الثَّقافة، فسنجد آثار الثَّقافة الساسانيَّة على نحوٍ مباشرٍ أكثرَ بكثيرٍ من الآثار الأكديَّة أو البابليَّة القديمة أو غيرها من الحضارات السابقة. لكنَّ هذا لا يعني عدم وجودِ آثارٍ، بل يعني فقط عدم وجود آثارٍ مباشرةٍ.

    إذا أردنا أن نبحث، مثلاً، في «أسطورة مولد البطل»، وهي الأسطورة التي تتمثَّل أقدم صيغة معروفة منها في «أسطورة مولد سرجون الأكديِّ»، فعلينا أن نتصوَّر أنَّنا لن نجد أثراً مباشراً لهذه الأسطورة في الأدب العربيِّ. بل ينبغي البحث عنها في آخر الطَّبقات الثَّقافيَّة التي احتكَّتْ بها الثَّقافة العربيَّة، وهي الثَّقافة الساسانيَّة، ثمَّ ننتقل إلى الأسفل فالأسفل، وهكذا دواليك حتّى نصل إلى آخر الطَّبقات الثَّقافيَّة، وهي في هذه الحالة «أسطورة سرجون الأكديِّ» من الحقبة الأكديَّة أو البابليَّة القديمة. بعبارةٍ أخرى، في البداية ستكون بين أيدينا «أسطورة مولد الملك سيف بن ذي يزن» في سيرته الشَّعبيَّة، المعدَّلة إلى حدٍّ ما عن أسطورة «مولد الملك داراب» في بابل، كما تصوِّرُها الشاهنامه والمصادر الفارسيَّة والعربيَّة الأخرى، المنقولة عن صيغٍ أقدمَ منها، حتّى نصل إلى أقدم نسخ الأسطورة، وهي أسطورة «مولد الملك سرجون الأكديِّ». ومن شبه المستحيل العثور على نصِّ الحكاية الأكديَّة مترجماً إلى العربيَّة، بل يمكن أن نجد الحكاية في صيغتها الساسانيَّة، التي تأثَّرت أصلاً بصيغةٍ أقدمَ منها ربَّما تكون يونانيَّة، تأثَّرت بدورها بنسخة إخمينيَّة، وصولاً في النِّهاية إلى «أسطورة مولد سرجون الأكديِّ». وهكذا لا ينبغي أن نبحث عن نصوص حكايات أو أساطير، لأنَّ العثور على مثل ذلك شبه مستحيل، بل أن نبحث عن موضوعاتٍ تأثَّرت بنماذجَ سابقةٍ وصولاً إلى الحكاية الأقدم. فموضوع بحثنا ليس النُّصوص المنقولة مباشرةً، بل الموضوعات والثِّيمات التي أثَّرت بغيرها، وبقيتْ تتطلَّعُ في النُّصوص المختلفة منذ أقدم العصور حتّى الطَّبقة الثَّقافيَّة الأخيرة.

    إذا نقلنا هذه الآليَّة حول الطَّبقات الأثريَّة إلى تحليل النُّصوص، فسنجد أمامنا ما يمكن تسميتُهُ بـ«الطَّبقات الزَّمنيَّة للنُّصوص». فالنُّصوص تتأثَّرُ عند الاحتكاك ببعضِها، تماماً كما تتأثَّر طبقات الأبنية. وكلَّما ازدادَتْ قرباً من بعضها من الناحية الزَّمنيَّة ازداد احتمال التَّأثُّر والتَّأثير بين بعضِها في بعضٍ. ولا يخفى أنَّ النُّصوص هي نتاج التَّقاليد الأدبيَّة الشائعة في فترةٍ من الزَّمن، ولذلك إذا كانتْ قريبةً من بعضها زمنيّاً، فلا شكَّ أنَّ التَّأثير يكون واضحاً ومنظوراً. وبالطَّبع كلَّما ابتعدت المسافة الزَّمنيَّة تناقص التَّأثير واضمحلَّ.

    لكنَّ النُّصوص في واقع الأمر ليسَتْ جامدةً جمودَ الأحجارِ، بل هي كثيراً ما تكون نتيجة عمليَّة ترقيع متواصلة. وقد يحصل أن يعبر التَّأثير من طبقةٍ إلى طبقةٍ، دون ضرورة المرور بالطَّبقات الوسيطة، أو قد تظهر نقلات غير مفهومة في بعض النُّصوص منقولةً على نحوٍ غيرِ مباشرٍ من طبقاتٍ زمنيَّة متباعدةٍ. على سبيل المثال، أثَّرت «ملحمة جلجامش» في نصوص كثيرة قريبة منها زمنيّاً، في ترجماتها الحيثيَّة والحوريَّة التي وصلتْنا، ويعتقد بعض الباحثين أنَّ تأثيرها انتقل منها إلى الملاحم اليونانيَّة بطريقةٍ ما. ومن المتوقَّع أن تكون قد تُرجمَتْ إلى لغاتٍ أخرى لم تصلْنا. وقد انتقل تأثيرُها إلى عددٍ من الحكايات والأساطير في الثَّقافات الأخرى المجاورة؛ الفارسيَّة والإغريقيَّة والآراميَّة وغيرها. وعبر نصوص وسيطة لسنا نعرفُها على وجه التَّحديد، انتقلَتْ إلى التُّراث اليهوديِّ في صيغة «حكاية بلوقيا»، التي ذكر حمزة الأصفهانيُّ أنَّها أسطورة يهوديَّة معروفة(5). وما لبثتْ هذه الحكاية أن انتقلت إلى كتب «قصص الأنبياء»، فعومل بلوقيا على أنَّه نبيٌّ يهوديٌّ. غير أنَّ بلوقيا وصل إلى أوج حكايتِهِ الأسطوريَّة في «ألف ليلة وليلة»، التي جعلتْهُ ابن ملكٍ مصريٍّ بعد عصر النَّبيِّ سليمان، يعرف ببعثةِ النَّبيِّ محمَّد في آخر الزَّمان، ويريد اختراق حاجز الزَّمن ولهاً في الوصول إليه.

    لا نعرف المصادر المباشرة التي استقت منها «ألف ليلة وليلة»، ولعلَّها تنطوي على بعض التَّصرُّف في الحكاية التي ترويها كتب «قصص الأنبياء» عند الخركوشيِّ والثَّعلبيِّ. وبالطَّبع هناك بعض الاحتمالات حول نقل اسم «بلوقيا» من اسم «بلقميس» في بعض الأصول السُّومريَّة والحوريَّة، كما ناقشنا ذلك في موضعٍ آخرَ. لكنَّ التَّحليل النَّصِّيَّ لحكاية بلوقيا في «ألف ليلة وليلة» يقودُنا إلى مفتاحٍ مهمٍّ. فنصُّ «ألف ليلة وليلة» يدعو بلوقيا وعفان إلى اختطاف ملكة الحيّات لكي ترشدَهم إلى الأعشاب الناطقة بمنافعِها، ومنها عشب المشيِ على الماء. وبعد نجاحِهم في هذه المحاولة، تخبرُهم ملكة الحيّات بأنَّه كان من الأولى أن يأخذوا «العشبَ الذي كلُّ مَن أكلَهُ لا يموتُ إلى النَّفخة الأولى»(6). وليس من شكٍّ في أنَّ هذه إشارة إلى «عشبة الخلود» في «ملحمة جلجامش». ولكنْ إذا رجعنا إلى آليّاتنا في التَّحليل، فلا بدَّ أن ننتبه إلى أنَّ جميع النُّصوص الموسوطة بين «ألف ليلة وليلة» و«ملحمة جلجامش» لا تتحدَّثُ عن «عشبة الخلود»، بل تتحدَّث عن «نبع الحياة»، وبذلك تحوِّل الإكسير من استعارة نباتيَّة إلى استعارة مائيَّة. مع ذلك، وصلت «عشبة الخلود» في «ملحمة جلجامش» إلى «ألف ليلة وليلة» تحت اسم «العشب الذي كلُّ مَن أكلَهُ لا يموت»، دون أن تمرَّ بالنُّصوص الموسوطة الأخرى التي نعرفُها.

    الانقطاع الثَّقافيّ والاتِّصال المكانيّ

    إذا كان لم يحصل احتكاكٌ بالأدب واللُّغة البابليَّين على نحوٍ مباشرٍ، فلا بدَّ من وجود احتكاك بالآثار والأبنية والأنصاب والتَّماثيل. وسنتفحَّص فيما يأتي طريقة استقبال الآثار البابليَّة وفهمِها عند المثقَّفين والبُسَطاء معاً في حقبة الثَّقافة العربيَّة، ثمَّ نعود لاحقاً إلى كيفيَّة استقبال الآثار والأبنية المتأخِّرة عنها، ولا سيَّما من الحقبة الساسانيَّة.

    وأبرز الأبنية الظاهرة التي رآها العرب دون ريبٍ هي الزِّقُّورات الكثيرة المنتشرة في أنحاء العراق، لا سيَّما وأنَّها كانت في وضعيَّةٍ أفضلَ ممّا هي عليه الآن بعد أكثر من ألف سنة. وتدلُّ الزِّقُّورة من حيث معناها اللُّغويُّ (ziqqurat) على معبدٍ له شكلُ برجٍ أو قمَّةٍ أو جبلٍ مقدَّس(7). والزِّقُّورة بناء على شكل مكعَّب يُصعَدُ إليه عن طريق سلالمَ من الآجرِّ، وفي منتصفِهِ ينتصبُ برجٌ عالٍ. ويرى بعض الباحثين أنَّ «البرج، شأنُهُ شأنُ الهيكل ككلٍّ، كان يُنظَرُ إليه باعتباره نسخةً أرضيَّة من بناء العالم، الذي كان يُفهَمُ أيضاً باعتباره يتكوَّن من طبقاتٍ متعدِّدة. ويبدو أنَّ البرج أيضاً غالباً ما كان يُنظَرُ إليه بوصفِهِ «قبراً» للإله الذي كان ينتمي له الهيكل»(8). ومن المرجَّح أن تتهدَّمَ السَّلالم الآجُرِّيَّة بمرور الزَّمن، أو بسبب الغزوات الخارجيَّة، وحينئذٍ

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1