Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

الشرطي الثالث
الشرطي الثالث
الشرطي الثالث
Ebook524 pages3 hours

الشرطي الثالث

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

كلُّ شيءٍ عن رواية "الشُّرطيِّ الثَّالث" يكتنفه الغموض، بدءًا بتأخُّر نشرها، وليس انتهاءً بما جعلها تحفةً تستحقُّ المقارنة بالواقعيَّة العجائبيَّة لكافكا الذي كان أوبراين، وفقًا لكاتب سيرته الذَّاتيَّة، معجبًا بأعماله وإن لم يعترف بذلك.

تبدأ القصَّة بجريمتَي قتلٍ وسرقةٍ يرتكبهما الرَّاوي المجهولِ الاسمِ الذي ينوي استخدام غنائم الجريمة لنشر كتابٍ يتضمَّن تعليقاته على كتابات فيلسوفٍ معتوهٍ – يُدعى دو سيلبي – افترضَ أنَّ الأرض في الواقع ليست كرويَّةً، بل بشكل السُّجُقِّ، وأنَّ اللَّيل شكلٌ من أشكال التَّلوُّث الجويِّ، وأنَّ الزَّمنَ والحياةَ مجرَّدُ هلاوس. من تلك اللَّحظة فصاعدًا، يصبح الكتاب أكثر غرابةً، إذ يجد الرَّاوي نفسه في بُعدٍ بديلٍ لا يختلف عن المنطقة المحيطة بمنزله الأيرلنديِّ الرِّيفيِّ، ولكنَّه يعمل وفقًا لمجموعةٍ مختلفةٍ تمامًا من القوانين الميتافيزيقيَّة، فرجال الشُّرطة مقتنعون بأنَّ سكَّان المنطقة يتحوَّلون إلى درَّاجاتٍ، والأبديَّة على بعد رحلةٍ بالمصعد، على يسار النَّهر. أمَّا النُّقطة الأكثر إثارةً للدَّهشة فيدَّخرها الكاتب للخاتمة، حين يكتشف الرَّاوي بعض الحقائق المربكة حول وضعه الميتافيزيقيِّ.

"الشُّرطيُّ الثَّالث" روايةٌ كوميديَّةٌ سوداء رائعةٌ حول طبيعة الزَّمن والموت والوجود، روايةٌ تنضمُّ إلى روايات فلانْ أوبراين الأخرى (سباحةُ طائرَين؛ الفمُ المسكين؛ الحياة القاسية؛ صفوةُ كتابات مايلز، أرشيفُ دالكي)، لتضمن مكانه، جنبًا إلى جنبٍ مع جيمس جويس وصمويل بيكيت، كواحدٍ من عباقرة أدب أيرلندا العظيم.
Languageالعربية
Release dateJun 10, 2024
ISBN9789922634906
الشرطي الثالث

Related to الشرطي الثالث

Related ebooks

Reviews for الشرطي الثالث

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    الشرطي الثالث - فلان اوبراين

    الشُّرطيُّ الثَّالث

    فلانّ اوبراين

    ترجمة: إيناس التركي

    The Third Policeman

    Flann O'Brien

    Translated by Enas El-Torky

    الطبعة الأولى: يناير ــ كانون الثاني، 2021 (1000 نسخة)

    الطبعة الثانية: أكتوبر ـ تشرين الأول، 2021 (1000 نسخة)

    This Edition Copyrights@Dar Al-Rafidain2021

    _____________________________________________________________________________________

    تنبيه: إن جميع الآراء الواردة في هذا الكتاب تعبّر عن رأي كاتبها، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الناشر.

    (C) جميع حقوق الطبع محفوظة / All Rights Reserved

    حقوق النشر تعزز الإبداع، تشجع الطروحات المتنوعة والمختلفة، تطلق حرية التعبير، وتخلق ثقافةً نابضةً بالحياة. شكرًا جزيلًا لك لشرائك نسخةً أصليةً من هذا الكتاب ولاحترامك حقوق النشر من خلال امتناعك عن إعادة إنتاجه أو نسخه أو تصويره أو توزيعه أو أيٍّ من أجزائه بأي شكلٍ من الأشكال دون إذن. أنت تدعم الكتّاب والمترجمين وتسمح للرافدين أن تستمرّ برفد جميع القراء بالكتب.

    رواية

    فلانّ اوبراين

    ترجمة

    إيناس التركي

    حيث إنَّ الوجود البشريَّ ذاته ما هو إلَّا مجرَّد هلوسةٍ، تحوي بين طيَّاتها هلاوس أخرى ثانويَّةً متمثِّلةً في ظاهرتي النَّهار واللَّيل (وتلك الأخيرة ناتجةٌ عن تلوُّث الغلاف الجويِّ بسبب تراكم الهواء الأسود)، فإنَّه لا يليق بأيِّ رجلٍ يتمتَّع بقدرٍ من الحكمة أن يكترث بالاقتراب الوهميِّ لتلك الهلاوس العظمى المعروفة باسم الموت.

    دو سيلبي

    وحيث إنَّ شؤون البشر غير مؤكَّدةٍ على الدَّوام، دعنا نفكِّر في أسوأ ما قد يحدث.

    شيكسبير

    الفصل الأوَّل

    لا يعرف الجميع كيف قَتلتُ العجوز فيليب ماذرز، بعد أن حطَّمتُ فكَّه بمجرفتي. ولكن من الأفضل أن أتحدَّث في البداية عن علاقة الصَّداقة التي ربطتني بجون ديفني؛ لأنَّه هو من أوقع ماذرز العجوز أوَّلًا بعد أن ضرب عنقه بعنفٍ بمنفاخ هواءٍ للدَّراجات صنعه بنفسه من ماسورةٍ حديديَّة. كان ديفني رجلًا قويًّا مهذَّبًا، ولكنَّه كان يتَّصف بالكسل وبلادة الذِّهن. وكان هو شخصيًّا صاحب الفكرة بأكملها منذ البداية. هو من أمرني بإحضار مجرفتي، وهو من أصدر الأوامر آنذاك، وقام بالإيضاح عندما تطلَّب الأمر منه ذلك.

    وُلدتُ قبل زمنٍ طويل. كان والدي مزارعًا قويًّا، ووالدتي صاحبةَ حانة. كنَّا جميعًا نسكن في الحانة، ولكنَّها لم تكن حانةً مزدهرةَ العملِ على الإطلاق، وكانت تظلُّ مغلقةً معظم ساعات النَّهار، نظرًا إلى انشغال والدي بالعمل في المزرعة، بينما كانت والدتي تقضي وقتها في المطبخ على الدَّوام. ولسببٍ ما، لم يكن الزَّبائن يبدأون بالتَّوافد إلَّا عند اقتراب موعد النَّوم، أو في وقتٍ متأخِّرٍ عن ذلك في أيَّام الكريسماس أو الأيَّام الأخرى غير الاعتياديَّة المشابهة له. لم يسبق أن رأيت والدتي خارح المطبخ أبدًا طوال حياتي، كما لم أر أحد الزَّبائن أبدًا في أثناء ساعات النَّهار. وحتى في أثناء اللَّيل، لم أكن أشاهد أكثر من اثنين أو ثلاثةٍ مجتمعين. ولكنَّني كنت آوي إلى فراشي لبعض الوقت، ومن المحتمل أنَّ الأمور كانت تسير بشكلٍ مختلفٍ مع أمِّي والزَّبائن في ساعات اللَّيل المتأخِّرة. لا أذكر والدي جيِّدًا، ولكنَّه كان رجلًا قويًّا، ولم يكن كثير الحديث، فيما عدا أيَّام السَّبت حينما كان يتناقش مع الزَّبائن بخصوص بارنيل، ويقول إنَّ أيرلندا بلادٌ عجيبة. أتذكَّر والدتي بوضوحٍ تامٍّ. كان وجهها يصطبغ بالحمرة على الدَّوام، ويبدو ملتهبًا من الانحناء أمام نار الموقد. قضت عمرها تصنع الشَّاي لتمضِّي أيَّامها وهي تغنِّي أجزاءً من أغانٍ قديمةٍ لتزجية الوقت. كانت علاقتي بها وثيقةً، في حين كنتُ ووالدي كالغريبَين ولم نكن نتبادل الحديث إلَّا لمامًا. وعادةً ما كنت أسمعه عبر باب المتجر القليل السُّمْك، بينما أنا أستذكر دروسي ليلًا في المطبخ، وهو جالسٌ على مقعده أسفل المصباح الزَّيتيِّ لساعاتٍ طِوالٍ يحادث مِيك، كلب الرَّعي. لم أكن أسمع سوى طنين صوته، ولم أميِّز أبدًا كلمةً واحدةً منفصلةً عن الأخرى. كانت لديه القدرة على فهم جميع أنواع الكلاب بوضوحٍ تامٍّ، وكان يعاملهم وكأنَّهم من البشر. وكانت والدتي تمتلك قطَّةً، ولكنَّها كانت تعيش في الخارج، ونادرًا ما كنَّا نشاهدها، ولم تكن والدتي تعيرها أيَّ انتباه. كنَّا جميعًا ننعم بالسَّعادة بطريقةٍ غريبةٍ، كلٌّ على حدة.

    ثمَّ حلَّ موعد الكريسماس في أحد الأعوام، وبرحيل العام كان والدي ووالدتي قد رحلا أيضًا. بعد رحيل والدي، انتاب مِيك، كلبَ الرَّعي، الوهنُ الشَّديدُ والحزن، ورفض رفضًا مطلقًا تأديةَ عمله مع الخِراف، حتى رحل هو الآخر في العام التَّالي. كنت أحمقَ وصغيرًا في السِّنِّ حينذاك، ولم أفهم بوضوحٍ لِمَ تركني كلُّ هؤلاء ورحلوا، ولم أعرف أين ذهبوا، ولِمَ لم يوضِّحوا لي الأمر قبل ذهابهم. كانت والدتي أوَّل من رحل، وما أزال أذكر رجلًا بدينًا أحمر الوجه يرتدي بدلةً سوداء ويقول لوالدي إنَّه لا يوجد أدنى شكٍّ في مكانها الآن، وإنَّ بوسعه أن يثق في ذلك تمامًا مثل ثقته في أيِّ شيءٍ آخر في عالمنا الحزين هذا. ولكنَّه لم يذكر أين بالتَّحديد، ولأنَّني اعتقدت أنَّه أمرٌ خاصٌّ للغاية، وأنَّها قد تعود مع حلول يوم الأربعاء، لم أسأله أين. وعندما رحل والدي لاحقًا، ظننت أنَّه ذهب ليجلبها في سيَّارة أُجرة. ولكن عندما لم يعُد أيٌّ منهما بحلول الأربعاء التَّالي، شعرت بالأسف وخيبة الأمل. عاد الرَّجل ذو البدلة السَّوداء مرَّةً ثانية، وبقي في المنزل طوال ليلتين. كان يغسل يديه باستمرارٍ في غرفة النَّوم، ويقرأ الكتب. كما كان هناك رجلان آخران أيضًا: أحدهما شاحبٌ ضئيل القامة، والآخر أسود طويل القامة يرتدي سروالًا ضيِّقًا. كانت جيوبهما مليئةً بالعملات المعدنيَّة من فئة البنس، وكانا يعطياني بنسًا كلَّما توجَّهت إليهما بسؤال. أذكر الرَّجل الطَّويل ذا السِّروال الضَّيِّق وهو يقول للرَّجل الآخر:

    «يا لسوء حظِّ هذا الوغد الصَّغير المسكين».

    لم أفهم قصدَه حينذاك، وظننت أنَّهما يتحدَّثان عن الرَّجل الآخر ذي الملابس السَّوداء، والذي كان منشغلًا على الدَّوام بالعمل جوارَ المغسلة في غرفة النَّوم. ولكنَّني فهمت كلَّ شيءٍ بوضوحٍ لاحقًا.

    بعد ذلك بعدَّة أيَّام، أتت سيَّارة أُجرةٍ لتقلَّني إلى مدرسةٍ غريبة. كانت مدرسةً داخليَّةً مليئةً بأناسٍ لا أعرفهم، بعضهم صغير، وبعضهم الآخر أكبر سنًّا. سرعان ما عرفت أنَّها مدرسةٌ جيِّدةٌ وباهظة التَّكاليف إلى حدٍّ كبير، ولكنَّني لم أدفع أيَّ أموالٍ للمسؤولين هناك، فأنا لم أكن أملك أيَّ مال. فهمت كلَّ هذا والكثير من الأمور الأخرى بوضوحٍ لاحقًا.

    ليس هناك ما يستحقُّ الذِّكر بخصوص حياتي في هذه المدرسة، خلا نقطةً واحدةً فحسب: فهنا عرفت بعض الأشياء عن دو سيلبي لأوَّل مرَّة. ففي أحد الأيَّام، التقطت بتكاسلٍ كتابًا قديمًا مهترئًا في مكتب أستاذ العلوم، ووضعته في جيبي كي أقرأه في الفراش صباح اليوم التَّالي، إذ كنت قد حصلت للتَّوِّ على الحقِّ في البقاء في الفراش حتى ساعةٍ متأخِّرةٍ من الصَّباح. كنت في السَّادسة عشرة من العمر تقريبًا، وكان اليوم هو السَّابع من شهر مارس. ما أزال أعتقد أنَّ ذلك اليوم هو أهمُّ أيَّام حياتي، وأتذكَّره بسهولةٍ أكثر ممَّا أتذكَّر يوم مولدي. كان الكتاب هو الطَّبعة الأولى من «ساعات ذهبيَّة»، وكانت تنقصه الصَّفحتان الأخيرتان. وعندما بلغت التَّاسعة عشرة من العمر وانتهيت من التَّعليم، أدركت أنَّ الكتاب ثمينٌ، وأنَّ احتفاظي به يعدُّ جريمة سرقة. ومع ذلك، حزمته مع أغراضي داخل حقيبتي دون وخز ضميرٍ، وأغلب الظَّنِّ أنَّه لو سنحت لي الفرصة مرَّةً أخرى لكرَّرتُ فعلَ الشَّيءِ نفسه. وربَّما كان من المهمِّ، في سياق الحكاية التي سوف أرويها، أن أتذكَّر أنَّني ارتكبت أوَّل ذنبٍ كبيرٍ من أجل دو سيلبي. ومن أجله ارتكبت أعظم ذنوبي.

    كنت قد عرفت قبل زمنٍ طويلٍ حقيقة وضعي في هذا العالم: مات جميع أفراد أسرتي، وكان هناك رجلٌ اسمه ديفني يتولَّى إدارة المزرعة ويعيش فيها حتى عودتي. لم يكن يملك شيئًا فيها، وكان يتلقَّى راتبًا شهريًّا من مكتب مجموعةٍ من المحامين في أقاصي البلدة. لم يسبق أن التقيت بهؤلاء المحامين، كما لم يسبق أن التقيت بديفني، ولكن في واقع الأمر كانوا جميعًا يعملون لصالحي، وكان والدي قد دفع لهم المال مقابل هذه التَّرتيبات قبل وفاته. عندما كنت أصغر سنًّا، اعتقدت أنَّه رجلٌ كريمٌ، وأنَّه فعل ذلك لأجل صبيٍّ لا يكاد يعرفه.

    لم أتوجَّه إلى المنزل مباشرةً بعد مغادرتي المدرسة. بل قضيت بضعة أشهرٍ في أماكن أخرى أحاول توسيع مداركي واكتشاف تكلفة المجموعة الكاملة من أعمال دو سيلبي، وإن كان بوسعي استعارة كتب بعض المعلِّقين على أعماله الذين يقلُّون عنه أهمِّيَّة. وقد تعرَّضت لحادثٍ سيِّئٍ ذات ليلة، في واحدٍ من تلك الأماكن التي كنت أحاول توسيع مداركي فيها. كسرتُ ساقي اليسرى (أو بالأحرى، كسرها لي أحدهم) في ستَّة أماكن مختلفة. وعندما تعافيت بدرجةٍ يمكنني معها أن أمضي في طريقي، كانت لديَّ ساقٌ خشبيَّة: ساقي اليسرى. كنت أدرك أنَّه ليس بحوزتي سوى القليل من المال، وأنَّني في طريق العودة إلى مزرعةٍ ذات أرضٍ صخريَّة، وأنَّ حياتي لن تكون سهلة. ولكنَّني كنت على ثقةٍ حينذاك بأنَّ الزِّراعة، حتى لو اضطررت إلى العمل بها، لن تكون عمل حياتي. وكنت متيقِّنًا أنَّه في حال اشتهر اسمي، فإنَّه سوف يشتهر مقرونًا باسم دو سيلبي.

    أذكر بالتَّفصيل مساء اليوم الذي عدتُ فيه إلى منزلي، حاملًا في كلِّ يدٍ حقيبة سفر. كنت في العشرين، وكانت أمسيةً صيفيَّةً مبهجةً ومشرقة، وكان باب الحانة مفتوحًا. وقف جون ديفني وراء الطَّاولة مائلًا إلى الأمام، مستندًا إلى رفٍّ منخفضٍ عن مستوى الطَّاولة تعلوه شوكة طعام، وقد عقد ذراعيه، ووجهه يميل إلى الأسفل تجاه صحيفةٍ مفرودةٍ على الطَّاولة. كان شعره بنِّيَّ اللَّون، وملامحه وسيمةً إلى حدٍّ ما، بدرجةٍ بسيطة. كان عريض المنكبين لكثرة العمل، وذراعاه بسُمْك جذوع أشجارٍ صغيرة. وكانت ملامحه تنمُّ عن الهدوء والتَّهذيب، بينما كانت عيناه شبيهتَين بعينَي البقرة؛ هادئتَين وبنِّيَّتَي اللَّون، وفيهما نظرةٌ تدلُّ على الصَّبر. حين لاحظ أنَّ أحدهم دخل المكان، لم يتوقَّف عن القراءة، ولكنَّ يده اليسرى امتدَّت ووجدت خرقةً، وشرعت تمسح الطَّاولة ببطءٍ بالخرقة الرَّطبة. بعدئذٍ، وبينما هو ما يزال منكبًّا على القراءة، حرَّك يديه الواحدة فوق الأخرى، وكأنَّه يسحب آلة كونسرتينا موسيقيَّةً ويفردها إلى أقصى اتِّساعٍ لها، وقال:

    «هل تريد كأسًا كبيرةً؟».

    كانت كلمة «كأسٍ كبيرةٍ» هي ما يطلقه الزَّبائن على نصف لترٍ من مشروب كولورين بلاك جاك، وهو أرخص أنواع الجعة في العالم. أجبته قائلًا إنَّني أرغب في تناول الغداء، وذكرتُ اسمي وهويَّتي. أغلقنا المتجر بعد ذلك، ودلفنا إلى المطبخ، حيث قضينا اللَّيلة بأكملها تقريبًا نتناول الطَّعام ونتبادل الحديث ونشرب الويسكي.

    كان اليوم التَّالي يوم خميس. قال جون ديفني إنَّ عمله انتهى الآن، وإنَّه سوف يستعدُّ للعودة إلى دياره، حيث يعيش أهله، في يوم السَّبت. ولم يكن قوله بأنَّه أنهى عمله صحيحًا، لأنَّ المزرعة كانت في حالةٍ يُرثى لها، ولم يكن قد شرع حتى في البدء في معظم العمل الذي كان يتعيَّن عليه إنجازه ذلك العام. ولكن عندما حلَّ يوم السَّبت، قال إنَّ هناك بعض الأشياء التي يجب عليه الانتهاء منها، وإنَّه لا يمكنه العمل يومَ الأحد، ولكنَّه سيتمكَّن من تسليم المكان بحالةٍ مثاليَّةٍ مساء الثُّلاثاء. وفي يوم الإثنين، تعيَّن عليه رعاية خنزيرٍ مريضٍ، ممَّا عطَّله عن العمل. وبحلول نهاية الأسبوع، انشغل بالعمل أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وبمرور شهرين آخرين، لم يبد أنَّ أشغاله الضَّروريَّة قد خفَّت أو قلَّ مقدارها. لم أعارض الأمر بدرجةٍ كبيرة؛ فمع أنَّه كان بليدَ الذِّهن وعاملًا كسولًا، إلَّا أنَّ صحبته كانت طيِّبة، ولم يطلب أجرًا أبدًا. أمَّا عن نفسي، فلم أكن أنجز سوى القليل من العمل في المكان، حيث قضيت وقتي كلَّه في ترتيب أوراقي وإعادة قراءة أعمال دو سيلبي بدقَّةٍ أكبر.

    لم يكد يمرُّ عامٌ واحدٌ حتى لاحظت أنَّ ديفني يستخدم كلمة «نحن» في حديثه، والأسوأ من ذلك أنَّه كان يستخدم كلمة «ملكنا». قال إنَّ المكان ليس في أفضل حالٍ يمكن أن يكون عليه، وتحدَّث عن جلب أحد العمَّال. لم أوافقه الرَّأي، وأخبرته بذلك قائلًا إنَّه ليس هناك حاجةٌ إلى أكثر من رجلين في مزرعةٍ صغيرة. وكان من دواعي تعاستي أنَّني أضفت قائلًا إنَّنا فقيران لا نملك المال. بعد ذلك، لم تعد هناك جدوىً من محاولة إخباره بأنَّني المالك الحقيقيُّ لكلِّ شيء. بدأتُ أخبر نفسي أنَّني حتى لو كنت بالفعل أملك كلَّ شيء، فإنَّه يملكني أنا.

    مرَّت أربع سنواتٍ وكلٌّ منَّا يشعر بالرِّضا بدرجةٍ كافية. كان لدينا منزلٌ جيِّدٌ، والكثير من الطَّعام الرِّيفيِّ الطَّيِّب، ولكنَّنا لم نكن نملك سوى القليل من المال. وكنت أقضي معظم وقتي تقريبًا في الدِّراسة. وتمكَّنت بفضل مدَّخراتي من شراء الأعمال الكاملة للمعلِّقَين الرَّئيسَين، هاتشجو وباسيت، ونسخةٍ مصوَّرةٍ من مجموعة مخطوطات دو سيلبي. كما شرعت أدرس اللَّغتين الفرنسيَّة والألمانيَّة كي أتقنهما تمامًا وأتمكَّن من قراءة أعمال باقي المعلِّقين بتينك اللُّغتين. وكان ديفني ينشغل بالعمل في المزرعة إلى حدٍّ ما في أثناء النَّهار، ويتحدَّث بصوتٍ مرتفعٍ في الحانة ليلًا وهو يقدِّم المشروبات هناك. سألته ذات مرَّةٍ عن الحانة، فقال إنَّه يخسر المال هناك كلَّ يوم. لم أفهم حديثه ذاك، لأنَّ الزَّبائن، تبعًا لأصواتهم التي كانت تصلني عبر الباب القليل السُّمك، كانوا وفيرين بما يكفي. كما كان ديفني يشتري لنفسه باستمرارٍ ملابس جديدةً ومشابك فاخرةً لربطات العنق. ولكنَّني لم أقل شيئًا. كنت قانعًا بأن يتركني أعمل في سلام، لأنَّني أدركت أنَّ أهمِّيَّة عملي تفوق أهمِّيَّتي شخصيًّا.

    وفي أحد الأيَّام، في بداية الشِّتاء، قال لي ديفني:

    «لا يمكنني أن أخسر المزيد من أموالي على تلك الحانة. فالزَّبائن يجأرون بالشَّكوى من تلك الجعة. وهي جعةٌ رديئةٌ للغاية، فأنا أضطرُّ إلى تناول القليل منها بين الحين والآخر كي أسلِّيهم بصحبتي، وبسبب ذلك لا أشعر أنَّني في أتمِّ صحَّة. سأضطرُّ إلى التَّغيُّب والسَّفر لمدَّة يومين كي أرى إن كان هناك نوعٌ أفضل من الجعة يمكن شراؤه».

    اختفى راكبًا درَّاجته صباح اليوم التَّالي، وعندما عاد بعد نهاية ثلاثة أيَّامٍ والتُّراب يغطِّيه وقد أنهكه السَّفر، أخبرني أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرام، وأنَّه يمكننا أن نتوقَّع وصول أربعة براميل من الجعة من نوعيَّةٍ أفضل يومَ الجمعة. وبالفعل، وصلت في موعدها، واستحسنها زبائن الحانة في تلك اللَّيلة. كانت تُصنَع في بلدةٍ تقع في الجنوب، وتُعرَف باسم «المصارع». وإن شربتَ لترًا ونصفًا أو لترين منها، ففي الغالب أنَّها هي التي سوف تصرعك. أسرف الزَّبائن في الثَّناء عليها، وعندما كانوا يتناولونها، كانوا يغنُّون ويتصايحون، وأحيانًا كانوا يتمدَّدون على الأرض أو خارجًا في الطَّريق في غيبوبةٍ عميقة. كان بعضهم يشتكي بعدها من تعرُّضه إلى السَّرقة بينما هو في تلك الحالة، وارتفعت أصواتهم غاضبةً في الحانة في اللَّيلة التَّالية بخصوص الأموال المسروقة والسَّاعات الذَّهبيَّة التي اختفت من سلاسلهم. لم يتحدَّث جون ديفني معهم كثيرًا حول هذا الأمر، ولم يذكره لي على الإطلاق. كتب الكلمات التَّالية بأحرفٍ كبيرةٍ على قطعةٍ من الورق المُقوَّى: «احترس من النَّشَّالين»، وعلَّقها في الخلف على أرففٍ بجوار لافتةٍ أخرى تعلن أنَّه لا يقبل الشِّيكات. ومع ذلك، لم يكد يمرُّ أسبوعٌ دون أن يشتكي أحد الزَّبائن بعد قضاء أمسيةٍ مع «المصارع». ولم يكن الأمر مُرضيًا.

    وبمرور الوقت، ازداد يأس ديفني ممَّا أطلق عليه اسم «البار». قال إنَّه سيشعر بالرِّضا لو غطَّى تكاليفه، ولكنَّه كان يشكُّ بشدَّةٍ في إمكانيَّة حدوث ذلك. وقد كانت الحكومة مسؤولةً جزئيًّا عن الوضع، بسبب الضَّرائب المرتفعة. ولم يعتقد أنَّ بوسعه الاستمرار في تحمُّل عبء الخسارة دون أيِّ نوعٍ من أنواع المساعدة. قلت إنَّ والدي كان لديه أسلوبٌ قديمٌ في الإدارة مكَّنه من تحقيق بعض الأرباح، ولكن يتعيَّن علينا إغلاق الحانة إن استمرَّت في خسارة المزيد من المال. لم يقل ديفني شيئًا، سوى أنَّ التَّخلِّي عن ترخيص الحانة أمرٌ في غاية الخطورة.

    وفي ذلك الوقت، عندما كنت تقريبًا في حوالي الثَّلاثين من العمر، بدأنا أنا وديفني نكتسب سمعةً بصفتنا صديقين مقرَّبين. طوال سنواتٍ قبل ذلك، كنت لا أخرج إلَّا لمامًا. والسَّبب في ذلك انشغالي البالغ بعملي، بحيث لم يتوفَّر لديَّ وقت فراغ. وإلى جانب ذلك، لم تكن ساقي الخشبيَّة تساعد كثيرًا على المشي. ثمَّ وقع حادثٌ غريبٌ للغاية أدَّى إلى تغيُّر ذلك كلِّه، وبعد وقوعه لم نعد أنا وديفني نفترق أبدًا لأكثر من دقيقةٍ واحدةٍ في أيِّ ساعةٍ من ساعات اللَّيل أو النَّهار. كنتُ أبقى بصحبته في المزرعة طوال النَّهار، وفي اللَّيل كنت أجلس في مقعد والدي القديم أسفل المصباح في أحد أركان الحانة، بينما أنا أحاول إنجاز ما أستطيع إنجازه من عملي وسط الضَّوء السَّاطع والزِّحام والأصوات الصَّاخبة التي دومًا ما تتلازم مع تناول «المصارع». وفي حال خروج ديفني للتَّمشِّي حتى منزل أحد الجيران في يوم الأحد، كنت أصحبه ثمَّ أعود إلى المنزل برفقته. لم أكن أذهب قبله أو أعود بعده أبدًا. وإذا ركب درَّاجته في طريقه إلى بلدةٍ أخرى كي يطلب الجعة أو البطاطس للزِّراعة، أو حتى كي يلتقي «شخصًا ما»، كنت أركب درَّاجتي، وأسير بها بجانبه. جلبت فراشي إلى غرفته، وراعيت ألَّا أخلد إلى النَّوم حتى ينام هو، وأن أستيقظ قبله بساعةٍ كاملة. وفي إحدى المرَّات، كدت أفقد حذري. أذكر أنَّني استيقظت مفزوعًا في السَّاعات الأولى من فجر ليلةٍ حالكة، ووجدته يرتدي ملابسه بهدوءٍ وسط الظَّلام. سألته أين ينوي الذَّهاب، فقال إنَّه لا يستطيع الإخلاد إلى النَّوم، وإنَّه فكَّر أنَّ الخروج للتَّمشِّي قد يفيده. قلت إنَّني أنا أيضًا أعاني الأمر نفسه؛ فخرجنا نتمشَّى معًا في أشدِّ ليلةٍ بردًا ومطرًا أذكرها على الإطلاق. وبعد عودتنا وقد أغرقنا المطر، قلت إنَّه من الحماقة أن ننام في فراشين منفصلين في مثل هذا الجوِّ القارس، ونمت بجواره في فراشه. لم يقل شيئًا حينئذٍ، ولا في أيِّ وقتٍ لاحق. واستمررت في النَّوم بجواره بلا انقطاعٍ بعد ذلك. كنَّا نتعامل بودٍّ وكان كلٌّ منَّا يتبسَّم في وجه الآخر، ولكنَّ الوضع كان غريبًا، ولم يشعر أيٌّ منَّا بالرَّاحة حياله. ولم يستغرق الأمر الكثير من الوقت حتى لاحظ الجيران أنَّنا لا نفترق. فقد مرَّت حوالي ثلاث سنواتٍ ونحن بصحبة أحدنا الآخر بلا انقطاعٍ، وقالوا إنَّنا أفضل نموذجين في أيرلندا كلِّها للتَّمسُّك بتعاليم المسيحيَّة. كما قالوا إنَّ الصَّداقة الإنسانيَّة شيءٌ رائع، وإنَّني أنا وديفني أرفع مثالٍ لها في تاريخ العالم. وإن حدث واختلف أشخاصٌ آخرون أو تشاجروا أو تجادلوا، كانوا يسألونهم لماذا لا يمكنهم التَّشبُّه بنا أنا وديفني. كان الجميع سيصابون بصدمةٍ كبيرةٍ إن ظهر ديفني في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ وقتٍ دون أن أكون بجواره. وليس من الغريب أنَّه لم يكن هناك اثنان يكره أحدهما الآخر بمرارةٍ أشدَّ منَّا أنا وديفني. كما لم يوجد أبدًا اثنان أكثر لطفًا وأكثر مودَّةً في تعاملاتهما مع بعضهما البعض.

    عليَّ أن أعود بالذَّاكرة إلى الوراء بضع سنواتٍ كي أوضِّح ما حدث حتى وصلنا إلى هذا الوضع العجيب. كان «الشَّخص» الذي يذهب ديفني لزيارته مرَّةً في كلِّ شهرٍ فتاةً اسمها بيجين ميرز. ومن جانبي، كنت قد انتهيت من العمل على كشَّاف دو سيلبي، إذ جمعت آراء جميع المعلِّقين المعروفين حول كلِّ جوانب العلَّامة وعمله. لذا، كان بالُ كلٍّ منَّا مشغولًا بأمرٍ بالغ الأهمِّيَّة. وفي أحد الأيَّام، خاطبني ديفني قائلًا:

    «لا شكَّ لديَّ في أنَّ كتابك هذا الذي قمت بتأليفه في غاية الأهمِّيَّة».

    اعترفت قائلًا: «إنَّه كتابٌ مفيدٌ، وهناك حاجةٌ ماسَّةٌ إليه». وفي الواقع كان الكتاب يحوي الكثير من المعلومات التي كانت جديدةً تمامًا، إلى جانب أدلَّةٍ تثبت أنَّ الكثير من الآراء الشَّائعة عن دو سيلبي ونظريَّاته هي مجرَّد سوء فهمٍ مبنيٍّ على قراءةٍ خاطئةٍ لأعماله.

    «هل يمكنه أن يجعل اسمك يشتهر في العالم، فتصيب ثروةً من حقوق الملكيَّة؟».

    «قد يحدث هذا».

    «لِمَ لا تنشره إذن؟».

    أوضحت له أنَّ نشر كتابٍ من هذا النَّوع يحتاج إلى المال إذا لم يكن الكاتب مشهورًا بالفعل. وجَّه إليَّ نظرة تعاطفٍ على غير عادته، وتنهَّد.

    قال: «من الصَّعب الحصول على المال في هذه الأيَّام، خاصَّةً وأنَّ تجارة الخمور تكاد تشارف على نهايتها، والأرض بارت نظرًا إلى الحاجة إلى الأسمدة الكيماويَّة التي يصعب الحصول عليها بأيِّ طريقةٍ بسبب دهاء اليهود والماسونيِّين».

    كنت أعلم أنَّ ما قاله بخصوص الأسمدة غير صحيحٍ، إذ سبق أن زعم لي أنَّه لن يجلبها لأنَّه لا يريد تجشُّم مشقَّة ذلك الأمر. قال بعد برهةٍ من الصَّمت:

    «علينا أن نرى ما يمكننا فعله لكي نحصل على المال اللَّازم لكتابك. وفي الواقع، أنا أيضًا في حاجةٍ إلى بعض المال، إذ لا يمكنك أن تتوقَّع من فتاةٍ ما أن تظلَّ في انتظارك حتى يتقدَّم بها العمر ولا يعود بوسعها الانتظار لفترةٍ أطول».

    لم أعرف إن كان ينوي جلب زوجته إلى هذا المنزل، إن تزوَّج بالفعل. فإن فعل ذلك ولم أنجح في منعه، سأضطرُّ ساعتئذٍ إلى الرَّحيل. ومن جهةٍ أخرى، إن كان الزَّواج يعني أنَّه هو من سيرحل،

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1